غرضُ هذه المناقشة المساهمةُ في قول ما هي إسرائيل، لكن يتعداه إلى محاولة بلورة تصورٍ للمسألة الإسرائيلية بوصفها مزيجاً من محنةٍ نفسيةٍ وتحدٍّ سياسيٍّ وسؤالٍ فكريٍّ استهلَك غيرَ قليلٍ من أعمارنا ويرجَّح أن ترافقنا مفاعيلُه السُّميّة لأمدٍ طويل. إن لإسرائيل ثلاثة أوجهٍ: وجهٌ استعماريٌّ، وآخَر يهوديٌّ، وأخيرٌ قربانيٌّ تضحويٌّ أو هولوكوستيٌّ (نسبةً إلى المحرقة التي سامها النازيّون اليهودَ في الحرب العالمية الثانية). وفي تصور هذه المناقشة أن من شأن تنظيم التفكير في إسرائيل –وهي المسألة المزمنة والمعقدة– أن يساعدَ في تكوّن العرب ذاتاً تاريخيةً فاعلةً، أي جماعةً عندها الوعي والإرادة اللازمان لتشكيل الأحداث التاريخية وتحريكها بدلاً من أن يكونوا مجرّدَ موضوعاتٍ متأثّرةٍ بها. فالمسألة الإسرائيلية مسألةٌ عربية، وتحرُّر العرب وانعتاقُهم رهنُ ضبط تصوراتنا ووضوحها إزاء هذه القوّة المُصمِّمة الفتاكة التي تَراهم واحداً.
ويبدو أن هذا الضرب من الاستعمار الاستيطاني الإحلالي حاملٌ لطاقةِ إبادةٍ عاليةٍ، مثلما تُبرهِن أمثلتُه في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. قد تأخذ هذه الطاقة شكل إبادةٍ سياسيةٍ، أو ما يطلق عليه "بوليتيسايد"، من صنف ما تكلم عنه عالم الاجتماع الإسرائيلي الكندي باروخ كمرلنغ في كتابٍ له بهذا العنوان. ناقش كمرلنغ جهود إسرائيل المنهجية لتقويض الهوية الوطنية والسياسية الفلسطينية بسياسات الاحتلال والتوسع الاستيطاني والهيمنة الاقتصادية، وإن كان قد حَمّل مسؤوليتَها رئيسَ الوزراء الإسرائيلي السالف آرييل شارون وحده، لا المشروعَ الصهيوني بوصفه استعماراً استيطانياً إحلالياً. ويمكن أن تعني الإبادةُ السياسية قتلاً واسع النطاق لمجموعةٍ بشريةٍ لأسبابٍ سياسية. وهذا النوع من القتل الجماعي لم تلحظه اتفاقيةُ الأمم المتحدة لسنة 1948 المعنيةُ بمنع "جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، أو ما يطلق عليه "الجينوسايد"، وتعني حرفياً إبادةَ الجنس، والتي اقتصرت على استهداف جماعاتٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ أو قومية أو إثنية. وقد تعني الإبادةُ السياسيةُ القتلَ السياسيَّ لجماعةٍ بشريةٍ ما، بمعنى حرمانها المستمر من قياداتٍ سياسيةٍ بالقمع والاغتيال وتغذية الانقسامات أو إفساد قطاعاتٍ من النخبة السياسية واستتباعها. كذلك يمكن لطاقة الإبادة أن تأخذ شكلاً يمتزج فيه الاستعمار الاستيطاني بالفصل العنصري، أو ما يسمى "الأبارتهايد"، وهو التوصيف الذي وَصفَت به منظمةُ العفو الدولية إسرائيلَ في تقريرٍ جريءٍ في مطلع فبراير 2022. أو مثلما رأى عزمي بشارة، في بحثه "استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟" المنشور في خريف 2021. وأخيراً يمكنها أن تأخذ شكل "الجينوسايد"، أي القتل متعدّد الوسائل وواسع النطاق لمجموعةٍ بشريةٍ، دون تمييزٍ بين المدني والعسكري، ليس بالسلاح وحده بل كذلك بالحصار والتجويع وصدّ المساعدات الإنسانية أو التحكم الشديد بها، مثلما تفعل إسرائيل في غزة بعد 7 أكتوبر 2023.
من التسويغات النظرية التي بَرّر بها هذا التكوينُ السياسيّ استعمارَه الاستيطانيّ فلسطينَ اعتبارُها أرضاً بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض، بحسب الصهيوني البريطاني إسرائيل زانغويل (1864-1926). فإذْ ينفي وجودَ شعبٍ في فلسطين فهو يؤسِّس لما يسمّى اليوم –ومنذ حروب تفكّك يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي– بالتطهير العرقي، وهو ما حدث فعلاً في النكبة سنة 1948. لقد هُجّر ثلاثةُ أرباع سكّان البلد، وكانوا نحو مليونٍ وقتها، جرّاء مجازر وتهديدٍ بها وضروبٍ متنوعةٍ من العنف الاقتلاعي، ما جعل النكبة حدثاً مؤسّساً لإسرائيل وضرباً من "خطيئة أصلية" ترجع صداها في كلّ ما أعقبَها، على ما يفيد كتابُ دومينيك فيدال "خطيئة إسرائيل الأصلية".
أما من بقي من الفلسطينيين على أرضهم فقد وقعوا تحت حكمٍ عسكريٍّ حتى سنة 1966. أي أنهم، مدّةً طويلةً، تحوّلوا لأناسٍ مستباحين يعيشون في "حالة استثناء"، إذا ما أردنا استخدام أطروحة الفيلسوف الإيطالي المعاصر جيورجيو أغامبن. فقد اجترح أغامبن نموذجَ الإنسان المستباح من تجربة نزلاء معسكرات الاعتقال النازية، لكنه ينطبق أيضاً على من هم تحت حكمٍ استعماريٍّ يسيطر عليهم بالتوجيهات والتعميمات الإدارية، مثلما أظهرت ذلك الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنّه آرنت في كتابها "أصول الشمولية" ومثّلَت عليه باللورد كرومر، الحاكم الاستعماري لمصر طيلة ثلاثين عاماً أثناء الاستعمار البريطاني. ولا شكّ أن حالة الفلسطينيين أسوأ بما لا يقاس من حالة المصريين أيام كرومر، من حيث أنهم يعامَلون بوصفهم غرباء في وطنهم، يضيّق عليهم بكلّ السبل كي يرحلوا، فيما يلبث ألوفٌ منهم دوماً في المعتقلات الإسرائيلية بقراراتٍ من محاكم عسكريةٍ في عملية قطع رأسٍ سياسيٍّ مستمرّةٍ، إذ يفوق عدد الأسرى الفلسطينيين اليوم عشرة آلاف. وقد ظهرت حالة الاستباحة هذه بجلاءٍ لا مزيد عليه بعد عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023.
على أن الواقعة التي تجسد التكوين الاستعماري لإسرائيل تكمن في أنها نشأت تحت مظلة الانتداب البريطاني. فقد أقرّ صكُّ الانتداب البريطاني على فلسطين – الذي وُضعت أسسه الأولى في مؤتمر سان ريمو بإيطاليا في أبريل 1920، واعتمده مجلس عصبة الأمم رسمياً في يوليو 1922 – وعدَ بلفور جزءاً أساسياً من نصّ الانتداب. وتشير الفقرة الثانية من مقدمته إلى هذا الوعد وإلى تبنّي دول الحلفاء له، كما أوضح الأكاديمي الفلسطيني رائف زريق في كتيّبه "القضية الفلسطينية وحلّ الدولة/الدولتين".
والانتداب هو الشكل الذي أخذه الاستعمار الأوروبي في بعض بلداننا، ومنها، إلى جانب فلسطين، سوريا ولبنان اللذين كانا من نصيب فرنسا. على هذا النحو عمل الانتداب البريطاني أمّاً للكيان الإسرائيلي، حمله في بطنه ثلاثين عاماً. في سنة 1938، قال أُورد ونغيت، الضابط البريطاني في فلسطين "نحن موجودون هنا لنصنع الجيش الصهيوني"، بحسب ما ذكر الكاتب الإسرائيلي آري شبيط في كتابه "أرض إسرائيل، النصر والمأساة".
والمشروع الصهيوني بدأ أصلاً في أوروبا، وليس في فلسطين أو الشرق الأوسط. وذلك نتيجة تقاطع ثلاث ظواهر أوروبية، وهي صعود القومية العدوانية وتوسّع الإمبريالية الأوروبية ونموّ معاداة اليهود، أو اللاسامية، شكلاً خاصّاً من أشكال العنصرية. فشرطُ إمكانه هو الإمبريالية الأوروبية بما تعنيه من سياساتٍ استعماريةٍ توسعيةٍ وما يرتبط بها من استغلالٍ اقتصاديٍّ للشعوب المستعمَرة حول العالم. والزمن الذي شكّل فيه أبو الصهيونية ثيودور هرتزل هذا المشروعَ فقد كان زمنَ صعود اللاسامية وقضية دريفوس. ودريفوس هذا كان ضابطاً يهودياً فرنسياً اتُّهم في سنواتٍ باكرةٍ من القرن العشرين بالخيانة والعمالة لألمانيا دون وجه حقّ. ويؤكّد المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه "اختراع أرض إسرائيل" أن هرتزل كان استعمارياً، و"لم يكن امتلاكُ وطنٍ خارج أوروبا، يشكّل امتداداً للعالم البرجوازي المتحضّر، يحتاج، في نظره، إلى أيّ تبريراتٍ أو مسوّغاتٍ فائضة".
وقبل أيّ نقاشٍ تاريخيٍّ أو نظريٍّ، عاش الشعبُ الفلسطينيُّ والنخبُ العربيةُ الواقعةَ الإسرائيليةَ استعماراً فَرض نفسَه بالعنف الحربيّ واقترن بالعنف دوماً منذ قيامه إلى يومنا هذا. ولا يجب الاستهانة بهذا البعد الذاتيّ في تقرير استعماريةِ إسرائيل لأنه يدلّ على أن المتأثرين بالوجود الإسرائيلي خبروه عدواناً على كيانهم بلا ذنبٍ اقترفوه. ونشأَت في وجه هذا العدوان مقاوَماتٌ متنوعةٌ، قامت وقت انطلاقها في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته على أسسٍ تحرّريةٍ أكثر اتساقاً مما نرى في العقود الأخيرة، وإنْ كانت متعثّرةً بأثرِ فرادةِ العدوّ الذي تواجهه وتَراجُعِ المكوّنات التحرّرية في السياسات العربية الداخلية والخارجية منذ سبعينيات القرن العشرين.
ومن أوجُه هذه الفرادة تفوّقُ القوّة الإسرائيلية المكفولُ من التحالف الغربيّ. يُنسب إلى بن غوريون، أوّل قادة إسرائيل، قولُه إنّ ما لا يتحقّق بالقوّة يتحقّق بمزيدٍ من القوّة. هذا منظورٌ سياديٌّ استعماريٌّ يُضمِر ما واجه المشروعَ الإسرائيليّ من رفضٍ فلسطينيٍّ ومن استعدادٍ إسرائيليٍّ مستمرٍّ للحرب والإخضاع العنيف. لكنه يضمر أكثرَ من ذلك أن تفوّقَ السلاح و"المزيد من القوة" مضمونٌ دوماً. ومعلومٌ أن هذا الضمان أخذ منذ سبعينيات القرن العشرين شكلَ تعهّدٍ أمريكيٍّ كان يتكرّر علانيةً حتى مؤتمر مدريد للسلام سنة 1993 بتفوّق إسرائيل العسكريّ النوعيّ على البلدان العربيّة مجتمعة. ولا يدلّ عدمُ التكرار العلنيّ لهذا التعهّد اليوم على أنه زال أو تراجع في أيّ وقت. فالواقع أنه صار قانوناً أمريكياً مكرّساً منذ 2008، يحظر وفقه بيع سلاحٍ أمريكيٍّ لأيّ دولةٍ عربيةٍ يهدِّد تفوّقَ إسرائيل العسكريّ النوعيّ على الدول العربية مجتمعة. أمريكا، وليس إسرائيل وحدها، تفكّر في العرب على أنهم مجموعةٌ واحدة.
لَم ينجح نهجُ "مزيد من القوة" في تدمير المقاومة الفلسطينية، لكنه نجح في تقويض الجانب العقلانيّ من وعي المنظمات الفلسطينية والدول العربية التي قاومت إسرائيل، عبر ما نجم عنه من دولٍ ومنظماتٍ مردوعة أو "مؤدبة" مع المحتل القوي. وقد سمّى رئيسُ أركان الجيش الإسرائيلي سابقاً موشيه يعالون نهجَ "المزيد من القوة" بِاسمٍ آخَر هو "كيّ الوعي"، أي حفر الردع في عمق وعي الفلسطينيين. لكن ما لم يَحتسِب له نهجُ "المزيد من القوة" هو تولّدُ منظماتٍ وطبقات وعيٍ أقلّ قابليةً للردع، تعمل على مستوىً دينيٍّ، مانعٍ أو "ممانِع". ولعله يمكن فهم حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وما يحتمل تفجره من حرب شاملة مع حزب الله في لبنان بوصفه مسعى لردع فائق يطال حتى المنظمات الدينية التي تستنفر الشعوري أكثر من العقلاني.
تَحضر التوراةُ بقوّةٍ في الوعي الإسرائيلي ركيزةً لهذا التاريخ المقدس. ومِن ذلك وعيُ المتديّنين بطبيعة الحال. ويشملُ أيضاً وعيَ غير المتديّنين والعلمانيين ممّن كانت لهم الكلمة العليا وقت تأسيس الدولة ونحو ثلاثة عقودٍ بعدها. واليهودية، أوّل أديان التوحيد، والأساس الإبراهيميّ الذي تقوم عليه المسيحية والإسلام. فالدين اليهوديّ، من حيث هو رابطةٌ شعوريةٌ وحسُّ انتماءٍ تغذّى أكثرَ من ألفَي سنةٍ على الغربة والتمييز، هو أساسُ فكرة "الشعب اليهودي". ليس الأرض ولا الكيان السياسي ولا العرق، وإن جرى الإيهام بأصلٍ واحدٍ ساميٍّ، ولا حتى الإيمان بعقيدةٍ محدّدة. فغيرُ قليلٍ من اليهود انتماءً ملحدون ممارسةً، دون أن يطعن ذلك في يهوديّتهم، لا في نظرهم ولا في نظر أرباب الديانة اليهودية. والصهيونية هي الحركة القومية التي ظهرت في أوج عصر الإمبريالية والقوميّات الأوروبي لتقريب العناصر الثلاثة، أي "الشعب" الذي كان يعيش أكثرُه في "المنفى"، والأرض والدولة. ترى الصهيونيةُ نفسَها نفياً للمنفَى اليهوديّ، على ما أظهرَ غيرَ مرّةٍ الأكاديميُّ الإسرائيليُّ الناقدُ للصهيونية أمنون راكوتزكين.
ولا تزال القصّةُ التوراتية مصدر الشرعية الرئيسي لكثيرٍ من النظّار والنقّاد الصهاينة. فعلى سبيل المثال، يعتقد أوري إليتسور، وهو "من أفصح ممثّلي الفكر الصهيونيّ الجديد" بحسب ما نقله الباحثُ الفلسطيني أمل جمال في كتابه "الفكر الصهيوني في متاهات التجديد والتحديث، جدلية التناقضات الداخلية وانعكاساتها العملية"، أنه "مِن دون قصّة الكتاب المقدّس فنحن [الإسرائيليون] لسنا سوى استيطانٍ أوروبيٍّ استعماريٍّ في الشرق الأوسط". إلا أن هناك من يرفض تبريرَ إسرائيل بالكتاب المقدّس. إذ يقول شلومو ساند، الذي تقدّم ذكرُ كتابه "اختراع الشعب اليهودي": "لَم يخطرْ ببالي في أثناءِ تأليف الكتاب أن يكون هناك في بداية القرن الحادي والعشرين عديدٌ من النقّاد الذين يبرّرون الاستيطانَ اليهوديّ وإقامةَ دولة إسرائيل من خلال ادّعاءات أرض الآباء، والحقوق التاريخية، أو أشواقٍ تاريخيةٍ عمرُها ألفا عام". فعند ساند، يمكن تسويغُ إسرائيلَ بحقيقة أن "الاستيطان الصهيوني … أَنتجَ مجتمعاً وثقافةً، وحتى شعباً محلّياً لا يمكن تصوّر اقتلاعه"، وإنْ يكن أنتج كذلك "طبقة عليا استعمارية مستغِلة".
ولَإنْ بدأَت إسرائيلُ علمانيةً واشتراكيةً بصورةٍ ما، فإن تاريخَها منذ ما بعد حرب 1967 هو تاريخُ نموّ قوّة المتديّنين والتيّارات اليمينية. وهو ما تَكرّس سياسياً في فوز حزب الليكود في الانتخابات سنة 1977، وذلك أوّلَ مرّةٍ منذ قيام الكيان. ويعيد إيان لوستيك في كتابٍ بعنوان "الأصولية اليهودية في إسرائيل" صعودَ الأصوليين إلى حربِ 1967. وهذا أمرٌ جديرٌ بالتأمّل لأنه ثمّة اعتقادٌ على نطاقٍ واسعٍ أن صعود الأصولية الإسلامية يجد أحدَ جذوره كذلك في تلك الحرب التي كانت انتصاراً إسرائيلياً ماحقاً وهزيمةً مذِلّةً للقوى العربية. ومع صعود اليمين والتيارات الدينية المتطرفة صعدت كذلك العناصر "المسيحانية" في السياسة الإسرائيلية، أي العناصر المتصلة بالخلاص وفكرة الأرض الموعودة وقدوم المسيح اليهودي. ومثلما نَعرف من التجربة في البلدان العربية، فإن التأويل السياسيّ المباشر للمعتقدات الدينية بابٌ لعنفٍ مطلقٍ، إباديٍّ، وليس هناك ما يسوّغ الاعتقادَ بأن الأمر سيكون مختلفاً في سياقٍ إسرائيليٍّ يهوديّ. وهذا ما نحن فيه بالفعل، ونعرف نظائر له منذ أيام الحروب الصليبية، وصولاً إلى الجهادية الإسلامية المعاصرة، إلى إرادة بنيامين نتنياهو إبادةَ الفلسطينيين في غزّة نسجاً على منوالٍ توراتيٍّ في إبادة اليهود العماليقَ، وهم قومٌ سكنوا فلسطين قديماً، ويرى بعضُ الإسرائيليين في الفلسطينيين امتداداً لهم. ومعلومٌ أن ملفّ جنوب أفريقيا أمام منظمة العدل الدولية، وهو متاحٌ للعموم منذ فبراير 2024، قد تطرّق إلى هذا التصريح بوصفه تعبيراً عن نيّة الإبادة، والنية عنصرٌ مُعرِّفٌ من عناصر تعريف الأمم المتحدة جريمةَ الجينوسايد.
والواقع أن إسرائيل تحمل تكوينياً هذا التناقضَ بين الخلاصيّ أو المسيحانيّ وبين السياسيّ الدنيويّ والعلمانيّ، وهو ما تَمثّل في قولٍ ظريفٍ مأثورٍ ينسَب إلى بن غوريون: "يَهْوَه غيرُ موجودٍ، لكنه وعدَنا بهذه الأرض". وهو تناقضٌ ينحل لمصلحة المتديّنين اليوم. فما دام اليهودُ على الأرض بعد ألفَي عامٍ من المنفى، يجبُ أن يكون يَهْوَه موجوداً، وبقوّة.
ويدخل المكوّنُ اليهوديّ في تعريف إسرائيل لكونِه من ركائز الدعم الغربي لها. فهذا الدعم لا يقتصر منشأه على الصفة الاستعمارية لإسرائيل، أو كونها "قلعة الغرب" على حدّ قول كونراد أديناور، أوّل مستشارٍ لألمانيا الغربية بعد الحقبة النازية. بل صار الغرب يُعرّفُ على نطاقٍ واسعٍ بثقافةٍ يهوديةٍ مسيحيةٍ بعد الحرب العالمية الثانية، ويُقر بدَينٍ كبيرٍ لليهود في الأزمنة الأحدث. وهو دَينٌ كبيرٌ وحقيقيٌّ، فغيرُ قليلٍ من كبار العلماء والفلاسفة والمفكرين في القرنين الأخيرَين من اليهود، من سبينوزا وماركس وفرويد، إلى إنشتاين وحنّه آرنت، إلى تشومسكي وجوديث بتلر، وآخرين بالألوف وفي مختلف المجالات.
الوجه الثالث لإسرائيل يتّصل بالهولوكوست، تلك المأساة التاريخية الكبرى نادرة المثال، التي توصف كثيراً بالفريدة. أودت الهولوكوست بحياة ستّة ملايين يهوديٍّ على يد ألمانيا النازية، التي كانت قوّةً عدوانيةً عنصريةً احتلّت أجزاء واسعةً من أوروبا وعاملَت سكّانَها بوحشيةٍ وطوّرت نظامَ إرهابٍ شاملٍ في الداخل الألمانيّ. لم يكن هناك من يمكن أن يدافع عن النازيّة، ولا سيّما بعد سقوط الحكم الهتلريّ سنة 1945، واحتلال ألمانيا من قوّات كلٍّ من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. بل على العكس حاز ضحاياها، خاصّةً اليهود، تعاطفاً عظيماً لهول ما ألمّ بهم، ولكونهم خلافاً للروس والبولنديين والأوكران والبيلاروس والتشيك والسلوفاك والفرنسيين، بلا دولةٍ أو كيانٍ سياسيٍّ يحميهم. فالصهيونيةُ، التي كانت ناشطةً في أوروبا أكثر من نصف قرنٍ وقتها، جَنت ثمارَ هذا التعاطف بتأويل الهولوكوست إلى ضرورةِ قيام دولةٍ لليهود كي لا يحدث لهم من جديدٍ ما حدث على يد النازيّين. وهذه فحوى عبارة "نيفر أغين"، أو "لو عُلام لو عود" بالعبرية، وتعني "لن تتكرّر"، فدلالتها الحصرية الاستبعادية التي تعني أن هذه الحادثة لن تتكرّر لليهود تحديداً طغت على الدلالة المنافسة التي تعني أنه يجب أن لا يحدثَ هذا لأيٍّ كان.
يتعلّق أمرُ هذا الوجه الثالث بتضحيةٍ هائلةٍ، يكفي مثلُها ويزيدُ ليكون أساساً لدِينٍ ما، وهو ما جرى فعلاً. صارت الهولوكوستُ دِيناً، ليس فقط في إسرائيل التي نجحت في استملاكٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ لهذه التضحية الهائلة، وإنما في عموم الغرب. وهو دِينٌ يلقى التعزيزَ من واقعِ أن من ضُحِّيَ بهم هم جماعةٌ دينيةٌ صار ينظَر لها بعد ما أثارته الهولوكوست من شعورٍ بالذنب والدَيْن شريكاً مؤسّساً للغرب. ما تقدّم ذكرُه من كلامٍ على تراثٍ يهوديٍّ مسيحيٍّ يَستبطن هذا التحوّلَ في النظرة.
بصورةٍ ما يمكن التفكيرُ في الهولوكوست أساساً لدِينٍ جديدٍ مثلما يُنظر إلى صَلب المسيح أساساً للمسيحيّة. لقد اضطُهِد اليهودُ في العالم الأوروبيّ المسيحيّ طوالَ أكثر من ألف عامٍ، تحميلاً لهم المسؤوليةَ عن صَلبِ المسيح ولعدمِ اعترافِهم به، ونشأت معاداة السامية جزئياً على الأقل من تحميلهم المسؤولية عن تضحية المسيح. ومثل ذلك يمكن أن يقول عن الديانة القربانية الجديدة المتكونة حول الهولوكوست، حيث يحلَّ اليهودُ المُبادون محلَّ يسوع المصلوب، فصاروا بصورةٍ ما "ابن الله" البديل. تقول شارلوت دلبو، وهي يهوديةٌ فرنسيةٌ ناجيةٌ من الهولوكوست، في كتابها " آوشفيتز وما بعد": "بكيتم ألفَي عامٍ على من برّح به العذاب ثلاثةَ أيامٍ وثلاثَ ليالٍ. ماذا بقي لديكم من دموعٍ يا ترى للبكاء على من تعذّبوا أكثرَ من ثلاثمئة ليلةٍ وثلاثمئة يومٍ. وكم سيكون شديداً بكاؤكم على هؤلاء الذين تعذّبوا عذاباتٍ كثيرةً، وكان عددهم فوق الحَصر". تُحيل دلبو بالطبع إلى عذابات اليهود المهولة على يد النازيّين. وهي مهولة فعلاً وجديرةٌ بأن يُعرَف عنها أكثر في المجال العربي وأن يفكَّر فيها في سياق وصف ضروب المعاناة الفظيعة وتحليلها في مجالنا الإقليمي، بما في ذلك فلسطين بطبيعة الحال.
بات هذا الدِّين القرباني الحديثُ هو الدِّين، بلامِ التعريف، الذي تراعَى حرماتُه ويحوز مكانةً مقدّسةً عند التيّار الرئيسِ في الغرب المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية. وهو دِينٌ حديثٌ لأن بداياته تعود إلى ستينيات القرن العشرين، أي ما بين 15 و 20 عاماً مِن بَعد حدثِ الهولوكوست نفسِه. وهو اليوم الدِين الرئيس، وليس المسيحية التي انخفضت مكانتُها في مسارات التنوير والعلمنة والحركة الاشتراكية والحداثة باعتبارها ثورةً ثقافيةً، ولا حتى اليهودية. ذلك أن الغرب هو وريث تجربة الحرب العالمية الثانية ضد النازية، وتكوينُه الحاليُّ مرتبطٌ بها، ولم يحدث ما هو أكبر من تلك التجربة في الثمانين عاماً الماضية. إلّا أن عدوَّ هذا المعتقد الجديد تحوّلَ سريعاً ليصير الفلسطينيَّ والعربيَّ عموماً، وليس الألمانيَّ الذي افتدى نفسه بتعويضاتٍ كبيرةٍ بدءاً من سنة 1952، وبامتحانِ ضميرٍ جعلَ من الهولوكوست أساساً للوجدان الألمانيّ المعاصر، ومِن أمنِ إسرائيل مبرّراً للدولة في ألمانيا كما ذكرت ذلك يوماً المستشارةُ الألمانية أنغيلا ميركل في خطابها أمام الكنيست سنة 2008. أما معبد الهولكوست، بوصفه دِيناً مدنياً، فهو مركز ياد فاشيم لدراسات الهولوكوست وأبحاثها في القدس، وهو بمثابة متحفٍ للهولوكوست يزوره مئات الألوف كلَّ سنة.
ومثل كل دين، يمكن لهذا "الدين المدني" أن يُصاب بالأصولية. فيصير ديناً سياسياً متزمتاً وحرفياً مثل الإسلام السياسي، فيطالب لنفسه بالسلطة ويمارس الحِرَم مثل المسيحية أيام سلطتها الدنيوية، ويُكفِّر ويقصي ويشرع، ويضيق بالنقد والأصوات المعترضة. نجد هذا خصوصاً في ألمانيا التي يتعذّر فيها كلَّ التعذّر فهمُ أن إسرائيل هي ألمانيا الفلسطينيين، وهي الحلُّ النهائيُّ على حساب الفلسطينيين للحلِّ النهائيِّ الألمانيِّ على حساب اليهود. يَنسبُ مارسيلو سفيريسكي، مؤلّفُ كتاب "ما بعد إسرائيل: نحو تحول ثقافي"، القولَ السديدَ الآتي إلى الناقد والصحفيّ الإسرائيليّ بوعاز إيفرون: "حدث حدثان رهيبان للشعب اليهوديّ في هذا القرن: الهولوكوست والدروس المستخلَصة منه". والقصدُ أن هذه الدروس التي تضع اليهودَ في موقع المظلوم المطلق الدائم، الذي لا يستطيع أن يضع نفسَه محلَّ غيره ويتوقع من الجميع بالمقابل المراعاةَ والدعمَ، تؤسِّس للأنانية العادلة بدلَ أن تؤسّس هي ذاتها للغيرية وشحذ الحسّ بالعدالة. وقد لا يكون هذا هو المقام الأنسب للقول إن الإسلام الشيعيّ يَعرض النزعةَ نفسها نحو الأنانية العادلة بفعل وراثة مظلومية آل البيت. وحديثاً نرى شيئاً مماثلاً مع الإسلاميين السنيّين المشرقيين. بل قد نقول إن أحد أسباب كون الشرق الأوسط هو هذه البيئة من التوحّش والأنانية والكراهية هي وفرة المظلوميات وتنشيط بعضها بعضاً، وافتراض أصحابها أن مظلوميتهم تكفي كي يكونوا عادلين. وهذا باطلٌ تماماً بطبيعة الحال.
ومثل كلِّ دِينٍ، يثير وضعُ دِين الهولوكوست المدنيّ سؤالَ العلمانية، أي الفصل الضروري بين السلطة السياسية والدينية من أجل حماية مساحاتٍ من الحرّية والاختلاف. يمكن أن تعني العلمنةُ في هذا السياق فصلَ الهولوكوست عن إسرائيل، وفصلَ احترامه عن حرمة دولةٍ عدوانيةٍ قامت على التطهير العرقيّ وتحمل كُموناً إباديّاً عالياً. إنها تعني اعتبار إسرائيل دولةً مثل غيرها، تُنتقَد وتُدان وتُعاقَب وتُقاطَع. تتّصل أصوليةُ الهولوكوست، وتصوّر أنه دينٌ ودولةٌ متجسّدان ومتوحّدان معاً في إسرائيل، باستخدامه السياسيّ، مثلُها في ذلك مثلُ نظرة الإسلامية المعاصرة إلى الإسلام. احترام التضحية المهولة لا يجب أن يمتدّ إلى توظيفاتها السياسيةَ، سواءً في إسرائيل لتسويغ الاحتلال والعنصرية حيال الفلسطينيين، أو في الغرب للتغطية على التاريخ الاستعماري.
الحديث عن إسرائيل بوصفِها مسألةً يعني الاعترافَ بأننا حيال وضعٍ معقّدٍ، مديدٍ، ليس له معالَجاتٌ تبسيطيةٌ ويعوزه الكثير من عمل الرؤية والفكر والحسّ السياسيّ. إنها مسألةٌ من جنس تلك المسائل الكبيرة التي عَرفنا عنها شيئاً في الأزمنة الحديثة كالمسألة اليهودية في أوروبا والمسألة الشرقية المتعلقة بالإمبراطورية العثمانية. بل إن إسرائيل والعرب المعاصرين هم في واقع الأمر ورثةُ الحلول التي قدّمَتها قوى السيطرة الدولية، وبخاصّةٍ الإمبرياليات الغربية، لهاتين المسألتين.
يدفع فشلُ المواجهات العربية مع إسرائيل إلى اليوم ونجاحُ إسرائيل فيها إلى مساءلة تصوّراتنا وتفكيرنا في الواقعة الإسرائيلية التي نكّدت حياةَ أجيالٍ منّا، عشرات الملايين وأكثر، بل أكثر بما لا يقاس من عدد جميع اليهود في العالَم الذين يقدّرون بنحو خمسة عشر إلى ستة عشر مليوناً. كان المسرحيُّ السوريّ الراحل سعد الله ونّوس قد قال في فيلمٍ وثائقيٍّ أنجزه عنه الراحلُ أيضاً المخرج عمر أميرالاي إن إسرائيل سرقَت عمرَه، وهذا بما تسمّم به هذا العمرُ (1941- 1997) من شعورٍ بالذلّ وفقدان الاعتبار. حاول ونّوس الانتحار إثر زيارة أنور السادات القدسَ سنة 1977. نجا منها، لكنه ظلّ صامتاً سنواتٍ بعدها في ضربٍ من الانتحار الرمزيّ. ومثالُه أشيعُ في المشرق العربي ممّا يبدو، وإنْ لم يأخذ دوماً صورةً درامية. كان ياسين الحافظ، المثقّف السوريّ الذي رحل سنة 1978 عن 48 عاماً، قد كتب أنه فكّر في الانتحار إثر هزيمة 1967، وما منعه من ذلك إلا "بقايا ثقةٍ ميتافزيقيةٍ [أي تتجاوز المادّة] بقدرات الشعب العربي" بحسب تعبيره. ومعلومٌ أن الشاعر اللبنانيّ خليل حاوي (1919-1982) انتحر عند احتلال إسرائيل بيروتَ في صيف 1982. أذكر هذه الأمثلة، وهي بلا ريب غيضٌ من فيضٍ، للقول إن لدينا عديداً من الأسباب النفسية، فضلاً عن السياسية والعسكرية والحقوقية والأخلاقية، للعمل على جعل إسرائيل سؤالاً أو مسألةً يمكن أن يجاب عليها. ذلك أن شيئاً يدعو مثقّفين مُرهفين إلى الانتحار أو التفكير به، ويبثّ الشعورَ بالذلّ في قلوب الملايين، ويسمّم حياةَ كثيرين تسميماً مزمناً، يحتدّ كلَّ بضعة أعوامٍ بالضغينة ومعاداة العالم، وكان مصدرَ تغذية منازع عدميةٍ جمعيةٍ بين كثيرٍ من العرب طوال الجيلين الماضيين. أقول إن هذا الشيءَ مشكلةٌ كبيرةٌ، محنةٌ للنفس وتحدٍّ للإرادة ومعضلةٌ للفكر، ممّا يستوجب جهداً لتنظّم إدراكه ومحاولة السيطرة عليه فكرياً، على أمل أن يساعد ذلك يوماً في السيطرة عليه بالفعل. لا نتكوّن ذاتاً تاريخيةً فاعلةً دون تحويل انفعالاتنا ومشاعرنا المختلطة إلى مسائل نعمل على معالجتها وحلّها.
لا يَظهر فشلُ تكوّن الذات الفاعلة أكثرَ ممّا في فكر الممانعة وغريمه الذي يمكن تسميته بالممانعة المعكوسة التي تتقبّل الواقعةَ الإسرائيلية البالغة التطرّف بذريعة الاعتدال. ليست الممانعةُ مقاومةً تحرريةً تستند إلى أسسٍ حقوقيةٍ وأخلاقيةٍ عالميةٍ، وتندرج بذلك في إطار تراث التحرر العالميّ في العصور الحديثة. إنها رفضٌ سياسيٌّ ذو أسسٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ، تعترض على الحداثة الديمقراطية وتحتاج إلى أعداء كي تسيطر على مجتمعاتنا. من هذا الباب يبدي الإسلاميون جميعاً، الشيعة والسنة على حد سواء، والقوميون العرب التقليديون، استعداداً ممانِعاً، حتى حين يجد بعضهم أنفسهم في موقعٍ سياسيٍّ غير متوافقٍ مع محور الممانعة الراهن الذي تقوده إيران وتُشكّل الشيعية السياسية متنه. الممانعة وليدةُ ما تقدّم ذكرُه من تحطّم الطبقة العقلانية من الوعي العربي بيد المطرقة الإسرائيلية وحاميها الأمريكيّ.
وبقدرِ ما تُعنى الممانعة بدوامِ الصراع من أجل سيطرتها السياسية، تتقبلُ الممانعةُ المعكوسة الواقعةَ الإسرائيلية دون سؤال. لكن حتى لو "رضينا بالهمّ، الهمّ مو راضي فينا"، على ما يقول التعبير الشعبي، وما تثبته محصّلات اتفاق أوسلو طوال أكثر من ثلاثين عاماً. من الغريب أن توجد دولٌ تتقبّل اختلالاً مهولاً لموازين القوى لمصلحة بلدٍ مجاورٍ حتى لو لم يكن هذا البلد حادثَ التكوين، بدأ بحرب تطهيرٍ عرقيٍّ، ولم يقبل بحدٍّ أدنى من العدالة لضحاياه المباشرين ومن المساواة مع محيطه. الممانِعون المعكوسون قصيرو النظر حين يتصوّرون أنه يمكن تطبيع إسرائيل والتطبيع معها. فإسرائيل ليست طبيعيةً، وهي لا تقبل أنها كيانٌ سياسيٌّ مثل غيره يُنتقَد ويقاطَع ويقاوَم ويُدان، ويعاهَد ويسالَم ويؤمَن جانبه. إسرائيل لا تقبل أنداداً في المجال العربيّ.
أمّا وجهها القرباني الهولوكوستي، فلِإسرائيل كامل الحقّ في الوجود في ألمانيا، وربما بولندا والتشيك. لكن الفلسطينيين والعرب مدعوّون إلى التعبير عن كامل الاحترام لهذه التضحية الهائلة، التي تحول عبئها ليجثم على كواهلهم. بل لعلنا مدعوّون إلى المزيد من دراسة الهولوكوست لتحسين فهمنا لا لإسرائيل وحدها، ولا لألمانيا والغرب المعاصر، بل للمَنازع التدميرية البشرية والفاشية والإبادية والعدمية. وللعلاقة بين التضحيات الكبيرة والتفجّرات الدينية. ليس أيٌّ من هذه الظواهر غريباً على العرب المعاصرين، إنما الغريب هو التواني وقلّة الاكتراث بها في المجال العربي.
وأما بُعدها الاستعماريّ الذي تمخّض عن تشريد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني بالمجازر والترويع، البعد المستمر والمتفاقم طوال أكثر من ستة وسبعين عاماً، فليس لإسرائيل أيّ حقٍّ في الوجود، كما ليس هناك حقٌّ في الوجود لأيّ استعمارٍ أو نظام تمييزٍ عنصريّ. وهو ما يوجب نزع استعمارية إسرائيل إن كان لها أن تكون جزء من هذه المنطقة. المهمة صعبة، بل لعلها مستحيلة دون تغير جوهري في النظام السياسي والحضاري الدولي. المسائل عموماً لا تحل دون تغيرات ضخمة، جيولوجية، في البنى الدولية.
غير أننا نعلم أن إسرائيل القائمةَ في فلسطين، وليس في ألمانيا، ولا في شتاتٍ بلا مركزٍ، تركيبٌ من هذه الوجوه الثلاثة. فوجهٌ يهوديٌّ يوفّر لها عمقاً تاريخياً أسطورياً وضرباً من "رسالة خالدة" وسرديّة عن الميعاد و"أرض إسرائيل". ووجهٌ قربانيٌّ تضحويٌّ يوفّر لها شعوراً بالعدالة والشرعية مهما فعلَت. ووجهٌ استعماريٌّ يؤمّن لها قوّةً وطاقةً إباديّةً قد تشمل العربَ كلّهم وليس الفلسطينيين فحسب. هذه الإسرائيلُ، "مجتمعاً وثقافة وشعباً"، بحسب شلومو ساند، قائمةٌ منذ ثلاثة أجيالٍ، وغيرُ قليلٍ من سكّانها اليهود لا يعرفون لأنفسهم بلداً غيرها. فهل في تصوّر المسألة الإسرائيلية ما يساعد على الوصول يوماً إلى معالجةٍ متكاملةٍ لهذه المشكلة الهائلة؟ علينا أن نذهب، مثلما فعل إدوارد سعيد (1935-2003)، إلى أبعد من الحقّ المجرّد من أجل الإجابة عن السؤال. رَفَضَ سعيد مراراً فكرةَ تهجير أيّ كتلٍ سكانيةٍ ممّا يشكّل اليوم، وفي أيامه، فلسطينَ إسرائيل، لكنه أصرّ على وجوب نزع الطابع الاستعماريّ والعنصريّ عن إسرائيل.
إدراك المسألة الإسرائيلية بأوجهها الثلاثة يفتح الباب للتفكير في حلولٍ مركّبة تشملها كلّها. فيمكن التفكير في الجمع بين الإصرار على القانون الدولي فيما خصّ الانسحابَ من الأراضي المحتلة سنة 1967 وعودة اللاجئين الفلسطينيين أو التعويض العادل الذي يتعيّن أن ينظر في التعويضات الألمانية لإسرائيل لكونِها سابقةً يُستأنَس بها، وهذا لأنها حجر الأساس في معالجة الوجه الاستعماري. وفرص ذلك أكبرُ بقدرِ ما يجري العمل على الوجهين الآخرين: الانفتاح على الوجود اليهودي في فلسطين والمجال العربي، بما في ذلك إعادة أملاك اليهود العرب، أو تعويضهم، إن عادوا إلى مواطنهم مقابل شيءٍ مماثلٍ لحقوق الفلسطينيين وأملاكهم. ثمّ الاهتمام بالهولوكوست نموذجاً للإبادة والجنون البشري، والعمل مثلاً على ترجمة بعض أهم الكتابات في هذا الشأن، وعقد مؤتمراتٍ وحلقاتٍ دراسيةٍ عن هذه الإبادة، وغيرها. ليس هذا شيئاً يعطى لإسرائيل والصهيونية، ولا حتى لليهود في واقع الأمر، بقدرِ ما يتعيّن أن يكون من أوجُهِ صحوِ العرب على العالم والشراكة في الدفاع عن المظلومين عالمياً. يقع العرب في أزمةٍ وجدانيةٍ حادّةٍ حين تحُلّ إحدى أكبر المظالم في العصر الحديث على حسابهم دون ذنبٍ اقترفوه، في حين يجدون أن مظلومي الأمس القريب هم ظالمو اليوم، المتعجرفون العادلون دوماً في عين أنفسهم، والمدعومون من أقوياء العالم. تصوُّر المسألة الإسرائيلية قد يكون خطوةً نحو حلّ هذه الأزمة الوجدانية.
ويعني القول إن المسألة الإسرائيلية مسألة عربية أن التقدم في معالجتها مرتبط بالتقدم في معالجة مشكلاتٍ عديدةٍ، جعلت العربَ مشكلةً لأنفسهم ولغيرهم. يستحقّ الأمرُ نقاشاً مستقلاً، ولكن يكفي القول إن العرب المعاصرين هم من أقلّ الجماعات البشرية تمتّعاً بالحرّية، نتيجة معاناتهم من ثلاثية الطغيان الدولتيّ، وأوّلها الأنظمةُ العربيةُ التي هي أنظمةُ إبادةٍ سياسية دون استثناء، وثانيها الحضورُ الاستعماريّ، سواءً الغربيّ أو غيره، و إسرائيلُ أبرزُ مظاهره، لكنها ليست الوحيدة، وأما ثالثُها فالأصولية الدينية العدمية ذاتُ التوجّهات الفاشية.
فإذا كان لمفهوم المسألة الإسرائيلية أن يفكّر في نفسه ويُعرّف نفسه، فعليه أن يُعرّفها بالتضادّ مع المقاربات الوجودية العدمية للصراع مع إسرائيل. فأيّ تصوّرٍ أننا في صراعٍ وجوديٍّ مطلقٍ لا يفتح أفقاً لغير الإبادة، أي سلطة العدم. ومن يقدر فعلياً على الإبادة اليوم ليس إلا إسرائيل التي تفكّر نخبها، والقوى اليمينية خاصّة، في كلّ مقاومةٍ لإسرائيل خطراً وجودياً لا بدّ من محقِه. يتحدّث آري شبيط، الذي تقدّمت الإشارةُ إلى كتابه "أرض ميعادي"، عن السلاح النوويّ الإسرائيليّ، الذي يطلق عليه "نار بروميثيوس الحديثة" (وبروميثيوس هذا شخصيةٌ من الأساطير الإغريقية، يُعرف بسرقته النارَ من الآلهة ومنحها للبشر) فيقول: "للمرّة الأولى في التاريخ، يمتلك اليهودُ القدرةَ على إفناء الآخَرين". من يُحتمل أن يكونَ الآخَرون هنا يا ترى؟ الألمان؟ الأمريكيون؟ الفرنسيون الذين وفّروا تقنية القنابل النوويّة لإسرائيل، بينما كانوا يخوضون حربهم الاستعمارية ضدّ الثورة الجزائرية وبعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956؟ يصفُ شبيط المفاعلَ النوويّ بأنه "لفتة عظيمة من فرنسا تجاه إسرائيل" قبل أن يضيف شيئاً يوضح التكوينَ الاستعماريّ لإسرائيل: "كانت التكنولوجيا النووية هدية الوداع من قوّةٍ استعماريةٍ في طور التراجع، إلى دولة المواجهة الشابّة التي أنشأها الغرب في الشرق، والتي تُترك الآن وحدها" مع أسلحة الإبادة. سوى أنها لم تُترك يوماً وحدَها في واقع الأمر. في الآن نفسه، تثير هذه الحالة انفعالاتٍ غاضبةً وتغذي التصوّرات الوجودية، أو العدمية، للصراع، خاصّةً حين تقرأ عند المؤلّف نفسه قولَه عن المفاعل النوويّ الإسرائيليّ في ديمونة بأنه "جوهر الثورة الصهيونية". هل يعني ذلك شيئاً آخَر غير أنّ الإفناء أو الإبادة هو هذا الجوهر؟ أي بالضبط إعادة إنتاج الهولوكوست؟
إلّا أن هذا، ولأسبابٍ عمليةٍ، يدفع إلى العدول عن المقاربة الوجودية التي هي نفسها المقاربة العدمية. فالفلسطينيون العرب المحرومون من "نار بروميثيوس الحديثة" هم المرشَّحون الوحيدون للإفناء في أيّ أفقٍ منظور. لكن الأهمّ من ذلك هو أنه لا يجب أن يكون تكوينُ أهل الأرض والمنطقة حرجاً إلى درجة رهن وجودهم بعدم غيرهم، مع ما هو معلومٌ من مركزية قيم الكرم والضيافة في الثقافة العربية. فضلاً عن أن يكون تصوّر المسألة الإسرائيلية نداءً من أجل العقل والسياسة والكرم، فإنه إهابةٌ بتقاليد تعدّديةٍ ومسكونيةٍ كانت حيّةً في المجال العربي والإسلامي قبل فترة الاستعمار والدول القومية التي أعقبته.
لقد حُمّل الفلسطينيون والعرب أوزارَ حلِّ المسألة اليهودية التي هي مسألةٌ أوروبيةٌ دون ذنبٍ أتَوه ودون وجه حقّ. فليس للعرب ضلعٌ بالهولوكوست إلّا في ضمير أمثال نتنياهو الذي جعل أمينَ الحسينيّ ملهِماً لهتلر، ما أثار في وقته اعتراضاتٍ يهوديةً وألمانيةً أكثر من الاعتراضات العربية. وليس للعرب علاقةٌ من قريبٍ أو بعيدٍ بنشوء الشتات اليهوديّ تاريخياً، فقد انتزع العربُ فلسطينَ فيما انتزَعوا من أيدي البيزنطيين، وليس من أيدي أيّ كيانٍ يهوديٍّ، إذ لَم يكن لليهود كيانٌ سياسيٌّ طوال ستة قرونٍ قبل الفتح العربيّ. ولَم يقُم العرب في أيّ وقتٍ بتهجير يهودٍ من فلسطين وجوارها. أما الاستعمار، فالفلسطينيون والعرب من ضحاياه إلى جانب الأفارقة والهنود وغيرهم، وإسرائيل هي المستفيدة منه قبل نشوئها وبعده. وهذا ظلمٌ تاريخيٌّ يتحمّل المسؤوليةَ عنه التحالفُ الصهيونيّ الغربيّ. لقد دفعت ألمانيا تعويضاتٍ لإسرائيل عن جرائم النازيّين بحقّ اليهود، فيما لم تُقدَّم أيُّ تعويضاتٍ للفلسطينيين، لا مِن ألمانيا ولا مِن أيّ جهاتٍ غربيةٍ أو دوليةٍ عن سلب وطنهم وما لحق بهم من ظلمٍ فادحٍ، أو عن الاستعمار.
بالمقابل، يجدر بالعرب قيادات فكرية أو دينية أو سياسية أن يرحّبوا بالوجود اليهوديّ، وبطبيعة الحال المسيحيّ، في المنطقة، وأن ينظروا إلى المنطقة مجالاً مشتركاً للتراث الإبراهيمي. ولكن هذا الترحيب يجب أن يتجاوز مجاملة الديانة الإبراهيمية المزعومة، التي غالباً ما تكون فوقيةً ورجعيةً وكاذبةً لأنها تتجاهل القضيةَ الفلسطينية وتتجنب مناقشةَ قضايا العدالة والتمييز في المنطقة، ويجب أن يتجاوز مجاملةَ إسرائيل الاستعماريةِ والعنصريةِ، بل يجب أن يكون ضمن إطار العمل على إنهاء مشروعها الاستعماريّ.
وليس في تصوّر المسألة الإسرائيلية ما يقتضي أن يبقى أسيرَ عالم الأفكار. فهو بالعكس يبتغي أن يكون أرضيّةً عقلانيةً لسياساتٍ عامّةٍ أصلحَ تغطّي كاملَ الحقل السياسيّ، من التحليلات والتغطيات الإعلامية والدعائية، مروراً بالتنظيم والبرامج السياسية والتحالفات، ووصولاً إلى المقاومة المسلّحة والحرب. قد يكون الاشتراطُ الوحيدُ في هذا الشأن تبعيةَ الصراع المسلح للسياسة أو أولوية السياسة، وبالتالي الاستراتيجية والرؤية، على الأفعال المقاومة، والسياسيّين على المسلّحين.
عند التفكير في الأمر ربما نتبيّن أن ما يَحول دون بناء تصوّرٍ مركّبٍ للمسألة الإسرائيلية لا يقع في الجهة الإسرائيلية بل في الجهة العربية. فما هي الذاتُ التي تطرح على نفسها وضعَ تصوّرٍ وسياسةٍ حيال إسرائيل؟ تطرح على نفسها المسائلَ وتُفكّر على مستوى التاريخ؟ ليس هناك من ذاتٍ عربيةٍ تفعل ذلك. وهو ما يحكم راهناً على تصوّر المسألة الإسرائيلية بأن يبقى فكرةً ذاتيةً دون سياسيةٍ ودون تاريخية.
وعلى هذا النحو ينفتح "السؤالُ عن المسألة الإسرائيلية" على "السؤال عن المسألة العربية" التي تأخذ من وجهة نظرٍ عربيةٍ دلالةً نظريةً وعمليةً في آنٍ: كيف أخذَت في التشكّل في التاريخ المعاصر ذاتٌ عربيةٌ، وكيف تعثّر تَشكّلُها وتبدو اليوم متلاشية؟ وكيف يمكن أن تتشكّل من جديدٍ في صورةٍ أهدى، دون أوهام عظمةٍ ودون مَنازع عدميةٍ، وباعتبارها ذاتاً معنيةً بحياةٍ طيبةٍ في العالم إلى جانب المعنيّين الآخَرين؟ قد يكون المؤشّرُ الأوّلُ على السير في هذا الاتجاه التقدّمَ في تصوّر المسألة الإسرائيلية بوصفها من أكبر ما يواجه العرب من تحدّياتٍ، خاصّةً عبر صِلتها بمسألةٍ أُخرى معقّدةٍ وكبيرةٍ: المسألة الغربية.
ومن الظاهر أن أطراف المسألة الإسرائيلية هي إسرائيل والغرب والعرب. الغربُ طرفٌ في الصراع وفي المسألة، ليس حَكَماً ولا محايداً ولا هو غير مُبال. وهو طرفٌ إلى جانب إسرائيل بقدرٍ يسوغ القول إن إسرائيل شأنٌ غربيٌّ أو مسألةٌ غربيةٌ، من وجهة نظر من لا يرون تدليل إسرائيل واحتضانها في الغرب أمراً "طبيعياً" ويبحثون له عن حلّ. وإنما لذلك نرى اليوم فلسطين تصير شأناً غربياً كذلك. فكلّ من يعترض على المؤسسات الحاكمة والتيار الرئيس في بلدان الغرب، يجد نفسه معنياً بالشأن الفلسطينيّ ومتضامناً مع الفلسطينيين. وليس الأمر كذلك بخصوص قضايا أُخرى، كالقضية السورية أو الإيرانية أو حتى الأوكرانية اليوم.
وفي القول إن المسألة الإسرائيلية مسألةٌ عربيةٌ ما يضمر أنها ليست مسألةً فلسطينيةً حصراً، وإنْ كان الفلسطينيون هم من يتحمّلون وطأتَها الأشدّ ويَدفعون من كيانهم ثقلَها المهول. هذا يسيرُ عكسَ ما سارت عليه سياساتُ القوى العربية الفعلية منذ سبعينيات القرن العشرين. وهي على أيّ حالٍ سياساتٌ لم تثمر في أيّ شأن.
لا تتصرف القوى العربية الفاعلة ولا تفكر في إسرائيل مسألةً صعبةً ومعقّدة. فرفضُها وعداؤها لا يُغْني عن التفكير المتجدّد فيها والتصرّف كأنها طرفٌ في مسألةٍ عالميةٍ وتاريخيةٍ كبرى. ولأن الرفضَ عقيمٌ ولا يقبل ترجمةً سياسيةً فاعلةً، فإنه يتواتر أن ينقلب على نفسه، يتحول إلى مصالحةٍ خانعةٍ مع الواقع الإسرائيليّ، ليست سياسيةً هي الأخرى، لا تنجح في تطبيع إسرائيل، جعلها دولة مثل غيرها من الدول.
المسألة بالتعريف وضعٌ نزاعيٌّ طويل الأمد، ليس شأن سنواتٍ، بل عقود وأجيال. كان مفهوم المسألة اليهودية في التداول وقتَ كتبَ ماركس كتاباً بهذا العنوان سنة 1843. في مئة عامٍ ونيّفٍ بين صدور الكتاب وقيام إسرائيل شهد العالمُ صعودَ معاداة السامية ذات الأسس القومية، وليس المسيحية التقليدية، وشهد كذلك ظهورَ النازية والهولوكوست الذي فكّر فيه النازيّون حلّاً نهائياً للمسألة اليهودية. إسرائيل هي الحلّ النهائيّ لهذا الحلّ النهائيّ مثلما تَقدّم القولُ، توافقَت عليه النخب الأشكنازية النافذة في الغرب و"اليشوف"، أو المهاجرين اليهود إلى فلسطين، والقوى الاستعمارية الغربية إثر الحرب العالمية الثانية التي شهدت الهولوكوست.
تقاطعت ظروفٌ متنوعةٌ لحلّ المسألة اليهودية، وهي مسألةٌ أوروبيةٌ حصراً، بهذه الصورة التي خَلقت مسألةً إسرائيليةً للفلسطينيين والعرب. أخذ الأمرُ قرناً، بل قرناً ونصف، بالنظر إلى أنّ أبكرَ النقاشات في المسألة اليهودية ظهرت بعد الثورة الفرنسية، ودارت حول ما إذا كان لليهود حقٌّ بوصفهم جماعةً أم حقوقُ المواطَنة الفردية مثل غيرهم. كانت الإبادةُ النازية، الهولوكوست، ثمّ قيامُ إسرائيل حلَّين لهذه المسألة، وقد خلقا مسألةً جديدةً متميزةً تماماً عن المسألة اليهودية الأوروبية. إنها المسألة الإسرائيلية بوصفها مسألةً عربية.
وظهرت المسألة الشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقتَ ظهر أن السلطنة العثمانية هي "رجل أوروبا المريض" بتعبير قيصر روسيا نيكولاي الأول. فالمسألة الشرقية منذ البداية مسألةٌ غربيةٌ، على ما سيقول المؤرّخ البريطانيّ أرنولد توينبي لاحقاً. وبصفتِها هذه حُلّت المسألة الشرقية في نهاية الحرب العالمية الأولى بانهيار السلطنة العثمانية وتقاسمها. لكنها من وجهة نظر المعنيين، خاصّةً العرب، تحوّلت ولم تُحلّ، فلَم يسيطِرْ عليها المعنيّون فكرياً وسياسياً. صارت المسألةُ الشرقية مسألةً عربيةً، فاقَمَتها المسألةُ الإسرائيلية. وما نراه من تحلّلٍ في الإطار العربيّ هو نتاج الفشل في معالجة أيٍّ من المسألتين، العربية والإسرائيلية. التحلّل هو انهيارٌ أو تفككٌ للذات التي تعجز عن الحلّ، وربما تعجز قبل ذلك عن تصوّر المسألة. ومحاولةُ تصوّر المسألة الإسرائيلية هنا هو، بالعكس، جهدٌ لمقاومة التحلّل.
والغرض من التذكير بالمسألتين اليهودية والشرقية إعطاء حسٍّ بأن المسائل مديدةٌ ومعقّدةٌ وأوثق صلةً ببعدٍ زمنيٍّ طويلٍ، متعالٍ على السياسة الظرفية. ويرجح أن تمتدّ عبر الأجيال الطويلة وليس السنوات والعقود القليلة. والمسألة الإسرائيلية من هذا الصنف بلا شكّ. وكي نخرج من الاكتئاب والبؤس ربما يساعد أن نفكّر فيها وفق هذا الإطار. من شأن التقدّم في تنظيم التفكير في الشؤون المعقّدة أن يساعد في الحدّ ممّا تثيره من شقاءٍ في الأنفس.
على أنّ الكلام على إطارٍ من عقودٍ طويلة وأجيالٍ لا يُرضي بعضَ بني قومنا. وقد يسارع بعضُهم إلى رمي من يقول بمثل ذلك بالاستسلام والتطبيع وما شابه. لكن الخوف من المزايدات والمزايدين أسهَم في إيصالنا إلى أحوالٍ ناقصةٍ إلى أقصى حدٍّ، وفي ظهور صنفٍ من المُناقصين في أوساطنا، يريدون الرضى بما يتركه الأقوياء من فُتاتٍ، ولا يكفّون عن لوم غيرهم على قلّة العقل والنقص في كلّ شأن. بين المناقِصين والمزايِدين، الممانِعين والممانِعين المعكوسين، ينبغي لبعضنا أن يقولوا ما يؤمنون به دون خشيةٍ ورقابةٍ ذاتية. وتَصوّرُ المسألة الإسرائيلية سؤالاً تاريخياً مديداً محاولةٌ في هذا الاتّجاه.