النزوح متلازمة الصراعات في السودان الحديث

يبدو السودان بلد هجرةٍ مستمرّةٍ بسبب الصراعات والتغيّرات المناخية التي أصابت البلد لما يقارب مئتيْ سنة.

Share
النزوح متلازمة الصراعات في السودان الحديث
تعيدُ مشاهدُ نزوحِ السودانيين وهجرتِهم اليوم تاريخاً طويلاً للبلدِ مع ظواهرِ النزوح / خدمة غيتي للصور

اندلعت الحربُ السودانية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في الخامس عشر من أبريل 2023. ضَرَبتْ حربُ أصدقاءِ الأمسِ، الذين حكموا معاً بعد إسقاطِ نظامِ عمر البشير سنة 2019، طموحاتِ الشبابِ السودانيِ الذين خرجوا متظاهرين في ديسمبر من العام نفسه حلماً بسودانٍ أفضل. تجمّد ذلك الحلم بعد أن دخل البلدُ منذ نهاية رمضان 2023 واحدةً من أسوأِ أزماتِه الإنسانية في التاريخ المعاصر بين قتلٍ وتشريدٍ جعلت ما يقارب أحد عشر مليون سودانيٍّ بين نازحٍ أو لاجئٍ، أي ما يقارب خُمس سكّان السودان. أثّرت الحربُ الحاليّة في تسعِ ولاياتٍ من أصل ثمان عشرة ولايةً، وهي ولاياتٌ كثيفة السكان وإنتاجُها الزراعيّ مرتفعٌ وتتركّز فيها الخدمات الأساسية، ممّا يعني أنّ توقف الحرب بعد أن استُنزفت قدرات هذه المناطق ومواردها لن يضمنَ للنازحين فرصةَ العودة إلى مناطق سكنهم أو نشاطهم مرّةً أخرى. تعدّدتْ أسباب النزوحِ في السودان بين وقوعِ السكّانِ في مناطق القصفِ والصراعِ، وبين شنّ قوات الدعم السريع حملاتٍ انتقاميةً على بعضِ المجموعاتِ العرقيّة في البلد كما حدثَ مع المساليت، وهي جماعةٌ عرقيةٌ تقطنُ إقليم دارفور سَبَقَ أنْ واجَهَت حملاتِ تطهيرٍ عرقيٍ في حرب دارفور سنة 2003. وتهدّد المجاعة حوالي خمسةٍ وعشرين مليون مواطنٍ سودانيٍ نتيجةً لتأثير العمليات العسكرية في الأنشطة الزراعية.

مع استمرار الحرب تُطرح أسئلةٌ عن كون السودان بلدَ نزوحٍ وهجرةٍ مستمرَّيْن، فهي ظاهرةٌ لازَمَتْه في كلّ الحروب والصراعات التي شَهِدَها. وربما كان السببُ التغيّراتِ المناخيةَ أو سياساتِ الدولة في ملكية الأرض منذ دخولِ محمّد علي باشا سنة 1821 إلى السودان ليضمّه إلى حكمه، وصولاً إلى العهد الاستعماري البريطاني ونشوءِ الدولة السودانية الحديثة وسياسات تملّك الأراضي التي اتّبعتها، ثم حرب انفصال جنوبِ السودان وحرب دارفور. ومع فهم حركة النزوح وأسبابها تاريخياً، يمكننا فهم النزوح الذي جاءَ بعد حربِ الخامس عشر من إبريل 2023، وآثاره الاجتماعية في السودان ودولِ الجوار كمصر وتشاد وليبيا التي باتت وجهة لجوءٍ بعد انتشارِ رقعة العمليات العسكرية في ولاياتٍ سودانيةٍ مختلفة. وبين الأمس واليوم، تبدو ظاهرةُ النزوح نتاجاً للحروبِ والنزاعاتِ بين الجماعات المختلفة في البلد، وتبدو في أحيانٍ أخرى مسبّبةً لها.


دخلت حملةُ محمد علي باشا المناطقَ الجنوبية في مصر قادمةً من القاهرةِ سنة 1821، وأسقطت سلطنة سنّار الإسلامية التي امتدتْ خمسَة قرونٍ ونشأتْ وسط سهول السافانا الغنيّة. كانت السلطنة مركزاً اقتصادياً مهماً يربطُ شرقَ إفريقيا بغربها وتقع في طريقِ الحجِّ من غربِ القارّةِ عبر ساحل البحرِ الأحمر. وبسقوطِ سنّار في يدِ محمد علي باشا دخلَ السودانُ حقبةً جديدةً صار فيها جزءاً من الخديوية المصرية. قامتْ تلك الحقبةُ على التحديثِ، كما فعلَ الباشا في مصر. فبَنَى نظامَ حُكمٍ مركزيٍّ جعل من الخرطومِ عاصمته، ونَظّمَ التجارة بالأسواقِ، وكوّن جيشاً نظامياً، وفرضَ الضرائبَ، وأدخل نظماً زراعيةً حديثةً ثم أنشأ المدارس.

تشكّلت المدينة السودانية كما نعرفها اليوم من الفئات الاجتماعية التي جاءت مع دخول محمد علي وحملة الغزو، ومن ثمّ تكوّنت طبقات التجّار والجنود. حَوّلت الخديويةُ القرى إلى أسواقٍ تُجْمعُ فيها الثروات لنقلها إلى القاهرة حتى تدخل في الدورة الاقتصادية والسوق العالمي حينها. تطلّب الأمرُ وجودَ حامياتٍ عسكريةً تحمي هذه المصالح التي شكّلت مع استمرارها طبقةً تجاريةً مرتبطةً مع الحكم الخديوي. كان جلُّ الأهالي في هذه المدن من العمّال من حمّالين وأُجراء مع فئاتِ المستعبدين الذين كانوا يعملون في خدمة منازل التجار ودواوين الدولة.

كان نظام الضرائب في الحكم الخديوي قاسياً، وزادت المحسوبيةُ والأزماتُ الماليةُ التي ضَرَبَت الخديويةَ في السودان، فسخطَ النّاس عليها. ظهرت دعوة الإمام محمد أحمد المهدي للثورة الاجتماعية لإنهاء الظلم وإقامة العدل وتوحيد القبائل تحت حكمٍ رشيدٍ، واستخدم محمد أحمد المهدي لصالح دعوته مشاهدَ ظلمِ الإدارةِ الخديويةِ وقهرِها الناسَ.

ثار محمد أحمد المهدي سنة 1881 على الحكم الخديوي وأسقطه، وظهر أوّل نظامٍ سياسيٍّ سودانيٍّ له هيكله وجيشه ونظامه الاقتصادي. اعترفت القبائلُ والتجار والأهالي بحكم المهدي ودانوا له بالولاء، لكن سرعان ما تغيّرت الدولةُ إثر وفاته بعد أربع سنواتٍ من نجاحِ الثورة المهدية، وفرضَ خَلَفُه عبدالله التعايشي حكماً قسرياً على السودانيين. هجّر التعايشي مجموعاتٍ اجتماعيةً وعرقيةً من مناطق الإنتاج إلى عاصمة حكمِه، مدينة أم درمان، فأحدث خللاً في الإنتاج بعد أن هجّر قبائل الرعاة إلى المناطق الحضرية وأشهرها التعايشة، من مناطق جنوب دارفور وغربها بين عاميْ 1885 و1898.

زادت موجاتُ الجفاف وقتذاك في مناطق الزراعة المطرية أعدادَ المهاجرين. تضاعف عددهم بعد أن بدأ عبدالله التعايشي حملات تجنيدٍ واسعةً ليؤمّن حكمه. غيّرت هذه الهجراتُ تركيبةَ المدينة، وتبدّل معها الملمح الخديوي، أو ما بقي منه. بدأت الأحياءُ تتشكّل حسب المجموعات العرقية التي تقطنها. هاجر النّاس من الريف في موجاتِ نزوحٍ نتيجةَ الجفاف أو الصراعات وسكنوا في المناطق التي يعيشُ فيها أبناء قبائلهم أو من ينتمون إلى عرقهم في المدينة، لِما وفّرته لهم هذه الأحياء من غطاءٍ اجتماعي. تشكّلت على إثر ذلك أحياءٌ مثل التعايشة والدناقلة والتي سُمّيت على اسمِ القبائل التي تقطنها. ظلّت علاقات الدم والقرابة تتحكمُ في فضاءِ المدينة مع بقاءِ سلطةِ السوقِ، إذ وُجد تمازجٌ بين القبيلة والمهن ومجال العمل. فمثلاً امتازت قبيلة "الدناقلة"، وأصلُهم من النوبة، بصناعةِ المراكب والسفنِ النِيليّة. ونجدُ أنّ بعضَ العائلات سيطرت على حركةِ بعضِ السِلَع مثل المحاصيل الغذائية والذهب، ومنهم "أولادِ الخندقاوي" أو "أولاد تبيدي"، وتنحدر هذه الأُسَر من وسط السودان وشماله. كذلك سيطرت أسرٌ تنحدرُ من مناطق بعينها على زعامة بعض الطرق الدينية الصوفية.


احتلّت بريطانيا السودانَ سنة 1899 ودخلَ بعدها التخطيطُ الحضريّ في مراكز المدن مرحلةً جديدة. تذكرُ الكاتبة الإيطالية مارينا إيريكو في كُتيّبِها "اليوتوبيا الاستوائية: الخرطوم مستعمرة بريطانية" الذي صدرت طبعته العربية سنة 2016 أنّ البريطانيين اعتمدوا على تقسيم الفضاء الاجتماعي للمدينة، فأصبح العنف واضحاً داخل المدينة من سياساتِ التخطيط. استبعدَ البريطانيون الأهاليَ من التخطيط وأهملوا الهوامش. فسكنَ الأهالي بعيداً عن حدودِ المدينة بلا خدماتٍ وبالقربِ من الصحراء بعيداً عن مصادر المياه، وأصبحت أحزمةُ المدن تتسعُ مع توسّع السوق وتوفّر قدراً من المهنِ الهامشيّة والأعمال اليومية. ومع ضعفِ الإنتاجِ الزراعي في الريف وتركيزِ سياسات الاستعمارِ على المحاصيل التي تدرّ ربحاً كبيراً والمشاريع الحديثةِ، اتّجهَت أنظار الأهالي نحو المدن لا سيّما مع بداية التعليم النظاميّ الذي أصبحَ فرصةً من أجلِ الصعودِ الاجتماعي والحصولِ على الامتيازات.

أُدخِلَ نظام الإدارة الأهلية سنة 1923 بالإضافة إلى نظام "الحواكير". والحاكورة في السياق السوداني تعني قطعة الأرض التي تتبع قبيلةً أو مجموعةً عرقيةً معيّنة. ثمّ وُضِعَ قانون تسوية الأراضي وتسجيلها سنة 1925. فسُجّلَت الأراضي المملوكة بالمستندات لأصحابها، بينما سيطرت الدولة على الأراضي غير المسجّلة وتملّكتها. في 1930 سُنّ قانون ملكية الأراضي الذي منحَ الحاكمَ العامّ البريطانيّ الحقَ في نزع الأراضي وتوظيفها للمصلحة العليا، ممّا عنى فعلياً أن الأرض ما كانت لتستغَلّ إلا بتدخّل الدولة أو زعيم القبيلة ضمن نطاق حاكورته. ومن هنا، يعمل جزءٌ كبيرٌ من القبائل المستقرّة التي تمتلك حواكيرَ في الزراعة، أما القبائل التي لا تمتلك أراضيَ فتعيش على الرعي.


ما أن استقلّتْ السودان عن بريطانيا سنة 1956 حتى اشتعلَ الصراع في جنوب البلاد وبدأت التوتّرات تظهر في إقليم دارفور، وهو ما سُمّي بالحرب السودانية الأهلية الأولى. مع هذا الصراع الجديد بدأَت حركةُ هجرةٍ جديدة تركّزتْ في مجملِها إلى المراكز الحضرية خصوصاً العاصمة الخرطوم. نشأت هناك أحياءٌ سكنيةٌ تقطنها مجموعاتٌ من جنوب السودان. ومع تتابع موجات النزوح، بدأ النازحون يقطنون الأطرافَ، ومن ثمّ الانخراط داخل مجتمع المدينة بالعملِ في مهنٍ كالبِناء. وامتلكَ الجنوبيون أنماطهم الاقتصادية وأسواقهم التي نشأت في محيطِ مناطقهم. في مارس 1972 وقّعت اتفاقية أديس أبابا لتنهي هذا الصراع الذي استمرّ سبعة عشر عاماً، لكن التوتر لم ينتهِ.

يتطرّق محمد سليمان محمد في كتابِه "السودان: صراع الموارد والهوّية" الصادر سنة 2000 إلى مسألة الصراع على الأرض، فيشير إلى نهب الأراضي والحروب الأهلية أثناء هجمة "الزراعة الآلية" بعد سنة 1968. على إثرها ظهرت مؤسسة جبال النوبة سنة 1970 لتنظيم الزراعة ومنح الأراضي الزراعيةِ الخصبةِ لكبار الموظفين وضباط الجيش المتقاعدين. ربط سليمان هذه الصراعات مع الصراع على الهوّية، إذ فحص علاقة المجموعاتِ العرقية والقبائل بالصراع على الأرض، وكيف يؤدّي تعريف الملكية للأرض إلى استحقاق البقاء الاجتماعي فيها. وبذلك تُبنى هويةٌ جامعةٌ لسكّانِ الأراضي الزراعية فيقفُ من ينحدرون من العرقِ نفسِه للدفاع عن وجودهم وملكيّتهم الأرضَ. ومثالُ ذلكَ صراع الموارد والهوّية في الجنوب، إذ أدّت سياسات الحكومات المتعاقبة المتعلّقة بالأرض إلى تهجير عددٍ من صغار المزارعين إلى المدن والعمل في المهن الهامشية.

تَطوَّر الصراع في جنوب السودان واشتعل مجدّداً حاصداً حياة ما يقارب مليونَيْ إنسان. بحلول سنة 2005، وقّع النظام السوداني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل. وبعد الحرب التي استمرّت أكثرَ من عشرين عاماً، وصل الجميع إلى اتفاقِ سلامٍ يعطي الجنوبَ حقّ تقرير المصير. فانفصلَ جنوب السودان سنة 2011 وبدأت الشرطة والسلطات المحلّية تلاحقُ هؤلاء لإخلاءِ مناطق سكناهم، وترحيلهم إلى معسكراتٍ مؤقتةٍ على حدودِ مدينة الخرطوم قبل الترحيل الذي أشرفت عليه مؤسساتٌ دوليةٌ إنسانية.


كانت علاقة الدولة ومؤسساتها الحديثة بالمجموعاتِ القَبَلية أساسَ بعضِ أزماتِ النزوح في البلد. فقد انتهجت تلك المجموعات القَبَلية نهجَ الملكية الجماعية للأرض، وهو تقليدٌ متعارفٌ عليه عند القبائل البدوية التي لا تعترف بالملكية الفردية للأرضِ أو الثروة، وتدّعي أنّ منطقةً واسعةً من الأرضِ هي ملْك القبيلة. تستحوذُ القبيلة على مساحاتٍ واسعة تتبع سلطَتها العشائرية ولا يمكن لأيّ شخص ٍخارج رابط الدم أن يتملّك فيها.

أصبحت الأرض جزءاً من الصراع الاجتماعي الذي سبّب النزوح والتهجير المستمرّ في العقود الأخيرة في دارفور بين عاميْ 2003 و2023. ويظهر النزوح في شكل تركيبة المدن، فتنشأ أحزمة الفقر والمنازل العشوائية التي تعطي ملمحاً تتميّزُ به المدن السودانية، وتنشأ شبكاتٌ اقتصاديةٌ غير رسميةٍ تؤثّر على الاستقرار الاجتماعي لهذه المجموعات. ففي جنوب الخرطوم، فيما يعرف بمنطقة جنوب الحزام، استوطنتْ مجموعاتٌ قادمةٌ من جبال النوبة بعد أن تأثّرَت بالحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني والجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية المسيطِرة على إقليم جنوب كردفان سنة 2011. وظهرت أحزمة النزوح في مدينة أمّ درمان حيث استقرّت مجموعات الفور والزغاوة غرب المدينة.

الهجرات التي تبعت الصراعَ في جنوب السودان جاءت عكسَ تلك التي تبعت الصراع في إقليم دارفور. فقد كانت حركة الهجرة من دارفور أولاً إلى المناطق الزراعية غربَ البلاد في محاولةٍ للبحثِ عن مصادر للاستقرارِ والحصولِ على الغذاء بعد موجاتِ الجفاف التي حدثت. ومع ذلك لم تهتم الحكومة بالتنمية ولا درء الآثار التي خلّفها التصحر فتَصادَم الرعاة والمزارعون. ومع اشتعالِ الصراعات الاجتماعية هذه والضغطِ على المواردِ والمراعي، انتقل الناس إلى المدن لضمانِ الخدماتِ والعمل. وهذا يقود إلى اختلافٍ ثانٍ بينَ النزوحِ من دارفور وجنوبِ السودان، إذ أمكنَ للمواطنِ القادم من دارفور التملّك والسكن، على عكسِ النازح من جنوب السودان الذي عامَلَتْه السلطات على أنّه لاجئ.

يؤثّر الصراعُ وموجاتُ الجفاف على استقرارِ المزارعين وحركة الرعي. فمنذ اندلاع الصراع العسكري بين الحكومة المركزية والحركاتِ المسلّحة، نزح في دارفور حوالي أربعة ملايين مزارعٍ وراعٍ. ومع توقّعات زيادة معدّل التصحّر في المناطق الصالحة للزراعة في السودان، فإنّ حركة النزوحِ داخل البلد قد لا تتوقف. ووفقاً للبرنامج الوطني السوداني للتكيّف، سيزيد التصحّر حتى يصل المناطق الصالحة للزراعة. فالصحراء والمناطق شبه الصحراوية تغطي حوالي 70 بالمئة من مساحة البلد، ما يعني أن 80 بالمئة من السكّان سيتأثرون بالتحولات المناخية وستصبحُ المناطق في شمال السودان غير صالحة للزراعة أو السكن، وستنحسر بعض المناطق الصالحة للزراعة لبعض المحاصيل مثل محصول الصمغ العربي، وهو موردٌ مهمّ لعددٍ من المجتمعات السودانية وتعدّهُ الحكومة سلعةً مهمّةً لاقتصاد البلد.

أشار الكاتب السوداني عبد الباقي الناجي في مقالٍ له في منصّة "حوارات جيل الثورة"، بعنوان "مستوى النزاع بين المركز وإقليم دارفور: أسباب نشوء الصراع واستمراره"، أنّه بسبب الجفاف الذي ضربَ إقليم دارفور في السبعينيات والثمانينيات ومن ثمّ بعد 2003، نزحت القبائل العربية الرعوية من شمالِ دارفور إلى جنوب الإقليم وغربه ثم توغّلت داخل أراضي القبائل الإفريقية الزراعية. ويضيف الباحث والكاتب محمد الكامل في مقالٍ بعنوان "الحرب والسلام في دارفور: نحو نظرة منطلقة من الجذور الاجتماعية للحرب"، أنّ أسباب الصراع التي أدّت إلى هذه الهجرة ترتبطُ بسُبُل كسبِ العيش. فهناك ثلاثة أنماطٍ تقليديةٍ عامّةٍ لكسب العيش في دارفور تتوزّع جغرافياً من شمال الإقليم إلى جنوبه. وفي العادة تمارس كلّ مجموعةٍ قَبَليةٍ أو عرقيةٍ نشاطاً محدّداً من هذه الأنشطة المعيشية.

تَكثُر في شمال دارفور مجموعات العرب الرحّل الذين يعيشون على رعاية الإبل ويسمّون "الأَبَّالة"، كالرزيقات والمهيريا والعريقات، إضافةً إلى القبائل الرعوية غير العربية كالزغاوة. أمّا أغلب المجموعات الموجودة في المنطقة فهي قبائل مستقرّةٌ غير عربيةٍ تعيش على الزراعة، ومنها الفور والمساليت والبرتي والبرقو. وتعيش مجموعاتٌ من العرب في جنوب دارفور على رعاية البقر ويسمّون "البقّارة"، كالرزيقات والهبانية وبني هلبة والتعايشة والمسيرية.

وإضافةً إلى التباين في أنماط المعيشة بين هذه المجموعات فإنها تتباين كذلك في امتلاكها الأراضي أو "الديار". فالعرب الأبّالة في الشمال لا يملكون حواكيرَ، على عكس القبائل الكبيرة من العرب البقّارة في الجنوب والقبائل المستقرّة في وسط دارفور. والسبب في ذلك أن القبائل الأبّالة انتقلت نتيجةً لموجاتِ الجفاف وحملات التهجير القسريّ إبّان حكم الرئيس التشادي حسين حبري بين عاميْ 1982 و1990 الذي أبعدَ العربَ إلى مناطق بعيدةٍ عن الحدود التشادية. وبهذا تقع الأرض في مركز العوامل التي تؤدّي إلى تصادماتٍ قَبَليةٍ، ليأتي معها الطلب على العشب والماء. فقد شهدت فترة الثمانينيات أكبرَ عددٍ من الصراعات الأهلية، لا سيّما خلال الحرب التشادية الليبية.

يذكر محمد سليمان في كتابه "السودان: صراع الموارد والهوية" أنّ تأثير الحرب التشادية الليبية أدّى إلى توغّل عربِ دارفور في المناطق الزراعية لقبائل الفور، وانعكس ذلك على النزاعات الأهلية بين العرب والفور، ما أدّى إلى مقاطعة الفورِ العربَ. واندلعت في دارفور حربان مركزيّتان أُولاهما كانت بين العرب والفور بين 1987 و1989، وسببُها حركة الرعاة العرب والزغاوة إلى مناطقِ وسطِ الإقليم بعد موجاتِ الجفافِ والحرب الليبية التشادية. وقد هاجَرَ بسبب تلك الحرب حوالي ثلاثين ألفاً إلى مناطق وسطِ دارفور وجنوبه.

يمكن اختصار مسار الحرب في مرحلتيْن؛ التحالف بين العرب الأبّالة ضدّ الفور حول مناطق جبل مرّة، وتحالف سبعٍ وعشرين قبيلةً عربيةً استُخدِم فيه خطابٌ سياسيٌ عرقيٌ وظهر إثره ما يُعرف بالتحالفِ العربيّ الذي أرسلَ وثيقةَ تأسيسِه إلى رئيس الوزراءِ حينها الصادق المهدي. أمّا الحرب الثانية فكانت بين العربِ والمساليت من منتصفِ التسعينيات حتى نهايتها. نشأت عن هاتين الحربين الحركات المسلحة الحاليّة وصراعات الأرض ومسارات الرعي. ويشير محمود ممداني، مدير معهد كولومبيا للدراسات الإفريقية في كتابِه "دارفور: منقذون وناجون" الصادر سنة 2010، إلى أنّ المؤتمر الوطني، وهو الحزب الذي حكم السودان ما يقارب ثلاثين عاماً، ونظام الإنقاذ الذي جاء بانقلابٍ عسكريٍّ سنة 1989، لم يعالجا الصراع حول الأرض وملكيتها وحيازتها بسبب انحياز الحكومة للعرب.


يمكن تقسيمُ النزوحِ في حربِ 15 أبريل 2023 –التي شهدت أكبر عملية تهجيرٍ وإجبارٍ على النزوح في تاريخ السودان الحديث– إلى ثلاث موجاتٍ مختلفة. تضمّنت الفترةُ من أبريل إلى أغسطس 2023 موجةَ نزوحٍ مرتفعةً من الخرطوم وغرب دارفور رافقَتْها موجةٌ منخفضةٌ في بقيّة ولايات السودان. ومن أكتوبر وحتى ديسمبر من العام نفسه زادت موجات النزوح واللجوء في غرب البلاد. والموجة الثالثة مع بداية سنة 2024 حيث نزح الآلاف من ولايتَي الجزيرة وجنوب كردفان.

تضرّرت العاصمة السودانية بعد أن عطّلت العمليات العسكرية حركةَ السكان فيها. ونتيجةً لوجود المناطق العسكرية في وسط العاصمة وقرب المناطق السكنية، توقّفَت أهمّ المستشفيات الطبّية الرئيسة ومحطات توليد الكهرباء الرئيسية التي تغذّي العاصمة، وتضرّرت أسواقها المركزية فتعطّل الإمداد الغذائيّ لأحياء المدينة. وعليه حدثت موجة نزوحٍ بانتقال سكان الأحياء القريبة من وسط العاصمة إلى أطرافها على مدار أسبوعين.

كانت حركة السكان إمّا الى أحياء الأطراف، وهذه ليست كبيرةً، أو إلى ولاياتٍ قريبةٍ من الخرطوم. وتوجّه القادرون من سكّان الخرطوم إلى معبر "أرقين" البرّي مع مصر. استقبل المعبر في المدّة من أبريل وحتى يونيو 2023 حوالي مئة وعشرين ألف شخص. وواجه النازحون إلى معبر أرقين صعوباتِ ارتفاع أسعار تذاكر النقل البرّي التي تضاعفت خمس مرّاتٍ مقارنةً بسعرها قبل الحرب، وبات سعر الوقود للسيارات الخاصّة ثلاثين ألف جنيهٍ سودانيٍّ للتر الواحد، أي ما يعادل خمسين دولاراً حينها. ما زادَ الطينَ بلّةً تَكدُّسُ السودانيين وازدحامهم على المعبر مع غياب بنيةٍ تحتيةٍ تستوعب هذا العدد الكبير، ناهيك عن التباطؤ الإداري في استخراج التأشيرات المصرية خصوصاً لأصحاب الأمراض الذين يحتاجون إلى رعايةٍ صحّية.

سبق للسودان ومصر أن وقّعتا اتفاقية "الحريات الأربع" سنة 2004، ودخلت الاتفاقيةُ حيّزَ التنفيذ في 4 أبريل 2013، وكفلت حقّ التنقّل والتملّك والإقامة والعمل لمواطني البلدين. ولكنّ الجانب المصري علّق العمل بالاتفاقية، فبات على المواطنين السودانيين كافّةً الحصول على تأشيرةٍ للدخول إلى مصر. ومع زيادة الطلب على التأشيرة المصرية في الأشهر الأربعة الأولى من الحرب، ظهرت سوقٌ سوداء للتأشيرات تمثّلت بوكلاء يُدفع لهم لمتابعة الحصول على التأشيرة عبر علاقاتهم الشخصية. ومع تكدّس الطلبات زادت تكلفة التأشيرة لتصل إلى ستمئة دولارٍ في معبر أرقين، وحوالي ثمانمئة دولارٍ في مدينة بورتسودان حيث القنصلية المصرية.

بدأت العمليات العسكرية في ولاية غرب دارفور بعد أن هاجمت قوات الدعم السريع مدينةَ الجنينة، وهي واحدةٌ من أهمّ مدن الإقليم. أُحْرِقَ حوالي أحدَ عشرَ حيّاً من أصل اثنين وعشرين بالمدينة، وأُحرقت المؤسسات الحكومية والمصرفية كافّة. فُرِض الحصار على المدينة ولم تدخلها الإغاثات الغذائية أو الطواقم الطبية، فنزح المواطنون الذين بقوا في المدينة إلى مدينة نيالا والفاشر، وهو ما عُدَّ موجةَ النزوح الأولى. بلغ ضحايا هذه العمليات العسكرية حوالي خمسة عشر ألف شخصٍ، وهُجّر مئةٌ وخمسون ألفاً آخَرون إلى خارج المدينة، فاتّجَهوا إلى مدينة أدري الحدودية. وقد سمحت القوات التشادية للاجئين السودانيين بالدخول إلى الأراضي التشادية.

أمّا موجة النزوح الثانية فحدثت في الفترة من سبتمبر إلى ديسمبر 2023. زادت العملياتُ العسكرية على ولايات جنوب دارفور وشرقه ووسطه، فسقطت جميع هذه الولايات في يد قوات الدعم السريع. ارتفع عدد النازحين واللاجئين ليصل إلى ثلاثة ملايين نازحٍ من ولايات دارفور. ومثّلت الفاشرُ الوجهةَ الأولى للنازحين ومن ثمّ دول جوار السودان غرباً، تشاد وإفريقيا الوسطى.

استَهدَفَتْ قوات الدعم السريع السوقَ المركزي بمدينة الفاشر، مما قلّص تدفّق الموادّ الغذائية. واستُهدِفَت كذلك القرى والبلدات الكبيرة. وتزامنت هجماتهم مع جَنْي المحاصيل الزراعية وتوزيعها، فأَجهَضَت موسمَ الحصاد بنسبةٍ كبيرة. ناهيك عن نهب المحاصيل في مناطق شمال كردفان لدعم الجهد العسكري للدعم السريع.

أمّا ولاية جنوب كردفان فقد شَهِدَت نزوحَ مئات الآلاف من سكّانها نتيجةً للعمليات العسكرية، لا سيّما من مناطق هبيلا في الجزء الشرقي من الولاية، إلى مدن الدلنج وكادوقلي. زاد هذا النزوحُ الضغطَ على الخدمات المقدَّمة في هذه المدن وتعمّقت الأزمة الغذائية، خصوصاً مع ترك المزارعين محاصيلَهم هرباً بأرواحهم. وقد سَبّبَ انقطاعُ التيار الكهربائي عجزَ الحكومات المحلية عن تشغيل محطات تحلية المياه ومعالجتها. ففي مدينة الدلنج تَوَقّفَ عملُ حوالي خمسٍ وعشرين بئراً، وزادت أسعار براميل المياه لتصل إلى ما يعادل خمسين دولاراً للبرميل.

بدأت موجة النزوح الثالثة في يناير 2024 بعد أن انتقلت المواجهات العسكرية إلى ولاية الجزيرة، التي تبعد مئةً وستةً وثمانين كيلومتراً عن الخرطوم. وتقدّر الإحصائياتُ الرسمية عددَ الذين دخلوا الولاية منذ الخامس عشر من أبريل وحتى العشرين من ديسمبر 2023 بحوالي سبعة ملايين. تعطلت المرافقُ الصحية والبنية التحتية في الولاية مع تدفق اللاجئين الهائل، بالذات في مدني، المدينة الأكثر استقبالاً للمرضى وتردّداً على المراكز الصحّية في جميع أنحاء الولاية.

شكّل الضغط أقصى طاقته على الأمن الغذائي في الولاية، والتي يغطي مشروعُها الزراعي في الوضع الطبيعي احتياجاتِ مليونَيْ إنسان. أصبحت الولاية حاضنةً لمعظم الأعمال التجارية التي جاءت بعد الحرب من الخرطوم، مضيفةً للبنية الصناعية والإنتاجية في الولاية والتي فقدت كثيراً من أصولها بعد اجتياح قوات الدعم السريع ونهبهم مصانعَها وأصولَها الانتاجية، مثل مصنع "سكر الجنيد" الذي وفّر فرص عملٍ لآلاف المزارعين والعمال.

تبع دخولَ قوات الدعم السريع مدينةَ مدني عددٌ من الكوارث الاجتماعية والاقتصادية. فقد نزح حوالي سبعمئةٍ وخمسين ألف شخص، وانتشرت ظاهرة تهريب البشر إلى دول الجوار، وقد ساعد تكدّس الناس في المعابر على تناميها. وإثرَ حركة النزوح غَلَت المعيشة في المدن الكبيرة الآمنة في الولايات الأخرى، لا سيّما أن معظم النازحين يحتاجون الرعاية الطبية. زادت احتمالية المجاعة في ولايات غرب السودان نتيجة قطع طرق الإمدادات الغذائية وفقدان مراكز التخزين الغذائية في ولاية الخرطوم، وهو ما هدّد السكّانَ المتبقّين في الخرطوم بالجوع بعد أن كانت مدينة ود مدني هي السوق التجارية التي تمدّ الخرطوم بالموادّ الغذائية.


خضع السودانيون لموجاتِ نزوحٍ وهجرةٍ عبر تاريخهم كانت جُلّها نحو المدن والحواضر التي تشكّلت بعد إفقارِ الأرياف. نزحَ كثيرون إلى هوامش المدن وواجهوا عنف الحداثةِ الذي تمثّل في تهميش الدولة إياهم. وظلّت معضلة العنف، الناتج عن تركيبة الدولة الوطنية في السودان، مأزقاً بُنِيَ على عقودٍ ممتدّةٍ من الإفقارِ والتبعية الاقتصادية التي تتحكّم في سياسات الحكومات وترهنها لتحالفاتٍ خارجية. كانت حرب الخامس عشر من أبريل كاشفةً سياساتِ التهجير القسريّ من مناطقِ الإنتاج وإحلالِ مجتمعاتٍ محلَّ أخرى وتجريد بعض القبائل من حقّها في البقاء بأرضِها.

لا تتوقّف أسباب النزوح في النزاعات الأهلية، فهي سببٌ ونتيجةٌ في آنٍ واحد. وقد لا تتوقف عجلة النزوح في السودان. يمكنها أن تستمرّ وتزيد عنفاً هذه المرّة بعد انهيارِ الدولة المركزية وانتشارِ السلاحِ. وهو واقعٌ ينذِر بتغييراتٍ اجتماعيةٍ في ظلّ كوارث طبيعيةٍ وتغيّراتٍ مناخيةٍ عالميةٍ، ما قد يجعل المستقبلَ أقسى من الماضي في السودان.

اشترك في نشرتنا البريدية