عنف في قيصري ضد السوريين: 150 عاماً من النسيج المُعقَّد للقومية التركية

الفكر القومي التركي نبع من حوادث تاريخية متعاقبة صاحبت سقوط الدولة العثمانية، لا من تجانسٍ عرقيّ تركيّ.

Share
عنف في قيصري ضد السوريين: 150 عاماً من النسيج المُعقَّد للقومية التركية
تصميم خاص للفراتس

بعد الأحداث المأساوية التي لحقت بالسوريين في مدينة قيصري التركيّة في شهر يوليو 2024، زار وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا المدينة ونشر صوراً وهو يأكل طعامهُ مع الباعة الجائلين ويزور أصحاب المتاجر والمحال. في أثناء زيارته صرّح الوزير "نحن هُنا مع إخوتنا المواطنين في قيصري تحت ظلال علمنا العظيم . . . قيصري بلد مضياف ومُخلص لوطنه وعَلَمِه ودولته وقيمه الروحية والوطنية . . . كل شيء هُنا مُكرَّس من أجل أبنائنا ومستقبلهم ورسم الابتسامة على وجوههم". 

قد تبدو هذه الزيارة عادية على غرار سابقاتها من زيارات المسؤولين إلى الولايات التركية، وربما لم تلفت الأنظار كثيراً لو لم تسبقها بأيامٍ قليلة الأحداث الأعنف في المدينة ضد اللاجئين السوريين. فبعد تناقل خبر تحرُّش شاب سوري بفتاة صغيرة من عائلته سرعان ما اشتعل غضب الأتراك في حي دانشمند غازي جنوب مدينة قيصري، فاحتشد العشرات وهاجموا بيوت السوريين ومتاجرهم وأحرقوا سياراتهم في تسعة أحياء بالمدينة.

فقد بدا غريباً أن يزور وزيرُ الداخلية الأتراكَ وهُم في بلدهم، وألا يزور أياً من المصابين السوريين أو يتفقد مواقع الهجمات على منازلهم، وهم الضحية الأبرز للأحداث والطرف الأحوج لطمأنة السلطات في تلك اللحظة. وقد تنبهت لذلك صحيفة قرار، المحسوبة على المعارضة من داخل الدوائر السابقة لحزب العدالة والتنمية عندما اختارت هذا العنوان لزيارة علي يرلي كايا مدينةَ قيصري: "وزير الداخلية يذهب إلى قيصري، ويتبادل الحديث مع المواطنين، ويلتقط صورة سيلفي، ويعود دون أن يلتقي ضحية سورية واحدة".

ومع تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المشدِّدة على أن تركيا لن تتهاون مع من يستهدف اللاجئين وأن خطاب المعارضة المُحرِّض على السوريين هو المسؤول عن اشتعال أحداث قيصري، لم يتجاوز التضامن الفعلي مع السوريين التصريحات الرسمية، بل إن بعض المتضررين من الهجمات في قيصري نُقلوا إلى مراكز ترحيل بعد أن قدَّموا الشكاوى للشرطة على مَن هجاموا منازلهَم رُغم سلامة أوراق إقامتهم. يحدث كل ذلك في ولاية معدودةٍ "قلعة" لحزب العدالة والتنمية لم يخسر فيها أي انتخاباتٍ منذ صعوده إلى السلطة سنةَ 2002.

منذ توافد السوريين على تركيا هرباً من الحرب السورية تكرَّرت أحداثُ العنف ضدهم في تركيا لا سيَّما في السنوات الأخيرة، وتكرَّر مشهد الاعتداء على ممتلكاتهم في أكثر من ولاية. و مشهد النوافذ السوريّة المنكسرة والمحال ذات الواجهات المُهشَّمة والسيارات المشتعلة ليس بجديد، ويُعيد إلى الأذهان ذكرياتٍ بالأبيض والأسود لأحداثٍ سابقة شهدتها تركيا على مدار تاريخها الحديث بسبب المشاعر القومية المتعصبة. فالسوريون ليسوا سوى أحدث المتضررين من هذا النوع من الهجمات في تركيا والتي تتزامن عادةً مع فوراتٍ قومية متعصبة تندلع ضد أهداف يعدّها بعض القوميين تهديداً للأتراك ووطنهم، وطالما عجزت الدولة عن كبحِ هذه الهجمات أو تواطأت بعضُ الأجهزة فيها. وهذا الالتباس في علاقة السلطات الرسمية بالعُنف القومي يكمُن في الطبيعة المُعقَّدة للهوية التركية الحديثة وتاريخ تشكُّلها إبَّان نشأة الجمهورية.

إذا زرتَ تركيا فستلاحظ مباشرةً الحمَّيةَ التي يتعامل بها الأتراك مع هويتهم وإرثهم القومي، فالأعلامُ الحمراء المنتشرةُ في الشوارع والدكاكين والشركات بكثافةٍ توحي بأنَّ البلادَ استقلّت أوَّل أمس، علاوة على صور مؤسس الجمهورية وتماثيله التي تقابلك أينما ذهبت. هذا الحسُّ القومي سرعان ما ينتفض عند أيّ شعور بالتهديد أو الانتقاص، سواءً كان هذا الشعور حقيقياً أو مُتوهّماً كما في حالة أحداث قيصري.

ثمَّة أوجه مُتعدِّدة لتشكّل الهوية التركية الحديثة بهذا التعصبِ وهذه الأفكارِ القومية التي صاحبت تلك العملية وتلتها بعد تأسيس الجمهورية، وتسليط الضوء على هذه المراحل يُسهم في فهم القومية التركية ودورها في المجتمع والسياسة بتركيا. فطبيعة الفكر القومي التركي تنبع من حوادث تاريخية متعاقبة صاحبت سقوط الدولة العثمانية لا من تجانسٍ عرقيّ بأي حال، لأن التجانس العرقي غير موجود.


تقول السردية الرسمية والرائجة عن تأسيس تركيا الحديثة إن مصطفى كمال ورفاقه نجحوا في انتشال شعبهم من التخلُّف والهزيمة وصنعوا هوية تركية علمانية مواكبة للعصر الحديث بإقصاء كل أشكال التديُّن الإسلامي من المجال العام. يبدو ذلك صحيحاً أوّلَ وهلة عند تتبُّع الإصلاحات الشهيرة التي طبًّقها أتاتورك في العشرينيات والثلاثينيات. ولكن مع إمعان النظر في التأسيس الاجتماعي والسكّاني للشعب التركي الحديث نجد أن مصطفى كمال لم يبرح التعريف العثماني للشعب التركي المسلم السني، بل إن سياسات "التتريك" التي اتبعها وسياسات الجمهورية الوليدة في انتقاء اللاجئين من بلاد البلقان العثماني سابقاً تشي بأنَّ الإسلام السُني في المقام الأوَّل، وليسَ العرق التركي، كان المُحرِّكَ لتشكيل تركيا الحديثة، التي لم تستطع مع علمانيتها الثقافية والقانونية، تجاهلَ التركيبة الاجتماعية للدولة العثمانية، التي لم تُعرِّف نفسها بأنها دولة للأتراك طيلة ستمئة سنة من وجودها.

أنتجت الدولة العثمانية على مدار تاريخها الطويل نخبةً متشعِّبةً من العسكريينَ والمسؤلينَ الذين عرَّفوا أنفسهم مسلمين وعثمانيين. ولم يكُن يشار بلفظة "تُركْ" إلى أي مكوِّن ثقافي ينتمي إليه هؤلاء، بل كانت تدل على منزلةٍ أدنى ويُشار بها عادة إلى سكان منطقة الأناضول المسلمين، أي الأتراك عرقاً، وكأنَّ الدولة ورجالها وشبكاتها الممتدة بطول الإمبراطورية وقلبها في العاصمة إسطنبول كانت طبقة حاكمة ذات هوية عالمية وأممية خاصة، منفصلة عن الأتراك العاديين بقدر انفصالها عن العرب والروم.

ظهرت القوميات تدريجياً على مدار القرن التاسع عشر في ولايات الدولة العثمانية، وتزايدت الانتفاضات الوطنية على الحكم العثماني في اليونان وبلغاريا وغيرهما من مجتمعات البلقان المسيحية. فبدأت محاولات نسج هوية وطنية عُثمانية لربط الدولة المأزومة برعاياها متعددي الثقافات والأديان والعرقيات، وكانت الكُتلتان المُسلِمتان الأبرز والأقرب لمركز الدولة حينها مسلمي منطقة الأناضول ومسلمي البلقان العثماني المعروف بالروملي، إلى جانب العرب في جنوب الدولة.

فشلت محاولة نسج هوية وطنية عُثمانية لأسبابٍ لا يصعُب فهمها خصوصاً في سياق تخلُّفها عن الدول الأوروبية آنذاك وانجذاب مسيحيي البلقان إلى الغرب. ولكن حتى بعد محاولة الدولة التركيز على المكون المسلم فقط من الإمبراطورية في عصر السلطان عبد الحميد الثاني لم تفلح جهودها. أولاً لأن غير الأتراك صاروا قادرين على التفريق بين التركي وغير التركي، وهو ما بدا جلياً مع ظهور الوطنية الألبانية وانتفاضتها الناجحة على الدولة العثمانية سنة 1912 والتي صدمت الضباط العثمانيين في البلقان العُثماني أي الروملّي، ودفعتهم إلى الاهتمام بالقومية التركية الخالصة أكثر من أي وقت مضى. وثانياً لأن للعرب تحديداً تاريخاً أطول باعاً وآصل في علاقتهم بالدين الإسلامي، ثمَّ ظهرت مع بعض علماء الدين العرب دعاوى إصلاحيةٌ ناقمةٌ على السياسات العثمانية، وهو ما أورده أستاذ التاريخ حسن كيالي في كتابه "أرابز أند يانغ توركس" (العرب وحركة تركيا الفتاة) المنشور سنة 1997، وهي دعاوى عربية إصلاحية سابقة على سياسات تركيا الفتاة العنصرية ضد العرب، عكس ما هو شائع من أنها رد فعل عليها لا أكثر.

بدأ إدراك جيلٍ جديدٍ من الضباط العثمانيين أنهم أتراكٌ يتخذ شكلاً واضحاً مع بداية القرن العشرين. وكان الاختلاط بالأتراك غير العثمانيين القادمين من روسيا القيصرية عاملاً مهماً في تعزيز هذا الإدراك، أنه ثمَّة أمة تركية متجاوزة الرابطة العثمانية نفسها التي تبدَّت هشاشتها يوماً بعد يوم وباتت عِبئاً يُعطِّل الانتباه للهوية التركية. بل أسهم ذلك أيضاً في تذكية أحد ألوان القومية التركية الوليدة التي سرعان ما عُرِفَت باسم "الطورانية" وسعت إلى توحيد كل الشعوب التركية تحت راية واحدة، وإن كان النظام الكَمَالي قد همَّشها إلى حد كبير.

لم يتبقَّ للدولة العثمانية مطلع القرن العشرين سوى مسلمي الأناضول كي تراهنَ عليهم قاعدةً لها ولجيشها، علاوة على بعض مسلمي البلقان الذين واجهوا مقاومةً شرسة من شعوب البلقان الثائرة على العثمانيين. ولم يكُن الإقرار بذلك إقراراً بحقيقة ثقافية دينية، بل تماشياً مع واقعٍ فرض نفسَه، إذ إنَّ سكان الأناضول سيصبحون أسيادَ الدولة القومية التي سيُكتب لها التأسيس في تلك المنطقة من العالم عاجلاً أم آجلاً. لذا حرصتْ الجمهورية في مهدها على أن تتخيَّر عاصمةً جديدة في قلب الأناضول بعيداً عن إسطنبول، هي أنقرة.

يُمكن ملاحظة القلق الوجودي الواضح في القومية التركية من اختفاء العنصر التركي كُليَّة، والرغبة في تمييزه عن محيطه وحماية أكبر رقعة جغرافية مُمكنة ترعى وجوده وتحفظ له حداً أدنى من التأثير والأهمية. وسببُ هذا القلق وطأةُ الدعاوى التاريخية لشعوبٍ أقدم وجوداً في المنطقة، مثل اليونانيين والأرمن والتي ادَّعت لنفسها أجزاء شاسعة من منطقة الأناضول وساحل المتوسط، وإن لم تحصل على ما ادعته لكنها كادت أن تحوِّل الوجود التركي إلى محض دولة حبيسة داخل الأناضول.

يُعبِّر مصطلح "متلازمة سِفر" عن القلق المستمر من وجود محاولاتٍ لتقسيم تركيا أو اختراقها من قوى وشعوب تقع خارجها، و سِفر هي المعاهدة التي قسَّمت الأناضول إلى دول صغيرة لشتى الأقليات العِرقية التي عاشت فيه قبل أن ينتفض الأتراك في حرب الاستقلال. وقد ناقش هذا الموضوع كثيرون، منهم هاكان يلماز أستاذ العلوم السياسية بجامعة البوسفور، في فصل بكتاب "أوكسفورد هاندبوك أوف توركِش بولِتِكس" (دليل أكسفورد للسياسة التركية) الصادر سنة 2022.

يشير الباحث ستانفورد شو في المجلد الثاني من كتابه "هيستوري أوف أوتومان إمباير آند مودرن تركي" (تاريخ الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة)المنشور سنة 2009 إلى أن اليونانيين في منطقة طرابزون ومحيطها حاولوا الدفع بمُقترح لإنشاء دولة يونانية على ضفاف البحر الأسود ودبَّروا مذابح بحق المسلمين هناك، علاوة على مطالبهم التقليدية بحيازة إزمير وبعض مناطق بحر إيجه التي احتلوها لاحقاً قبل تحريرها في حرب الاستقلال. وهذا ما دفع الحكومة التركية الجديدة حينها إلى التركيز على صناعة سرديات تدحض بها الدعاوى اليونانية، منها اختلاق فكرة أن الأتراك أقدم شعب استوطن الأناضول وأن الحيثيين، وهم حضارة هندية أوروبية قديمة ظهرت في الأناضول، إنما هُم شعب من شعوب الأتراك، وهي أطروحة دحضها الباحث التركي جان أريمتان في بحثٍ نُشر سنةَ 2013 بعنوان "هيتايتس، أوتومانز آند توركس" (الحيثيين والعثمانيين والأتراك).

لم يكُن غريباً أن الروابط الاجتماعية بين أتراك الأناضول وقدرتهم على التعبئة والتنظيم أصبحت المحورَ الذي نُسِجَت عنه التصوُّرات القومية في تركيا كي تدفع تلك الدعاوى وتقاومها كما فعلت في حرب الاستقلال. وهو التوجه البديل عن التشبُّث بتركيا نفسِها التي كانت وطناً حتى حين غير واضح المعالم، ولم يكُن للأتراك فيه تاريخ قديم، عكس الاتجاهات الوطنية في مصر وإيران، مثلاً، التي لم يشُبْها القلق نفسه، وذلك لغياب التهديدات العرقية الصريحة وللتاريخ الطويل الذي يعود إلى قرون ما قبل الميلاد ولتمتُّع كل منهما بوحدة سياسية وجغرافية واضحة طوالَ أربعة قرون ونيِّف.


"ما من صديق للتركي سوى التركي"، هكذا صدح رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي في اجتماع حزبي سنة 2020. لا نعلم على وجه اليقين من قائل تلك المقولة التي لم تثبت عن مصطفى كمال أتاتورك، وهي أحد أشيع المقولات في أوساط القوميين الأتراك رُغم أنها لا تنال إعجاب قطاع واسع من الأتراك في العموم. يورد موقع "أكشي سوزلوك" التركي، وهو أشبه بمنتدى مفتوح لمناقشة القضايا المتنوعة، انتقاداتٍ حادةً من عشرات الشباب لتلك المقولة التي وصفها أحدهم بالفاشية وآخر بالهُراء، في حين مازح آخر قائلاً: ما من صديق للتركي، ولا حتى تركي آخر.

تُعبِّر تلك المقولة بجلاء عن هوس الحركة القومية بالهوية التركية عرقاً مستقلاً وبالروابط المُغلقة المؤسِّسة لها، وهي روابط قد عبّدت لها الطرقُ الصوفية الطريقَ سابقاً ولو جزئياً. ويُمكن ملاحظة متانة التنظيم الاجتماعي في تركيا الناتجة من المجال الديمقراطي العام والمفتوح منذ سنة 1945 وكانت جزءاً من تركة التصوُّف الأناضولي، وهو التنظيم الأهم الباقي من إرث العثمانيين والسلاجقة والأبعد نسبياً عن المدن العثمانية الكبرى متعددة الثقافات. وقد استُدعيَت تلك الروابط بقوة في أثناء حرب الاستقلال وإعادة تأسيس السلطة في البلاد، قبل أن يبدأ النظام الجمهوري الجديد بعدها بسنوات حملته على الطرق الصوفية في خِضَم محاربة التديُّن في الأناضول، وإن لم ينجح في استئصاله تماماً.

إن لقب أبو الأتراك أو أتاتورك الذي حازه مصطفى كمال لم يكُن دعايةً سياسيةً محضة في الحقيقة، فقد كانت العقود المضطربة الممتدة من حروب البلقان مطلع القرن العشرين إلى الثلاثينيات عقود تقلُّب اجتماعي وثقافي وتبادلات سكانية ضخمة سبكت أمة جديدة في النسيج الإقليمي والدولي. ومع الاعتقاد بأنها أمة متجانسة عرقياً فهي امتداد لتعريف المِلَّة المُسلمة العثمانية التي هيمنت على الأناضول ونزحت من البلقان وأتت من خلفيات عرقية متباينة قبل أن تخضع لعملية تتريك ثقافية بتدشين اللغة التركية ذات الحروف اللاتينية، والتي انتشرت سريعاً لأن أتراك الأناضول كانوا في معظمهم أميين منبتِّي الصلة باللغة العثمانية حتى بدأ نشر التعليم الحديث، وكان كثيرٌ من مسلمي الروملي النازحين إلى تركيا لا يعرفون العثمانية أصلاً.

وعلى سبيل المثال فقد رفضت الجمهورية في مهدها أن تفتح باب الهجرة لأتراك القوقاز المسيحيين من مولدوفا على انتمائهم للعرق التركي، ورفضت الأذريين النازحين من الاستبداد السوفيتي في جمهورية أذربيجان لأنهم شيعة فنزح معظمهم إلى إيران، وهو ما ذكره كمال كيريشجي أستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة البوسفور في بحثٍ نشره سنة 2000. وعلى النقيض استقبلت الجمهورية الآلاف من المسلمين السُنَّة غير الأتراك المندرجين سابقاً ضمن المِلَّة المسلمة للدولة العثمانية مثل البوشناق، أي البوسنة، والألبان والشركس والروما، وهي جماعة عرقية هندية إيرانية منتشرة في شرق أوروبا، والبوماك، أي مسلمو البلغار. يُضاف إلى ذلك حوالي ثمانمئة ألف مسلم من اليونان في أثناء التبادل السكاني الذي حصل سنة 1923 عقب الحرب مع اليونان، والذين كان معظمهم لا يتحدث سوى اليونانية مقابل إرسال أكثر من مليون تركي مسيحي إلى اليونان. كانت تلك التحوُّلات السكانية تُمثِّل حوالي 5 بالمئة من السكان وهي نسبة معتبرة ناهيك عن تهجير المسيحيين وهجرات المسلمين التي وقعت قبل حرب الاستقلال.

لقد استمرَّت سياسات انتقاء المهاجرين المسلمين من البلقان حتى نهاية الحرب الباردة وقد أمكن دمجهم بسهولة في نسيج الأمة التركية، عكس الأكراد والعرب الذين شددت الدولة التركية سياسات استقبالهم لاجئين. فقد سُهِّل توطين أكثر من ربع مليون مسلم بلغاري في نهاية الثمانينيات مقابل إغلاق الباب بوجه الآلاف من اللاجئين الأكراد الفارين من نظام صدام حسين، ربما لعبت الجذور الروملية لمؤسسي الجمهورية أنفسهم دورها في الانحياز لمسلمي البلقان لا غيرهم. وكذلك الاعتقاد بأن التجربةَ السياسية والثقافية المتطورة لمجتمعات البلقان إضافةٌ مهمة لبنية الجمهورية التي عانت من قلة الكوادر المتعلِّمة في مجالات عدة بعد خروج اليونانيين والأرمن أصحاب الإسهامات الكبيرة في التجارة والثقافة العثمانية، في حين نُظِرَ إلى الأكراد والعرب على أنهم عبئٌ إضافيٌ وعصيٌ على التتريك.

يصعُب تصوُّر الوضع في تركيا بتفاصيله كاملة في أثناء حرب الاستقلال، لأنه مساحة شاسعة أريد لها أن تشكل الوعاء الجغرافي للجمهورية الجديدة، ولم تكُن ثمَّة سلطة مكتملة حينها تسيطر على معظم أنحاء البلاد، فالجميع مشغول بمعارك مع أكثر من دولة وعلى أكثر من جبهة. ولذا ليس غريباً أن التجاوزات ومذابح غير المسلمين شاعت تلك الفترة، لا سيما وقد ضمت التنظيماتُ المسلحة التركية جماعاتٍ من مسلمي الروملي الحانقين على ما لاقوه من المسيحيين هناك ولاجئين مسلمين من روسيا السوفيتية ونازحين من الأناضول بعد الاحتلال اليوناني والأرمني والفرنسي بعضَ أطراف الأناضول.

ثمَّة سيولة إذن في العنف، وقد فاقمتها مظالم فلاحي الأناضول تجاه السلطة الجديدة بعد الحرب، إذ شاعت الجريمة آنذاك بحثاً عن لقمة العيش، ولم يكُن باستطاعة قادة المجهود الحربي أن يتحكَّموا في نطاق العنف بالكامل حينها أو حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها، كما تشي حوادث كثيرة في الثلاثينيات والأربعينيات. وبعد أن رُسِمَت ملامح القومية التركية وثقافتها الجديدة، ظلت القابلية للعُنف منتشرة، وسرعان ما بدأ يظهر بين الفينة والأخرى حين انفلتت الدعاوى الشعبوية وأيقظت مُجدداً القلق الوجودي المُلازِم لأنصار العصبية التركية ولم تستطع الدولة كبحه، بل لم تقاوم الانتفاع منه أحياناً.


سرت الأنباء في الإذاعة ظهيرة السادس من سبتمبر سنة 1955 بأنّ "منزل أتاتورك تضرَّر جراء انفجار"، ونُشِرَت صحيفة مؤيدة للحزب الديمقراطي الحاكم حينها بالعنوان نفسه. أمّا المنزل الذي وُلِد فيه مصطفى كمال وتربَّى فلم يكن في الجمهورية التركية وإنما في سلانيك اليونانية. اشتعلت بالخبر أحداث العنف الأسوأ ضد مَن تبقَّى مِن اليونانيين في مدينة إسطنبول. تدفَّقت مجموعات من الأتراك بالأعلام الحمراء والتكبيرات ودَمَّرت منازل اليونانيين والأرمن وبعض اليهود وممتلكاتهم، وأردت خمسة عشر قتيلاً وحوالي ثلاثمئة مصابٍ وخسائر قُدِّرَت بملايين الدولارات. أُحرقت في ثمانٍ وأربعين ساعة أكثر من سبعين كنيسة وخمسٍ وعشرين مدرسة ومقارّ لثمانِ صحف وأكثر من أربعة آلاف متجر وألفيْ منزلٍ يعود معظمها لليونانيين والأرمن واليهود. 

حُذّر اليونانيون في إسطنبول مِن الخروج إلى الشوارع. ونتيجة لتقاعس المؤسسات الأمنية يومَها، كانت تلك واحدة من التُهَم التي احتج بها العسكريون فيما بعد لإصدار أحكام الإعدام على عدنان مندريس ورفاقه بعد انقلاب سنة 1960 وهو ما تذكره الدعاوى الرسمية المرفوعة عليهم في المحاكمات آنذاك. لا يُمكن فهم القابلية للغضب بلا فهم جذورها التي تعود إلى حملات مقاطعة المحال اليونانية التي روَّجت لها حركة تركيا الفتاة في إسطنبول بعد حروب البلقان، وهدفت إلى تشجيع قيام طبقة "مِلِّيَّة"، أي وطنية. وقد تحولت هذه الحملات أحياناً إلى موجات من العنف والتخريب بسبب الغضب مما ارتكبه اليونانيون في البلقان، وقد ناقشها بالتفصيل دوغو تشَتين كايا أستاذ العلوم السياسية بجامعة إسطنبول في كتابه "ذا يونج توركس آند بويكوت موفمنت" (تركيا الفتاة وحركة المقاطعة) المنشور سنة 2016.

 لم يكُن المسيحيون اليونانيون والأرمن فقط الأعداء التقليديين في الخيال الشعبي للعصبية التركية، فقد نال العلويون حظهم من الكراهية أحياناً. فالعلويون كُتلة سكانية غير سُنيَّة وتتبع طقوسّاً غير إسلامية، فقد أسسوا لأنفسهم دور عبادة منفصلة عن الجوامع، وانحاز كثيرٌ منهم إلى الاتجاه اليساري المناوِئ لليمين القومي. وقد وقعت واحدة من أسوأ الحوادث ضد العلويين حين هوجمت بيوتهم ومتاجرهم في مدينة كهرمان مرعش طيلة ثلاثة أيام بتواطؤ من بعض الأجنحة بجهاز الشرطة سنة 1978، وكانت الحصيلة تخريب المئات من البيوت والمحال ومقتل أكثر من مئة علوي. وهي أحداث شهدتها تركيا في العقد الأكثر عُنفاً واضطراباً في تاريخها بسبب مواجهات الشارع المتكررة بين اليمين القومي واليسار المتطرف، حتى انقلب الجيش على الجميع سنة 1980.

طالت نيرانُ الحركةِ القومية الاشتراكيين أيضاً بسبب انحيازهم إلى سياسات التعددية الثقافية والدفاع عن حقوق الأكراد، ولارتباطهم بروسيا الشيوعية وما جسَّدته من عداءٍ تاريخي مع الدولة العثمانية وقمعٍ لعدد من الشعوب التركية التي عاشت في ظلال الاتحاد السوفياتي. ففي سنة 1969 غضت السلطات الطرف عن حادثة كادت تُفضي إلى مذبحة ضخمة في مدينة قيصري، إذ عقد ثمانمئة مناضل نقابي من المعلمين الأتراك اجتماعاً في دار للسينما سبقته محاولة تعبئة أعضاء الخلايا القومية ضدهم بوصفهم "كلاب موسكو" وهو ما نتج منه استهداف السينما وقطع الكهرباء فجأة عن الحاضرين قبل سماع دوي انفجارات أحرقت السينما بعد أن فرّ المعلمون ونجوا بأرواحهم.

في السبعينيات راجعَ الجيش التركي حماسه لفتح الباب أمام اليسار مع تزايد اهتمامه باحتواء الاتجاهات الدينية التي ابتعدت عن حماسها المُبكِّر لبعض الأفكار الاشتراكية وشاركت الحركةَ القومية عدائها للشيوعية. وكان هذا يعني أن يميل النظام التركي إلى التعريف الأناضولي المحافظ للقومية التركية وأن يتخلَّى جزئياً عن التعريف الكَمَالي المتطرف في علمانيته.


تحوَّلت "مِلَّة" المسلمين العثمانية في الأناضول إلى عرقية تركية حديثة وقد صنعها الآباء المؤسسون للجمهورية على عينهم، لذا كانوا حريصين أشد الحرص على إثبات الهوية المسلمة قاعدةً للوطنية التركية بقدر حرصهم على محاربة الممارسات الدينية على المستوى الشعبي لأنها نظيرٌ للتخلُّف، وليس أدل على ذلك من أن كلمة "مِلَّت" في التركية الحديثة اليوم تعني الشعب وأن "ملِّيَّتجيليك" تعني القومية. كانت تلك المعركة، التي يصعُب فهم ثناياها وتناقضاتها بسهولة، محورية في تشكيل الاتجاهات القومية التي ظهرت فيما بعد، لا سيما أن التوتُّر سرعان ما بدأ بين المكوَّنيْن الأبرز للشعب التركي الحديث، وهُما أتراك الأناضول في مواجهة أتراك الروملي.

حين وضعت حرب الاستقلال أوزارها سنة 1923 وأعاد مصطفى كمال ورفاقه سيطرة مجلس الأمة التركي، أي البرلمان، ومقره أنقرة على الأناضول وأراضي تركيا الحالية كان المفكر القومي الأذربيجاني التركي أحمد أغا أوغلو الذي عاصر تلك الأحداث قد كتب مجموعة متفرقة من المقالات جُمِعَت لاحقاً في كتاب عنوانه "احتلال مي انقلاب مي" (إصلاح أم ثورة)، وقال حينها إن النصر لا يُعزَى بحال إلى إسطنبول ومؤسساتها أو إلى الدولة العثمانية بل إلى حركة المقاومة الأناضولية وفلاحيها، محاولاً إبراز الهوية التركية الجديدة على حساب العثمانية. كان هذا صحيحاً إلى حد كبير، لكنه غفل عن حقيقة أن معظم قادة الحراك العسكري والشعبي كانوا من أتراك الروملي والساحل مثل مصطفى كمال وعصمت إينونو، بل بعضهم من خارج تركيا مثل أغا أوغلو نفسه الذي أتى مُهاجراً من أذربيجان الروسية.

كان هناك تباينٌ واضحٌ بين أتراك الأناضول ومنطقتهم الأكثر تخلُّفاً التي هيمن عليها الاقتصاد الرزاعي واحتفظت بثقافتها الدينية المحافظة، وأتراك الروملي الذين امتلأت منهم الصفوف الأولى للجيش والدولة والصناعات في المدن الكبرى والساحلية. لقد حارب أتراك الروملي حرب عصابات طويلة مع جيوش القوميات الجديدة في البلقان فامتلكوا خبرات تنظيمية هائلة قبل أن يمسك معظمهم زمام الأمور في الدولة. وتشرَّب هؤلاء بالسجالات الفكرية الحديثة واحتكوا بالفكر الأوروبي واعتقدوا أن خطر الفناء يهدَّد شعبهم، بسبب تخلُّفِه الثقافي عن الغرب، وتشوُّشِ هويته القومية التي تاهت وامتزجت بالهويات العثمانية والإسلامية. وقد عبَّر المفكر التركي ضياء جوك ألب، الأب الروحي للقومية التركية الحديثة، عن هذا الأمر حين قال إن الهوية الوطنية التركية يجب أن تتمايز من ثنايا الهويات العثمانية والإسلامية.

وهكذا برزت في ثلاثينيات القرن الماضي من داخل حزب الشعب الجمهوري الحاكم اتجاهات ثلاثة أوردها الباحث ناظم إرم في بحثٍ له نشر سنة 2002 بعنوان "تركيش كونسرفاتيف مودرنزم" (الحداثة المحافظة التركية)عن بعض الأفكار المؤسِّسة لتلك الفترة. أولها اتجاه متطرف في علمانيته وقوميته التف حول السياسي رجب بَكَر والجنرال فوزي جقمق سرعان ما هُمِّش بعد وفاة أتاتورك، وثانيها مجموعة ليبرالية مؤيدة لتخفيف قبضة الدولة على الاقتصاد بقيادة جلال بايار مؤسس الحزب الديمقراطي فيما بعد صُحبة عدنان مندريس ومستلهم النموذج الليبرالي الأمريكي في تخفيف القيود على الشعائر الدينية. وأخيراً، مجموعة من رجال الدولة المتحفظين على الليبرالية والقومية المتطرفة في آن واحد، والتفوا حول نائب الرئيس والرئيس الثاني عصمت إينونو. 

تبلورت الحياة السياسية فيما بعد عن ثنائية الجمهوريين والديمقراطيين حتى الانقلاب الأول سنة 1960، وعانت القومية المتطرفة من التهميش والنبذ، لكنها أطلَّت برأسها مُجدداً بالضابط القومي المتطرف ألب أرسلان توركِش، الذي اعتُقِل في الأربعينيات وحوكم مع القوميين المتطرفين فيما عُرف حينها بمحاكمات "الطورانية" قبل أن يُطلَق سراحه ويشارك في انقلاب 1960. وقد بدأ توركَش سريعاً محاولة الانشقاق عن النظام الجديد مع مجموعة ضباط قوميين رفضوا العودة إلى الديمقراطية، فأُقصوا من النظام بالتزامن مع إيفاد توركِش في مهام بالهند لإبعاده عن تركيا حتى عاد في منتصف الستينيات وانضم إلى حزب فلاحي الشعب الجمهوري قبل أن يتحوَّل إلى حزب الحركة القومية سنةَ 1969.

تعود جذور حزب الحركة القومية إلى الطورانيين الراغبين في توحيد شعوب العرق التركي الذين نشطوا في الحرب العالمية الثانية أملاً في إسقاط الاتحاد السوفيتي واتصلوا بالألمان، وهي حركة تجاهلها الرئيس عصمت إينونو الذي حافظ على حياد بلاده في الحرب، ولم يُرِد تكرار الرهان على الألمان الذي ألحق الهزائم بالدولة العثمانية. وبعد أن لاح في الأفق نصر الحلفاء وبدأت الحرب الباردة فقَمَعَ النظامُ الحركةَ. ومن صفوف الأحزاب المعارضة لكل من الجمهوريين والديمقراطيين، برزت أحزاب قومية صغيرة قواعدها في الأناضول سرعان ما أفضت إلى ظهور حزب فلاحي الشعب الجمهوري سنة 1958، وقد عارض الحزب ما عدّه نخبوية الحزب الجمهوري تجاه عامة الشعب من الفلاحين وثقافته الدينية، وفي الوقت نفسه ما رآه في الديمقراطيين من انبطاح للولايات المتحدة والرأسمالية.

حلَّ الحزب ثالثاً بعد الحزبيْن الكبيريْن في أول انتخابات بعد انقلاب 1960، ثم دخله توركَش مع رفاقه وهيمن عليه حتى صار حزب الحركة القومية، وهو منبع أغلب الأحزاب القومية لاحقاً، في وقت شهد تزايد التعبئة القومية بفضل منظمة "الذئاب الرمادية" العسكرية وأفرعها بقيادة توركِش. وإن كان قد اختار الأهِلَّة الثلاثة بدلاً من الذئب شعاراً للحزب انحيازاً منه للثقافة الدينية في الأناضول التي اكتشف الحزب المرة تلو المرة أنها ناجعة في تعبئة الجماهير وفي سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين التقليديين الذين ظهروا على الساحة السياسية في الوقت نفسه بقيادة نجم الدين أربكان.

تأرجحت الحركة القومية باستمرار بين تصوُّر عرقي من جهة، أقرب لنظيره الألماني رعاه توركِش وحزبه، وكانت هذه للمفارقة النسخة التي قبلت درجة من "الأسلمة" لا سيَّما وقد تأسست قواعدها الاجتماعية في قلب الأناضول المحافظ. وتصوُّر ثقافي من جهة أخرى، أقرب إلى الوطنية الفرنسية العلمانية وهي النسخة الروملية، وتتسم بالعنصرية على أرضية ثقافية لا عرقية، وهي التي صقلت نفور الأتراك من الفرس والعرب لأنهم شعوبٌ أقل تحضُّراً، وهي النسخة الأشيع عند علمانيي المدن الكبرى والساحلية، والتي أتاحت لهم في مرات عدة أن ينبذوا المتدينيين من الأتراك أنفسهم للسبب نفسه.

يبدو جلياً هُنا أن التعريف العرقي للهوية التُركية بلا شروط ثقافية علمانية تعريفٌ أشمل لأبناء الشعب التركي مقارنةً بالتعريف الثقافي الذي اشترط على التُركي أن يكون متحضِّراً وهو التعريف الذي تصوَّره أتاتورك. مع أن التعريف الكمالي ليس عرقياً فإنه كان يقصي المتدينين من عامة الأتراك، أما التصور العرقي فقد شدَّ عود النزعات العصبية عكس ما أراد مؤسسو الجمهورية، بل بات مطية للدولة العميقة أحياناً عندما أرادت ضرب بعض خصومها مثلما حدث في الثمانينيات والتسعينيات. خصوصاً الشرطة ومؤسساتها التي اخترقتها الحركة القومية بتفاوت طيلة العقود الأربعة الماضية، عكس الجيش، وهو ما يُفسِّر تكرُّر تقاعس بعض رجال الشرطة في التدخل في هجمات متعصبة عدة، بل تداخل كثير منهم مع شبكات الجريمة المنظمة واليمين القومي.


بعد البتر الحادث في الدولة العثمانية لم تكن هناك سردية لهذا الشعب المبتور. وفي غمرة البحث المُضني عن سردية مُتخيَّلة للأمة التركية نُسِجَت خيوط كثيرة. ورث مصطفى كمال من المفكر ضياء جوك ألب، أبو القومية التركية، الخوفَ من طغيان الدين على الهوية التركية بشكل يُعيد إنتاج الهواجس ونقاط الضعف التي أودت بالدولة العثمانية وشوَّشت إدراك الأتراك لأنفسهم أنهم شعبٌ صاحب هوية قومية مستقلة. ولا يُمكن فهم العداء الشديد للطقوس الإسلامية تلك الفترة بلا فهم المعركة الثقافية التي سبقته لفرز الهوية التركية عن بقية المكونات العثمانية والإسلامية التي طغت عليها إلى حد إخفائها تماماً. لقد كان الإسلام مكوناً من مكونات الأمة التركية، لكن القومية لم تُرِد له أن يكون أكثر من ذلك فظهرت العلمانية هُنا ضرورة في نظر أتاتورك لترسيخ الهوية الوطنية. وكانت في الوقت نفسه محاولة لنسج تصوُّر وطني مُطابق لنظيره الفرنسي ومتنافر مع حضور الدين في المجال العام ومتجانس مع ما ارتآه الرجل منهجاً من مناهج الحضارة الأوروبية.

بيد أن الجيش التركي بدأ يرعى منذ انقلاب سنة 1980 قومية تركية منفصلة نسبياً عن الأسس الكمالية الأولى، خلاف ما هو شائع. ولم تكن مفاجأة أن حزب الشعب الجمهوري، حزب مؤسس الجمهورية، قد حُلّ بعد الانقلاب مثله مثل غيره من الأحزاب. فالانقلاب لم يكن يستهدف الإسلاميين في المقام الأول الذين كان حضورهم محدوداً حتى نهاية الثمانينيات، فقد ألقي القبض على قادتهم مع جميع السياسيين وأطلق سراحهم سريعاً، بل كان يستهدف بالأساس عَامُودي الاضطراب في السبعينيات اللذيْن حُكما وقُمعا آنذاك: القوميون المتطرفون والشيوعيون. كان الجيش يستهدف الجذريين ذاتهم لأنها خطرٌ على الدولة ووحدة أراضيها، رغبة منه في مواكبة التحوُّلات الاجتماعية الضخمة لتلك المرحلة والطبقات الجديدة التي وفدت على المدينة من الأناضول بالتزامن مع صحوة دينية إسلامية ملحوظة في المُدُن. لذا تبنَّى الجيش تبنيّاً شبه رسميٍّ بعضَ الاتجاهات الإسلامية التي طالما نأت بنفسها عن السياسة، وعلى رأسها حركة فتح الله غولن التي حصلت على هامش حركة واسع آنذاك.

على سبيل المثال، اعتمدت الكتب المدرسية في تركيا طوالَ خمسين عاماً قبل انقلاب 1980 على الترويج لأطروحة عن التاريخ التركي تبدأ بهجرات الأتراك من آسيا الوسطى في الماضي البعيد وتأسيسهم حضارات مختلفة في مناطق شتى من آسيا حتى وصولهم إلى تركيا الحديثة، مع تقليص الاهتمام بالعثمانيين سعياً إلى خلق سردية تاريخية تركية منفصلة عن التاريخ العربي والإسلامي. ولكن بعد الانقلاب شاعت في الأروقة الأكاديمية والثقافية الرسمية ما عُرفَت بالأطروحة التركية الإسلامية التي صكَّتها رابطة "أيدن أوجاقلار" القومية المحافظة واحتضنها الجيش حينها بالتعاون مع رئيس الوزراء المحافظ تورغوت أوزال. تقول الأطروحة إن الأتراك انحازوا للتوحيد منذ سالف العصور وجسَّدوا ثقافة محافظة ملتفة حول الأسرة والأخلاق والعدالة، ويُعَد إسلامهم وتاريخهم الإسلامي امتداداً لا يتعارض مع تاريخهم القديم. 

في الفترة نفسها أيضاً اعتُمِدَت مناهج للدين والأخلاق في المدارس مع توسُّع كبير في تدشين مدارس الإمام خطيب الدينية، وعاد الاهتمام بالدولة العثمانية والتاريخ الإسلامي وأعيد تصوير السلاطين العثمانيين أكثر توازناً في المدارس والإعلام. وهذ ما وضحه إريك زورشر، أحد أبرز أساتذة الدراسات التركية والأستاذ بجامعة لايدن الهولندية، في كتابه "تيركي: آمودرن هيستوري" (تركيا: تاريخ حديث) الصادر سنة 1993. 

غير أن الانفتاح على الدين والسرديات الإسلامية لم يصل إلى تقبُّل التيار الإسلامي السياسي الصريح الذي تزعَّمه أربكان، أو إلى القبول بالحجاب في الجامعات ومؤسسات الدولة بالنظر إلى أن الجيش ظل ينظر إلى الحجاب رمزاً سياسياً. وقد جسَّد انقلاب 1980 تجاوزَ الدولة التركية هوس مؤسِّسِها بالتحضُّر الثقافي، وإن ظلَّ على رفضه حضور التصوُّرات الإسلامية في السياسة، وجسَّد انتقال الدولة للاعتماد على القومية ذات التعريف العرقي المفيدة في الحرب مع حزب العمال الكردستاني. وهي أكثر انسجاماً مع التديُّن الشعبي والأكثر مناعةً لتسرُّب الأفكار الثورية والاشتراكية، وهو ما دفع إلى حصول الحركة القومية على مساحة أكبر من الساحة السياسية مع العودة إلى الديمقراطية نهاية الثمانينيات.


في حوارٍ مُتلفز أجري سنة 1993 بين ألب أرسلان توركَش، الزعيم الأبرز لحزب الحركة القومية حتى وفاته سنة 1997 وبين السياسي الكُردي أورهان دوغان، أصرَّ تُوركَش على أن تركيا ليست فُسيفساء متعددة الثقافات كما وصفها دوغان، وإنما "لوحٌ صلب من الرُخام". في تلك الفترة كان أردوغان على الطرف الآخر المناقض لحزب الحركة القومية، وفي صفوف حركة إسلامية تستلهم تجربة العثمانيين في التسامح والتعددية من أجل حل مشكلات تركيا، وهو إرث حمله معه إلى السلطة في سنواته الأولى رئيساً للوزراء واصطدم به مع الجمهوريين والقوميين على حدٍ سواء.

في أثناء زيارته اليونان سنة 2009 قال أردوغان كلماتٍ مثيرة للجدل عن القومية التركية: "لقد ارتُكِبَت في هذا البلد أشياء عدة لسنوات. طُرِد ذوو الخلفيات العرقية المغايرة من بلدنا. ولكنني أتساءل هل انتصرنا بذلك؟ إننا بحاجة للتفكير في هذه الأمور، لكننا لم نفكر آنذاك بالمنطق السليم. لقد حدث ما حدث نتيجة منظور فاشي. إنها أخطاء نرتكبها بين الحين والآخر". جلبت تلك الكلمات هجوماً عنيفاً على أردوغان من حزبيْ المعارضة الرئيسين حينها، الشعب الجمهوري والحركة القومية. كان الرجل هُنا يحاول أن ينَال من إرث القومية المتعصب المُعقَّد، ويرفع لواء التعددية الثقافية في بلدٍ له حركة قومية مهووسة بالتجانس الثقافي وتتوهَّم فيه باستمرار نقاءً عرقياً، وذلك في خضم عملية سلام مع الأكراد وصلت ذروتها آنذاك، مع تحسُّنٍ في العلاقات مع أرمينيا واليونان.

بعد اندلاع الثورة السورية وما تبعها من حرب أهلية، وما صاحب الثورات العربية من اضطرابات سياسية واجتماعية، ظهر بجلاء أن تركيا التي كانت تتأهب لتأديةِ دور مركزي في المنطقة المستقرة سابقاً، ليست مؤهلة لمواكبة التقلبات العنيفة التي انفجرت فجأة في العالم العربي، وأن عقيدتها العسكرية والاستخباراتية لا تمنحها حرية الحركة نفسها التي لدى إيران والخليج. ومن نتائج تلك الانقلابات الإقليمية والدولية تراجعُ الاستقرار الاقتصادي في تركيا وتدفق اللاجئين السوريين ونمو القومية الشعبوية من جديد ملاذاً من الاضطرابات على غرار ما حصل في السبعينيات. مع انحسار في شعبية حزب العدالة والتنمية دَفَعَهُ للتحالف مع حزب الحركة القومية لمواكبة المزاج الشعبي ثمَّ تراجع الحماس السابق للحديث عن التعددية الثقافية للبلاد وعن إرثها العثماني، وعاد التركيز على الهوية والأمن ووحدة الأراضي التركية، كما عادت بالطبع الحرب مع حزب العمال الكردستاني وتوقفت عملية السلام.

نجح حزب العدالة والتنمية في استئصال عُقدة الجمهورية الثقافية لأبنائها من المحافظين والمتديِّنين، لكنه لم يفلح إلى اليوم في تحقيق طموحاته المبكرة بحل مُعضلة الهوس بالتجانس الثقافي، بل اضطُر إلى مسايرة ذلك الهوس بنفسه بينما تتبدَّى من جديد أعراض "متلازمة سِڨر" عند القطاعات الشعبية المنحازة للحركة القومية المتوجِّسة من مؤامرات الغرب ودسائس الأكراد وتدفقات السوريين، وهي سِمات طالما نجحت في إشعال المشاعر القومية في صورة فورات عُنف وتخريب. تكفي إذن شائعة عن تفجير منزل أتاتورك أو تدشين اجتماعٍ نقابي ذي اتجاه يساري أو اتهام بتحرُّش عربيٍّ بطفلةٍ من عائلته كي يثير حالة فزع ذات وازع قومي يتحرَّك إثرها المئات في هجمة شعبية على ما يعتقدونه خطراً يحيق ببلادهم.

في تعقيبه على أحداث قيصري، أدان أردوغان خطاب المعارضة "السام" وحمَّله مسؤولية هجمات قيصري، وإن كانت زيارة وزير داخليته لقيصري قد نأت بنفسها عن إبداء التعاطف مع السوريين أكثر من ذلك، اتقاءً للغضب الشعبي الكبير لوجود السوريين، واكتفت بتطبيق القانون باعتقال المئات ممن شاركوا في أعمال التخريب واتضح أن نصفهم تقريباً من أصحاب السوابق. لا يزال العرب داخل تركيا، مع عدم رضاهم عن مواقف أردوغان، آملين في أن يبقى الرجل وحزبه في السلطة، لا لشيء سوى أنه يحميهم من نُسخة أكثر تطرُّفاً من القومية التركية، أو من انفلاتها على يد أحزاب المعارضة. 

يُشبه الرجل في ذلك مصطفى كمال أتاتورك نفسه وخلفاءه الذين دشَّنوا بأنفسهم عقيدة قومية مشغولة بالتجانس الثقافي واللغوي سرعان ما أفرزت مع التحوُّل الديمقراطي نُسخاً أكثر تطرُّفاً وانغلاقاً جعلت المتخوُّفين من العصبية يميلون إلى حزب الشعب الجمهوري أو إلى أحزاب المحافظين أو إلى حزب العدالة والتنمية الحالي في فترات مختلفة. مع أن هؤلاء جميعاً لم يحسموا أبداً المسألة القومية، بل احتووها للاستفادة منها والسيطرة عليها في آن، ليكونوا بذلك حائطَ صدٍّ رَخو أمام عصبية ما تزال حجر العثرة الأخير أمام أهم مُعضلات الجمهورية التي تأسست قبل حوالي قرن.

اشترك في نشرتنا البريدية