دخل معلِّم اللغة العربية سنة 1980 وسرد الأسماء في قائمة الصف، وهو حدثٌ مكرر لولا أن الأسماء تغيرت عن السنوات السابقة بإقحام مفردة "ابن" بين الأعلام وإلحاق القبيلة بالأسماء. كانت هذه المدرسة تساوي بين الطلاب، غير أن ذِكْر اسم القبيلة يميز بينهم، فمنهم من ينتمي إلى قبائل كبيرة ذات نفوذ ومنهم من لا ينتمي إلى قبيلة أصلاً. كنتُ أبحث في تلك اللحظة عن تفسير يقنعني بمبررات هذا التحول المفاجئ فتوقعت أن المعلم يريد إعادتنا إلى بيئة اللسان العربي الفصيحة بسرد الأسماء بطريقة العرب الأوائل. لكن السبب كان أكبر من ذلك، فقد قرَّرَ المرسوم السلطاني الصادر سنة 1980 إنشاء مديرية معنية بشؤون القبائل، فعادت المديرية إلى القبيلة وفرضت سرد الاسم وكتابته بالطريقة التقليدية جاعلةً ذلك من أساسيات الهوية العمانية.
فالحشد القبلي الذي حدث في ظفار هذا العام وصلاة بعض القبائل هناك على ميقات السعودية كان مرتبطاً بفهم علاقة القبيلة بالمؤسسات الرسمية والدينية في السلطنة. كانت ثورةُ ظفار منذ 1965 حتى 1975 قد استحدثتْ هوياتٍ جديدة تعلو على سلطة القبيلة والشيوخ ضد السلطان سعيد بن تيمور المدعوم من بريطانيا، فكانت المساواة أهم هوية. ويذكر الباحث الفلسطيني عبد الرزاق التكريتي في كتابه "ظفار: ثورة الرياح الموسمية" المنشور سنة 2013 أن الثورة أنشأت فضاءً مدنياً أوصل أفراداً من طبقات اجتماعية دنيا، مثل العبيد الذين تحرروا لأن الثورة ألغت الرقَّ، إلى مناصب قيادية، مما أزعج البريطانيين، فاعتمدوا على القبيلة أداةً سياسية تقليدية في الخليج. ورثت السلطةُ العمانية هذه الأداة واستعملتها في كل مناسبة.
للقبيلة شأنٌ كبيرٌ في الحياة السياسية والاجتماعية في عمان، وقد مرت العلاقة بين القبيلة والدين والسياسة بتوترات تاريخية ومعاصرة. تكشف احتجاجات العيد في ظفار صراعاً خفياً بين المواقف القبلية والدينية والسياسية. كانت الإمامة الإباضية في عمان تاريخياً متداخلة مع القبيلة، مما عزز دور القبيلة في الشؤون السياسية والدينية. وظفت السلطةُ المركزية القبائلَ لتعزيز نفوذها وضمان ولائها بتوزيع المخصصات والامتيازات. ولم تكن القبائل مع ذلك دائمة الولاء للسلطة، بل ثارت على القوى الاستعمارية. وتواصل القبائل اليوم إسهامها في تحديد الهوية الوطنية والسياسية ورسم مفاهيم أساسية مثل المواطنة وما تعنيه في سياق الدولة الحديثة من مشاركة سياسية وحقوق وواجبات.
إذن، كان تغيير نظام تدوين الأسماء الذي فاجأني في المرحلة الإعدادية إيذاناً بعودة السلطنة إلى تعزيز دور القبيلة. وما تزال المديرية العامة لشؤون القبائل تهتم بالقبيلة، فلشيوخ القبائل مخصصات مالية تحددها مكانتهم الاجتماعية، وأهميتهم التي تحددها السلطة.
مرّ التعدد العرقي والديني في عمان بتحولات سياسية عدة تاريخياً. أشار الرحالة والجغرافي المسلم شمس الدين المقدسي المتوفى سنة 990م إلى هذا التعدد في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" موضحاً أن عمان تضم شيعة معتزلة وشراة غالية وداودية وهما من الخوارج. وأشار المقدسي إلى التعدد اللغوي، فقد كانت اللغة الفارسية سائدة في صحار بشمال عمان. لكن كثيراً من الدراسات الحديثة تتجاهل هذا التعدد الديني الناتج من التعدد العرقي بسبب تحفظات سياسية تبرَّر بالوحدة الوطنية، وبسبب حساسية الإشارة إلى هذا التعدد عند القبائل العمانية نفسها. مثال ذلك ما ذكره باحث علم الأناسة في كلية رادتموث الأمريكية ديل إيكمان في كتاب "العشيرة والدولة في بلاد المسلمين"، زاعماً أن وجهاء القبائل قاوموا جهود الحكومة في توثيق المجموعات القبلية، لأن ذلك يقيدهم ويمنعهم من التفاعل مع الأوضاع المستجدة. فسحبت وزارة الداخلية العمانية سنة 1988 دليلاً كانت قد نشرته عن أسماء القبائل الرئيسة والفرعية والأماكن المرتبطة بها. ذكرت الوزارة رسمياً أن سبب السحب أخطاء وُجدت في الدليل، لكن إيكمان يرى أن السببَ احتجاجاتُ شيوخ القبائل وموظفي الوزارة الذين رأوا في الدليل تجميداً للعلاقات القبلية في الزمان والمكان.
واعتادت الدراسات المحلية وغيرها على تصنيف البلوش قبيلةً عارضة في الساحة العمانية وتاريخها. إذ يُرْبَطُ وجودهم بالتحالفات السياسية المتأخرة، بينما وُجدوا في عمان قبل هذه التحالفات. فالاستعانة بقبائل من خارج عمان، ومنها قبائل البلوش، كانت بحثاً عن موالين للسلطة الضامنة ولاء القبائل العمانية. وقد حدثت منذ نشأة السلطتين اليعربية مطلع القرن السابع عشر، والبوسعيدية منتصف القرن الثامن عشر. تجددت الظروف السياسية والاقتصادية في عمان الداعية إلى ضرورة البحث عن هذه القبائل القادمة من الخارج منتصف الخمسينيات. فكان الهدف جمع أبناء هذه القبائل في جيش نظامي لا يعتمد على القبيلة ومضارباتها الطبقية سياسياً واقتصادياً.
يذكر التكريتي أنه لم يكن لسلاطين مسقط جيشٌ نظاميٌ حتى سنة 1921 حين تدخّل المستعمر البريطاني. فقد كانوا قبل ذلك يعتمدون على جنود القبائل والجندرمة "وهي قوات شبه عسكرية من رقيق شرق إفريقيا و يمنيين وبلوش". وكانت الحكومة البريطانية تحمي السلاطين مباشرة عند الأزمات، وبعد تكرار هذه الأزمات قرر البريطانيون تأسيس جيش لمسقط. تأكدت الحاجة لهذا الجيش بعد انتخاب الإمام سالم بن راشد الخروصي في مايو 1913، وهي المرة الأولى التي يُنتخب فيها إمام منذ 1868، فخاف البريطانيون أن تقضي الإمامةُ على السلطنة فأرسلوا "فيلق القوات المجندة في مسقط" بقيادة نقيبٍ بريطاني، وأفراداً أغلبهم من البلوش. تكوّن هذا الفيلق البلوشي من أعداد قليلة من مستقدَمين جدد، بينما تشكلت جماعات بلوشية من المهاجرين القدماء في مناطق مختلفة من عمان. وقد اختلطت قبائلُ عمانية بعلاقات نسب مع القبائل البلوشية من منطقة بلوشستان فترة الصراعات بين فرق الخوارج وغيرهم، لا سيما في القرن التاسع عشر، فقد كانت المناطق العمانية والمكرانية مناطق امتزاج قبلي.
مثلما أن تاريخ عمان وحاضره لا يُقرأ بلا نظر إلى الإمامة، فإن للقبيلة لها الأهمية والتأثير نفسه في الحراك الاجتماعي في عمان، فالانتماء القبلي يمنح الأفراد مكانتهم الاجتماعية ويحدد هويتهم. يؤثر هذا الانتماء في العلاقات مع الدولة وتعضيد الروابط القبلية وغيرها، ويظهر في الصراعات السياسية والاجتماعية. لذلك يُفهم الحراك الاجتماعي والسياسي في عمان بالنظر إلى العنصرين المتداخلين المشكّلين تاريخَ عمان وحاضرها، الإمامة والقبيلة.
اهتمّ بعض الباحثين الغربيين، مثل لوريمر في كتابه "دليل الخليج"، بالتقسيمات القبلية في المنطقة. يلحظُ دارسُ الانتماءات العرقية أو القبلية في عمان علاقةً معقدةً بين القبيلة والدين من جهة وبين القبيلة والدولة من جهة أخرى. لم تكن عمان من قبل الإسلام كياناً سياسياً واحداً، بل كانت زعاماتٍ قبلية قائمة على التحالفات. وتذكر الباحثة تهاني الحوسني أن ذلك أدى إلى تقسيم المناطق، فاستقر العرب في المناطق الداخلية، واستقر الفرس في المناطق الساحلية، ولكل منهم نفوذه الخاص. أسهم غياب دولة مركزية في بناء عمق سياسي نافذ في الداخل.
كانت العلاقات بين القبائل والدولة ضرورية في فهم الحراك الاجتماعي والسياسي في عمان ومازالت كذلك. لم تكن القبائل وحدات اجتماعية فقط، بل كيانات سياسية قائمة بذاتها لها حلفاء ومنافسون بما تقتضيه مصالحها. أثّرت هذه التحالفات والانقسامات القبلية على تكوين الدولة والسياسات العامة، وأسهم الدين في تحديد الولاءات والانتماءات القبلية. ولأن القبائل كانت تحمل معتقداتها وقيمها، تعقّدَ المشهدُ السياسي والاجتماعي في عمان واستمرت التحالفات والصراعات.
ويميل أكاديميون عاملون في عمان إلى إعادة إحياء تقسيم القبائل إلى "الهناوية" و"الغافرية"، وهو تقسيم سياسي كاد أن يسبب حرباً أهلية في أواخر حكم اليعاربة 1719-1749. لكن نصوصاً تراثية مهمة مثل "تحفة الأعيان" للشيخ نور الدين السالمي 1866-1914 لم تذكر هذا التقسيم، بينما قسّم شيخُه صالح بن علي الحارثي 1834-1896 القبائل إلى موالية و"بغاة" من غير ذكر أسماء محددة.
للدين والسياسة أثر كبير في تحديد مكانة القبيلة. فكلما قلّت شهرة القبيلة قلّ استغلالها سياسياً ونقصت أهميتها، مثل التظاهرة القبلية بسبب هلال عيد الأضحى. فقد اعتمَد الميقاتَ السعوديَ جنوب ظفار بعضُ القبائل المنتمية إلى التيارات الدينية السلفية، وهم أقلية مقارنة بأتباع المذهب السني الشافعي والعقيدة الأشعرية في ظفار. فالقبيلة تميل إلى المذهب السني الحنبلي مما يجعلها قريبة من السلفية في السعودية. والقبيلة في هذا السياق وسيلةٌ للوصول إلى التمثيل الديني في المؤسسة الدينية التي تديرها الإباضية، ومحاولة للتأثير في صناعة القرار السياسي بشأن المناسبات الدينية وغيرها من القضايا.
تغليف الظاهرة الدينية بالقبيلة يمكن استحضاره في أحداث تاريخية متعددة في فترة إمامة عزان بن قيس بشأن قبائل الشرقية الحنابلة. فقد حاربت سلطةُ الإمامة حنابلةَ عمان في جعلان الواقعة في الشرقية سنة 1869 بسبب عدم انقيادهم لها، ووضعتهم في خانة المارقين إلى درجة تشبيههم بيهود بني قريظة في كتاب "تحفة الأعيان" المذكور. فيذكر السالمي مؤلف الكتاب سبب الغزوة المباشر أنهم "نزعوا يد الطاعة وخرجوا من الجماعة وخالفوا الإمام ممثل الإمامة الإباضية، ولم ينقادوا للأحكام، ولم يرضوا أن يكونوا تابعاً وذلك لاعتقادهم الفاسد. فإنهم كانوا على دين الوهابية، وهم بقية من أنصار نجد، وتعرفهم العامة بالأزرارقة". والأزارقة فرقةٌ من الخوارج المتطرفين أتباع نافع بن الأزرق. ومن الشواهد التاريخية الأخرى العلاقة بين قبائل منطقة الظاهرة شمال غرب عمان والدولة السعودية الأولى في القرن التاسع عشر.
يحرّكُ الصراع الطبقي أغلبَ دوافع التمرد القبلي أو الديني على السلطة السياسية، لا سيما السلطة البوسعيدية، لحماية المصالح وإن غُلّف بالغلاف الديني. أظهر ذلك تناقضاتٍ في المواقف لاحظتها المستشرقة فاليري هوفمان في شخصية أبي مسلم البهلاني، فقد كان برأيها "خليطاً من التناقضات، فهو من جهة مناصر شديد لإمامة إباضية صالحة، وصديق ومستشار للسلاطين، ومعجب بالحكم الإنجليزي، ومقر بالفكرة الإباضية القديمة القائلة بأن غير الإباضية من المسلمين هم كفار نعمة. وهو كذلك معجب بغير الإباضية من المسلمين وينادي بوحدة تضم كل المسلمين بل وغير المسلمين أيضاً".
بعد انتهاء الإمامة في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية فترة النهضة العمانية بعد 1970، سعت السلطة إلى احتواء القبيلة وجعلها جزءاً من سياساتها لضمان استقرارها ومنع استخدامها أجندات خارجية أو داخلية. فأسهمت التعددية الاجتماعية والثقافية والدينية في منع عودة الإمامة، ووجدت القبيلة مصالحها في سياسات الدولة، خصوصاً بعد اكتشاف النفط الذي عزز منافعها الاقتصادية.
يرتبط مفهوم الدولة بعد الحقبة الاستعمارية في الخليج، لا سيما في عمان، بالنظرية السياسية الغربية. فهي محاولة لتطبيق المُثُل التي بنيت عليها الدول الحديثة، فهي انعتاق إنساني ونضال طويل ارتبط بالسيادة والعدالة والمواطنة وفصل السلطات درءاً لجحيم الاستبداد. ويرتبط مفهوم الدولة في الخليج من جهة ثانية بالإرث الثقافي العربي والأواصر الاجتماعية وما تؤديه القبيلة والدين والحاكم من أدوار مترابطة. ويرتبط من جهة ثالثة بالرغبة في المحافظة على السلطة ومنع تداولها.
وهذا ما يجعل مفهوم الدولة مضطرباً بسبب غلبة الثقافة السائدة التي تعد شرطاً ضرورياً لبناء مؤسسات الدولة الحديثة. فالحداثة في الخليج ليست حداثة فكرية أو ثقافية بقدر ما هي تحولات مادية تهدف إلى الاستمتاع بالمظهر المادي أكثر من محاولة فهم الطبيعة الإنسانية والحرية. هذا أمر طبيعي ومتوقع نتيجة الثروة الكبيرة والمفاجئة التي جلبها النفط، وما رافق هذا الرفاه الاقتصادي من تبنٍ سريع لمظاهر العصر المادية من تقنية وبنية تحتية حديثة. فالإنسان في هذه الحداثات مستهلِكٌ لمنتجات الاقتصاد الريعي، أي المعتمد على الدولة ومواردها الطبيعية، وهذا الاقتصاد جزء من ثقافتها وبنيتها السياسية والاجتماعية ويُسهم في تعزيز استهلاك مزيد من مظاهر الرفاهية والخدمات. تحجّم القبيلةُ في هذا السياق دورَ المواطَنة والدولة، فتظل القبيلة عنصراً مؤثراً في البنية السياسية والاجتماعية، مما يعوق التحول نحو دولة المؤسسات والقانون.
أدركت أثناء تأليف كتابي "المواطنة في سلطنة عمان"، المنشور في فبراير 2014، أن كثيراً من إشكالات المواطنة والدولة الحديثة مرتبط بتعريف هذه المفاهيم. فالمواطنة، وهي منظومة حقوق وواجبات متعلقة بمواطن الدولة، تتحول إلى علاقة دلالية مختلفة في عمان والخليج عموماً. فتُستعمل المواطنة في غير معناها الأصلي في النظرية السياسية بسبب ثقافتنا ومفاهيمنا التاريخية والاجتماعية، فالمواطَنة في الخليج متعلقة بالانتماء إلى البلد أو القبيلة وليس بالحقوق والواجبات.
أول مرةٍ أعلنت سلطنة عمان أنها لن تتبع تقويم مكة "أم القرى" سنة 2008. فصلّى أهل حلة القرض في ظفار عيدَ الأضحى في الميقات السعودي، فداهمه الجيش، وأُرسلت التعاميم إلى النيابات والشيوخ وأئمة المساجد لمنع الصلاة، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها توتر بسبب رؤية الهلال. قرر السلطان قابوس في السنة التالية اتباع تقويم أم القرى. أُثير هذا الموضوع مجدداً في أغسطس 2019، فقد أُرسلت التعاميم نفسها وانتشرت دوريات الشرطة عند بعض المساجد، وكان الأمر مماثلاً مع المخالفين في الشمال. ما اختلف هذا العام عن المرتين السابقتين هو عدم نشر التعاميم والتنبيهات المتعلقة بالالتزام بتقويم السلطنة كالعادة. في مدينة الحق ــ التي سماها السلطان قابوس بهذا الاسم لأنها كانت مدينة أولى القبائل التي انشقت عن الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتل وانضمت إلى قوات السلطان قابوس في ثورة ظفار سنة 1970 ــ وهي معقل قبيلة المعشني، وجدوا في ذلك إشارة ضمنية إلى عدم وجود موانع تمنع الناس من أداء صلاة العيد. وهذا ما اعتمد عليه المحامي علي المعشني في مرافعة القضية الشهر الماضي عن من المصلين المقبوض عليهم صباح عيد الأضحى الماضي. فبسبب عدم نشر التعاميم والتنبيهات فهم الناس أن لا موانع للصلاة.
يرى كثير من أهل ظفار أن سبب الضجة الكبيرة الممتدة من ظفار إلى عمان كلها بدأ مع إيقاف المحتجزين يوم صلاة العيد في مدينة الحق. تشكّل تجمعاتُ وجهاء القبائل وشيوخها مناسباتٍ مهمة تناقش فيها الأمور التي تهم القبيلة والمجتمع. ولذلك فالاجتماع الذي دعا إليه شيوخ المعاشنة بعد إيقاف اثنين من أبناء القبيلة أمرٌ عاديّ، وقد أسفر عن رفع رسالة إلى سلطان عمان تطالب الجهات الرسمية باتباع ميقات أم القرى في رؤية هلال ذي الحجة. استغلت بعض الحسابات المجهولة على وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأحداث لتصويرها على أنها مطلب فئةٍ ولا تمثل كل ظفار، بل قبيلة المعاشنة فقط. بينما مناطق الشريط الريفي في ظفار أقامت الصلاة في بيوتها ونحرت أضاحيها بميقات مكة. انتقد الحبيب سالم المشهور، وهو كاتب ومؤثر من ظفار، على منصة إكس هذا الفعل مشيراً إلى أنه يتنافى مع طبيعة المذهب الشافعي في ظفار وأرجعه إلى السلفية المتشددة. وهذا من تنافس المكونات الاجتماعية الصوفية والسلفية في ظفار غير المقتصر على التيارات الدينية بل الممتد إلى القبائل أيضاً. يعكس هذا التنافس التعقيد في العلاقة بين القبيلة والمؤسسة الدينية في عمان. يعتقد بعضهم أن قبيلة المعشني وجهت بهذه الحادثة رسالة ضمنية تعبر عن ثقلها الاجتماعي في ظفار، خصوصاً مع تبنيهم شعار أنهم "خوال السلطان قابوس" (أخواله). فالارتباط بالمصاهرة مع الأسرة الحاكمة سندٌ إضافيٌ للقبيلة مع سند انشقاقها عن الجبهة في مفاوضاتها مع السلطة.
لم تكن القبائل تميل إلى الحراك السياسي في العقود الأخيرة على الأقل. ويمكن تفسير هذا التخوف السياسي من استقلالية القبيلة سابقاً، لكنه لا يتسق مع ما حدث فترة اعتصامات 2011، أي ما سمي بالربيع العماني زمنَ أحداث الربيع العربي، فقد أحجم شيوخ القبائل عن الحضور في المشهد. ولذلك أصبح ما حدث في ظفار تحولاً في دور القبيلة وحضورها في التعبير الشعبي عن رغبة التغيير، حتى وإن كانت المسألة تتعلق بحسم مواقيت العيد والمناسبات الدينية. اعتاد العمانيون على كثافة حضور شيوخ القبائل في الانتخابات البرلمانية لمجلس الشورى رغبةً في الحفاظ على مكانتهم الرمزية وضمان استمرار مصالحهم. لكن الأحداث الأخيرة في ظفار تشير إلى أن القبيلة صارت مؤثرةً في القضايا الاجتماعية والدينية، وهو تحولٌ في دور القبيلة وحضورها في الساحة السياسية والاجتماعية.
في نظام الدولة الحديثة يظل المسجد مؤسسةً اجتماعيةً ومرفقاً عاماً تملكه الدولة وتديره، ولا يمكن للشخصيات أن تتحدى إرادة الدولة لاستغلالها، وإلا ساد الاضطراب في المجتمع من أجل قضية ظنية فيها سعة فقهية كالأهلة. بيد أن ما يلفت الانتباه وجود التحالفات القبلية على ما نزعمه من سيادة القانون وقيم المواطنة.
ظهر الاضطراب الدلالي لمفاهيم الدولة والمواطنة في كتابات عُمانية مختلفة. منها ما ناقشه الكاتب سيف المعمري في مقاله "المواطنة الحاضنة للحياة" المنشور سنة 2015 في جريدة الرؤية، ومنها كتاب "المواطنة بين المنظور والتطبيق" المنشور في 2008 لإبراهيم الصبحي. في تعريف المواطنة يتكئ الكاتبان على معنى "الانتماء" بدل الاتكاء على منظومة الحقوق والواجبات. بينما كتب علي الرواحي كتابه "ماركس في مسقط" المنشور عام 2017 جاعلاً القبيلة جزءاً من بنية الامتيازات العمانية والتفاوت الطبقي الناتجة عن قرارات السلطة الحاكمة وتحالفاتها. وأشار الرواحي إلى ظاهرة الاحتكار والتحالفات التقليدية وزواج الصفقات والظاهرة القبلية والمناطقية، لنكون أمام تحالفات اقتصادية دينية تشكلت بسبب اصطفاء المؤسسة الرسمية شخصياتٍ دينيةً بعينها. وكذلك تحالفات اقتصادية قبلية تشكلت بسبب الاهتمام السياسي ببعض العائلات التي تنتمي إلى تجمعات قبلية كانت في الماضي مناهضة لفكرة الدولة الحديثة في سبيل إقامة حكم ديني "الإمامة الإباضية". كثير من الظواهر التي تتعارض مع قيم المواطنة والمساواة تنبع من الثقافة التي كانت جزءاً من السياسات العامة في التعامل مع المثقف الذي يروج لروايات السلطة. وبذلك تعزز مؤسساتُ الدولةِ مصالحَ الفئات بترسيخ دور القبيلة، مما يجعل انتهازية القبيلة والشغب الديني جزءاً من الثقافة السائدة في عمان. فالأمر يتجاوز وجود قبائل متحالفة مع السلطة وأخرى معادية، ليشمل أيضاً استعمال الدولة القبائلَ لتحقيق غاياتها.
لا يمكن الفصل بين القبيلة والسيادة الدينية في تاريخ عمان منذ العهود الإسلامية الأولى ونشأة الإمامة الإباضية. فقد شكلت القبيلة حتى العصر الحديث تهديداً كامناً ومباشراً لسلطة الدولة. كان مزج قيم القبيلة مع عقيدة الإمامة حاضراً كما هو الآن، فيهدد قيم المدنية والمواطنة وإن كانت الحالة الحديثة تعزز هذا الدور. فالقبيلة تحرّك القوى المناهضة للسلطة باسم الدين، وهو في جوهره صراع مصالح لكنه يظهر بصورة صراع ديني لتحقيق العدالة الدينية. فمثلاً كان قلق حكومة ماجد بن سعيد 1856-1870 من صالح بن علي الحارثي يعبر عن مناهضة "الرابطة الحكومية والجنسية" أو المواطنة، إذ كان السلطان يسعى إلى تأسيس قيم المساواة، لكن التنافس بين القبائل العربية أعاق ذلك، لأن كل قبيلة تسعى إلى السلطة منفردة. في عهد السلطان فيصل بن تركي 1888-1914 قرر الحارثي تشكيل قوة لاغتيال السلطان والسيطرة على مسقط في 1895 بحجة محاربة البغاة، لكنه كان صراعاً طبقياً متلبساً بالدين. تعارضت الرابطة الوطنية مع مصالح فئات عدة، وقد أشرت إلى ذلك في كتابي "تبرير السياسة بالدين" المنشور 2018. انقسمت القبائل إلى مناهضة للدولة باسم الإمامة وموالية لها، وهو انقسام مستمر اليوم في سياق المصالح السياسية، لكن السلطة استغلت الولاءات القبلية لصالحها. فالسلطان سعيد بن تيمور كان يدرك أهمية الولاءات القبلية في إحكام سيطرة الدولة، لذا تواصل مع شيوخ القبائل بعد وفاة إمام عمان في 1948 وعقد اتفاقات معهم، فضلاً عن اتفاقات خارجية لتوحيد الأراضي خصوصاً بعد اكتشاف النفط.
ولعل هذه النزعة الدينية في التاريخ العماني دفعت محمد رشيد رضا إلى كتابة يومياته عندما التقى السلطان فيصل بن تركي مستهلَّ العقد الثاني من القرن العشرين. فقد كتب في مجلة المنار 1913: "إنني لما كنتُ في ضيافة السيد فيصل منذ سنة ونصف تقريبا ورأيت حال حاضرته مسقط قلت له: إنني أتوقع أن ينصب قومك الإباضية إماما لهم ويخرجوا عليك باسم الدين، فأرى أن تجتهد في تلافي الأمر قبل وقوعه، وتتدارك الفتنة قبل اشتعال نارها، بأن تجمع كلمة قبائل عمان وتؤلف من شيوخهم مجلس شورى، وتجعل عاصمة المملكة في الجبل الأخضر، وتنظم أمور المالية، وتقيم العدل الشرعي في داخلية البلاد، ولا يضرك بعدها العجز عن بعض الأمور في حاضرة مسقط لمكان النفوذ الأجنبي فيها، وفصّلت له القول في ذلك تفصيلا. ولكنني فهمت منه أنه ليس لديه من الرجال من يستطيع القيام بهذه الأعمال، ومن الغريب أن ما توقعته وقع بعد سنة فقط".
استناداً إلى التاريخي والراهن في أحوال القبيلة في عمان لا نعتقد أنها من معيقات التحول إلى مفاهيم المواطنة وسيادة القانون. فمع الإقرار بالحمولة التاريخية والعاطفية في الانتماء إلى القبيلة إلا أنني أتفق مع الباحث الفلسطيني عزمي بشارة في كتابه "في المسألة العربية" الصادر سنة 2014، إذ يرى أن التعددية العشائرية أو القبلية يمكن أن تؤدي إلى وحدات اجتماعية ليست متسقة مع الديمقراطية، ولكنها مانعة أحياناً من تشكل نظام سياسي استبدادي. ويظل الإشكال في فرض التجانس العقَدي لا سيما الديني. فعندما يوجد دعم، كالذي ذكره الرواحي، لبعض التيارات الدينية الخاضعة للتوزيعات السكانية التاريخية والمعروفة بتأييد السلطة الدينية المتخيلة متمثلة في الإمامة، فإن القبيلة تحضر مجدداً حاملة لواء الدين كما حدث في قضية هلال عيد الأضحى الأخيرة بسبب التباينات المذهبية والقناعات التأويلية المتعددة.
إذن، ما زالت للقبيلة في عمان دورها الاجتماعي وقوتها التي تستمدها من تاريخ الولاءات. لقد حاولت الدولة في الخمسين سنة الماضية إعادة تشكيل دور القبيلة لتصبح جزءاً من النظام الاجتماعي مقابل الحصول على الولاء الوطني. فهل ستعيد الدولة النظر في كيفية توظيف دور القبيلة في المجتمع وعلاقتها بمفاهيم المواطنة وسيادة القانون والمؤسسات والمساواة فضلاً عن علاقتها بالدين.