استمع لهذه القصة
استبشر الليبيون بعفويّةِ الدبيبة الذي يزورهم في أحيائهم، ويدخلُ بيوتَهم ويأكلُ معهم البازين، طَبَقَهم الشعبي مِن عجينِ الشعير المطبوخِ، ويمرُّ بهم في الحدائق والأسواق. ويمدّ يدَه إلى المتخاصمين جميعاً، ويتنقّل من مدينةٍ إلى أُخرى مع آلةِ التصوير تُوثّق كلَّ لحظة. ولا يخجلُ من الخطأ في حديثه، ولا ينزعجُ من سخريةِ النّاس منه في مواقع التواصل الاجتماعي وإطلاقِ النكاتِ على لغتِه الغارقة في الشعبية.
أحبَّه ليبيّون كُثرٌ، واقتبَسوا من أقواله ألقاباً له. ومن ذلك لقبُ "الدَنْقَا" الذي يُطلَق على الغَبيّ، وأصلُه لقبٌ لآلةِ طبلٍ شعبيّةٍ، وَصَفَ به الدبيبةُ طفلاً كان يلعب، فصار الليبيون ينادون رئيسَ الوزراء به. ويبدو أنه فرِح بذلك فزاد إغراقاً في وصفِ مسؤوليه ووزرائه بألفاظٍ شعبيةٍ مثل "الكركوبة"، أي الرَجلِ القصير السمين الذي وَصَفَ به وزيرَ التعليم العالي عمران القيب. وكان عبد الحميد يُظهر سُرورَه بالزخم الشعبي حوله، فيدعو النّاسَ إلى حرية التعبير وعدم الخوف من الحِساب والعِقاب، فلا قداسةَ للأشخاص في الدولةِ التي جاءت بها الثورةُ الليبية. أدركَ ليبيون كُثرٌ رويداً رويداً أنّ عفويّةَ الدبيبة مدبَّرةٌ أرادَ داعموه إظهارَها، إذ يمكن للمرء قراءةُ منشوراتٍ على "فيسبوك" تسخرُ من عفوية الدبيبة المصطنَعة. وقد اعتمَدَ عبد الحميد على وليد اللافي، وزيرِ الدولة للاتصال والشؤون السياسية ورئيسِ مجلس إدارة قناة "سلام" التلفزية، لنقلِ تلك الصورةِ، فلَهُ خبرةٌ في الإعلام منذ تولّيه إدارةَ قناة "النبأ" الإخبارية التي أُنشئِت برعايةٍ قَطَريةٍ لتكون نسخةً ليبيةً من قناة الجزيرة، وكانت ذراعاً إعلامياً لجماعة الإخوان المسلمين في البلاد قبل أن يُغلِقها مسلّحون بالقوّة سنةَ 2016.
واعتمدَ الدبيبة على اللافي أيضاً في الدعاية لحكومتِه وإنجازاتِها وشعارِها "عودة الحياة"، الشعارِ الرسميِ لحكومة الوحدة الوطنية. فسَخّرَ وليد اللافي إمكانياته وخبرتَه الإعلاميةَ والأموالَ الليبيةَ في الدعاية للحكومة بوصفِها حكومةَ الأمن والأمان والبناء والتنمية والاستقرار، مستغِلاً وسائلَ التواصل الاجتماعي أحسنَ استغلال. فتحوّلَت العاصمةُ طرابلس على الشاشة بين ليلةٍ وضُحاها من مدينةٍ يخافُ المرءُ فيها على نفسِه إلى مدينةٍ يحُجُّ إليْها الفنّانون ومؤثّرو وسائل التواصل الاجتماعي والمشاهيرُ والإعلاميون وأمثالُهم، ضيوفاً على ليبيا ليُظهِروا للعالم ولليبيّين ما فعلَته حكومةُ عبد الحميد الدبيبة في مدّةٍ قصيرةٍ.
عَرف وليد اللافي من أين تؤكَلُ الكتفُ، فجاءَ بالإعلامية السعودية لجين عمران التي تُتابِعها الليبياتُ لافتتاح "المعرض الذهبي"، وألبسَتها السلطاتُ الليبيةُ الذهبَ والزيَّ الليبيَّ التقليديَّ، كما كان يَفعل سلاطينُ العربِ مع الشعراء وأهلِ الحظوة. واستضافت حكومةُ الوحدة عبيرَ الصغير، المؤثِّرةَ اللبنانية في عالم الطبخ على إنستغرام، ضيفَ شرفٍ في معرض ليبيا للغذاء سنةَ 2024 بعد أن ذاع صيتُها في ليبيا إثرَ إعدادِها وجباتٍ ليبيةً تقليدية. واستُضيف الإعلاميُ اللبنانيُ طوني خليفة وإعلاميون عربٌ آخَرون في "منتدى طرابلس للاتصال الحكومي"، وقد حاورَ طوني خليفةُ الدْبَيْبَةَ نفسَه في لقاءٍ مدّتُه ساعة. يُذكِّركَ بأساليبِ الحكومات العربية في استعمال الوجوه الإعلامية الشهيرة للدعاية لنفسها وإنجازاتها والطعن بمنافسيها لأنهم أصلُ البلاء.
ولم يتوقف الأمرُ على ذلك، فها هي الإعلاميةُ الجزائريةُ في قناة الجزيرة خديجة بن قنّة تصبح، مدرِكةً أو غير مدرِكةٍ، طرفاً في دعاية الدْبَيْبَة لنفسه ولحكومته. فقد حضرَت منتدى أيام طرابلس الإعلامية واستلمَت جائزةَ "السرايا الحمراء لصحافة السلام" عن مراسل الجزيرة وائل الدحدوح في ديسمبر 2023، وهي جائزةٌ لم تكن حكومةُ الوحدة الوطنية لتُسلِّمَها من غير الاستفادة من الحرب الإسرائيلية على غزّة، لتبرئة ذمّتِها من لقاءِ وزيرةِ الخارجية الموقوفة نجلاء المنقوش، التي أشعلَت الشارعَ الليبيَ بلقائها وزيرَ الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في روما في أغسطس من العام نفسه. ولم تكتفِ خديجةُ بالدعاية للدبيْبَة وحكومته بحضورها الحفلَ واستلامِها الجائزةَ عن وائل الدحدوح، بل استضافتْ الدبيبةَ في برنامجها "ذوو الشأن" على منصّة أثير للبودكاست. ولم تسألْه، عكسَ أعرافها الصحفية، أسئلةً محرِجةً أو ناقدةً. بل قد يُخيّلُ لمُشاهِد الحلقة والعارفِ بطبائعِ عبد الحميد أنّ الأسئلةَ والحوارَ كُتِبا مسبقاً واتُّفِقَ عليهما. ومع أنّ ما قاله رئيسُ الوزراء ضعيفٌ لغير المتتبِّع حالَتَه إلّا أنّه نجَح، عند المتابع الليبي، في جعل خديجة بن قنّة أداةً لما يريد قوله. وحتّى سؤالُ "التطبيع مع إسرائيل" الذي طرحَته عليه بدا مُلقَّناً لها. فبدا اللقاءُ كأنه براءةٌ للدبيبة ووزيرةِ خارجيته نجلاء المنقوش من لقائِها بإيلي كوهين. وقد أظهرَت تلك المقابلةُ مع خديجةَ بالذات زَيْفَ الادّعاء بعفوية الدْبَيْبة، إذ بدت أجوبتُه على أسئلتها بها دمثةً وجادّةً، عكسَ ما عُرِفَ عنه في خطاباته ولقاءاته الليبيين مواطنين أو مسؤولين أو لقاءاته مع بعضِ الشخصيات العالمية مثل رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني في يناير 2023. تتعدّد النماذجُ والأمثلةُ على توظيف حكومةِ الوحدةِ الوطنيةِ المشاهيرَ في العالم العربي لتعزيز صورة الحكومة المُخلِّصَةِ الشعبَ الليبيَّ الذي خذلَته كلُّ الحكومات المتتالية بعد 2011.
خلفَ كلِّ صورةٍ تلتقطُها آلاتُ التصوير للدعاية لعبد الحميد وحكومتِه يقبعُ واقعٌ مغايرٌ. فخَلفَ صورةِ حضورِه صلاةَ الجنازة في سبتمبر 2023 على أرواحِ ضحايا إعصارِ دانيال في مدينة درنة، ووَعْدِه بإعادة الحياة لها، تقبعُ المدينةُ في جُلِّها على ما هي عليه. وخلفَ صورِ وُعُودِه المتكرّرةِ للمواطن الليبي بصَونِ كرامته يقفُ آلافُ المواطنين الليبيين في طوابيرَ أمامَ المصارف لكي ينالوا حقَّهم. وخلفَ صورِ عبد الحميد مع الإعلاميين والصحفيين العَرب المشهورين واحتفاءِ وليد اللافي بحرّيةِ التعبير وحرّيةِ الصحافة وأهمّيةِ الإعلام في احتفالياتٍ تتكرّرُ كلَّ عامٍ يقبعُ الصحفيون الليبيون، مخطوفين أو مسجونين، وراء قضبان الجماعات الأمنية التابعة لحكومته، وذلك في تناقضٍ مع المنشور رقم 8 لسنة 2021، وهو من أوائل قرارات حكومة الوحدة، في حماية حرية التعبير. وكُلُّ ذلك، الصورةُ أو ما خَلْفَها، يُدَارُ بالأموال الليبية التي تضُخُّها الحكومةُ في الدعاية لنفسها.
لم تكن تلك المرّةَ الأولى التي تُسَخَّرُ فيها الأموالُ الليبيةُ وطاقاتُ الدولة للدعاية السياسية للحاكم، بل إن ما فَعَلَه عبدُ الحميد الدبيْبَة ليس إلا غيضاً من فيضِ دعايةٍ وأدواتِ تأثيرٍ على الرأيِ العامِّ سَبَقَه إليها حاكمان فَهِمَا دورَ الدعاية السياسية فهماً عميقاً ووظّفاه لخدمة أهدافهما، وهُما إيتالو بالبو، حاكمُ ليبيا الإيطاليُّ من 1933 إلى 1940، ومعمّرُ القذّافي الذي قد نَستَشِفُّ أن الدبيبةَ تتلمذَ على شعاراته وأسلوبه في الدعاية. يزخرُ تاريخُهما بخططٍ واعدةٍ وعملاقةٍ إلا أن جُلَّها باءَ بالفشل. فلم يبقَ منها إلا القصصُ وشواهدُ العمران والخُطَبُ والصورُ الدعائيةُ التي ساهمَت في تمجيدهما أو تصديرِ صورةٍ غير واقعيةٍ عن زمنيهما. مِثل الدبيْبةِ قَدّمَ بالبو والقذافي الأجنبيَّ في صفقاتِ الدعاية تلك على ابنِ البلد الليبي، أو الإيطاليِّ الليبي في حالة بالبو.
وأنا أقصّ عليكَ هُنَا نبأَ بالبو والقذّافي وغرامَهما بالدعاية كما أقصّ عليك نبأَ ما يفعله الحكّامُ الليبيون الآن في الشرق والغرب دعايةً لحُكمهم.
كانت قصةُ فوغت شرارةً أولى لتفكيري بالبحث عن الجهودِ التي بذلَها القذّافي للدعاية لفِكرِه وحياته ودولته الجماهيرية حتى أَصبحَ أشهرَ مِن نارٍ على عَلَمٍ، ولا يُقرَنُ اسمُ ليبيا إلّا بِاسمِه. فقد قال في خطابٍ وجّهَه إلى ثوّار ليبيا في فبراير 2011: "زمان كنت تقول ليبيا يقولون لك ليبيريا؟ لبنان؟ لا أحد يعرفها، اليوم تقول ليبيا يصيحون فيك: أوه، قذّافي" أيْ إن ليبيا كانت مجهولةً قبلَه، وهو من أتاها بالمجدِ. وهو مُحقٌّ في ذلك، ولو جزئياً، إذ أخبرَني بعضُ الأصدقاء الذين زاروا ليبيا ودُهشوا من تنوّعها الجغرافي وثرائها الثقافي بأن القذافي نجحَ في حجبِ صورة البلد كلّياً عن العالم حتى بات العالمُ لا يَرى منها سوى صورتِه.
شدّتني كلمةُ العقيد سنواتٍ، إذ تبدو ليبيا بلداً هامشياً غامضاً لا يكاد يظهر في الإعلام إلا مقروناً بغرائب القذافي ثم بالحرب حتى رَسَما وجهَ البلدِ عند العرب والعجم. ويبدو الليبيون مثلَ بلدِهم شعباً بلا ملامحَ ولا هُويّةٍ أو ثقافةٍ إلا ما خَلَعَه عليهم العقيدُ منذ السبعينيات حتى أُفولِ مجدِه ووصمِهم بالحربِ الأهلية. والفنُّ الليبيُ الذي خرجَ إلى العالم هو فنُّ العقيد. مثلَ الفنّانِ الراحلِ محمد حسن، صاحبِ لونِ النجعِ الذي رُوِّجَ له على حساب ألوانٍ فنّيةٍ أُخرى تزخرُ بها ليبيا. لو كتبَ المرءُ اسمَ ليبيا بأيّ لغةٍ على محرّكات البحث في الشبكة ستنهالُ عليه الأخبارُ والمقالاتُ قديمها وحديثها عن الأزمات السياسية والحرب والقذّافي. ربما لا يعود الأمرُ إلى سياسات وسائل الإعلام العالمية التي تبحث عن الأزمات والحروب وغير العادي فقط، بل إلى طبيعة المجتمع الليبي التي تفضِّل السترَ والانغلاقَ على الانفتاح والإفصاح، وهو أمرٌ استغلّته الحكوماتُ الليبية المتلاحقة التي ركّزَت في سياستها على الدعاية لنفسها بدلاً من البَلَد منذ عهدِ الحاكم الإيطالي إيتالو بالبو.
جاءَ الطيّارُ الإيطاليُّ إيتالو بالبو، قائدُ "القمصان السوداء" الذراعِ الشعبيةِ للحزبِ الإيطالي الفاشي، إلى ليبيا حاكماً. ومنذُ وطأَ أرضَ الشاطئِ الرابع، كما كان يسمّيها الإيطاليون، صافحَ الليبيين، وهو ما لم يفعله حاكمٌ إيطاليٌّ في ليبيا منذ استعمارها سنة 1911. بل أكلَ معهم وجالَسَهم على الأرض، ووعدَهم بإصلاحاتٍ واحترامِ ثقافتهم ودينهم، وآلةُ التصوير ترافقُه في كل مناسبة. تراهُ تارةً يصافِحُ أحدَ أعيانِ مدينةِ طرابلس وتارةً أُخرى يتحدث إلى صبيانٍ ليبيين أو يقف مع شيوخٍ ليبيين يقرؤون عليه بياناتِ المديح والشكر. فقد طمْأنَهم أنّه ما جاءَ ليَحكمَ إلّا بِهِم، وأن عهدَه سيكون عهدَ بناءِ الثقةِ بين الحكومة ومواطنيها العَرب المسلمين، وأنه سيسعى لينالوا حقوقَهم المدنية والوطنية فيصيروا مواطنين إيطاليين. تزامن ذلك مع خطّةٍ سريةٍ لزيادة أعداد المستوطنين الإيطاليين على عددِ سكّانِ ليبيا قبل 1950.
وبدأَ بالبو مع ما أُتيحَ له من استقرارٍ سياسيٍ وأمنيٍ، بعد سحقِ حركةِ المقاومة، في بناءِ البلادِ، فابتدَعَ عمارةً محليةً جديدةً، ورَصَفَ الطُرقات. واهتمَّت حكومتُه بآثارِ البلدِ ومواردِها، وحَثّت على السياحة العالمية إليه مستفيدةً من طبيعته وتاريخه وثقافته وهُويته. وصُمِّمَت من أجلِ ذلك بطاقاتٌ بريديةٌ ولوحاتٌ دعائيةٌ بديعةٌ تصوِّرُ معالمَ البلاد، فيها رسومٌ لسيّاحٍ يستمتعون بالطبيعة والثقافة المحلية، وأُنشِئت فنادقُ سياحيةٌ قربَ المواقع الأثرية المهمة وعلى طول الساحل والصحراء. وكانت الآلةُ الإعلاميةُ تدعو إلى شرقٍ خَلَقَته مخيّلةُ بالبو في حانات طرابلس ومراقصها وفنادقها لتجذبَ السيّاح الأوروبيين ليعيشوا التجربة الشرقية التي قرؤوا عنها كثيراً. فنادقُ شرقيّةٌ طرابلسيةُ الطابعِ والاسمِ، مثل "الحمراءِ" و"ودّان" و"المهاري"، تَستحضِرُ القاهرةَ والأندلسَ وترقصُ فيها الراقصاتُ الشرقيّات. وصُوِّرَت أفلامٌ سينمائيةٌ ووثائقيةٌ تدعو إلى المُستعمرَة جنّةً صحراويةً جنوباً، وجنّةً بحريةً في الشمال الغربي، وجنّةً خضراءَ في الشمال الشرقي للبلاد. والأهمُّ أن بالبو أشرَفَ على إعادة الحياة إلى "جائزة طرابلس الكبرى"، وهي سباقُ سياراتِ فورمولا سبقَ زمنَه، وكانت له حلبَةٌ في طرابلس قبل وصول بالبو، لكنّه حَوّلَ السباقَ إلى أحدِ أهمِّ السباقات في العالم في الثلاثينيات.
سَخّرَ بالبو قواهُ وخبرتَه وحنكتَه في تطوير حلبَة السباق في شُرْفَةِ المِلّاحَةِ بضاحية تاجوراء شرقَ العاصمة، وهي مكان مطار معيتيقة العسكري اليوم. فابتدعَ خريطةً مذهلةً للحلبة تمرُّ بواحات النخيل وأريافِ الأهالي. وسَمَّى السباقَ السنويَ "جائزة طرابلس الكُبرى"، ورَبَطَ الجائزةَ بحركةٍ ذكيةٍ بلعبة "اليانصيب" لتوفير مواردَ ماليةٍ للجائزة والحكومة، فوُلِدَت معه جائزةُ "لتّوريا دي تريبولي" أي: يانصيب طرابلس. ومنذ 1933 جذبَت جائزةُ طرابلس الكُبرى شركاتٍ عالميةً، مثل ألفا روميو ومرسيدس بنز ومازيراتي لتجرّب سياراتٍ جديدةً أوّلَ مرّةٍ في الحلبة. وقاد تلك السيّاراتِ سائقون محترفون ومشهورون أمامَ آلةِ التصوير والصحفِ الممجِّدة ذلكَ الرجلَ المعجزةَ الذي طوّعَ مزاجَ الليبيين الحادّ.
ساهمَت الجائزةُ سنواتٍ قبل الحرب العالمية الثانية في إنعاشِ حركةِ السياحة في البلاد، فصارت ليبيا وهي البلدُ الهامشيُ وصندوقُ الرملِ، كما يصفُها المتعصِّبون في الحزب الفاشي، بلداً قد يُدِرُّ المالَ على الحكومة الإيطالية.
لم ينسَ بالبو في خضّمِ ذلك عصبيتَه الفاشيةَ فدعا إليها ورسّخَها بتشجيع الشباب الليبيين على الالتحاقِ بمنظّماتها الشبابية والاستعداد للالتحاقِ بالأمّةِ الإيطالية. ويتّضحُ هذا أيضاً في ترتيب زيارةِ زعيم الأمّة الإيطالية بينيتّو موسّوليني عام 1937 فكانت زيارةً تاريخيةً دُرِسَت بعنايةٍ، وصاحَبَها زخمٌ إعلاميٌ وشعبيٌ، فأنشدَ الشعراءُ في مديحه ملكاً وحاكماً على ليبيا، وصافَحَه مفتي البلاد وفقهاؤها، وهلّلَ له الزعماءُ والشيوخُ، وسَلَّمَته قبائلُ ليبيةٌ سيفاً سمّته الدعايةُ الإيطاليةُ "سيفَ الإسلام". وُثِّقَ الأمرُ في فيلمٍ يُظهر موسّوليني على حصانٍ ليبيٍ يحتشدُ حوله الشيوخُ والزعماء. وأُرِيدَ لكلّ هذا أن يبدو عفوياً لا جزءاً من الدعاية الإيطالية بأنّ الشعب الليبي يحبُّ الفاشيةَ وزعيمَها وراضٍ عنهما.
وفي عهدِ بالبو أيضاً في مارس 1938 أَلحقَت إيطاليا ليبيا بها رسمياً وأَلغَت المستعمَرة. ونشَرَت بياناً بالعربية والإيطالية يوضِّح عملَ الآلة الإعلامية في عهده، جاء فيه: "أيّها الإيطاليون الملكيون ويا أيها الإيطاليون الليبيون المسلمون، قال الزعيمُ لكم [أي موسّوليني] من ساحة سراية طرابلس أنّ ولايات ليبيا الأربع . . . صارت جزءاً من الأمّة الإيطالية ولقد زالت المستعمَرةُ القديمةُ . . . افرحوا وأبشِروا بهذه الحادثة العظيمة، إذ يبتدئ منها دورُ حضارةٍ جديدٌ. وتهيّؤوا بإحياءِ إيمانكم وبحماسةٍ وشهامةٍ للقيام بما ستقتضيه ليبيا في الغد من سامي المهمات".
سنواتٌ سبعٌ من الحُكم جعلت بالبو أسطورةً في مخيّلةِ الليبيين، وبانيَ ليبيا الحديثة، والرجلَ الذي يقارِنُ به الليبيون حكّامَهم الذين خَلَفوه. وما زال حتى اليوم ممدوحاً بين ليبيين كُثر. كل ذلك بفضل الدعاية لوجهه المتسامح والمستنير. فعند موته رثاهُ الشاعرُ الليبيُ أحمد الشارف الذي مدح موسّوليني قبل ذلك، قائلاً:
إِذَا مَاتَ بالبو لَم تَمُتْ أَعْمَالُه … يَحْيَا العَظِيمُ وَهْوَ فِي القَبْر مَدْفُونُ
بموتِ بالبو ثبتَ إخفاقُ مشروعِه التحديثي. فلم يكن مشروعَ دولةٍ أو مؤسسةٍ بل مشروعاً شخصياً أرادَ به أن يُرفِّهَ عن نفسه في منفاه ويدعوَ به إلى فلسفته في الحكم. ويُثبتُ حُجّتي هذه توقّفُ جائزة طرابلس العالمية سنةَ 1940 فورَ موتِ الرجلِ ودخولِ إيطاليا حلفَ المحور مع ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. حاولَ السائقون الهواةُ في مرحلة الاستقلال سنة 1951 إعادةَ الجائزة لكن باؤوا بالفشل. كانت جائزةُ طرابلس العالمية جائزةَ بالبو، ومشروعُ تحويل السياحة إلى موردٍ أساسي من مواردِ الأرض الليبية مشروعَ بالبو، وصبّت كلُّها في صالح الدعاية السياسية للرجل في ليبيا وإيطاليا وجهاً حضارياً للفاشية، وجهاً يحبّ الفنَّ والعمارةَ والسيّاراتِ والسياحةَ ويحبُّ المُستعمَرةَ الليبيةَ أيضاً كما يحبُّ سكّانَها.
يروي مصطفى رجب يونس، أستاذُ التاريخ بجامعة طرابلس الليبية، في كتابه "المنفى الذهبي بالبو في ليبيا أضواء وظلال" سيرةَ بالبو وسياستَه في التعامل مع الأهالي الليبيين. وهي سياسةٌ مبنيّةٌ على شيءٍ من الخداع أرادَ بها تسهيلَ حركة الاستيطان الإيطاليةِ وتسريعَها عكسَ ما يظنُّ مُحِبّو الرجلِ من الليبيين من أنّها سياسةُ اعترافٍ بهم وبحقّهم في أرضهم. ويسأل الأستاذُ مصطفى في كتابه عن مدى نجاحِ بالبو في إقناعِ الليبيين بحسنِ نيّته وقدرتِه على رسمِ صورةٍ مغايرةٍ للمُستعمِر التقليديِّ الذي يقتلُ ويُشرّد ويسعى إلى مسحِ الهُوية الثقافية للشعبِ المُستَعمَر، لكنّه يكشفُ أيضاً عن اعترافٍ ليبيٍّ بأنّ ليبيا خبا ذكرُها بعد موتِ الرجل. فلَم يستطِع رجالاتُ الاستقلال الاستفادةَ من المؤسّسات التي أنشأها، إذ غَطَّت الرمالُ معظمَها حتّى سنة 1963 عندما أَنتجَت صحراءُ المملكة الليبية أَوَّلَ برميلِ نفط.
لَم تتناسَب شخصيةُ إدريس السنوسي مع فكرةِ الدعاية، وقد انعكسَ هذا الأمرُ على مسؤوليه. فقد واجهَت الدولةُ الليبيةُ بصمتٍ صوفيٍّ اتهاماتِ وسائلِ الإعلام المصرية التابعةِ لجمال عبد النّاصر ضدّ الملكِ وحكومتِه بالسماحِ للطائرات البريطانية بالانطلاق من قواعدها في ليبيا لضربِ مصر في 1956، بما عُرفَ بالعدوان الثلاثي على مصر. وقد سمحَت شخصيةُ إدريس السنوسي لشعبية عبد النّاصر بالنفاذ إلى قلوبِ الشباب الليبيين، فصاروا يَعرفون صوتَ عبد الناصر أكثرَ من صوتِ مَلِكِهم ويحفظون شعاراته أكثرَ من حفظِهم خُطَبَ إدريس السنوسي القليلةِ ويَحفلون بتفاصيل حياته أكثرَ مما يَحفلون بحياة مَلِكِهم. كان عبد النّاصر يصلُ إلى كلّ بيتٍ ليبيٍ شرقاً وغرباً وجنوباً. وفي الصحراءِ الليبية في مدينةِ سبها، كان يَسمعه بالمذياع شابٌ ليبيٌ اسمُه معمّر بومنيار من قبائل القذَاذِفَة، ويتشرّبُ خطاباته وأسلوبَه في الحديث وإيمانه وشعاراته، ويكيدُ صحبةَ رفاقٍ له للثورة على الملكِ الضعيفِ، وتُسقِط الدعايةُ والإعلامُ الملكَ فعلاً في 1969.
لَم ينتهِ حُكمُ الملك إدريس السنوسي بانقلابٍ عسكريٍ تقليدي. فقد كان بإمكانِ الجيش الليبي السيطرةُ على الوضع لأنّ قادةَ الانقلاب كانوا شباباً وضبّاطاً صغاراً غير معروفين، ويَسهلُ سحقُهم لو عَلموا بتحرّكِهم قبل أن يعلمَ الشعبُ، فالإذاعةُ هي التي أسقَطتْ إدريسَ السنوسيَّ. أو بالأحرى أنجحَ كلٌّ من الدعاية والإعلام حركةَ الضبّاطِ الوحدويين الأحرار التي قادها الملازمُ معمّر القذّافي صبيحةَ يوم الاثنين الفاتح من سبتمبر 1969 بأثيرِ الإذاعة الليبية في مقرِّها ببنغازي عندما صدَحَ بالبيان الأوّلِ لثورة الفاتح مبشِّراً الشعبَ الليبيَّ بالثورة وبدءِ عصرٍ جديدٍ، إذ نادى فيهم قائلاً: "أيّها الشعب الليبي العظيم، تنفيذاً لإرادتك الحرّة وتحقيقاً لأمانيك الغالية، واستجابةً صادقةً لندائك المتكرّر الذي يطالب بالتغيير والتطهير ويحثُّ على العمل والمبادَرة ويحرّض على الثورة والانقضاض، قامت قواتُك المسلّحة بالإطاحة بالنظام الرجعي المتخلف المتعفن الذي أزكمت رائحتُه النتنةُ الأنوفَ".
كان الشابُّ الملازِمُ معمّر بومنيار القذّافي ذو السبعة والعشرين ربيعاً متبصِّراً أهميّةَ المرحلةِ وقادراً على التفاعل معها. جاءَ ليحكُمَ، فكان عليْه التغلّبُ على كلّ العراقيل التي تواجهه من انتمائه للهامش، إلى مَن يملكون أمرَ البلاد من وزراءَ وعساكرَ يفوقونه رتبةً وخبرة. وكان عليه أن يعرّجَ بعد ذلك على شيوخ القبائل والمسؤولين الأجانب أصحاب المصلحة في البلاد، وحُتِّمَ عليه التصادمُ مع الصحفيين والإعلاميين والتخلّصُ من رفاقه الثوّار. وكانَ على الملازم الشاب أن يبسطَ سيطرتَه على كلّ هؤلاء وآخَرين غيرهم ليتمكّنَ من حكمِ البلاد فوجَدَ ضالّتَه في الخُطَب الحماسيّة المتفاعلة مع الجماهير وفي الدعاية.
أتت قراراتُ قُوّاد الجمهورية العربية الليبية (1969-1977) الأولى، وعلى رأسِهم القذافي بالدعاية لحكمهم. استمالوا جماهيرَ الشعب الليبي والشعوب العربية، فطُرِدتَ القواعدُ الأمريكيةُ والإنجليزيةُ من البلاد، وأُجْلِيَ من تبقَّى مِنَ الإيطاليين، وفُرضَ على شاربي الخمر والعاملين بالدعارة الحدُّ الإسلاميُ من جَلدٍ وتعزيرٍ، وأُمِّمَت الشركاتُ النفطية، والتحقَت ليبيا باتحادِ الجمهوريات العربية بينَ سوريا ومصر وموّلت الجمهوريةُ الوليدةُ دولَ الاتحاد لا سيّما مصر. كلُّ ذلك في السنوات الأربع الأولى من حكمِ مجلس قيادة ثورة الفاتح. وكان للقذّافي نصيب الأسد في الدعاية، فقد كان منفتحاً على وسائل الإعلام وصريحاً و"عفوياً". وأُنتِجَت في تلك الفترة أفلامٌ وثائقيةٌ عدّةٌ عن الثورة، أذكرُ أنّ أحدَها صَوّرَ تفاصيلَ حياة القذافي الشخصية من الاستيقاظ والصلاة والإفطار وقيادة سيارته إلى العمل، وأظهرَه رجلاً عفوياً من الشعب. ونُشِرَ أوّلُ كتابٍ عنه "القذّافي رسول الصحراء" سنةَ 1974 للكاتبة الإيطالية ميريلا بيانكو، تحدّثت فيه عن الظروفِ التي جعلَت الرجلَ قائداً للأمّة الليبية، وجَمعَت شهاداتٍ ولقاءاتٍ معه شخصياً ومع رفاقه وأفرادِ عائلته، وكانت اللقاءات تُظهِرُ القذافي مَهديّاً منتظَراً. وكانت رمزيّةُ جنسيةِ الكاتبةِ مهمّةً للعقيد، لأنها اعترافٌ ضمنيٌّ من المستعمِرِ القديم بزعامتِه المُنتَظَرة.
بدأَت الخلافاتُ والتحديات بين رفاق الثورة سنةَ 1973، وتبرّمَت الصحافةُ الحُرّةُ في البلاد من إمساكِ المجلس الحُكمَ، وتأخُّرِه في تسليم السلطة إلى الشعب كما وعَد. ضغَطَ بعضُ رفاق القذّافي عليه ليسلّمَ السلطةَ، فوعدَهم بالاستقالة. وفي 15 أبريل من السنة نفسها، وفي يومِ المولدِ النبوي بمدينة زوارة غرب طرابلس، خَطَبَ القذّافي بالجماهير الليبية، وكان من المقرّر أن يعلِن استقالتَه من رئاسةِ الجمهورية ومجلسِ قيادة الثورة، لكنه أعلَنَ بدلاً من ذلك الثورةَ الشعبيةَ المعروفةَ بالثورة الثقافية أو "النقاط الخمس": تعطيل القوانين المعمول بها، وإعلان الثورة الإدارية، والثورة الشعبية، والثقافية، والقضاء على الحزبيين وأعداء الثورة.
حَرقَت جماهيرُ القذّافي سجّلاتٍ للدولة في المدن الليبية بعد الخطاب، واستولت على مقرّاتٍ رسميةٍ، واستهدَفَت مقرّاتِ الصحفِ الحرّة التي مُنِعَت بعد ذلك وأصبحَت مقرّاتٍ للصحف والجرائد الرسمية تتبع القذّافي وجماعتَه. استحوذَ معمّر على وسائل الإعلام والدعاية، ولَم يَنْسَ أن يموِّلَ وسائلَ إعلامٍ في العالم العربي كلبنان ومصر، فلم يكن هدفُه البقاءَ حاكماً وطنياً لليبيا ووَضَع العالمَ العربيَ أولاً نصبَ عينيه.
شهدَت ليبيا سنةَ 1975 ميلادَ الكتاب الأخضَر والفكرَ الجماهيريَ الذي كان يدعو إليه العقيدُ قبل ذلك في خُطَبه. وآمَنَ القذّافي بأنّ الكتابَ الأخضرَ أو ما سيسمّيه النظرية العالمية الثالثة، بعد الرأسمالية والشيوعية، هو الخلاصُ النهائيُ للبشرية جمعاءَ لا لليبيا التي ستكون مختبَراً لتطبيقِ أفكارِ هذا الكتاب. وبعد إعلان قيام سلطة الشعب في الثاني من مارس 1977، سعَى العقيد إلى الدعاية العالمية لنظريته، فسخَّرَ وأتباعُه أموالَ النفط في ترجمةِ الكتابِ إلى اللغات الحيّةِ جميعِها، واستكتَبَ الكتّابَ الليبيين والعربَ للكتابةِ عنه والدعايةِ له في وسائل الإعلام، ونشرَ الثقافةَ وأَنشأَ المركزَ العالميَ لدراساتِ وأبحاثِ الكتاب الأخضر. ولكن يبقى مِن أغربِ ما فعله المحيطون به هو إنتاجُ سلسلةِ أغانٍ ثوريةٍ وحماسيّةٍ وفكريةٍ باللغات المالطية والإنجليزية والإيطالية في محطّات الإذاعة المالطية.
ومع هذا الجوّ الثوريّ والاشتراكيّ الذي عِشنا فيه لَم أُدرِك قبلَ 2011 أنّ القذّافي كان يحاول الوصولَ إلى العالم الآخَر فلَم تعُدْ ليبيا تَسَعُ مجدَه وطموحاتِه. وقد زادتْ معرفتي بتلك المحاولات مع نضوجي الشخصي وإعادةِ تأويلِ ما كان يفعلُه العقيدُ وتحليلُه منذ انفرادِه بالسلطة وتحييده مجلسَ قيادة الثورة وحركةَ الضبّاط الوحدويين الأحرار. وقد عثرتُ كلَّ عامٍ على غرائب دعايات العقيد العالمية لأطروحاته. كانت آخرُها اتفاقيةُ صوت الصداقة والتضامن مع مالطا الموقّعةُ في يونيو سنة 1975 والتي أنتَجَت سلاسلَ إصداراتٍ موسيقيةٍ باللغات المالطية والإنجليزية والإيطالية عناوينها "الجماهيرية" و"السماوات الخضر" و"حقبة الشعب" وعناوينُ ثوريةٌ أُخرى غنّاها فنّانون مالطيون نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، من أمثال بايزو وريناتو ميكالّف وماري روز مالّيا. وغُنِّيَت تلك الأغاني بأساليبَ موسيقيةٍ غربيةٍ حارَبَها القذّافي وأتباعُه في ليبيا، مثل الفَنْك والروك والبوب، إذ هُمِّشَ فنانّو تلك الأنواع في البلد لأنها نوعٌ من الاستعمار الثقافي.
لم تتوقّف الجماهيريةُ عند إنتاج الأغاني الحماسيّة فقط، بل استضافت شعراءَ ومثقّفين عرباً ودوليين في ندواتٍ وحفلاتٍ، وكانت كذلك ملجأَ بعضِهم من أنظمتهم كالشاعر العراقي مظفّر النوّاب الذي، ولسخرية الأقدار، جاءَ هارباً من صدّام حسين إلى القذّافي الذي يسجنُ الشعراءَ الليبيين. وَظّفَ القذّافي مظفّرَ النوّاب مراراً بدعوى أنّ سلطةَ الشعب جنّةُ الشعراءِ على الأرضِ، فكان الرجلان يسُبّان الحكامَ العربَ كُلٌّ بأسلوبه. وكانت ليبيا في تلك الفترة مفازةً لأدعياءِ الأصلِ الليبيِ، أمثالِ الشاعرِ السودانيِ الراحلِ محمد الفيتوري، الذي اتّخَذه القذّافي شاعراً في خيمته، فاستعملَ قصائدَه في المناسباتِ الوطنية كمناسبةِ "أصبحَ الصبحُ" سنةَ 1988 عندما حرّرَ القذّافي السجناءَ السياسيين من شعراءَ ومفكّرين وكتّابٍ ومثقّفين سَجَنَهم هو نفسُه في السبعينيات.
واستَقطَب القذافي شخصياتٍ رياضيةً. مثل نجم الملاكمة العالمي محمّد علي كلاي سنة 1974، واستضافت الجماهيريةُ نجمَ الكرة العالمي دييغو أرماندو مارادونا سنة 1999 وألبسَه منظّمو الزيارة الزيَّ الليبيَّ التقليديَّ، قبل أن يُلْبِسَ الأميرُ القطريُ تميمُ بن حمد آل ثاني اللاعبَ ليونيل ميسّي "البشت" بعقود. ومَوّلَ ابنُ العقيد، الساعدي معمّر القذّافي، فريقَ الكرةِ الإيطالي "يوفينتوس" بدايةَ الألفية. وقد يبدو من هذا أنّ الأمرَ نابعٌ من اهتمام جماهيرية العقيد بالرياضة وسَعيِها إلى الاستثمار فيها كما يَفعلُ شيوخُ الخليج اليومَ، فالعقيدُ يظهرُ في أشرطةٍ وثائقيةٍ وصورٍ يلعبُ الكرةَ مع أبنائه، إلا أنّ الجماهيريةَ مَنعَت رياضةَ الملاكَمة سنواتٍ بوصفِها رياضةً غربيةً عنيفة، وهَمّشَت رياضاتٍ أُخرى، أهمّها كرة القدم وحاربَت نجومَها، فمنَعت كتابةَ أسمائهم وحَظَرَت تداولَ أساميهم في الملعب، فالرياضة في فكرِ العقيد "نشاطٌ جماعيٌ يجبُ أن نمارسَه لا أن نتفرّجَ عليه"، كما وردَ في الكتاب الأخضر.
واستعملَ العقيدُ الرياضةَ للدعاية إلى أفكاره وأطروحته العالمية أيضاً. ومن ذلك أنّه مَوَّلَ ناديَ "هوكي" ألمانيّاً اسمُه "إي سي دي أزرلون" سنة 1987، وأنقذَه من الإفلاس بضخِّ مليون دولار تقريباً في ميزانيته، بشرطٍ واحدٍ، أن يَلبسَ فريقُه غلالةً عليها غلافُ الترجمة الألمانية للكتابِ الأخضر.
يكثرُ الحديثُ عمّا فعلَه القذّافي في مجال الدعاية لنفسه ونظامه الجماهيري وإهمالِه الدعايةَ لليبيا وطناً يُمكن الاستثمارُ فيه. فمِن الشعراءِ العَربِ إلى الرياضيين العالميين إلى جميلاتِ العالم اللائي استضافهنّ في خيمته في احتفالية "مس نت وورلد" سنة 2002. يُثقِلُ ذلك حملَ الذاكِر والمتفكِّر، فحُكّامُ ليبيا منذ بالبو مروراً بالعقيد إلى عبد الحميد الدبيْبة اعتمَدوا على الدعاية والإعلام، وفهِموا أنّ التسويقَ جزءٌ مهمٌّ للبقاء على الكرسي مهما كانت قيمةُ ما يُسوَّقُ له. وقد أفلَحوا في ذلك فسَلبوا ألبابَ النّاس وسيطَروا على أفكارهم. ولم يكن العقيدُ أوّلَ مَن يقدّم الأجنبيَ والعربيَ على الليبي وليس آخِرَ من يفعلُ ذلك، فحكومة عبد الحميد الدْبَيْبة استوردَت عشراتِ المؤثّرين والإعلاميين من الدول العربية بآلاف الدولارات ولم تأبَه يوماً بنظرائهم الليبيين، بل همَّشَتهم، وحَبَسَت الأجهزةُ الأمنيةُ التابعةُ للحكومة بعضَهم، كاعتقال المصوّر سليم الشبل لمشاركته في احتجاجٍ على حكومة الدبيبة، وخطفِ المصور الصحفي صدام الساكت أثناء تغطيته وقفةً احتجاجيةً لمهاجرين غير قانونيين.
ومِن ذلك أيضاً اختطافُ الصحفيِ أحمد السنوسي، مديرِ صحيفة صدى الإخبارية، يومَ الخميس الحادي عشر من يوليو 2024، بعد أن نشَرَ وثائقَ تورّط وزير اقتصاد الدْبَيْبَة محمد الحويج في الفساد. وقد اعتاد أحمد في برنامجه "فلوسنا" على قناة الوسط الليبية، والتي مقرّها تونس، أن يتناول قضايا الفساد والقضايا الاقتصادية في ليبيا. وقد خرجَ قبل خطفِه في فيديو يوثِّقُ فيه تهديدَ وزيرٍ له عن طريق الضغطِ عليه عبر جهاز الأمن الداخلي، اليدِ الضاربةِ للحكومة الليبية ضدّ الصحفيين وكلِّ من يقول لا. وهذا على عكسِ ما تدّعيه حكومةُ الوحدة الوطنية في المنشور رقم 8 لسنة 2021 الذي أَحْيَت به اليومَ العالميَ لحرية الصحافة في مايو من العامِ نفسِه، والذي يقضي بحقِّ الجميع في انتقاد الحكومة وحمايةِ رئيس الحكومة نفسه لهذا الحقّ ويَمنعُ "اعتقال أيّ صحفيٍ أو استخدام العنف معه أثناء تأدية مهامّه الصحفية". وهذه سياسةٌ استخدمَها من سبقَ الدبيْبَة وحكومته، فالقذّافي نفسه أصدرَ إعلاناً عالمياً لحقوق الإنسان سمّاها الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان سنة 1988 ووضعَ حريةَ التعبير ضمن تلك الحقوق، مع أنّ لجانَه الثوريةَ نكّلَت بالصحفيين. وما حادثةُ الصحفيّ ضيف الغزال ببعيدةٍ عنّا، فقد اغتيل سنة 2005 وقُطِّعَت أصابعُ يديه فقط لأنّهما كتبتا عن الفساد، لتُظهِرَ فشَلَ كلِّ ما يدّعيه الحكّامُ الليبيون عن أنفسهم.
وقد تعلّمَ الفرقاءُ السياسيون الدرسَ من الدبيبة بأنّ التسويقَ للإنجاز أهمُّ من الإنجاز نفسه. فانتقلَ خليفة حفتر من الحرب العسكرية حتّى حينٍ إلى الحرب الدعائية، وانتهَجَ أتباعُه نهجَ عبد الحميد في الدعاية لحُكمِه، فاستضاف هو أيضاً الرياضيين والمؤثّرين العَربَ والعالميين. وقد استضاف نجمَ الملاكمة العالمي مايك تايسون مارس 2024 لحضور مباراة ملاكمةٍ في مدينة بنغازي، وأصبحَ حفتر يصوِّرُ جولاتِه داخلَ بنغازي ومتابعاتِه، مثل الدبيبة، آخِرَ أعمال الصيانة والتطوير في المدينة ويوثّقُها. عكسَ الدبيبة والقذّافي، يفتقر حفتر إلى "الشخصية الشعبية" الحاضرة في وجدان النّاس، على محاولاتِ أتباعه تمجيدَه كما مجّدَ أتباعُ القذّافي العقيدَ، فترى صورَ حفتر في كلِّ مكانٍ ببنغازي وترى أحياءَ وشوارعَ بعد الانتهاء من الصيانة تُسمّى باسم "المُشير" رُتبَةِ الرجلِ التي خلعَها على نفسه. لكن ذلك لم يساعد في الدعاية للرجل، ربّما لأنه لا يخطبُ في الناس ولا يتكلّم معهم، وإن خطَب فخُطبةٌ عسكريةٌ جافة، وهو لا يختلطُ بعموم النّاس ولا يتحدّث لغتَهم ولا يَسمحُ لنفسه بالانزلاق إلى "العفوية السياسية" كما فعلَ القذّافي ويفعلُ الدبيبة. لم يتحوّل حفتر حتى اليوم إلى رجلٍ ليبيٍ عاديٍ، بل أبقى على صرامةِ اللباس العسكري مع تَكرارِ ارتدائه مؤخّراً البدلةَ الإفرنجية.
تولَّعَ حكّام ليبيا الحديثةِ الأوّلين والآخِرين بالدعاية لأنفسهم وحكمهم وأفكارهم وإنجازاتهم على حسابِ البَلدِ وأبناءِ البلد، مما يكشفُ عن أسلوبٍ قديمٍ في الحُكم يستند إلى جعلِ الحاكم أسطورةً ضخمة يُنسَب لها كلُّ شيءٍ. وهذا يدلّ على ألّا أحدَ ممّن حكمَ البلاد استعمَلَ الحكمَ أداةً لخدمة العباد، بل كان الحكمُ وما زال غايةً لا وسيلةً، ومن ضرورات استمراره ظهورُ الحاكم بمظهرِ قريبٍ من محكوميه. فعمومُ الليبيين ونظراً لفطرتهم البدوية لا يحبّون الفروقاتِ الطبقيةَ، فلا مكانَ في اللهجة الليبية لمثل هذه التعبيرات. بل تُعَدُّ بعضُ التعبيرات إهانةً مثل "سيّد" الذي يستخدمه الليبيون عند الغضبِ من أحدِهم، ومن فَهِمَ مِن الحكّامِ هذه النظرةَ البدويةَ إلى العالم وعلاقة الحاكم والمحكوم سيحظى بقلوب النّاس سريعاً. بالبو مثلاً تجرّدَ من العلاقة التقليدية بين المُستَعمِر والمُستَعمَر وجلسَ على الأرض مع شيوخ البلاد وأكلَ معهم. والقذّافي مضى إلى النهاية في التشبّث بشخصيته الليبية البدوية، على طموحاته العالمية الكبيرة، فاصطحبَ معه خيمتَه إلى نيويورك في لقاءِ الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2010. أمّا الدبيبة فذهبَ به التماهي مع مواطنيه إلى الحديثِ أحياناً بمستوىً أقلّ بكثيرٍ من المتوسّط فينطقُ بما يسمّيه المصريون "الإفّيهات" أو الطرائف الشعبية. واستخدَم الحاكمُ الليبيُ الناجحُ وسائلَ الإعلانِ والدعاية المتاحة أمامه لبناءِ مجدِه.
لم يَنْسَ حكّامُ ليبيا اليومَ أو الأمسَ الوصفةَ السحريةَ لضربِ الأصواتِ المعارِضةِ بشراءِ ذِممِ أبناء البلد، فهُمُ اليومَ يُجنِّدون الجيوشَ الإلكترونية في وسائل التواصل الاجتماعي ويزرعونها بين الليبيين رجالاً ونساءً ويوجِّهونهم خدمةً لمصالحهم، إذ لا يمكنهم استعمالُ الأجنبي في موقفٍ مثل هذا، فيوظِّفون صحفيين وإعلاميين وفنّانين ومؤثّرين ومدوّنين لضربِ خصومهم السياسيين والمعارضين أو زرعِ الفتنةِ والانشقاق عند أي حراكٍ شعبيٍ معارضٍ أو حتّى لتبرئة مسؤوليتهم وذممهم عند الأزمات. مثلما حدَثَ عند ضربِ إعصار دانيال مدينة درنة شرق ليبيا في سبتمبر 2023، إذ هُرِعَ جميعُهم إلى الظهورِ مظهَرَ المُخلِّصِ وإلقاءِ اللومِ على الخصوم ووَظَّفوا الموالينَ لهم خدمةً لصورِهم أمام الشعب، وكان الإعلامُ التقليديُ منه والحديثُ خادماً مطيعاً وحليفاً لهم للتحكم بالجماهير.
في لقاءاتي الكثيرة بكتّابٍ عربٍ سردوا لي عن محاولاتِ النظام الليبي أيامَ القذّافي استقطابَهم. بعضُهم جَمَعَ ثروةً من العقيد، ثم تنكّروا له وسَخِروا منه ومن أفكاره، وبعضُ رجالات الصحافة العرب فعلوا ذلك أيضاً وكثيرٌ من الفنانين والفنانات العرب. كان أكبرُ ما يؤلمُني أن أسمعَ تلك القصص وأقارنَها بما فعلَه العقيدُ ونظامُه بأقرانهم الليبيين، الذين مَن نجا منهم مِن المساءلة والحبس أو القتل لم يَنجُ من التهميش، وأسأل نفسي دائماً عند سماعي تلك القصص، ما ضَرَّ القذافي لو شَجَّعَ الليبيين ودَعَمَهم؟ هل يرى الحاكمُ الليبيُ على مَرِّ العصور تَمَيُّزَ الليبيِّ ضرراً شخصياً عليه؟ ربما على الحاكم أن يتعلّم أنّ الإنجاز الحقيقيَّ والدعايةَ الحقيقيةَ هما ما يَبقيان في الأرض. فبالبو عاشَ في أذهانِ الليبيين وقلوبهم ببنائه وسط مدينة طرابلس، ونسيَ النّاسُ الدعايةَ التي صَرَفَها على سباقات السيارات والسياحة كما نَسِيَ جُلُّهم سيف الإسلام الذي تسلّمَه موسّوليني. لكنّ الحاكمَ الليبيَ اليوم يستخدمُ إعادةَ البناء – أو عودة الحياة كما تسمّيها حكومةُ الوحدة الوطنية – وسيلةً للسرقةِ والنهب والدعاية لإنجازاتٍ صغيرةٍ، مثل إعادة صيانة حديقةٍ عامّةٍ أو ملعبٍ طالَه الإهمالُ ومشاريعَ صغيرةٍ ستموت بعد سنواتٍ قليلةٍ عندما تأتي حكومةٌ أُخرى تستبدلها. ويُنفق أضعاف هذا على حفلاتٍ ومهرجاناتٍ وأغانٍ لا طائلَ منها. لَم يدرك الحاكمُ الليبيُ حتى اليوم بأنّ أقربَ سبيلٍ للدعاية إلى نفسه هو الاستثمارُ في ليبيا وطناً، والاستثمارُ في الثقافة والهُويةِ الليبيةِ والإنسانِ الليبيِ، ابنِ البلدِ الذي تقومُ به الدولةُ.