الخروج على "مشروع سيناء": تفاصيل المحاولة الأولى لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء

فشل مشروع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء بعد النكبة ينبىء بحتمية إخفاق خطط مشابهة مستقبلاً

Share
الخروج على "مشروع سيناء": تفاصيل المحاولة الأولى لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء
فتاة تدّرس الأبجدية العربية لأطفال فلسطينيين لجؤوا وعائلاتهم إلى منطقة الزرقاء في الأردن بعد نكبة 1948(من أرشيف هولتون دوتش للصور / كوربيس / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

تحمل ذكرى نكبة عام 1948 وتأسيس دولة إسرائيل بُعداً دينياً توراتياً في السرديات الشعبية الأمريكية والإسرائيلية. ولا أدلّ على ذلك من قصة نجاح رواية "إكسيدوس" (الخروج) للكاتب ليون يورس المنشورة عام 1958 والتي تصدّرت قوائم مبيعات الكتب في الولايات المتحدة قبل أن تُحَوّل إلى فيلم يرسّخ سرديتها ويوصلها إلى جمهور أوسع. تشبِّه الرواية هجرةَ اليهود الجماعية التاريخية من أوروبا إلى فلسطين بتيه بني إسرائيل في صحراء سيناء هرباً من بطش الفراعنة. وهذه ليست المرة الأولى التي يُشار بها إلى سفر الخروج؛ فقد أحيا هذا التناصَّ التاريخيَّ إعلانُ إقامة دولة إسرائيل الذي ربط تأسيسها بنهاية "التيه" الإسرائيلي والعودة إلى الأرض الموعودة في الكتاب المقدّس. إلا أن قصة العودة اليهودية من المنفى المصري أَغفلت مراراً ما يقابلها من مخطط تهجير اللاجئين الفلسطينيين إلى صحراء سيناء.

خططت الأمم المتحدة بداية الخمسينيات لتوطين عشرات آلاف الفلسطينيين من غزة في سيناء لإنهاء حقّهم بالعودة. لم يحقق هذا المخطط هدفه بل أشعل أولى شرارات الحشد الجماهيري الفلسطيني والعمل المقاوم المنظّم بعد سنة 1948. فقد أجبرت الانتفاضة التي انطلقت في شهر مارس عام 1955 في غزة، المعروفة باسم "هَبّة آذار"، مسؤولي الأمم المتحدة على التخلّي عن خطط التوطين وأجبرتهم على الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في هُويّة سياسية خاصة بهم.

أسّست الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة وكالةَ الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة باسم الأونروا في ديسمبر 1949، بعدَ أن هجّرت الميليشياتُ الصهيونيةُ ثلاثةَ أرباع مليون فلسطيني من منازلهم إلى الضفة الغربية وغزة والدول العربية المجاورة. وفُوّضت الأونروا بتقديم المساعدات الإنسانية والخدمات الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين بالمخيّمات في بلاد اللجوء المختلفة إلى حينِ الوصول لحلٍّ سياسيّ يسمح بعودة الفلسطينيين إلى بيوتهم أو بتعويضهم. 

أطلقت الأونروا في عامَيْها الأوّلين برنامج عمل لتوظيف اللاجئين ودمجهم في أسواق العمل المحلية خارج مخيّماتهم في الأردن ولبنان وسوريا. ينطلق هذا البرنامج من فرضيةٍ مفادها أن اللاجئ الفلسطيني سيرحل من المخيّم ويكفّ عن الاعتماد على مساعدات الأونروا ما إن يكتفي ذاتيّاً. إلا أن قلّة من الفلسطينيين شاركوا في مشروعات البنية التحتية هذه والتي شملت أعمال ري وتشجير وبناء طرق سريعة وسدود. ولم تستطع الأونروا الاستمرار بهذه المشروعات لأن كلفتها المادية أعلى من تقديم المعونات الأساسية. 

غيّرت الأونروا نهجها في صيف 1951. ففي ظل إدارة مديرها الثاني جون بلاندفورد، قرّرت الوكالة توطين مئات الآلاف من الفلسطينيين في دولٍ عربية لدعم مشاريع التنمية الزراعية الكبيرة، وذلك ضمن ما سماه بلاندفورد حينها "برنامج الأونروا الجديد" للإدماج الاقتصادي. أرادت الأونروا بهذا البرنامج أن تميط عن كاهلها مسؤولية إعالة اللاجئين وأن تطلق نهضة اقتصادية عربية تتماشى مع المصالح الأمريكية. دعمت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا المشروع بصندوقٍ أسمته "صندوق إعادة الإدماج" حجمه مئتا مليون دولار أمريكي، جُلّها قادم من الولايات المتحدة. كان بلاندفورد هذا نيويوركياً ذا خبرةٍ في الإدارة العامة؛ فقد تولّى قبل إدارته الأونروا مناصبَ رفيعة في أكثر من ولاية أمريكية ووكالة فيدرالية، من بينها "هيئة وادي تينيسي" النموذج الأمريكي الأسمى للتنمية الإقليمية.

كانت هيئة وادي تينيسي إحدى من البرامج الفيدرالية التي أُطلقت إبّان حقبة إصلاحات الرئيس روزفلت التي سميت "الصفقة الجديدة". هدفت الهيئة إلى إعادة تأهيل الحالة الاقتصادية في الأرياف وإحياء الحالة الاجتماعية باستصلاح الأراضي والتنمية وتوطين المجتمعات في أماكن جديدة، وذلك بعد أزمة الكساد الكبير التي عُدّت إحدى أكبر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين. أصبح النموذج المستوحى من هيئة وادي تينيسي نبراساً يُهتدى به في تقديم المعونات الدولية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما قد يفسر توجهات "برنامج الأونروا الجديد". ففي عصر التفاؤل الكبير بقدرات التقنية، كان لدى صناع السياسات الأمريكيين قناعة راسخة بقدرة التخطيط واسع النطاق على تحفيز النمو الاقتصادي وتطوير الشعوب "المتخلّفة" والحدّ من جاذبية الشيوعية في الدول المستقلة حديثاً.

تعامل برنامج الأونروا الجديد مع مسألة اللاجئين الفلسطينيين على أنها عقبة تقنية لا إشكالية سياسية. تتسق هذه النظرة مع إيمان بلاندفورد بالتنمية الاقتصادية والهندسة الصناعية حلولاً للنزاعات السياسية. أصرّ بلاندفورد في مدوناته الشخصية المنشورة على أن تهجير الفلسطينيين الممنهج من أراضيهم لم يكن إلا اضطراباً اقتصادياً يمكن حلّه ببرنامج إدماج في الدول المجاورة لفلسطين. ورأى أن هذا البرنامج سيكون طريقاً مختصراً لحل مسألة اللاجئين الشائكة وفصلها عن المسار الدبلوماسي العام لإيجاد تسويةٍ عربيةٍ إسرائيلية.

لم تلبِّ هذه الطريقة رغبة اللاجئين الفلسطينيين بعودتهم إلى بيوتهم وأراضيهم ولا تطلّعاتهم إلى المشاركة السياسية بتقرير مصيرهم. فالفلسطينيون بنظر بلاندفورد ورفاقه ليسوا أهلاً للاستشارة بتنمية أنفسهم، بل ينبغي جرّهم قسراً إلى العالم الحديث بالمشروعات الصناعية. لم يؤمن بلاندفورد للحظة بأنه سيُسمح للفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، وإذا توهّم الفلسطيني غير ذلك فإن على الأونروا إقناعه أن المشاركة في مشاريع التنمية الاقتصادية هي الخيار الأفضل والأصلح. وبمنطق بلاندفورد فإن مطالبةَ الفلسطيني بالعودة إلى وطنه اضطرابٌ مرَضيٌّ لا مطلب سياسيٌّ مشروع. وألمح إلى ذلك بتقرير كتبه للأونروا في يونيو عام 1951، حين افترضَ أنّ رفضَ اللاجئ الفلسطيني المشاركة في مشاريع الوكالة أو اعتراضه عليها دليلٌ على أن اللاجئ "حادّ الطبع وغير مستقر" وهذا نتاج "عقلية اللاجئ المعهودة". 

أثّرت برامج الأونروا على اللاجئين الفلسطينيين في أنحاء العالم العربي، لكن تأثيرها في غزّة كان أكبر تحدٍّ واجهته الأونروا. وذلك بسبب زيادة عدد اللاجئين الوافدين إلى غزة على مئتي ألف في مارس عام 1949، أي ثلاثة أضعاف الساكنين تلك المساحة التي تبلغ 365 كيلومتراً مربّعاً تقريباً، والتي أصبحت توّاً تحت الإدارة المصرية رسميّاً. أحدثت الأونروا حينها ثمانية مخيّمات للاجئين في قطاع غزة، لكنها لم تجد أي فرص لاستحداث برامج تشغيل لهم. لهذا وجّه قادة الوكالة أنظارهم إلى إيجاد سبل لتوطين أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين خارج غزة.

عملت الأونروا ابتداء من يوليو سنة 1950 جنباً إلى جنب مع الحكومة المصرية لتقصِّي إمكانية تنفيذ مشروعات التنمية الزراعية والتوطين في صحراء سيناء، إلا أن باحثين عن المياه الجوفية في المنطقة لم يجدوا كميات كافية لتنفيذ مشروعات زراعية كبيرة. أخذت خطط تنمية سيناء منعطفاً جديداً بعد وصول حركة الضباط الأحرار القومية إلى السلطة في مصر في يوليو 1952.

بدأت الحكومة المصرية الجديدة حينها منفردةً بدراسة تأسيس منطقةٍ زراعيةٍ في سيناء؛ لتوطين ستين ألف لاجئ فلسطينيّ من غزة. ولتحقيق ذلك يجب نقل المياه العذبة من نهر النيل في القاهرة بقنواتٍ تمر من تحت قناة السويس عابرة سيناء ثم تُضخّ إلى اثنين وخمسين ألف فدان تقريباً. سُرّ بلاندفورد والأونروا بهذه المبادرة، وخصصوا في يونيو من عام 1953 مبلغ ثلاثين مليون دولار من صندوق إعادة الإدماج لدعم مشروع القنوات هذا. وفي نهاية العام نفسه اكتظّت سيناء بخبراء استصلاح الأراضي الذين جاؤوها من مصر والولايات المتحدة وأستراليا.

كان حرصُ الحكومة المصرية الجديدة على توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء ناجماً عن التزامها العام بالتنمية الزراعية، إذ اهتم الضباط الأحرار حينها بقضايا الحكم المباشر، كإجلاء البريطانيين من مصر ومحاربة الفقر والأوبئة، أكثر من اهتمامهم بحمل لواء الحقوق الفلسطينية. ومن هذا المنطلق كانت وعودُ استصلاح الأراضي وتحويل المساحات الصحراوية الجرداء والمستنقعات إلى أراضٍ صالحةٍ للزراعة شديدةَ الإغراء. وكانت زراعة الحمضيات مثلاً أحد أهداف مشروع سيناء الأساسيّة؛ لأن الحكومة المصرية أرادت زيادة استهلاك الفواكه في مصر وتصدير المحاصيل الفائضة إلى الخليج وأوروبا. وحفّزت احتماليةُ تطوير موارد تعدينية في سيناء حماسَ النظام المصري. وفي خضم تلك اللحظة الثورية كان مشروع الأونروا لتنمية سيناء واحداً من بين مشروعات أخرى طموحة ممولة من الخارج رأت الحكومة المصرية أنها ستفيد الاقتصاد الوطني. فقد رصدت الحكومة الأمريكية ملايين الدولارات لدعم مشروعات التنمية في مصر أوائل الخمسينيات إضافة إلى مشروع سيناء، وكانت مشروعات استصلاح الأراضي التي أشرفت عليها الهيئة المصرية الأمريكية لإصلاح الريف من أنجحها. 

كانت الحكومة المصرية حينها تهتمّ بالسياسات الإقليمية اهتمامَها بالمصالح الاقتصادية أيضاً. أحكمت تلك الحكومة السيطرة على تحركات الفلسطينيين في غزة لتجنّب مواجهة عسكرية مع إسرائيل، لكن اجتياحات إسرائيل المتكررة لمخيّمات اللاجئين في غزة مطلعَ الخمسينيات وتوغّل الفلسطينيين وراء خطوط الهدنة جعل توطين اللاجئين في سيناء خياراً أكثر جاذبية. لم يصرّح المصريون عن موقفهم هذا علناً، لكن بعض مسؤولي الحكومة المصرية الجديدة مثل وزير الخارجية محمود فوزي، لم يصروا على عودة الفلسطينيين لوطنهم ولو بعد حين في محادثاتهم الخاصة مع المسؤولين الأمريكيين كما توضح برقية أرسلها السفير الأمريكي في مصر جيفرسون كافري لوزارة الخارجية الأمريكية في فبراير 1953. وقتئذٍ كانت القاهرة تسعى إلى تنمية الأرض وتسريع عجلة تحويل اقتصادها إلى اقتصاد صناعي، وإجلاء البريطانيين من قناة السويس والحفاظ على تصدّرها المشهدَ العربي، لذا لم تكن حقوق الفلسطينيين السياسية أولوية. 

أنجز الفريق المكلف بمسح سيناء تقريره النهائي في يوليو من عام 1955، وقد خلص فيه إلى إمكانية سحب المياه إلى سيناء. كشف التقرير أن المشروع كان تجربة هندسة اجتماعية؛ فنجاح المشروع مرتبط بالتربة الخصبة والموارد المائية ارتباطَه باللاجئين الفلسطينيين أو "الموارد البشرية" كما سمّاهم التقرير. وأشار التقرير إلى أن اللاجئين الفلسطينيين لن يبقوا محصورين بمجتمعاتهم الزراعية القديمة، بل سيُجلبون قسراً إلى العالم الحديث في سيناء ويُحوَّلون إلى مزارعين مكتفين ذاتياً. هذا سيحقق هدفاً رئيساً لعملية الإدارة السكانية وهو تخفيض معدّل الإنجاب العالي لدى اللاجئين ببرنامج تعليمٍ صحيٍّ موسّع لتكريس أفكار تحديد النسل؛ وذلك لأن نصفَ اللاجئين في غزة آنذاك كانوا تحت عمر 15 عاماً.

فطن فريق المسح إلى أن تعاون اللاجئين في هذا البرنامج ليس مضموناً، لذا اشتمل المشروع على برنامج تكييفٍ نفسي. وصّى التقرير مسؤولي الأونروا بإطلاق حملة دعائية شاملة في مخيّمات غزة لتسهيل تعاون اللاجئين، وأشار على الأونروا أن تبني نموذجاً مصغّراً لمزرعة سيناوية في غزة. لكن المشروع لن ينجح باعتماده على المحفزات فقط؛ فلكي يؤتي استثمار ثلاثين مليون دولار أُكُله كان لا بدّ من مراقبة "موارده البشرية" وتنظيمها وضبطها أمنياً بسيطرة محكمة. وقد فصّل التقرير آلية نقل فئة مختارة من اللاجئين في غزة إلى سيناء بالسكك الحديدية و برقابة شديدة درءاً لأي تأخيرات. وأوصى التقرير أيضاً بمراقبة حركة اللاجئين فورَ توطينهم في قرى سيناء، وتأسيس إدارةِ المدينة مراكزَ شرطة وحراسة لمنع تخريب أنظمة الري. أما في حقول الزراعة فإن التقنيات الزراعية تحتاج إشرافاً يقظاً لتنتج أفضل المحاصيل. وكان الهدف من ذكر هذه التدابير في التقرير تأكيد انضواء المشروع تحت السيادة المصرية، أي حتى لو أصبح اللاجئون مكتفين ذاتياً فإنهم سيبقون تحت حكم القانون المصري، وعلى ذلك فإن حقّهم بالمشاركة في المشروع مقرون بخضوعهم للسيادة المصرية.

سيُشده قارئُ التقرير اليوم من أن معالجة التقرير التقنية لمسألة اللاجئين الفلسطينيين لم تترك أي مساحة لتجربتهم الإنسانية. فقد عُوملوا فيه على أنهم ضحايا "اضطراب اقتصادي" يمكن حلّ مشاكلهم بالتعويض المالي. ونجد هذه النظرة التي تجرِّد الفلسطينيين من إنسانيتهم في المحادثة التي جرت بين فلسطيني وأحد مسؤولي الأونروا، قال فيها الفلسطيني إنّ مشروعات التوطين تعامل اللاجئين كما لو أنهم دجاج يُنقلون من خمّ إلى أخرى. إلا أن الأهم هو أن منطق التقرير المسحي يُفضي إلى استحالة الاعتراف بأن الفلسطينيين كائناتٌ سياسية بل إنه يشي بأن مآل مشروع سيناء هو محو هوية الفلسطينيين السياسية. لأنه يرى أنّ الحياة الاجتماعية في فلسطين قبل عام 1948 كانت محصورة بوحدات اجتماعية طبيعية، كالعائلة والعشيرة والقرية، وأن هذه الوحدات كانت الأساس الوحيد للولاء الاجتماعي بسبب عزلة المجتمعات الريفية. فلن يستطيع هؤلاء الفلاحون الفلسطينيون ادعاء هُويّة وطنية أو سياسية؛ ولهذا نصحَ التقريرُ وكالة الأونروا بالاعتماد على الروابط العشائرية والقروية في تصميم المجتمعات الزراعية في سيناء.

كان ردّ فعل الفلسطينيين الجماعي على مشروع سيناء شاهداً على قوّة وعيهم السياسي مع ما عانوه من تهجير عام 1948. أدرك فلسطينيو الشتات التهديدَ الذي مثلته الخطّة على حقهم في العودة؛ فانبرى الصحفيون والسياسيون الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية ولبنان للكتابة عن مشروع سيناء ومضامينه. ولاحظوا السخرية التاريخية في أن عودة اليهود إلى فلسطين وانتهاء مرحلة التيه التوراتية من مصر لا تكتمل إلا بطرد الفلسطينيين إلى مصر؛ فقد كتب الصحفي الفلسطيني حمدي الحسيني من غزة لصحيفة "المقطّم" المصرية أن مشروع سيناء سيحكم على الفلسطينيين بالتيه في صحراء سيناء كما حُكم على موسى وأتباعه من قبل.

اعترض الفلسطينيون على سيناء نفسها وجهةً لتوطينهم. فقد أشاروا إلى أن سوء مناخها وجدب أراضيها وأوبئتها الصحراوية ستقضي على هويتهم السياسية وأجسادهم في آن. فقد فطن لتهديد مشروع سيناء وغيره من مشروعات التوطين حقوقَهم السياسية، وربطوا بين خطط التوطين وتزايد وتيرة الهجمات العسكرية الإسرائيلية على غزة، وتنبّهوا إلى أنها إرهاصات متعمّدة للضغط على مصر ونقل الفلسطينيين من غزة بعيداً عن خطوط الهدنة. ولمواجهة الاجتياحات والتهجير الوشيك دعا الفلسطينيون إلى مقاومة واسعةٍ ومنظَّمة وسيلةً وحيدة للخلاص.

شرعَ الفلسطينيون في غزة بتنظيم أنفسهم والتظاهر ضد مشروع سيناء في 1953، لكن اللحظة الفاصلة لم تحدث إلا عام 1955. ففي ليلة الثامن والعشرين من فبراير، قتلت مجموعةٌ فلسطينية مدنيّاً إسرائيليّاً في ريف تل أبيب؛ فاجتاح الجيش الإسرائيلي مركزاً عسكريّاً مصريّاً قرب مدينة غزة وقتل ستة وثلاثين جندياً مصرياً ومدنيَّيْن فلسطينيَّيْن. انطلقت في اليوم التالي أكبرُ انتفاضة شعبية غزيّة شهدتها حقبة الحكم المصري، استهدف فيها المتظاهرون مكاتب الأمم المتحدة والحكومة المصرية التي اتهموها بالتواطؤ بعدما فشلت في حماية الفلسطينيين من العدوان الإسرائيلي.

طالبت هبّة آذار بإلغاء مشروع سيناء وتسليح اللاجئين الفلسطينيين في غزة وتجنيدهم ليدافعوا عن أنفسهم في وجه العدوان الإسرائيلي. وذكر الشاعر الفلسطيني والحركي السياسي معين بسيسو في مذكّراته "دفاتر فلسطينية" أن الشيوعيين والإخوان المسلمين الفلسطينيين قادوا مظاهرةً مشتركة في شوارع غزة هتفوا فيها: "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان" و"كتبوا مشروع سينا بالحبر، وسنمحو مشروع سينا بالدم!". يومها أطلقت القوات المصرية الرصاص على الحشود وقتلت أحد المتظاهرين، فانسحب قادة المظاهرة إلى بناء نقابة معلّمي الأونروا. وبعد مواجهةٍ دامت يوماً كاملاً ومحاولةٍ فاشلة لفرض حظر التجول التقى المحافظ العسكري المصري بلجنة القيادة ووافق على مطالبهم.

بعد الهبّة بفترة قصيرة بدا للغزيين أن الحكومة المصرية خدعتهم وحاولت التنصّل من الاتفاق. ففي التاسع من مارس من العام نفسه تسللت مجموعة من عناصر الشرطة السرية المصرية إلى المخيّمات واجتاحت منازل قادة الشيوعيين والإخوان المسلمين. وكان ذلك جزءاً من حملة جمال عبد الناصر لقمع حركة الإخوان المسلمين والحركة الشيوعية المصرية. لكن عبد الناصر أذعن لاحقاً لمطالب هبّة آذار وأمر مدير المخابرات المصرية في غزة بتجنيد الفلسطينيين وتدريبهم لتنفيذ مهام عسكرية في إسرائيل. وفي أغسطس من عام 1955 وبعد شهرٍ من إصدار تقرير المسح أوقفت الحكومة المصرية مشروع سيناء. وكان عذرها المعلن أنها لن تستطيع سحب الماء إلى سيناء لأنها لم تخزّن ما يكفيها هي منه. ولكن تصريحات عبد الناصر في دوائره الخاصة قالت غير ذلك؛ ففي أوراق هنري لابوز، مدير الأونروا من 1954 إلى 1958، نجد أن عبد الناصر اعترف بأن اللاجئين الفلسطينيين أصبحوا "قوةً متمكّنة لها أن تقرّر مستقبلها" ولا يمكن إنجاز تسوية سياسية شاملة دون الالتفات إلى مطالبهم.

كان هذا التحوّل في الموقف المصري مرتبطاً بتغيّرات في السياسية الإقليمية والعالمية، ففي فبراير من عام 1955 عُقد حلف بغداد، وهو حلفٌ عسكريٌّ ضمّ تركيا ومملكة العراق الهاشمية ثم انضمّت إليهما المملكة المتحدة وإيران وباكستان. واعترض عبد الناصر على هذا الحلف لأنه يطرح تصوراً بديلاً لا تكون فيه مصر مركز القوة العسكرية والسياسية العربية، ولأنه منحاز في الحرب الباردة وهذا لا ينسجم مع المصالح العربية الإقليمية. لذلك وجد عبد الناصر في اجتياح الإسرائيليين غزةَ في 28 فبراير 1955 فرصةً لصياغة سياسة خارجية جديدة معادية للتصالح العربي الإسرائيلي وأيّ وجود قويٍّ للنفوذ الغربي في الشرق الأوسط.

مع نهاية عام 1955 أجبرت المقاومةُ الفلسطينية وكالةَ الأونروا على التخلّي عن برنامج التوطين والتركيز على مبادرات التدريب المهني الصغيرة ومواصلة الإغاثة الصحية والتعليمية. غيّرت إدارة لابوز توجّه الأونروا، إذ أقرّت أن محنة اللاجئين الفلسطينيين ليست اقتصادية ولا حل لها إلا بتسويةٍ سياسيةٍ. وأشار لابوز في مراسلاته الشخصية وخطاباته الخاصة إلى خطأ الاعتقاد بأن اللاجئين سينسون ماضيهم ويندمجون في العالم العربي، لأن هذا الاعتقاد يغفل حقيقة جوهرية وهي "أن شعباً فلسطينياً اقتُلع من أرضه… وأن هؤلاء اللاجئين ليسوا لبنانيين أو مصريين أو أي شيء آخر غير كونهم فلسطينيين". وكان الاعتراف بهوية الفلسطينيين الوطنية تحوّلاً مهمّاً في فكر الأونروا أُجبرت عليه بسبب صلابة اللاجئين وثباتهم.

لَم تحظَ هبّة آذار بالاهتمام المناسب مع كونها منعطفاً رئيساً في التاريخ السياسي الفلسطيني. فبتنسيق الاحتجاجات أعاد الفلسطينيون في غزة تأكيد فاعليتهم السياسية وأنهم ليسوا لاجئين يترقّبون التوطين والإنعاش الاقتصادي. وهذا الإصرار على الحق في اقتحام السياسة كان رفضاً مباشراً لمشروع بلاندفورد الجديد ومنطلقاته المراوغة، إذ اتضح أن مقاومة التوطين لم تكن اضطراباً مرضياً بل تعبيراً محقّاً وديمقراطياً عن إرادة حرة، فقد أصرّ المحتجون على أن طريق الحل السياسي لن يكون مختصراً وأن العودة إلى الأرض حتمية وإن بالقوة.

أُلغي مشروع سيناء وغيره من مشروعات التوطين نهاية الخمسينيات رغم عشرات الآلاف من التقارير والمسوح التي أجريت وملايين الدولارات التي خُصصت لها. و كما نُسيت هبّة آذار نُسي هذا البرنامج قبل الشروع به. إلا أن هذه الأحداث التاريخية مهمّة في لحظتنا الحالية أكثر من أي وقت مضى، فالبرنامج يظهر نمط تفكير شاع في برامج الإغاثة الأمريكية والأممية مطلعَ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أعطى ذلك البرنامج الأولوية للتنمية الاقتصادية ورآها طريقاً لتجاوز المفاوضات السياسية وإنهاء مسألة اللاجئين من القضية الفلسطينية.

يبدو أن طريقة التفكير هذه مازالت مهيمنة حتى يومنا هذا، فكلٌّ من خطة إدارة ترامب "السلام من أجل الازدهار" والتطبيع الاقتصادي المتنامي بين إسرائيل والأنظمة العربية وبين إسرائيل ونخب رجال الأعمال الفلسطينيين تشي بأن كثيرين ما زالوا يؤمنون بأن الاستثمارات ستمهّد الطريق لحلٍّ مستقبلي لمشكلة التهجير الفلسطيني. ولكن حكاية برنامج الأونروا تُنبئ بغير ذلك لمن ألقى السمع؛ فالحل الدبلوماسي ضروري وشرط مسبق "لقبول المشروعات الاقتصادية" كما قال المستشار الاقتصادي للأونروا عام 1954. إذن، لا خروج من عالم السياسة لمن يريد حلَّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

اشترك في نشرتنا البريدية