السخرية في المنطقة الصعبة: بين تحدّي السلطة ومواجهة الحدود

كانت السخرية دائماً أداةً نقديةً تتجاوز الرقابة، إذ تُستخدم سلاحاً لتفكيك بنية القضايا الحساسة. لكن في عالَمٍ مشحونٍ بالغضب، يصبح نقدُ الرموز والثوابت الوطنية مثلَ السير على حبلٍ مشدود.

Share
السخرية في المنطقة الصعبة: بين تحدّي السلطة ومواجهة الحدود
تصميم خاص بمجلة الفراتس

تحظى السخرية بقبولٍ شعبيٍّ وإقبالٍ واسعٍ لأثرها في التعليق على القضايا السياسية والاجتماعية والحقوقية ولانتشارها السريع نوعاً من "الفكاهة" و"النكتة"، على واقعٍ رديءٍ يعيشه المُتلقّي مشتركاً مع الكاتب وشريحةٍ واسعةٍ من القرّاء الآخَرين. وهي مكانةٌ تبوّأتها السخرية تاريخياً في عدّة قوالب أدبيةٍ، كالشّعر والأمثال والحِكم والرواية والمقالة والرسم الساخر، إذ استُخدمت غالباً لانتقاد الحكومات والأنظمة والأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من القضايا التي تندرج ضمن ثالوث المحرّمات "الدين والجنس والسياسة".

ويزخر التراث العربي بكنزٍ كبيرٍ من الأدب الساخر، بدءاً من كتاب "البخلاء" للجاحظ الذي انتقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في العصر العبّاسي، مروراً بصحيفة يعقوب صنّوع "أبو نضّارة زرقا" في القرن التاسع عشر إبّان الحكم العثماني ثم الاستعمار البريطاني لمصر، والتي كانت تنتقد فساد الخديوي وحاشيته وأبرزت ذلك باستخدام الرسم الساخر والرواية الخيالية. ومن الأدب الساخر كتاب "سأخون وطني" لمحمد الماغوط، وفيه قدّم نقداً لاذعاً بطريقته الحكائية الساخرة لواقع الوطن العربي بسوداويته الساخرة في ثمانينيات القرن المنصرم. ومنه أعمال الكاتب المصري محمود السعدني، الذي نجح بسخريته في استعداء الأنظمة بقدر ما كسب قلوب القرّاء الذين ناقش همومهم، فلم يسلم من الاعتقال في عهد جمال عبد الناصر رغم تأييده نظامَه، قبل هروبه خارج البلاد في عهد السادات متنقلاً بين عدّة دول. ومن الأدب الساخر أيضاً أعمال الرسام السوري علي فرزات بصحيفة "الدومَري" في سوريا، وقد واجهتها السلطةُ بالإغلاق والتضييق على محرّرها ثم الاعتداء عليه جسدياً. ووصولاً إلى تجربة شبكة "الحدود" الساخرة والمستمرة منذ سنة 2013.

في مواجهة القمع السياسي والاضطرابات الاجتماعية في العالم العربي، ظهرت السخرية أداةً قويةً لانتقاد السلطة وتجاوز الرقابة. ومع الطابع الفكاهي للسخرية إلّا أنها تواجه تحدّياتٍ كبيرةً، خصوصاً في السياقات المشحونة عاطفياً.

ليست السخرية محض وسيلةٍ ترفيهيةٍ، بل أداةً نقديةً لمواجهة السلطة وتعزيز التأمل السياسي والتطرّق إلى المحرّمات المجتمعية، مع تعقيد الظروف التي تعمل فيها. وقد أتى العصر الرقمي بتحدّياتٍ عديدةٍ للصحافة الساخرة، منها انتشار المعلومات المزيَّفة والحسابات الإلكترونية الموجَّهة، ما يعرّض الخطاب الساخر لسوء الفهم مرّاتٍ وسوء التفسير مرّاتٍ أخرى.

في أثناء إحدى الهجمات الإسرائيلية على غزّة نشرت "الحدود" مقالاً ساخراً ينتقد بعض القيادات السياسية في المقاومة الفلسطينية لتصريحاتٍ تجاهلت المعاناة الإنسانية للمدنيين. جاءت ردود الفعل غاضبةً، إذ رأى كثيرون أن السخريةَ في هذا السياق استهزاءٌ بالتضحيات وتشكيكٌ في شرعية المقاومة. نالت الشبكةُ سيلاً من الانتقادات والتهديدات، ممّا وضعها مجدّداً رهنَ تحدّيات تقديم النقد الساخر دون فقدان جمهورها أو تأجيج مشاعر الغضب.


رأى سيغموند فرويد في السخرية وسيلةً لمواجهة مخاوفنا، كما يشير لذلك الباحث في قسم التاريخ في الجامعة المفتوحة في بريطانيا، فينسينت تروت في ورقةٍ بحثيةٍ منشورةٍ في مجلة "الحرب في التاريخ". ويمكن تحليل تجربة "الحدود" من هذا المنطلق. فقد دفعت شبكةُ "الحدود" القارئَ لمناقشةِ الأمورِ التي قد يخافُها والنظرِ إلى ما وراء الأخبار لاكتشاف الحقيقة بمواجهة المسلّمات التي يعتقدها، والتفكير في أبعاد وزوايا أخرى للقضايا، لأن "النكتة" تفسح المجال لمناقشة قضايا ممنوعةٍ دون حساسيات.

شبكة الحدود واحدةٌ من عدّة مواقع صحفيةٍ مستقلةٍ انطلقت مع بداية الربيع العربي الذي فرضَ على المنطقة تغيّراتٍ كبيرةً في الأنظمة السياسية والاجتماعية. وتزامنت هذه التغيّرات مع زيادة الرقابة والقمع السياسي، خصوصاً في الدول التي تتأثر مباشرةً من رياح التغيير التي هبّت في محيطها. ومع فشل العديد من الثورات في تحقيق أهدافها وتحوّل بعضها إلى حروبٍ طاحنةٍ، ظهرت حاجةٌ ملحّةٌ للتعبير عن الإحباط والغضب والتحريض السلمي الفكري على انتقاد السلطات دون التعرّض لخطرٍ مباشر. فظهرت شبكة الحدود سنة 2013 بمجهودٍ تطوّعيٍّ من ناشطين أردنيين محليين لإتاحة فضاءٍ يسمح بتوظيف السخرية للتعليق على الأوضاع السياسية والاجتماعية. فأصبحت السخرية وسيلةً آمنةً نسبياً للتعبير عن الانتقادات اللاذعة والمكبوتة.

مع تفاقم الصراعات في المنطقة وتصاعد القمع وظهور ثوراتٍ مضادّةٍ، انضمّ العديد من الكتّاب والكاتبات إلى شبكة الحدود من مختلف الجنسيات والخلفيات، لتتحوّل منذ سنة 2015 إلى منصّةٍ عربيةٍ ساخرةٍ تتفاعل مع قضايا المنطقة كافّة. إذ أصبحت السخريةُ وسيلةً غير مباشرةٍ للتعبير عن القضايا السياسية والاجتماعية بعد فقدان الصحافة التقليدية –باستثناء بعض الصحف المستقلة– الكثير من الموثوقية لعجزها عن النقد الصريح. في المقابل وفّرت الصحافة الساخرة مجالاً واسعاً للمناورة، مستفيدةً من قدرة الأسلوب الساخر على تجاوز "الخطوط الحمراء"، سواءً بالرمز أو الإسقاطات أو باستخدام أسماءٍ مستعارةٍ تصعّب ملاحقةَ الكتّاب والكاتبات.

وشأنها شأن تجارب سابقةٍ في مجال الصحافة الساخرة، نالت الحدود نصيباً من الحجب والتضييق في عدّة دولٍ مثل الإمارات التي "لم تُعجبها نكات الحدود عن رئيس الدولة الشابّ" بحسب تعبير الحدود. والعراق الذي أغضب ساستَه انتقادُ كتّابِ الشبكةِ الجهازَ القضائيَّ. والأردن الذي انزعجَ من التعليق الساخر على الزفاف الملكيّ لوليّ العهد الأمير حسين بن عبدالله، لكنّ الفضاء الإلكتروني الذي حلّ مكان الورق منع انتهاء هذه التجربة أو موتها. أشارت إيمان عليوان، في ورقةٍ بحثيةٍ تناولت نموذج شبكة الحدود، إلى التراجع الكبير لحرية التعبير في الدول العربية. وترى الباحثةُ أن ثورات الربيع العربي فتحت المجال أمام إعادة إحياء الكتابات الساخرة، مع الأخذ بعين الاعتبار قلّة المواقع العربية الساخرة ما يشير إلى ضيق هامش حرية الرأي والتعبير في منطقتنا. 

في كتابه "الفكاهة والضحك"، المنشور سنة 2003، يميّز المؤلفُ شاكر عبد الحميد السخريةَ عن باقي أنواع الفكاهة بأنها نوعٌ من التأليف الأدبيّ أو الخطاب الثقافي الذي يقوم على أساس الانتقاد الذي يَستهدِف التخلّصَ من سلبيةٍ أو نقيصةٍ أو فكرٍ مدمِّر. والسخرية محكومةٌ بضوابط أخلاقيةٍ محدّدةٍ بهدفٍ تصحيحيٍّ يصبّ في مصلحة الطرف الأضعف وليس تجاه شخصه.

على عمق جذور الأدب الساخر في التراث العربي، إلّا أن عصر الإنترنت يختلّف كلّياً، إذ ينطبق عليه "قانون بو"، فوِفْقَه "كلّ شيءٍ يمكن تصديقه على الإنترنت". ولذلك يَسهُل تأويلُ السخرية رأياً جادّاً أو تصريحاً حقيقياً أو موقفاً حدثَ فعلاً. في الماضي، كان الأدب الساخر يُقدَّم بوضوحٍ يجعل القارئَ على درايةٍ بطبيعته الساخرة قبل الشروع في قراءته. أما اليوم، فإن صعوبة التمييز بين السخرية والواقع في عصر الإنترنت تجعل السخريةَ عرضةً للتأويل وفق مزاج المتلقّي، الذي قد يتقبّلها ويتناقلها حقيقةً مسلَّمة. وهذا قد يأتي بنتائج معاكسةٍ لغايات النصّ الذي حاول استخدام الإسقاط والمبالغة لانتقاد ظاهرةٍ وليس للنَّيل ممّن يعانون منها. ولذلك نجد شبكة الحدود عرّفت نفسها: "كيان إعلامي يمارس الحرية والسخرية كفعل سياسي يحرّض القارئ في المنطقة العربية والمهجر على مراجعة ونقد ومساءلة نفسه وواقعه والسلطة، أيا كان وجهها".

وبحسب مدير تحريرها، الذي لم نكشف اسمَه خشيةَ تداعياتٍ أمنيةٍ، فإنَّ الشبكة تلتزم بمبادئ تضمن استهداف النصوص في المقام الأول لمراكز القوى وصناعة القرار، وعدم استغلال طرفٍ مستضعَفٍ لبناء السخرية عليه والمساهمة في تهميشه وبناء خطاب كراهيةٍ ضدّه، بل تسليط الضوء على قضاياه لدعمه ومساندته. وتحرص الشبكةُ في نقاشات الفريق الداخلية على إخراج المحتوى بشكلٍ يضمن عدم التهجّم على أشخاصٍ أو مجموعاتٍ أو منظماتٍ أو عقائد، وإنما نقد منهجية التفكير والتصرفات. وليست إثارة الجدل هدفاً بذاتِها، وإنما هي جزءٌ من طبيعة المحتوى الساخر لتوجيه المتلقّي نحو مفاهيم الحوار الحرّ ومبادئه والحقّ في الاختلاف وضرورة التنوّع. فالسخرية بطبيعتها نقدٌ سلبيٌّ مهمّته فحصُ مواقع خللٍ وتشخيص مشكلةٍ تحتاج علاجاً ضمن عملٍ فكريٍّ نقديٍّ بنّاءٍ حتى لو بدا ظاهرُه هدماً.

تقوم طريقة عمل شبكة الحدود على عقد اجتماعٍ تحريريٍّ صباح كلّ يومٍ، يجمع الفريق التحريري المنتشر في عدّة دولٍ عربيةٍ، من مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية والسياسية. ثمّ يناقش كلّ كاتبٍ موضوعاً أو خبراً ويطرح مشكلته والزاوية التي يريد تسليط الضوء عليها والعنوان المقترح للمادّة، ويناقش مع الفريق الفكرةَ إلى أن تحصل على ثقة غالبية الفريق بالتصويت الذي يلي النقاشَ. وتُطوَّر الفكرة جماعياً. ثمّ تمرّ المادّة بمرحلة النقاش بين الكاتب والمحرّر، ثمّ الصياغة الأوّلية ثمّ التحرير ثم الصياغة النهائية وأخيراً التحرير النهائي والتدقيق اللغوي. تضمن هذه العمليةُ الموازنةَ بين حرية الكاتب في التعبير عن آرائه وبين ضمان المعايير والمبادئ التي تلتزم الشبكة بها، فتُوصِل رسالتَها كما ينبغي ولا تقع في فخّ التأويل أو الهجوم على الطرف الأضعف.

ومع ذلك، فلا تحظى مقالات الحدود دائماً بقبول القرّاء الذين يتابعونها ويَشعرون بأهمّية السخرية ويعرفون هدفها. يرى شاكر عبد الحميد في "الفكاهة والضحك" أن السخرية من أكثر أشكال الفكاهة أهمّيةً ودقّةً، فهي تهاجم الوضع الراهن في الأخلاق والسياسة والسلوك والتفكير، مع أن هذا الوضع محصّلةُ ممارساتٍ خاطئةٍ سابقة. وهذا ما يجعل المتلقّيَ في منطقةٍ ما زالت بعيدةً عن حرية التعبير فيتحسّس مِن نقدِها، ممّا ينذر بأخطارٍ ينبغي التحذير منها باستخدام هذا الشكل الخاصّ من الكتابة أو الفنّ. ولذلك تحاول شبكة الحدود توخّي الحذر في استعمال السخرية لطبيعتها المعقّدة القائمة على طبقاتٍ متعدّدةٍ، مثل معرفة المتلقّي بالموضوع والمفارقات التي تنضوي تحته. فاحتمالية وصول الأفكار مغايرةً لما يودّ الكاتبُ قولَه تضيف على عاتقه أن يصيغ أفكارَه وسخريتَه بوضوحٍ وبلاغةٍ دون الاستخفاف بطريقة إنتاجها وجَوْدتها.


خلقت الحرب التي تتعرّض لها فلسطين عموماً وغزة خصوصاً منذ السابع من أكتوبر تحدّياتٍ عاطفيةً ونفسيةً كبيرةً عند الجمهور العربي، وأصبح يتلقّى الأخبار غالباً في حالة التأهّب العاطفي أو الغضب بسبب الدمار والمآسي. وفي مثل هذه الحالات يَصعُب على الجمهور تقبّل السخرية أو التمييز بين السخرية النقدية البنّاءة والاستهزاء. 

كلّ ذلك يضيّق المنطقة التي يمكن أن تتحرّك فيها شبكة الحدود ويحوّلها إلى منطقةٍ حساسةٍ ومعقدة للغاية. ففي كثيرٍ من الأحيان يفسَّر أيُّ نقدٍ، حتى لو كان موجّهاً نحو الأطراف الضعيفة بهدف تحسين السلوك أو إظهار تناقضات الواقع، على أنه هجومٌ أو استهزاءٌ غيرُ مبرَّر. ويظهر هذا جليّاً في ردود فعل كثيرٍ من جمهور الحدود الذين هاجموا مقالاتها لانتقادها تصريحاتٍ لقياداتٍ في حركة حماس تجاهلَت العاملَ الإنساني وحياة المدنيّين، فكان ثمنُ النقد خسارةَ أعدادٍ كبيرةٍ من الجمهور في أحسن الأحوال، وصولاً إلى رسائل تهديدٍ بالإيذاء على صفحات التواصل الاجتماعي.

العمل في هذه المنطقة الصعبة أثناء الحروب والصراعات يجعل الصحافة الساخرة تؤدّي دوراً مزدوجاً، فيتجاوز عملُها التعليقَ على الأحداث إلى إحداث صدمةٍ فكريةٍ تجعل المتلقّي يعيد التفكير في الواقع. وفي حالة الحروب تحديداً، يكون هدفُ السخريةِ المساعَدةَ في التعامل مع التناقضات الكبيرة التي يعيشها الناس بين ما هو مثاليٌّ وما هو واقعيّ. صورة المقاتل الفلسطيني البطولية مقابل المعاناة اليومية والإنسانية للمدنيين في غزة مثلاً. 

وهذه المنطقة صعبةٌ وخطرةٌ، ففي الوقت الذي يستقبل القارئُ فيه المعلومةَ وهو ممتلئٌ غضباً ومشحونٌ عاطفياً ومتعطّشٌ للبطولات والرموز الثابتة التي تدعم هويته الوطنية، سيصعب عليه قبول أيّ نقدٍ لهذه الرموز أو الشخصيات التي تمثّل مواقفه وثوابته. وعندما تأتي السخرية لتسليط الضوء على المعاناة الإنسانية أو إحداث نقدٍ ذاتيٍّ، تبدو لأكثرية القرّاء تشكيكاً في مشروعية المقاومة أو بخساً من قيمة التضحية، وهو ما يجعل وصول السخرية إلى الجمهور وتقبّلهم لها أصعب. 

اليوم، وبعد أكثر من سنةٍ على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، تُستخدم السخرية على نطاقٍ واسعٍ بأشكالها كافّةً، سواءً الرسوم الساخرة كأعمال الفنانة البحرينية سارة قائد، أو الأحاديث الفكاهية كإطلالات الفلسطيني علاء أبو دياب، أو إعلامياً كلقاءات الإعلامي المصري باسم يوسف، أو صحفياً كالحدود. جميعها تَستهدِف دحضَ الدعاية الإسرائيلية أو انتقادَ الصمت السياسي الرسمي في العالم العربي والعالم أجمعَ أو حتى لإبراز الصورة المخفيّة وهي معاناة المواطنين في غزّة بين الجوع والنزوح وانتظار الموت وفرص وقف الحرب. وربمّا كان الجانب الأخير أكثر ما عرّض الحدود للانتقاد والتهجّم من شريحةٍ واسعةٍ من القرّاء لصعوبة التمييز بين النكتة "بمعنى الاستهزاء" والسخرية "بمعنى النقد المعمّق". فالجمهور العربي، على الأقلّ كما تُظهِر تعليقات القراء على موقع الحدود، في حالة غضبٍ وحنقٍ لا تسمح له بمشاركة الكاتب الساخر في انتقاد أيّ سلوكٍ ينجم عن الطرف الضعيف الخيّر بالمطلق، بينما لا يمكن للسخرية أن تقوم بوظيفتها إذا لم يشارك الجمهورُ الكاتبَ في الهمّ نفسه.


رأى ديكارت أن الضحك ينشأ عن اختلاط الصدمة بالبهجة. وما تقوله بحوث الفكاهة الحديثة بحسب كتاب "الفكاهة والضحك"، إنه إذا هيمنت الفكاهةُ على الأعمال الأدبية القوطيّة، وهي أعمالٌ أدبيةٌ تمزج بين الخيال والرعب والرومانسية ظهرت في القرن الثامن عشر، فليس ذلك لأننا لا نحبّ أن نضحك ممّا يخيفنا، وإنما لأن كلّاً من الفكاهة والخوف من الاستجابات الخاصّة التي تستثار بداخلنا في مواجهة التناقضات في المعنى، أو الموقف بشكلٍ عامٍّ، وإنه اعتماداً على متغيّراتٍ خاصّةٍ بالسياق وبالشخصية الإنسانية يمكن أن يكون التناقض الواحد نفسه إمّا مسلّياً أو مخيفاً أو مسلّياً ومخيفاً معاً.

وفي التاريخ العربي الحديث بدأت صحيفة "أبو نضّارة زرقا" بالصدور أواخر القرن التاسع عشر في مصر على وقع المشاكل الاقتصادية التي عانت منها البلاد في عهد الخديوي إسماعيل، مركّزةً على انتقاد الصعوبات الاقتصادية ومشاكل الواقع السياسي، لتجد إقبالاً شعبياً واسعاً تسبّب في حظرها وإغلاقها. الأمر الذي لم يقلّل من الطلب عليها إذ عمد يعقوب صنّوع إلى طباعتها في قطعٍ صغيرٍ من الورق ليتسنَّى للباعة تهريبُها داخل صحفٍ أُخرى، مقدّماً للقارئِ نصوصاً تدمج بين الرسومات الساخرة ورواية الأحلام والخرافات والحوارات الطريفة. وهي نصوصٌ تجمّع الفلاحون في المقاهي للاستماع إلى من يقصّها عليهم. ووصل الحال إلى توزيعها سرّاً على القوّات المصرية التي كانت تستعدّ للتمرّد، وعلى رأسهم الضابط أحمد عرابي الذي قاد مظاهراتٍ ومسيراتٍ حاشدةً إلى قصر الخديوي من جنودٍ وضبّاطٍ ومزارعين نجحوا بعد ثلاثة أشهرٍ في إسقاط الخديوي توفيق قبل أن يقمعهم الاحتلال البريطاني وينفي عرابي إلى سيلان (سريلانكا حالياً).

تاريخياً، بدأ شكلُ السخرية السياسي الاجتماعي الذي نعرفه اليوم في اليونان مع قصيدة "مارغايتس" لهوميروس. وجعل شعراءُ أثينا، مثل أريستوفانيس وفريينيخوس ويوبوليس، من السخرية جنساً أدبياً، وكتبوا الملهاة التي كشفت الفساد والفاسدين، لينتج عن ذلك ظهور الرسومات الساخرة الأولى في اليونان تزيّن الأواني الخزفية. واقترح أرسطو في كتابه "فن الشعر" دراسة السخرية بعمقٍ قائلاً إن "الضحك متأصل في الطبيعة البشرية". وفي القرون الوسطى، استمر التقليد الساخر عبر "الجوليارد" و"المهرجين" المتنقّلين الذين سخروا من فساد رجال الدين. ويعدّ "سفينة الحمقى" لسيباستيان برانت أواخر القرن الخامس عشر أوّل كتابٍ حديثٍ للسخرية الاجتماعية المصوّرة. وكما هو الحال مع المسرحيات والقصص الساخرة اليونانية جسّدت السخرية المصوّرة موقفاً سياسياً وأخلاقياً في جوهرها قوّةً مضادّةً وسلاحاً فعّالاً لإدانة كلّ أشكال السلطة وعدم المساواة والكراهية، بالضحك والفكاهة حتّى وإن كانت سوداء. فتأثرت الجماهير بهذا الأسلوب كثيراً لدرجة أن السخرية المصوّرة سرعان ما أصبحت أداةً لتعزيز الروح المعنوية داخل صفوف الجماعة بالسخرية من العدو.

لاحقاً استخدم مارتن لوثر الرسمَ الساخرَ على نطاقٍ واسعٍ في صراعه مع البابا بمساعدة فنانين مثل لوكاس كراناش وهانس هولباين. ومنذ ذلك الحين أصبح استخدام الرسوم الساخرة وسيلةً ناجحةً لمحاربة جميع أشكال السلطة الدينية والعسكرية والاقتصادية والسياسية. فكان ردُّ السلطات بالرقابة والمعاقبة والسجن وحتى اغتيال المؤلفين. وهذا ينطبق على تجربة العالم العربي بوضوحٍ مثل الصحيفة المصرية "أبو نضّارة زرقا" التي استهدفتها السلطات في مصر وأغلقتها وفرَّ ناشرُها الصحفيّ يعقوب صنّوع إلى فرنسا. ومن ذلك تجربةُ الرسام السوري علي فرزات وصحيفتُه الساخرة "الدومَري" التي أُغلِقَت هي أيضاً مع أفول ربيع دمشق، وتعرّض فرزات للاعتقال والضرب حتّى كُسّرت يداه بعيد انطلاق ثورة 2011. واستمرّت تلك الوسائل القمعية حتى يومنا هذا ولكن بأساليب أحدث مثل الحجب الإلكتروني.


يمكن ملاحظة تطورٍ كبيرٍ في الأدوات المستخدمة في الصحافة الساخرة بين الماضي والحاضر. فبينما اعتمد يعقوب صنّوع في بدايات القرن الماضي على الرسومات الساخرة المرفَقة بقصصٍ خياليةٍ رمزيةٍ تستهدف بيئته المحلّية بالتوزيع السرّي، اشتغل فرزات في العقد الأول من الألفية الثالثة على توجيه النقد المباشر برسوماتٍ ساخرةٍ في صحيفةٍ ورقيةٍ علنيةٍ، واصطدم مع السلطات في بلاده مباشرة. تعتمد شبكة الحدود اليوم على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر المحتوى الساخر بسرعةٍ وعلى نطاقٍ واسع. ويصل محتواها إلى جمهورٍ أكبر وأكثر تنوعاً في مختلف الدول العربية وخارجها. وهو جمهورٌ مختلفٌ ولديه تحدّياتٌ جديدةٌ مثل التعامل مع الانتقادات الفورية أو سوء تفسير مضمون السخرية بسبب طبيعة المحتوى الرقميّ الذي يحاط بكثيرٍ من الأخبار الزائفة والصفحات المشبوهة والحسابات الإلكترونية الموجَّهة.

وبينما كانت الصحافة الساخرة في الماضي تستهدف في الغالب الفئات الشعبية غير المتعلّمة التي تلجأ إلى التجمعات والمقاهي للاستماع إلى النصوص الساخرة، كما حدث مع "أبو نضّارة زرقا"، فإن الحدود تَستهدِف جمهوراً من الشباب المتعلّم الناشط على الإنترنت. وهو تنوعٌ يزيد من تعقيد المهمّة، إذ يتطلب من السخرية أن تكون ذكيةً وقادرةً على التواصل مع شرائح متعدّدةٍ تختلف في مواقفها وسياقاتها الاجتماعية والسياسية.

وكما اختلف الجمهور، فإن الأدوات القمعية التي تواجَه فيها الصحافة الساخرة اليوم مختلفةٌ عن الماضي. فبينما كانت الرقابة لا تملك سوى إغلاق الصحف أو اعتقال الكتّاب أو نفيهم أو قمعهم جسدياً، حلّ محلَّ ذلك وسائلُ أحدث مثل الحجب الإلكتروني وحملات التشهير والتضييق الرقمي، وهو ما تواجهه منصّاتٌ مثل الحدود في موقعها الرسمي أو حتّى بعض مؤسسيها وكتّابها. 

مع ذلك، وكما نجح يعقوب صنّوع في إيصال رسالته بطرقٍ "مبتكرة في حينها"، فإن الحدود تمكّنت من الوصول إلى جمهورها باستخدام تطبيقاتٍ مثل تيليغرام وإنستغرام والنشرات البريدية وغيرها من التقنيات التي يَصعُب على السلطات حجبُها، إضافةً لاستخدام تقنياتٍ تحدّ من فرص تعقّب الناشر أو تحديد هويته. تتيح هذه الأدوات الرقمية للحدود مرونةً أكبر في مواجهة تضييقات السلطة مقارنةً بتجارب سابقاتها، لكنها في الوقت نفسه تفرض تحدّياتٍ جديدةً مثل احتمال إساءة المتلقّي فهمَ الفكرة نتيجةً لمشاكل المحتوى الرقمي. عندما يتعلق الأمر بالسخرية فالموضوع يحتاج إلى جهدٍ أكبر، فأنت بحاجةٍ لما هو أكثر من صياغةٍ واضحةٍ، بل لا بدّ من عدم خسارة النكتة وتعريض المحتوى للتحريف وإساءة الاستخدام باجتزائه أو نشره في سياقٍ مخالفٍ لما نشر عليه. كلّ ذلك يزيد تعقيد الأمور على المشتغلين في هذا المجال، إضافةٍ لكلّ التعقيدات التي استعرضناها، خصوصاً مع ضرورة تأكّد الكاتب من وضوح رسالته دون أن تفقد السخرية قوّتها النقدية.


كتبت سارة جيه بيرتون، الباحثة في الجامعة الوطنية الأسترالية، أطروحتها عن دراسات الإعلام، متحدّثةً عن دور الأخبار الساخرة وسيلةً للتعبير عن الرأي العامّ والمساهمة في النقاشات الديمقراطية والتعبير عن وجهات نظرٍ معارضةٍ، واضعةً بذلك يدها على الجرح المثخن في المنطقة. فقد حدّدت أربعة شروطٍ على السخرية السياسية توفيرُها كي تؤثّر بقوّةٍ في المجتمع، وهي أن يكون الجمهور مستعدّاً للخروج من حالة اللامبالاة والتخاذل السياسي إلى الاستعداد للفعل. وأن يكون لدى المؤلف ثقةٌ في قدرته على التأثير في الشؤون العامة. ووجود جمهورٍ واسعٍ مهتمٍّ بتطبيق هذه الأفكار. والشرط الأخير وجود حرية تعبيرٍ تسمح للمؤلف باستخدام قلمه للسخرية بلا تردّدٍ وتعطي مجالاً للجمهور لتناقل المحتوى وإيصاله على نطاقٍ واسع. وهو ما يجعل هذا الجنس الأدبيّ ذا تأثيرٍ محدودٍ حتى الآن على عكس التجارب في ديمقراطيات العالَم، ومن يعمل فيه محكومٌ بالخوف والتردّد.

وتناقش بيرتون في أطروحتها أن الفكاهة لا تفكّك بنية المجتمع فحسب، بل حتى مفهوم البنية نفسه. فالنكتة تواجه بنيةً ذات صلةٍ ببنيةٍ أخرى أقلّ وضوحاً. وبهذه الطريقة يمكن للكاتب الساخر أن يُضعِف شرعية الهيكل المفاهيمي السائد والقائم على "حُرمة" نقد المبادئ والمعتقدات والأشخاص والرموز وعدم الخوض في الدين أو السياسة أو الجنس. فالسخرية تبدأ عملها من جذر موضوع "التقديس" وليس لانتقاد الموضوع وحسب، وتفتح النقاش في ما يجعل من هذا الموضوع أو تلك الفكرة أو ذاك الشخص فوق مستوى النقد. فشكل الخطاب الساخر يمتلك قدرةً فريدةً على تفكيك المواقف والأعراف التقليدية وكشف الحقيقة. وكم من نكتةٍ شعبيةٍ في تسعينيات القرن الماضي مثلاً ناقشت قضايا جنسيةً ودينيةً وسياسيةً عن رموز الأنظمة في مقابل عدد المقالات والأخبار والتحليلات المنتشرة في حقبةٍ ميّزتها الأحكام العرفية والقمع في عدّة دولٍ عربية. فالنكتة التي تقال في سياق الكلام بين العوامّ تكون مضحكةً ومقبولةً وسريعة الانتشار، حتى لو تكلّمت عن شأنٍ سياسيٍ أو دينيٍ أو جنسيٍ، لكن لم يكن مسموحاً للصحافة والإعلام تناول هذه المواضيع بالقدر نفسه من الأريحية والقابلية للانتشار. 

تظلّ السخريةُ واحدةً من أعقد الأدوات في مواجهة القضايا السياسية والاجتماعية. فهي قادرةٌ على كشف التناقضات وتسليط الضوء على الحقائق المخفيّة، ولكنها أيضاً تواجه في العصر الرقميّ خطر إساءة الفهم أو رفض الجمهور. بين النقد اللاذع وضرورة الاحترام العاطفي للمقدّسات، تقف السخرية على حافّةٍ رفيعةٍ، تحاول فيها إعادة تشكيل الخطاب العامّ دون أن تخسر جمهورها. يبقى التحدّي الأكبر هو: كيف يمكن للسخرية أن تستمرّ أداةً نقديةً فعّالةً في زمنٍ تتزايد فيه الحساسيات والرموز الثابتة، دون أن تُسكِتها تلك القيود غير المرئية.

اشترك في نشرتنا البريدية