الوثائق الفِرنسية تكشف ما يجهله الجزائريون عن زعمائهم

يُغيَّب الكثير من سِيَر رؤساء الجزائر ويُختصر الباقي في سطورٍ قليلةٍ لا تكشف شيئاً عن ماضيهم النضالي أو ما يحدث داخل أروقة السياسة.

Share
الوثائق الفِرنسية تكشف ما يجهله الجزائريون عن زعمائهم
اختطاف طائرة زعماء الثورة الجزائرية المتوجهة إلى تونس سنة 1956، واعتقالهم. وهم من اليمين إلى اليسار: محمد خيضر ومصطفى الأشرف وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف وأحمد بن بلّة

فكّرتُ سنة 2021 في كتابة سيرة الرئيس الجزائري السابق محمّد بوضياف، المتوفّى سنة 1992 والذي لم تدُم رئاسته أكثر من ستّة أشهرٍ، إذ انتهت بمأساةٍ بعد أن أُطلق عليه الرصاصُ وهو يلقي خطاباً في مدينة عنّابة. ومع هذه الفترة القصيرة التي جلس فيها على كرسيّ الرئاسة، إلّا أنّه صار أكثر شخصيةٍ سياسيّةٍ رسوخاً في المخيّلة الجزائرية. وهو أكثر رئيسٍ تتسمّى بِاسمِه المنشآت في البلد؛ من المركّب (المَلعَب) الأولمبي في العاصمة إلى روضة أطفالٍ في أقصى بلدةٍ. مع ذلك لا نَحوز سيرةً عنه، ولم يخلّف الراحل بقلمه سوى كتابٍ واحدٍ بالفرنسية بعنوان "الجزائر، إلى أين؟"

في هذا الكتاب يسرد بوضياف ظروفَ اعتقاله وحبسه في أعماق الصّحراء عقب معارضته للرئيس أحمد بن بلّة سنة 1963. ويسرد عزله عن المشهد السياسي ثم انخراطه في إضرابٍ عن الطعام أودى به إلى المستشفى قبل أن يفرَج عنه ويغادر إلى فرنسا ثم إلى المغرب حيث قضى ربعَ قرنٍ في المنفى. أُعيدَ بوضياف سنة 1992 إلى بلده رئيساً قبل أن يلقى خاتمته أمام الملأ وعلى شاشة التلفاز. 

بدت لي فكرة تدوين سيرة بوضياف أمراً ممكناً. فنحن نتحدّث عن رئيس بلدٍ، يُفترَض أنّه شخصيّةٌ عامّة. ولا بدّ أنّ هناك أشخاصاً على قيد الحياة رافقوه وعرفوه عن قرب وبوسعهم مساعدتي في مسعاي. ويجمعني مع بوضياف أننا عرفنا مدرسةً واحدةً، وهي مدرسة سيدي ثامر التي يعود تأسيسها إلى عام 1856. شرعتُ في تقليب الأرشيف الفِرنسي وفي مساءلة مقرّبين من الرئيس الراحل، قبل أن أصطدم بحقيقة أننا لا نعرف سوى القليل عنه. رئيسٌ سابقٌ للجزائر، الجميع يتحدّث عنه، لكننا لا نعرف إلا القليل عن حياته. 

والأمر لا يقتصر على بوضياف، بل نحن لا نعرف كثيراً عن حياة الرؤساء الذين تناوبوا على حكم البلاد منذ استقلالها عام 1962. هؤلاء الرؤساء تنازلوا عن تدوين سيرهم، وفتحوا الباب للشّائعات. ومع أنّهم كانوا ضيوفاً على بعض البرامج التلفزيونية الفضائية إذ أُجريَت معهم حواراتٌ صحفيةٌ، مثل برنامج "شاهد على العصر" على قناةِ الجزيرة الذي استضاف أحمد بن بلّة، إلا أنّ سِيَرهم الذاتية الحقيقية بقيَتْ حبيسةَ الأرشيف الفِرنسي أو الجزائري الذي يصعبُ الوصول إليه. و تضافرت ظروفٌ مَنَعَت نشرَ جزءٍ كبيرٍ من سِيَرِ رؤساء الجزائر مثلما حدثَ مع الجزء الثاني من مذكّرات الرئيس الشاذلي بن جديد، التي أُعلن سابقاً عن إمكانية صدورها، لكنها لم ترَ النّور. ولاحظتُ في أثناء تفتيشي في الوثائق السرّية التي اطّلعتُ عليها أنّ تكتّم الرؤساء الجزائريين على سِيَرهم ينبعُ في معظمه من خلفيّاتهم النضاليّة، فقد تدرّب هؤلاء من قَبل استقلال البلاد على العمل السرّي حتى صار جزءاً من شخصياتهم. هذا عدا عن خوفِ بعضهم من تأثير ماضي عائلاتهم أو ماضيهم الشخصي المُرتَبط بالسلطات الاستعمارية على مستقبلهم السياسي، فقدَ جُنِّدَ كثيرٌ منهم مثل بقية الجزائريين في الجيش الفِرنسي. وهذا ما كشفَتْه لي سيرةُ محمد بوضياف وأنا أهُمّ بالكتابة عنه.


كان بوضياف من مخطّطي حرب تحرير الجزائر بين عامَيْ 1954 و1962، وعضواً في مجموعة السّتة، وهم ستّة مناضلين اجتمعوا سرّاً في 23 أكتوبر 1954 وأعلنوا الحرب على الاستعمار. واعتُقِل سنة 1956 بعدما حوّل الفرنسيون مسارَ طائرةٍ متجهةٍ إلى تونس كان على متنها مع أربعةٍ من رفاقه. قضى في السّجن ستّ سنواتٍ، ولم يخرج إلا بعد الاستقلال. وإثر خروجه انضمّ إلى الحكومة المؤقّتة مدّةً قصيرةً قبل أن يختلف مع رئيسها أحمد بن بلّة وتسجنه السلطات الجزائرية هذه المرّة. نُفِيَ بعدها إلى فرنسا ثمّ المغرب قبل أن يعود سنة 1992 إلى الجزائر التي دفن فيها بعد اغتياله في يونيو من العام نفسه. هذا هو ملخص حياة محمد بوضياف كما يجري تداوله على الإنترنت أو في الصّحف. قد تضاف شذراتٌ عن ميلاده في 23 يونيو 1919 في بلدة المسيلة، أو أنّه عمل في مصلحة الضّرائب في سنوات شبابه. ثم نواجه فراغاً شاسعاً في معرفة حياة الرجل قبل حرب التحرير. 

هناك تِسعُ سنواتٍ غائبةٌ من سيرة بوضياف. وهذا ما جعلني أتساءل عمّا كان يفعله إبّان الحرب العالمية الثانية، وفي الفترةِ ما بين نهاية الحرب العالمية الثّانية وبدء حرب التّحرير في الجزائر. ثمّ سنواته الخمس والعشرون في المغرب الشقيق التي نكاد لا نعرف شيئاً عنها سوى أنّه قضاها مشرفاً على ورشةٍ تصنع أدوات بناء. مناضلٌ شهيرٌ يقضي ربع قرنٍ في صناعة موادّ البناء وحسب. هنالك أمرٌ ضاع من سيرته، وهذه المعضلة الأولى التي واجهَتْني في تدوينها. لم أعثر على وثيقةٍ واحدةٍ في الجزائر تعينُني في تغطية هذه الحقب المغيَّبة من حياة بوضياف. 

حاولتُ الإجابة عن هذه الأسئلة بسؤال الأشخاص القريبين منه. في البدء تواصلتُ مع وزيرٍ سابقٍعمل مستشاراً لمحمّد بوضياف سنة 1992. سألته في رسالةٍ بريديةٍ أن يفيدني عن الحقب التي تُغيَّب فيها معلوماتٌ عن الراحل. وجاء جوابه صريحاً: "في كلّ مرّةٍ كنتُ ألتقي فيها محمّد بوضياف وأتحدّث إليه لَم يَذكرْ لي حياتَه السابقة. بالتّالي لا يمكن أن أفيدك بشهادتي"، ثمّ أردف: "لا أعرف مصادر مكتوبةً تنفعك في بحثك… متأسّف أنني لا أستطيع مساعدتك". وواجهتُ الحالَ نفسه عندما اتصلتُ بناصر بوضياف، نجل الراحل، الذي لم يفدني بمعلوماتٍ أو مصادر عن حياة والده قبل حرب التحرير. ثم تواصلتُ مع مالك بن سماعيل، مخرج الفيلم الوثائقي "بوضياف، أملٌ مغتال" الصادر سنة 1999. يحكي الفيلم عن مصرع الرئيس وما أحاط به من ظروف. سألت مالك إن كان يحوز معلوماتٍ عن سيرة الرجل، وككلّ مرّةٍ جاءت الإجابة بالنفي. 

شعرتُ بخيبة أملٍ، وظننت أن المشروع الذي نويتُه لن يبلغ منتهاه. فإذا كان المقرّبون من محمّد بوضياف لا يعرفون شيئاً عنه، فمن سوف يعينني في الوصول إلى ماضي الرجل؟ والأرشيف في الجزائر شبه محظور. تَوجَّب الذهاب إلى فرنسا قصدَ التعرّف على سيرة رئيسٍ حَكَمَ البلاد. فالتّاريخ الذي صنعته الجزائرُ ينام في فرنسا. 


في جنوب فرنسا، تقع مدينة آكس أون بروفانس، على مقربةٍ من مارسيليا. وهناك تتكدس  قناطير من الوثائق في مركز أرشيفِ ما وراء البحار الذي أُنشِئ سنة 1966. وتتضمّن رفوفُه جزءاً معتبراً من تاريخ الجزائر الحديث. وفيه تاريخ بوضياف الشخصي الذي لم يصبح معروفاً عند عامّة الفرنسيين إلّا بعد 12 يناير 1959 عندما نشرت صحيفة لوموند سيرةً مختصرةً عنه تقول: "محمد بوضياف، كان مناضلاً في صفوف حركة انتصار الحرّيات الديمقراطية [التي تفرّعت منها جبهة التحرير الوطني]، ومن مؤسّسي اللجنة الثورية من أجل الوحدة والعمل، وكان من مشعِلي الانتفاضة المسلّحة في 1 نوفمبر 1954. كان كذلك لاجئاً في القاهرة. حُكم عليه غيابياً مرّتين، بعشر سنواتٍ ثم ستّ سنواتٍ سجناً". وهذا التّعريف تكرّر في السّنين التالية، بل إلى غاية اليوم عند الحاجة لاختصار حياة محمّد بوضياف. 

وإن تأخّر التّعرّف على بوضياف في الأوساط العامّة، فقد كان اسماً معروفاً عند الشرطة الاستعماريّة التي كانت تبحثُ عنه منذ 22 نوفمبر 1954. ذلك ما تفيدنا به وثائق مركز أرشيفِ ما وراء البحار، فقد عمّمت الشرطةُ برقيّةً للبحث عنه. نصادف مع مواصلة التقليب في ذلك الأرشيف مراسلاتٍ بين مخافر الشرطة في البحث عن بوضياف وعجزها عن الوصول إليه إلى غاية أكتوبر 1956، عندما اعتُقِل على متن الطائرة. وممّا يتبيّن من ذلك الأرشيف كذلك أن بوضياف كان شخصاً لا يمكث في مكانٍ، بل يتنقّل من مكانٍ إلى آخَر. وكثرة التّنقل تعني عدم الاستقرار مع أشخاصٍ بعينهم، وعدم إتاحة آثارٍ أو شهاداتٍ متينةٍ عقب وفاة الشخص، ممّا صعّب من حفظِ سيرته. 

بالعودة إلى أرشيف الشرطة الاستعمارية، أمكننا أن نطالع بطاقةً شخصيةً عن محمد بوضياف، خُتم عليها كلمة "سرّي". تخوض البطاقةُ بالتفاصيل عن أهله وقبيلته، وتفيد بمعلوماتٍ يتعذّر الوصول إليها في الجزائر. نجدُ في هذه الوثيقة تاريخَ ميلادٍ مختلفٍ عن الشائع، إذ تشير الوثيقة إلى أنّ محمد بوضياف وُلِدَ في 26 يونيو 1919 بدلاً من 23 يونيو كما يُتداول في الجزائر. عاشَ والده خيّاطاً وينتمي إلى عائلةٍ لها سلطةٌ في بلدة المسيلة. وكان من بين أفراد هذه العائلة آغاواتٌ، ومفردُها آغا. وكانت وزارة الحرب الاستعمارية هي من تعيّن الآغا، فيصير وسيطاً بين الأهالي والمستعمرين. يجمع الآغا الضّرائبَ من الأهالي ويتابع تنفيذ الأوامر القضائية من سجنٍ أو تغريم. ويبدو أنّ هذه النقطة أيضاً كانت سبباً في التعتيم على سيرة محمد بوضياف. فلا أحد يُرضيه أن ينتسب إلى الآغاوات، فقد كان لهؤلاء الموظفين في الإدارة الاستعمارية سمعةٌ سيّئةٌ في المخيّلة الجزائرية. تتوارث الأجيال حكاياتٍ مفادها أنّهم كانوا أكثر تسلطاً من المستعمرين أنفسهم. لكن محمد بوضياف لا ذنب له في هذا الأمر. فهو لم يختر القبيلة التي وُلد فيها وليس مسؤولاً عما جرى فيها ولا عن خيارات أهلها. ثمّ إن تلك البطاقة الشخصية تنصفه كذلك عندما تتحدّث عن شقيقٍ له يدعى محمود بوضياف كان ناشطاً من أجل التحرّر وعضواً في المكتب السياسيّ للحزب الشيوعي. وهذه المرّة الأولى التي جاء فيها ذِكر واحدٍ من إخوة محمد بوضياف الذين لا نعرفهم ولم يَرِدْ شيءٌ عنهم في الحديث عن أخيهم الرئيس الجزائري سابقاً. 

يتواصل تعريف بوضياف في الوثيقة الفرنسيّة بأنه أتمّ دراسته الابتدائية وتمتّع بمستوىً تعليميٍّ جيّد. ثمّ تفيد بإشارةٍ هامشيةٍ إلى أنّه "ذكيٌّ جدّاً". وقد أدّى خدمته العسكرية في الفوج الخامس والستّين للمدفعيّة، وهو فوجُ ملحقٌ بالجيش الفرنسي، شارك في "تحرير إيطاليا" إبان الحرب العالمية الثّانية. وهذه كذلك واحدةٌ من التفاصيل المحرِجة في سِيَر المناضلين السابقين. فقد جرت العادة أن يتفادوا الإشارةَ إلى انخراطهم في الجيش الفِرنسي. هذا الجيش الذي سوف يناضلون ضدّ وجوده في وطنهم. مع أن محمّد بوضياف لا يد له في هذا الأمر مرّةً أخرى. فالتجنيد كان إجبارياً، لا سيّما في حقبة الحرب العالمية الثانية، وهي الحقبة التي أدّى فيها الخدمة. مثلُ هذه التّفاصيل تبدو هامشيةً في البداية، ولكن مِن شأنها أن تكون سبباً في تعطيل الوصول إلى سيرة محمد بوضياف كاملة. ربما لم يشعر الرجل براحةٍ في العودة إلى ماضيه، بأن يعرف الناسُ نَسَبَه أو أنّه أدّى الخدمة العسكرية في الجيش الفِرنسي. 


واصلتُ تقليب الأرشيف بحثاً عن سيرة محمّد بوضياف المغيَّبة، مثل من يريد تركيب قطع أحجية. الأرشيف واسعٌ والمعلومات وفيرةٌ، لكنها في حاجةٍ إلى عينٍ فاحصة. وقّعتُ على وثيقةٍ صادرةٍ مرّةً أخرى عن الشرطة الاستعمارية بتاريخ الحادي عشر من نوفمبر 1954، وتحمل كذلك صيغةَ "سرّي". من هذه الوثيقة نعرف أن محمّد بوضياف كان يتخفّى من أعين الأمن بأوراقٍ ثبوتيةٍ مزوّرة. كان يحمل جوازَ سفرٍ بِاسم "بوكلمون بوخميس"، وبطاقةَ هويةٍ بِاسمِ "دريدي محمّد". إن النشاط السياسيّ الذي خاضه محمّد بوضياف في سنوات الخمسينيات، بقصدِ التحضير لحرب التحرير، ألزمه الحذرَ الشديد وعدمَ الثقة في الآخَرين مع التخفّي وراء أسماءٍ مستعارةٍ ووثائق مزوّرة. وهي ممارسةٌ طبيعيةٌ من مناضلٍ حُكم عليه غيابياً في مناسبتين ويبحثُ عنه أفراد الأمن الاستعماري. وأظنّ أن هذا الأمر كانَ له بالغ التأثير على شخصية محمّد بوضياف. فعدم الثقة في الآخَرين أدّت به إلى عدم الثقة للبوح بحياته، أو مقاسمة الآخَرين سيرته. ومن المرجّح أن رؤساء آخَرين حَذَوا حذوَه. بما أنّهم خرجوا من بوتقة النضال السرّي، فذلك النضال جعلهم يتكتمون على حياتهم. 

ويكشف الأرشيف السرّي الفرنسي عن علاقة محمّد بوضياف مع الرئيس جمال عبد الناصر في مصر وكيف كان يمدّه بالمعلومات عن تطوّرات الوضع في الجزائر. يحيلنا هذا إلى الدور المزدوج الذي أدّاه الراحل، بتنظيم الأساس النضاليّ في الدّاخل والتقرّب من حلفاء محتملين في الخارج. وهذا تفصيلٌ آخَر يضاعف شعورَ الريبة تجاه الآخَرين، فعمله كان يفرض عليه السرّية وأن يكتم لسانه. 

بتتبّع سيرة محمد بوضياف، كما وردت في الأرشيف الخارجيّ، يمكننا أن نفهم ذهنيّة الرجل. وهي تتطابق مع ذهنية رؤساء الجزائر الآخَرين مثل هواري بومدين الذي كان مسؤولاً عن تهريب السلاح من المغرب إلى الجزائر. فقد خرج جُلُّهم من العمل النضاليّ السرّي على غرار أحمد بن بلّة الذي تدرّج في السياسة منذ انخراطه في المنظمة السرّية، وهي منظّمةٌ مسلّحةٌ ظهرت قبل حرب التحرير، وهو الذي قاد أوّل عمليةٍ ضدّ الاستعمار في السطو على مركز بريد وهران عام 1949. ولم يكن تكوين رؤساء الجزائر السياسيّ تكويناً صريحاً، بل تعلّموا السياسة من ممارسة الحرب. وهذه الممارسة تحتّم عليهم إخفاءَ ما يعلمون، مما أدّى إلى عدم تدوين سيرهم. هذا فضلاً عن أنّ رؤساء الجزائر السابقين يعلمون ردود فعل الناس إزاء أيّ علاقةٍ بفرنسا، نظير الظروف التي أجبرتهم على خدمة الجيش الفرنسي قبل حرب التحرير. لذلك لا يفكّرون في كتابة سيرهم لأنّها ستكون سيراً مترابطةً مع التاريخ الفرنسيّ في الجزائر. وهذه نقطةٌ يريدون إخفاءها، مع أنّهم ليسوا مسؤولين عنها، بحكم أن الجزائر قبل 1962 كانت مستعمرةً فرنسية. 


لا يقتصر حرج رؤساء الجزائر السابقين على ما فعلوه إبّان الاستعمار، بل يمتدّ ليشمل ما فعلوه بعد الاستقلال. ففي كتاب "تاريخ الجزائر، منذ النشأة إلى اليوم" للمؤرّخ الفرنسي ميشال بيار، الذي عاشَ في الجزائر، نطالع تصريحاً ورد على لسان علي يحي عبد النور، من مناضلي حرب التحرير وشغل منصب وزيرٍ في نهاية الستينيات، يقول فيه: "حرب التحرير ليست من صلاحيات من قاموا بها، بل حكراً على من ظفروا بها مثل من يظفر بغنيمة حرب". هذا التصريح يكشف تعقيدات حرب التحرير الجزائرية التي شابتها مناطق ظلٍّ وتضمّنت أشياء لا نعرفها. ومن ظفروا بهذه الحرب هم الذين حكموا البلاد عقب الاستقلال. فعقب خروج الفرنسيين، سادت صراعاتٌ بين إخوة الأمس. وفي ليلة 19 يونيو 1965، وتبعاً لأوامر هواري بومدين، وُقِّفَ الرئيس أحمد بن بلّة في بيته ثمّ سُجِنَ، كما يروي ميشال بيار. سادت عقب الانقلاب على بن بلّة مظاهراتٌ في وهران وعنّابة مناهضة لهذا الانقلاب. 

هل كان بوسع هواري بومدين، الذي حكم البلاد بين 1965 و1978، أن يروي سيرته ويحكي عن انقلابٍ عسكريٍ خطّط له؟ في اليوم الموالي من الانقلاب خرج هواري بومدين في بيانٍ بثّه في الإذاعة، يتّهم فيه سَلَفَه بن بلّة بأنّه "مهووس بالسلطة". ثمّ حلَّ الحكومةَ وناب عنها ما أطلق عليه مجلس الثّورة الذي ترأّسه بومدين نفسه وشكّله من سياسيين ومن مناضلين سابقين. واستمرّ الحال كذلك إلى غاية 1976، والبلاد يسيّرها مجلسُ ثورةٍ بدل حكومة. هل يصحّ أن يتّهم بن بلّة أنّه "مهووس بالسلطة"، ثم يستحوذ بومدين نفسه على الحكم؟ والنقطة المشتركة بين أحمد بن بلّة وهواري بومدين أنّهما وصلا إلى الحكم بمنطق المناضل لا السياسي. المناضل يدخل السياسة مثل من يدخل معركةً، يفكّر في كسبها لا في تدوينها. 

تعزّز هذه الفكرة قصّة الجزء الثاني من سيرة الرئيس الشاذلي بن جديد التي لم ترَ النور أبداً. رحل الصحافيّ الجزائريّ عبد العزيز بوباكير عن الدنيا سنة 2022. أُسندَ إلى عبدالعزيز تدوين مذكّرات الرئيس الشاذلي بن جديد الذي حكم البلاد بين عامَيْ 1979 و1992. صدر الجزء الأوّل من هذه المذكرات عام 2011 عن دار القصبة في الجزائر بعنوانٍ فرعيٍّ "ملامح حياة" وغطّى الفترة من ميلاد بن جديد إلى 1979 أي السنة التي تولّى فيها رئاسة الجزائر. في هذا الجزء الأوّل لا يسرد الرئيس الشيءَ الكثير عن السياسة وصراعاتها وما جرى في الغرف الخلفيّة من الحكم، مكتفياً بالحديث عن حياته الشخصية. وكان يُفترَض أن يخوض في الشؤون الحسّاسة في الجزء الثاني من المذكرات، لا سيّما أن بن جديد قد ترأّس البلاد في فترةٍ حرجةٍ، شهدت حروباً إقليميةً وصراعاتٍ في الداخل أدّت إلى استقالته. لكن الجزء الثاني لم ير النور. وعندما سألت بوباكير عن مصير الجزء الغائب من هذه المذكّرات، جزم أنّه قد أتمّ عمله وسلّم نسخةً محرّرةً إلى الناشر، وأنه هو نفسه لا يعلم مصيرها. قال لي ذلك سنة 2019 في لقاءٍ معه في الجزائر العاصمة، ثم همس في أذني أنّ من المسؤولين من يضرّهم صدور الجزء الثاني من المذكّرات. 

الكتاب الثاني لم يصدر حتى الساعة، وليس ثمّة بوادر صدورٍ له، على الأقلّ في المستقبل القريب. هل يمكن أن الشاذلي بن جديد نفسه تراجع عن إصدار مذكّراته قبيل وفاته؟ أو أن عائلته تراجعت عن ذلك؟ هذا تساؤلٌ مشروعٌ، لكن الأكيد أننا ضيّعنا فرصةً في التوصّل إلى مذكراتٍ كاملةٍ عن رئيسٍ في الجزائر، وضاعت على القرّاء والباحثين فرصة النظر إلى غرف السلطة من خلفِ سِتار. 

الشاذلي بن جديد هو الوحيد بين رؤساء الجزائر الذي تجرّأ على التفكير في نشر مذكّراتٍ، ولم يسبقه إلى هذا الفعل واحدٌ من الذين سكنوا قصر المرادية. لكن مشروعه لم يتمّ ولم يفدنا بردٍّ عمّا يجري تداوله من شائعاتٍ عنه، كالقول إن الرجل كان يقضي وقته في ركوب "جيت سكي" أو دبّاب البحر في شواطئ وهران كلّما شعر بتعبٍ من السياسة. ولم ينفعنا بجوابٍ حاسمٍ عن ظروف استقالته، بين من يقول أنّها استقالةٌ عفويةٌ ومن يشيع بأنّها جاءت تحت ضغط مقرّبين منه.

وقبل الشاذلي، فإن أحمد بن بلّة، أوّل رئيسٍ للجزائر، فكّر في تدوين مذكراته لكنه لم يفعل. اكتفى بحوارٍ مطوّلٍ مع الصحافيّ الفرنسيّ روبير ميرل سنة 1964، وصدر هذا الحوار في كتابٍ حمل عنوان "أحمد بن بلّة" في العام الموالي عن دار غاليمار بباريس. كان يفترض أن يصير هذا الكتاب حدثاً، لأنّ الرئيس كان مسجوناً حينذاك، لكنه مرّ مرور الكرام. ويخبرنا روبير ميرل من البداية: "وكان [بن بلّة] لا يريد أن يبوح بأشياء، وذات مرّةٍ شرح لي السببَ في أنّه لم يكن يرغب في الخوض في مسائل داخليةٍ تخصّ حكومته". وتضمّن ما يعتقد أنّها سيرةٌ شذراتٍ من حياة بن بلّة من طفولته إلى مشاركته في الحرب العالمية الثانية ثم حرب التحرير. لم يحكِ عن الظروف التي جعلت منه رئيساً سنة 1962 ولم يردّ على الشائعات التي تفيد بأنّه كان يستفرد بالحكم وأن وزراءه واجهةٌ له. فقد كان يقفز على المحطّات الأساسية، مسهباً في الكلام عن علاقته مع فيديل كاسترو وإعجابه بالنموذج الكوبيّ، ورغبته في تطوير الزراعة في البلاد.

وإن تنازل الرؤساء في الجزائر عن تدوين مذكراتهم فهناك من ناب عنهم. وعبد العزيز بوتفليقة هو أكثر رئيسٍ كُتِبَت عنه مذكّرات. أوّلها نَشَرَها الصحافي محمد بن شيكو سنة 2004 بعنوان "بوتفليقة، افتراء جزائري". يروي هذا الكتاب سيرةً بهِجاءٍ غيرِ مبرّرٍ للرئيس السابق، فقد صدر في وقتٍ كان فيه بوتفليقة يخوض حملةً انتخابيةً من أجل عهدةٍ رئاسيّةٍ ثانية. وقد كُتب على عَجَلٍ، وذلك ما يعترف به المؤّلف منذ مقدمة الكتاب عندما يقول: "قد يبدو هذا الكتاب عملاً غير متقن، وذلك أمرٌ لا شكّ فيه، اضطررت إلى الانتهاء منه قبل انتخابات 2004". وكلّف صاحبَه سنتَيْن في السجن. لَم يُسجن بن شيكو بسبب الكتاب، بل أتّهم بتهريب العملة إلى الخارج وألقي القبض عليه في المطار وهو بصدد السفر. وتوقفت جريدته "لوماتان" الناطقة بالفرنسية عن الصدور. عقب سجن بن شيكو لم يظهر كتابٌ آخَر عن بوتفليقة إلى غاية استقالته من الحكم في 2 أبريل 2019 عقب مظاهراتٍ رافضةٍ لعهدته الرئاسية الخامسة. فتوالت الكتب مثل "بوتفليقة، رجل القَدَر" لعبد العزيز بوباكير، و"بوتفليقة، التاريخ السرّي" لفريد عليلات، وهُما محاولتان جادّتان، لكنّهما تفتقران إلى دلائل أو وثائق كافية.


صدر كتاب "خزّان البارود الجزائري" في فرنسا، للصحافيين الفرنسيين بيار ديفوليي وميرال دوتوي سنة 1994، أي عامين عقب اغتيال محمّد بوضياف. والكاتبان صحافيان عَرفا الرئيس السابق عن قربٍ، وكَتَبا عنه في مؤلّفهما بناءً على مصاحبتهما له. في هذا الكتاب، يخبرنا بوضياف عن حلمٍ راوده في نومه، أياماً قبل أن يلقى حتفه. رأى فيه نفسَه وقد عاد إلى السجن الذي حبسه فيه الفرنسيون نهاية الخمسينيات. يجلس في قاعةٍ فسيحةٍ بعدما غادرها ضابطٌ مُستاءٌ منه، وترك البابَ من خلفِه موارباً، فانتهز بوضياف الفرصة وتقدم إلى الأمام مُحاولاً الفرار. ووجد نفسه في رواقٍ معتمٍ يفضي إلى حجرة مستشفىً مضاءةً، يتوسطها سريرٌ تغفو فيه فتاة. يدنو منها بوضياف ويمسك بيدها، تفتح عينيها فيستفيق من نومه. لم يعرف تفسيراً للحلم في حينها. وواصل حكمَ الجزائر في زمنٍ مضطربٍ، شَهدَ صعودَ التطرّف الدينيّ في البلد. 

في ذلك الكتاب نطالع علاقةَ بوضياف بالرياضة وحرصه على متابعة التنس وبطولة رولان غاروس، وشغف أبنائه الثلاثة من زوجته الثانية فتيحة بالرياضة كذلك. أوسط أبنائه المسمّى توفيق كان يرأس نادي القنيطرة لكرة القدم في المغرب. ثمّ يسرد الكتابُ اللحظاتِ الأخيرةَ من حياة بوضياف في قاعةٍ احتشد فيها ما يربو عن 900 شخصٍ في مدينة عنّابة جاؤوا للاستماع إليه. فوجدوا أنفسهم يَشهَدون أنفاسَه الأخيرة. 

بالعودة المتأنّية إلى حياة بوضياف، كما وردت في الأرشيف الفرنسي، ندرك هذه العلاقة المتقلّبة مع الماضي، ممّا يجعل الرؤساءَ في الجزائر يميلون إلى اختصار سِيَرهم في نضالهم في الحركة الوطنية، من غير إطالةٍ، ومن غير عودةٍ إلى تفاصيل من حياتهم الشخصية. إنهم يريدون الظهور في جلدِ من وُلِد مناضلاً وكفى، وليس في صفة مواطنٍ بإنسانيته وأخطائه. مع أن الأخطاء تزيد من إنسانيّة المناضل. خشيتهم من أن يحاكمَهم الناسُ على زلّات الماضي، تجعلهم يكتمون سِيَرَهم عن أقرب الناس إليهم، ولا يظهرون أمام الآخَرين سوى في صورٍ أو في خطاباتٍ، عندما يتولّون الحكم.

اشترك في نشرتنا البريدية