من حصن القاهرة لقصر العاصمة.. قصور حكام مصر بين الهيبة والخوف

أصرّ أغلب حكام مصر على مدار عشرة قرون على أن يكون مقرّ الحكم منعزلاً عن العامة، تعزيزاً لهيبة الحكم أو خوفاً من الشعب.

Share
من حصن القاهرة لقصر العاصمة.. قصور حكام مصر بين الهيبة والخوف
الاحتفاء بالعمارة السلطوية بغض النظر عن واقع المصريين ملاحظ في الإعلام المصري

أثناء قمة مجموعة دول الثماني النامية التي عقدت في مصر في ديسمبر 2024، نَقلتْ الشاشات مشاهد من داخل القصر الرئاسي الجديد في العاصمة الإدارية. والقصر الرئاسي الجديد مبنيّ على خمسين ألف متر مربع، أي ما يقارب عشرة أضعاف مساحة البيت الأبيض في العاصمة الأمريكية واشنطن. شدَّ القصر الأنظار ببنيانه المشيد والمساحات الواسعة من الحدائق، التي يصطف فيها اثنان وعشرون أسداً، لتحاكي الكباش الفرعونية في الأقصر والبحيرات الصناعية التي تحيط بحرمه. تشبه واجهة القصر قرص الشمس المجنح، الذي كان رمزاً للحماية في الحضارة المصرية القديمة. أما القصر، فيحتوي على مجمع رياضي ومهبط للطائرات المروحية. وفي داخل القصر استنسخت العديد من قاعات قصر عابدين وسُمّيت بنفس أسمائها، من قاعة الاستقبال ذات الطراز الإسلامي إلى القاعة البيزنطية.

خلق القصر الرئاسي الجديد ردود فعل متباينة. فقد رأى مناصرو النظام فيه صورةً لمصر وحاضرها ومستقبلها، ما يعني تغليب الاعتبارات الأمنية والرمزية السياسية على أي شيء آخر. فالقصر، بضخامته وبهرجته، ضروري لتعزيز أمن رأس السلطة وإظهار قوة الدولة على المستوى الدولي. وهذا الاتجاه برز في تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي في سبتمبر 2019. فقد دافع عن بناء القصور الرئاسية لأنها تعبيرٌ عن قوة مصر وحجمها، مؤكداً أنه سيبني المزيد من القصور الرئاسية، لأنها ليست له بل هي باسم مصر. في المقابل يرى قطاع من رواد مواقع التواصل الاجتماعي في القصر صورةً للبذخ في العمارة في دولةٍ تعاني من أزمة اقتصادية خانقة. ما قد يمثل تعبيراً عن هواجس أمنية وسلطة متعالية.

المتأمِّل في هذا الصرح الضخم قد يراه –بالعودة إلى تجارب التاريخ والنظر إلى قصور الحكم في مصر على مدار ألف سنة تقريباً– مرآةً عاكسة لطريقة الحكم عبر القرون. فهو ليس مجرد واجهة للسلطة ورمزيتها وحضورها المادي. فمن قاهرة الفاطميين المحصنة إلى قلعة المماليك وصولاً إلى قصر الأسرة العلوية والقصر الرئاسي في العهد الجمهوري، ظلّت هذه المباني شاهدةً على علاقة معقدة بين الحكام والمحكومين، والطريقة التي نظرت بها السلطة إلى طريقة الحكم. لذا عندما تبني الدولة قصر الحكم الجديد بمقاييس بالغة الضخامة، يُطرح سؤال ما إذا كانت هذه المباني تعكس قوة النظام أم رغبته في العزلة عن الشعب. وما يثير الدهشةَ استمرار هذه التقاليد على مدار القرون الطويلة، واستمرار شكل الحكم القديم الذي يُفترض أن الحداثة شجعت الابتعاد عنه نحو أنماطِ حكمٍ أكثر تعبيراً عن طبقات الشعب.


من حسن حظ القاهرة أن بناءها وتطوّرها في العصر الفاطمي موثقان جيداً. والتوثيق ورد في كتابين. الأول بعنوان "الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة" المنشور سنة 1996 لابن عبد الظاهر. أما الثاني فهو للمقريزي، وقد حملَ عنوان "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" ونُشر سنة 1849. يقدّم الكتابان مادةً أرشيفية وشهادات من مؤرخين معاصرين، ورحالة شهود عيان، لبداية المدينة الفاطمية.

غزت جيوش الفاطميين بقيادة جوهر الصقلي مصرَ سنة 969. وسيطرت عليها تحت راية رابع الخلفاء الفاطميين في إفريقيا المعز لدين الله، الذي حَكم ست سنوات بعد الغزو. وضع جوهر الصقلي أسس حصنه شمال عاصمة البلاد، مدينة الفسطاط وقتذاك، وهي أول مدينة عربية في مصر وبناها عمرو بن العاص. الدواعي الحربية وحاجة الجيش الفاطمي للتحصّن كانت سبب اختيار الصقلي لموقع القاهرة. يقول المقريزي: "فبنى القاهرة حصناً ومعقلاً بين يدَي المدينة [أي الفسطاط]"، بل إنه بدأ في وضع أساس معسكره الحربي سريعاً وتحت جنح الظلام. إذ "قصد جوهر باختطاط القاهرة حيث هي اليوم أن تصير حصناً [. . .] فأدار السور اللبن على مناخه الذي نزل فيه عساكره، وأنشأ من داخل السور جامعاً وقصراً، وأعدّها معقلاً يتحصن به وتنزله عساكره".

في كتابه "وصف الأرض" المنشور سنة 1956، وصف الرحالة والجغرافي ابن حوقل القاهرة –التي زارها بعيد تأسيسها– بـ"المدينة الحصن". أشار ابن حوقل، المتوفى سنة 977، إلى أنه أحاط القاهرة "سور منيع رفيع يزيد على ثلاثة أضعاف ما بني بها". وأضاف أنها "خالية كأنها تُركت مجالاً للسائمة عند حصول خوف". يؤكد ابن حوقل على النشأة الحربية للمدينة بترك مساحات واسعة داخل الأسوار لاستيعاب فرق الجيش الفاطمي الضخم من ناحية، واستيعاب عمليات التوسع العمراني مستقبلاً من ناحية أخرى. لكن لماذا قرر الفاطميون من البداية أن تكون عاصمتهم الجديدة في مصر مسوّرة؟


القاهرة أول مدينة مسورة في تاريخ مصر الإسلامية. ويمكن اعتبار تسويرها تكريساً لشعور السلطة الجديدة بالغربة عن المحيط السني والمسيحي للمجتمع المصري حينذاك. فالجيش الفاطمي كان جيش غزو، عصبه الأساس عناصر قبلية من قبيلة كتامة الأمازيغية. وهي غريبة في العموم عن المصريين وتعتنق المذهب الإسماعيلي الشيعي، المخالف لمذهب غالبية مسلمي مصر من أهل السنة، ولمعتقدات أغلبية السكان من غير المسلمين.

يقول المقريزي إن القاهرة تحولت إلى مدينةٍ ملوكية. إذ "لم تزل القاهرة دار خلافة ومنزل مُلك ومعقل قتال، لا ينزلها إلا الخليفة وعساكره وخواصه الذين يشرفهم بقربه فقط". لذا كانت الأسوار في جزءٍ منها تعبيراً عن رغبة الحكام الجدد في الانزواء في حصنٍ مسوَّر بعيداً عن غالبية السكان. وكان الانزواء نتيجة لخبرة الفاطميين السابقة في حكم تونس التي عُرفت حينها باسم "إفريقية". إذ انعزلوا عن الأغلبية السنية بتونس في مدنٍ مسورة، سواء في مدينة المهدية أو مدينة صبرة المنصورية. وهو ما عبّر عنه المؤرخ المملوكي ابن دقماق في كتابه "الانتصار لواسطة عقد الأمصار" المنشور سنة 1893. يقول ابن دقماق إن جوهراً الصقلي بنى القاهرة لسيّده المعز "ليكون هو وأصحابه وأجناده بمعزل عن العامة". فكانت القاهرة في بدايتها مجرّد حصنٍ ملكيّ لخليفةٍ أجنبي غازي وحاشيته، لكي يعيشوا حياتهم داخل الأسوار المحصنة. بينما ظلّت الفسطاط مركز الحياة التجارية لمصر.

يخصّص ابن عبد الظاهر والمقريزي مساحةً معتبرة في كتابيهما عن القاهرة لقصر الخلافة الفاطمي. وكلّ ما وصلنا عنه عِبر مئات الصفحات وصف قاعات قصر الخلافة ومكوّناته وملحقاته. إضافةً إلى طبيعة حياة الخلفاء والطبقة العليا المتحلقة حولهم داخل أسوار مدينة القاهرة الفاطمية. نستدل على عظمة قصر الخلافة (القصر الشرقي الكبير) من تعدد القاعات فيه، مثل قاعة الذهب والزمرد والبحر والفضة. وقاعة الذهب هي مجلس الخليفة الفاطمي الأساسي على سرير من الذهب. ويقول المقريزي عنه: "إن وزن ما استعمل من الذهب الإبريز الخالص في سرير الملك الكبير مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال [المثقال 4.25 غراماً]. وأنه رُصّع بـ1560 قطعة جوهر من سائر ألوانه". أما القصر الغربي، وهو الأصغر، فقد قال المؤرخ المسبحي في كتابه "أخبار مصر" المطبوع سنة 1978 إنه "لم يبنَ مثله في شرق ولا غرب". والمسبحي شهد بناء القصر في القرن العاشر الميلادي. وقد كلّف تجديد هذا القصر في عصر المستنصر بالله، الخليفة الفاطمي الثامن والمتوفى سنة 1094، "ألفي ألف دينار". ما يساوي مليوني دينار ذهبي (الدينار الواحد يساوي 4.25 غراماً). في المقابل لا تذكر هذه الكتب أي معلومة عن الذين بنوا قصر الحاكم. لا ذكر للمهندسين ولا البناة وظروف العمل التي مرّوا بها ومصير سكناهم في ظلّ حضورٍ طاغٍ للسلطة. ويتكرر الأمر نفسه بعد ذلك في الكتب التي تتحدث عن مقرات الحكم، حتى بعد انتهاء عصر السلطنة والملكية في مصر.


مع نهاية الخلافة الفاطمية والتي ظلت تنازع حتى سنة 1171، واستقلال صلاح الدين الأيوبي بمصر بعد وفاة آخر خلفاء الفاطميين العاضد لدين الله، تولى الأكراد السلطة بمذهبهم السني الأشعري الشافعي. كان الأكراد أيضاً مجموعةً غريبة عن كتلة سكان القاهرة الرئيسة من الإسماعيليين الشيعة. لذا فكرت السلطة الأيوبية في مقرّ حكمٍ يؤمن ظهرها أمام أي انتفاضة من أتباع الحكم الفاطمي المنهار، أو محاولة للسيطرة على الحكم من جديد.

بُنيَ حصن جديد بعد أشهر من محاولة انقلابية لأنصار الفاطميين في 1174 تحت إمرة القائد الفاطمي كنز الدولة. تمخض التفكير العسكري الأيوبي، الذي استفاد من تجارب بناء الحصون والقلاع في بلاد الشام، عن إقامة قلعةٍ فوق جبل المقطم في منتصف المسافة بين القاهرة الفاطمية المسوّرة والفسطاط معقل أهل السنة. كان صلاح الدين، حسب المقريزي، "يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر [. . .] وأحبّ أن يجعل لنفسه معقلاً بمصر". لذا أقام الحصن، الذي عُرف باسم قلعة الجبل أو قلعة صلاح الدين، ملجأً لحماية السلطة يحتمي فيه إذا ما ثار الشعب. خصوصاً أن القاهرة حصنٌ لم تعد تلبّي هذا الشرط بسبب غلبة الشيعة عليها في الفترة الأيوبية المبكرة. أصبحت القلعة مقرّ السلطة الرسمي منذ سنة 1208، عندما استقرّ بها السلطان الكامل محمد بن العادل أبو بكر، ابن أخ صلاح الدين.

يفرد المقريزي أكثر من مئة صفحة متتابعة في وصف قلعة الجبل، مقر الحكم الحصين الجديد. ويبدأ وصفه بأن صلاح الدين "أحبّ أن يجعل لنفسه معقلاً بمصر، فإنه كان قد قسّم القصرين بين أمرائه وأنزلهم فيهم [. . .] فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك وأقام على عمارتها الأمير الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي. فشرع في بنائها، وبنى سور القاهرة الذي زاده [. . .] وهدم ما كان من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرامات الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مدينة مصر وكانت كثيرة العدد، ونقل ما وجد بها من الحجارة وبنى به السور والقلعة".

مرة أخرى تغيب طبقات الشعب عن مشهد بناء القلعة. هذا ما يشير إليه أيضاً ناصر الرباط، أستاذ كرسي الأغا خان للعمارة الإسلامية بمعهد ماساتشوستس للتقنية في الولايات المتحدة، في تحليله قلعة الجبل بكتابه "تاريخ قلعة القاهرة" الصادر سنة 1989. يقول الرباط إنه "عندما بنى صلاح الدين قلعته كان يريدها حصناً دفاعياً وملجأ كما هو مقرر في اللوحة التأسيسية. وربما أرادها أيضاً مقراً سلطانياً بعيداً عن سكان القاهرة الذين لم يكن على ثقة من ولائهم له في بداية حكمه [. . .] ويجب اعتبار قلعة الجبل الصلاحية –وفقاً لهذا النموذج– الحاجز الفعلي والرمزي بين الحكام والرعية".

يضيف ناصر الرباط أن القلعة كانت مقر السلطة الرسمية في مصر لنحو ثمانية قرون ونصف القرن، منذ اللحظة التي استقر فيها السلطان الكامل فيها. طوال هذه القرون كان دور القلعة حماية السلطان من الرعية في المقام الأول، ولم تستخدم قط في الدفاع عن البلاد ضد عدو خارجي. أي أن هدفها كان في المقام الأول عزل النخبة الحاكمة عن بقية المصريين، إضافة لاستخدام رمزية حضور القلعة في فضاء المدينة رمزاً لاستعلاء السلطة أمام بقية الشعب. يؤكد الرباط كذلك أن القلعة التي شهدت تطورات عمرانية في العصرين الأيوبي والمملوكي استمرت تسيطر على مشهد القاهرة، بالتوازي مع رغبة السلطة سواء الأيوبية أو المملوكية في العزلة عن الرعية. وهو ما استمر بعدما تحولت مصر إلى ولاية عثمانية سنة 1517. فبعد أن كانت القلعة مقرّ السلاطين، أصبحت مقرّ الولاة العثمانيين. وظلّ الوضع على ما هو عليه حتى تولى محمد علي باشا حكم البلاد سنة 1805.

رغب محمد علي، الوالي الجديد لمصر، أول الأمر في سكن منطقة الأزبكية التي تحولت إلى مجمعٍ سكني للنخبة المصرية في العصر العثماني. لكن بدايات حكمه غير المستقرة وكثرة النزاعات مع فرق الجيش والمماليك أجبرته على العودة إلى قلعة الجبل سريعاً مقراً للحكم. اللافت أن محمد علي بنى حصناً آخرَ خلف قلعة الجبل، حمل اسم قلعة المقطم. وهو في مرتفع أعلى من قلعة الجبل. كان الهدف منه أن يكون مقراً عسكرياً للسيطرة على أي محاولة للانقلاب عليه داخل القلعة ذاتها.

وضع محمد علي نصب عينيه تغيير معالم القلعة. بعدما استقر الوالي بالقلعة مقرّ حكمه، حسب الرباط، فإنه "أزال الهياكل التي كانت ما تزال قائمة من العهود السابقة، وأنشأ مكانها مجموعة متكاملة من الأبنية الجديدة التي جمعت بين متطلبات حكومة عصرية بمفهوم بداية القرن التاسع عشر، واحتياجات رفاه حاكم مطلق". ولم يكن غريباً أن يبني جامعه الشهير فوق القلعة، بما يمثل من هدف سياسي في الأساس بالتأكيد معمارياً على سيطرة نظامه على المدينة. فالجامع يُرى من مختلف أنحاء المدينة. ومع مساحته الضخمة، إلا أنه لم يكن مفتوحاً لعامة الناس للصلاة. بل اختصت به النخبة الحاكمة تجسيداً لحضور الحاكم وسلطته القاهرة على المدينة كلها. اللافت أكثر أن محمد علي قرر في الأساس بناء الجامع ليكون مكان دفنه، وهو ما حدث لاحقاً.

في كتابه "وجه مدينة القاهرة: من ولاية محمد علي حتى نهاية حكم إسماعيل 1805-1879" الصادر سنة 1997، يشرح محمد إسماعيل أن محمد علي اهتم بتأمين مقرّ الحكم أولاً داخل المدينة. بدأ بعدها في فترة متأخرة –بعد أن أمضى نحو خمسة وعشرين عاماً في السلطة– بالاهتمام بتطوير مرافق المدينة وتوسيع شوارعها. لكن عمله في تأمين القلعة وبناء قصوره بدأ فعلياً بعد خمس سنوات فقط من تولّيه حكم مصر. فمنطق تأمين السلطة حاضر وبقوة وسابق على أي اعتبارات أخرى. وهو ما يشير إليه إسماعيل في بناء قلعة المقطم في العام ذاته، التي أراد محمد علي ببنائها أن "يجد له منفذاً إلى خارج القاهرة عند حدوث أي مؤامرة ضده، وإحكام الدفاع عن قلعة الجبل من الجهة الشرقية".


مع دخول الحداثة إلى مصر في عصر محمد علي وخلفائه في القرن التاسع عشر، كان من المفترض أن ينعكس ذلك على طريقة الحكم، بما في ذلك اختيار مقرّ الحكم. لكن لأن التحديث في مصر كان بقرار علوي، ظلّت السلطة تعيش مفهوم عصور ما قبل الحداثة. فظلّت نظرة الاحتقار للرعية وعدم الرغبة في مشاركتهم الحكم. وظلّ العمل من أجل رفاه السلطة محتكرة العنف والقادرة على جمع الضرائب. واستمر البحث عن أماكن إقامة السلطة بعيداً عن الرعية. بنى محمد علي باشا قصر شبرا بعيداً عن القاهرة شمالاً، وبنى عباس الأول قصره في صحراء العباسية. ووفقاً لخالد عزب في كتابه "السلطة والعمارة في مصر" الصادر سنة 2025، فإن "التحول الذي حدث في مقرّ الحكم في مصر في القرن التاسع عشر استجابة طبيعية ومتوقعة للتغير الذي حدث في نمط الحكم. إلا أن هذا التحول، وهو الانتقال من نمط القلعة الذي ساد في العصور الوسطى إلى القصر، لم يحدث دفعة واحدة".

أحدثَ الخديوي إسماعيل، الذي حكم مصر من 1863 حتى 1879، هذا التحول النهائي عندما قرر لأول مرة منذ نحو ثمانية قرون النزول من القلعة والانتقال إلى مقرّ حكم جديد. أظهرَ قرار إسماعيل رؤيةً جديدة في التحديث من أعلى. فرأى نقل التجربة الأوروبية إلى مصر وفكر في تطوير العاصمة وفقاً لما أجراه المهندس جورج هوسمان من تحديث لباريس منتصف القرن التاسع عشر. سخّر من أجل ذلك موارد مصر التي استفادت من الارتفاع المفاجئ لأسعار القطن المصري بسبب الحرب الأهلية الأمريكية بين سنتي 1861 و1865.

أراد إسماعيل مدينةً حديثةً على الطراز الأوروبي. خصوصاً وأنه كان يتجهز للحفل المنتظر لافتتاح قناة السويس سنة 1869. واستغل في ذلك المساحة المعروفة الآن باسم القاهرة الخديوية أو منطقة وسط القاهرة، الواقعة بين ميادين التحرير والعتبة ورمسيس. وفي قلب الحي الذي سيحمل اسمه ويعرف بحي الإسماعيلية (القاهرة الخديوية في ما بعد)، أسس قصر الحكم الجديد الذي عرف باسم قصر عابدين. وقد سُمّي قصر عابدين نسبة لأطلال بيت الأمير العثماني عابدين بك الذي بنى القصر مكانه. انتقل إليه رسمياً في 1874، وأصبح منذ تلك اللحظة المقرّ الرسمي لأسرة محمد علي حتى نهاية عهدها في 1953 مع آخر ملوكها فاروق الأول، بعد ثورة 23 يوليو للضباط الأحرار وتحول مصر من دولة ملكية إلى جمهورية.

يرصد خالد عزب في كتابه التحول من حكم القلعة إلى حكم قصر عابدين، بما يعكسه ذلك من تغير في أنماط القيادة. فيقول: "كان الانتقال إذن من القلعة من بناية يتمترس الحاكم داخلها، ويحيك فيها المؤامرات لضرب خصومه الذين كانوا ينازعونه السلطة، خاصة من كبار الأمراء المماليك، إلى بناية تعبر عن استقرار الحكم المركزي الذي صنعه محمد علي، بكل تقاليده الجديدة التي أرساها إسماعيل. كان هذا الانتقال تعبيراً عن تغير نمط السلطة وتغير نمط العمارة السائدة في مصر".

يلاحظ أن خطة إسماعيل لبناء مدينة جديدة انتهت إلى تعمير الجزء غير المعمور من القاهرة. وقد كان عبارة عن برك وتلال خربة تحولت سريعاً لمناطق سكن النخبة الحاكمة حصراً. لكنه لم يمدّ يد التطوير إلى الأحياء القديمة المكتظة بالسكان في القاهرة القديمة، التي ظلّت على حالها من التأخر وتردي الأحوال وانهيار البنية التحتية. ويؤكد حسام إسماعيل في كتابه الآنف الذكر أن الخديوي كان يريد تطوير هذه الأجزاء من المدينة، لكن مغامراته الحربية وتوسعه في الإنفاق الباذخ أدت جميعاً إلى إفلاسه وتعطل هذه المشروعات ثم إلغائها. ومن المشاريع التي ألغيت فتح تسعة ميادين وشق عدة شوارع في قلب القاهرة القديمة، التي ظلّت بلا أي تطوير حقيقي في تلك الفترة، مع أنها احتضنت الكثافة السكانية في العاصمة وقتذاك.

ما صنعه إسماعيل مثالٌ لمعرفة كيف تدير السلطة الحاكمة المتجسدة في شخص مطلق الصلاحيات. وهو ما رصده جان لوك أرنو في دراسته "القاهرة: إقامة مدينة حديثة من تدابير الخديوي إلى الشركات الخاصة" الصادرة بالعربية سنة 2002. ففي بداية أعمال تطوير القاهرة الخديوية لخلق باريس جديدة على ضفاف النيل، بدأ تقسيم قطع الأراضي التي ستُوزع من أجل البناء عليها سنة 1868. مُنحت الأرض بمنحة شخصية من الخديوي وبلا مقابل سوى تعهد الشخص الحاصل على القطعة بالبناء عليها واحترام شروط التخطيط. لم تكن هناك أي جهة رقابية على تنفيذ الاشتراطات الحكومية. لذا اكتفى الحاصلون على هذه القطعة بتسييجها وتركها للزمن. وإزاء هذا الفشل، اضطر الخديوي بعد سبع سنوات إلى اللجوء لإطارٍ حكومي لمراقبة هؤلاء المنتفعين. لكن الوقت كان قد تأخر بسبب إفلاس الحكومة ذاتها، ما عطل مشروعات تعمير حي الإسماعيلية. ويلفت أرنو إلى أن الخديوي أراد بحجز قطع الأرض لنفسه المضاربة برفع قيمة الأرض بعد تعمير الحي الجديد.

قد يُرى في انتقال الخديوي إسماعيل إلى سكنى قصر عابدين تحولاً في شكل السلطة. من عزلة القلعة إلى مقرّ القصر في المدينة بلا حواجز، أي الحكم بطريقة حداثية تتضمن إشراكاً للشعب بطريقة ما. لكن هذا الرأي، الذي يتكرر في الكتب المعنية بالتأريخ للخديوي إسماعيل وعصره، يتغافل حقيقة موقع القصر الذي يقع في قلب الحي الحديث من المدينة والذي لا يقترب منه أبناء المصريين والأحياء الشعبية أبداً. كانت المدينة مقسمة طبقياً، وظلّ حي الإسماعيلية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مكرساً للخديوي وأسرته وحاشيته والأجانب ثم لقوى الاحتلال البريطاني. في المقابل، حُشرت طبقات المجتمع من المصريين في الأحياء الواقعة في القاهرة القديمة. وكانت نقطة الالتقاء بين هذين العالمين هو ميدان الأزبكية (العتبة حالياً). والأحياء التقليدية بكثافتها السكانية وقعت في شرق هذا الميدان، بينما نشأت الأحياء الحديثة والخاضعة للسلطة ومن يلتحق بها غربه على الضفة الشرقية للنيل.

الأهم هنا أن طبقة الحكم عزلت نفسها عن الشعب طوال الفترة التالية وحتى سقوط أسرة محمد علي. فلم يكن بذخ قصر عابدين، والذي أضاف عليه حكام الأسرة بعد الخديوي إسماعيل، إلا تعبيراً عن المفارقة في مصر بين طبقة الحكم وبقية الشعب الذي يرزح في فقر مدقع. هذه الروح انعكست في أنماط التأريخ والكتب التي تتحدث عن قصور أسرة محمد علي. إذ يغلب عليها الطابع الاحتفالي الذي يغيّب الأوضاع الصعبة التي عاشت فيها الغالبية العظمى من المصريين.

احتُفيَ بمقرات السلطة لأنها من مفاخر الوطن وأُبرزت القيمة المعمارية والفنية بلا اهتمام كافي برصد الفلسفة التي تقف خلف بناء مقرات الحكم. لكن هذا لم يمنع من التصريح بهذه الحقيقة إقراراً، كما يذهب أحمد شيخون في كتابه "قصور الرئاسة في مدينة القاهرة" الصادر سنة 2019. إذ يقول: "في مصر نعرف الكثير من قصور الرئاسة، ولكن معرفتنا بها لا تزيد عن معرفة الاسم والموقع الجغرافي. لتظلّ هذه القصور مغلقة على تحفها وأسرارها، تنتقل عبر العهود والأزمنة والأنظمة الحاكمة [. . .] فهي بحق تاريخ من الأسرار والغموض. فهذه القصور تابعة لرئاسة الجمهورية، كما كانت تتبع الحكم الملكي قبل ثورة يوليو 1952. ونظراً لهذه التبعية، تظلّ لها مهابة خاصة لدى العامة".


لعلّ الفترة الوحيدة التي شهدت تغيراً في مفهوم مقرّ الحكم هي حقبة الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أدار الدولة من منزله في حي منشية البكري شرق القاهرة. شكّل هذا تغيراً في فهم السلطة لمقر الحكم. ليبرز استخدامه وظيفياً بعيداً عن البذخ الذي طبع الفترات التاريخية السابقة، ويؤكد على المفارقة مع النظام الملكي السابق. لكن النهج الناصري لم يدم طويلاً.

مع صعود أنور السادات سدة الحكم سنة 1970 بعد وفاة عبد الناصر، بدا أن السلطة عادت إلى البذخ. اتضح هذا في استمتاع السادات بالإقامة في الكثير من قصور المدينة. وبدأ التفكير في استخدام فندق هليوبوليس بالاس، في قلب حي مصر الجديدة (هليوبوليس) شرق العاصمة، مجمعاً رئاسياً. وبالفعل أصبح القصر بدايةً من سنة 1972 مقراً لما عُرف وقتها باتحاد الجمهوريات العربي، الذي ضمّ مصر وسوريا وليبيا. وأطلق على القصر اسمه الشهير "قصر الاتحادية". وفي عصر الرئيس حسني مبارك، طُوّر القصر وأصبح المقر الرسمي للرئاسة المصرية وفرضت حوله تحصينات وإجراءات أمنية مشددة. فضّل مبارك في سنوات حكمه الأخيرة أن يمضي معظم وقته في منتجع شرم الشيخ المطلّ على البحر الأحمر، مبتعداً عن القاهرة التي كانت تعاني من انهيار بنيتها التحتية.


الكتب التي تتناول قصور الحكم –مثل "العمارة الداخلية لقاعات العرش في القصور الملكية المصرية" لعبير خيري المنشور سنة 2000، و"قصور الرئاسة في مدينة القاهرة" لأحمد شيخون المنشور سنة 2019، و"القصور الملكية في مصر" لمحمود عباس المنشور في 2005– ركزت على منظور السلطة واحتفت به. لكنها لم تهتم بتحليل العلاقة بين فخامة هذه المقرّات وواقع المجتمع المصري وطبقاته.

في المجمل يغيب حضور عامة المصريين في هذه الكتب. ويُتجاهل أن فلسفة السلطة ذاتها قامت بالأساس على رغبتها في العزلة عن المحكومين، بوضع أنظمة تمنع دخول العامة لهذه القصور وتمنع المتلصصين من النظر داخلها. يقول محمود عباس في كتابه إن الملك فاروق مثلاً أمر "بإغلاق المساكن التي تطل على القصر [قصر عابدين] من جميع الجهات، كي لا تراه أعين الرقباء في الحديقة وما جاورها. وقد استأجر بعض هذه المساكن للإيطاليين الذين كانوا يعملون بالقصر". ويظهر هذا الانشغال بالبعد المعماري والتغاضي عن الانفصال بين السلطة وطبقات الشعب في معرض استرسال عباس بالحديث عن جناح الملك فاروق بقصر عابدين والتغني بروعته وجماله. كذلك التغني بأناقة مطبخ القصر وأجنحته وغرف النوم الكثيرة وحجرة المكتب "التي نخرج منها للقاعة البيزنطية"، والتي يصفها الكاتب بأنها كحكاية ألف ليلة وليلة.

انبهار عباس في وصفه قصرَ عابدين يتكرر عند أحمد شيخون في كتابه "قصور الرئاسة في مدينة القاهرة". فيعتبره "تحفة معمارية وتاريخية فريدة، ومتحفاً يعكس الفخامة التي شيّد بها [. . .] وقد أطلق عليه اسم جوهرة القصور الملكية. وذلك لأنه يتميز بالطراز الكلاسيكي الذي كان ينافس القصور الأوروبية آنذاك في معماره، وتعدد قاعاته وأروقته التي شهدت صعود وهبوط ملوك حكام ورؤساء كثيرين".

ذات الروح نلمسها في تناول الإعلام المحسوب على السلطة المصرية في عصر الرئيس السيسي، منذ توليه السلطة رئيساً للجمهورية في يونيو 2014. تعكس الرواية السائدة الاحتفاء بالعمارة السلطوية بغض النظر عن واقع المصريين الذين يعانون من زيادة معدلات الفقر. وأحد أسبابها سياسات الحكومة وإنفاقها الباذخ على مشاريع يراها كثيرون بلا جدوى اقتصادية مستدامة. خصوصاً في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتدهور في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار. فمن يتابع الإعلام الحكومي والمملوك للدولة ومؤسساتها، أو الموالي للسلطة، يلاحظ الاحتفاء بقصر العاصمة الإدارية الجديدة وما يشكله من صورة السلطة لنفسها. كذلك الاحتفاء بالاسكان الفاخر في هذه العاصمة، حيث لا وجود لأحياء أبناء الطبقة الوسطى ومحدودي الدخل. وهو الأمر الذي يعزز تصوراً قديماً لمقر الحكم المخصص بالكامل لرأس السلطة والحاشية والطبقة العليا من الشعب.

ولا ينتهي الأمر عند هذا. فقد كان انتقال مقرّ السلطة عبر القرون العشر الأخيرة مرتبطاً أيضاً بظاهرة إهمال المنطقة التي يشغلها مقرّ السلطة القديم. فمثلاً عندما غادر الأيوبيون القاهرة الفاطمية، تحولت المدينة إلى مركز للنشاط الأهلي والبناء غير المخطط. وتركت لتتراجع المرافق فيها بثبات حتى قرب نهاية القرن العشرين. تحولت المنطقة حول قلعة الجبل إلى منطقة شعبية فور ترك السلطة لها إلى قصر عابدين. وإن ظلّ القصر محتفظاً برونقه، لكن المنطقة من حوله باتت شعبية حيث سكن البسطاء بعدما غادرت السلطة إلى قصر الاتحادية بمصر الجديدة. وربما يكون هذا هو مصير قصر الاتحادية والمنطقة المحيطة به بعد انتقال السلطة إلى المقر الجديد في العاصمة الإدارية. بل ربما يكون هذا هو مصير القاهرة كلها.

في المحصلة، تنطلق السلطة في مصر من قاعدة أنها مطلقة الصلاحيات. فالحكم الفردي هو الأساس، ولا استشارة لطوائف الشعب في بناء قصر الحكم. كأن سلطة القرن الواحد والعشرين تحكم بفلسفة تعود على ما قبل الحداثة. وكأنها في جوهرها لا تزال دولة سلطانية، بما يحمله كل هذا المفهوم من استدعاء شرعية لا تستند إلا على القوة ولا تدين للشعب بأي شيء. بل ترسخ نفسها في صورة عمارة سلطانية سلطوية ضخمة تعزز من الوجود الرمزي لها.

اشترك في نشرتنا البريدية