كانت لحظات الوداع صعبةً، فقدت اعتدت المكوث طويلاً في هذا الشارع. وفي يوم الوداع عاد بي شريط الذكريات إلى أول زيارةٍ إليه سنة 2002 عندما قصدت الشارع لتناول وجبة الإفطار. كنت أدرس في ثانوية جمال عبدالناصر في ميدان التحرير حينها، وكان الطلاب يقضون استراحتهم خارج أسوار المدرسة.
منذ سبعينيات القرن الماضي لم يكن شارع المطاعم في صنعاء مجرد شارعٍ للجوعى العابرين، بل مساحةً تنبض بالحياة وتتشابك فيها ذكريات روّاده ومن يأخذهم طريقهم للمرور فيه. تسمع فيه همس الأحاديث الجانبية، وتعلو أصوات أواني الطهي الحادّة التي امتازت برائحةٍ خاصةٍ تدفع المارّ للتوقف، سواءً للحديث أو تناول الطعام. تشكلت في الشارع منذ السبعينيات حالةٌ ثقافية. ولم يكن الشارع مجرد مساحةٍ للاجتماع اتفق بعض المثقفين أن يجلسوا فيها. لكن مع اشتداد وطأة الحرب اليمنية منذ سنة 2015، تراجعت مكانة الشارع ساحةً ثقافيةً مع هجرة الكثيرين وتردّي الأوضاع الاقتصادية والتضييق السياسي، وبدأت ملامح الشارع تتغير شيئاً فشيئاً.
شارع المطاعم شارعٌ قصير، يمتد رابطاً بين شارعَيْ جمال عبد الناصر والقصر. بدأ الشارع بمقهىً صغيرٍ لبيع الشاي العدني على يدِ العمّ مدهش، الذي افتتحه حين قدم إليه من محافظة عدن في منتصف السبعينيات. يقول العمّ مدهش إن زبائن المقهى كانوا من الساسة والأدباء والشعراء وغيرهم ممّن عرفوا الشارع وارتادوه طلباً للراحة أثناء زياراتهم للمصالح الحكومية. يؤكد العمّ مدهش أنه قبل افتتاح مقهاه لم تكن هذه التجمعات مشهداً اعتيادياً، لكن السلطات تسامحت مع تلك التجمعات في أعقاب انتهاء الصراع على الحكم بداية السبعينيات.
أدّت عوامل عدّةٌ إلى انجذاب الزائرين للشارع ولمقهى العمّ مدهش تحديداً. أبرزها الطابع المفتوح للمقهى الذي وفّر مساحةً حرّةً للنقاش في حين لم تكن مثل هذه التجمعات مألوفةً في العاصمة صنعاء. كان المكان بمثابة نافذةٍ جديدةٍ للتعبير عن الآراء بعيداً عن الأطر التقليدية. ومع الوقت، أصبح رمزاً للحرية والنقاشات الثقافية، وجذب أجيالاً متعاقبةً من روّاد الفكر والسياسة. أخبرني العمّ مدهش أن جيلاً جديداً من رواد الشارع ظهر بعد وفاة كثيرٍ من مرتادي الشارع الأوائل، وكأنّ جيلاً يسلّم الآخر. وأخبرني أيضاً أنّه مع توارث الأجيال حافظ الناس على طقس شرب الشاي العدني الذي لم يكن سكان صنعاء يعرفونه حينها، والذي تحول لاحقاً إلى نشاطٍ تجاريٍّ كبيرٍ مع ازدياد عدد بسطات الشاي التي قلّدت بسطة العمّ مدهش.

الشاي العدني الوافد على صنعاء من عدن مدينة التراث والثقافة ساهم في شهرة الشارع. يتميز الشاي العدني بمذاقه الفريد الجامع بين النكهات القوية واللاذعة، مازجاً بين الشاي الأسود وتوابل القرفة والهيل (الحبّهان) والزنجبيل، وهو ما يعطيه نكهةً مميزة.
ارتبط الشاي العدني بالشارع بفضل العمّ مدهش وازدياد توافد اليمنيين من عدن والجنوب إلى الشارع، وخاصّةً ذوي الخلفيات اليسارية منهم. اتخذ الوافدون الجدد من مقاهي الشارع ومقاعده ملتقىً للنقاش والطعام وشرب الشاي. ولم يكن انجذاب الجنوبيين وخاصّةً العدنيين إلى شارع المطاعم في صنعاء محض صدفةٍ، بل ارتبط بجذورٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافية. فمع اندلاع الحرب الأهلية في اليمن الجنوبي سنة 1986 نزحَ كثيرون إلى الشمال، وكان من بينهم متأثرون بالحراك التقدمي في عدن. وتمايزت بيئة عدن الفكرية عن البيئة القبلية التقليدية في صنعاء، ما جعل الشارع والمقاهي مساحةً طبيعيةً لتوافد اليساريين الجنوبيين.
كُنّا بعد انتهاء المحاضرات الجامعية نذهب مباشرةً إلى الشارع ونجلس على الطاولات ذاتها، ونشرب الشاي نفسه، وننخرط في نقاشاتٍ مستمرةٍ مع شخصياتٍ لم نكن نعرفها لكنها تحمل تجارب سياسيةً وحياتيةً كبيرة. كانت هذه النقاشات بداية تشكّل وعيي الفكري والسياسي، وشجعتني الأجواء الحماسية للنقاش على ارتياد الشارع والمشاركة في النقاشات وقراءة الكتب والمطالعة. فأيقنتُ أن شارع المطاعم ليس مجرد مكانٍ، بل مدرسةً من نوعٍ خاص. لقد ساهمت طاولاته ونقاشاته في تشكيل جزءٍ كبيرٍ من شخصيتي، وأعادت تعريف علاقتي بالمكان والناس.
في شارع المطاعم كانت الطاولات عامرةً بالنقاشات التي يقودها أشخاصٌ يتوسطون تجمعاتٍ صغيرةً، كلٌّ منهم يُضفي طابعاً خاصاً على الحوارات. لكن وسط هذا الزخم كانت هناك طاولةٌ مختلفةٌ يتجمع حولها أشخاصٌ أكثر وتنبض بالنقاشات. اقتربتُ يوماً من هذه الطاولة لأكتشف أن من يقود النقاش حول تلك الطاولة هو عبدالله علوان، الكاتب والأديب اليساري الذي تميّز بإسهاماته في مجال الشعر والرواية، ومنها كتاب "القصة اليمنية.. الموقف والأسلوب" الصادر في 2010. ساهم علوان في تأسيس نقابة الصحفيين اليمنيين واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
في البداية، كنت أجلس على طرف طاولة علوان، وأستمع بصمتٍ إلى أحاديثه التي تمتزج فيها السياسة بالثقافة. جذبني حضوره وطريقة حديثه الفريدة حتى أصبحتُ أحرص على القدوم مبكراً إلى الشارع لأجد مقعداً أقرب إليه. كانت أسئلتي غالباً عن القضايا الثقافية والفنية، وكانت إجاباته تحمل عمقاً لا يخلو من الاقتراب إلى خلفيتي البسيطة. ومع مرور الوقت تعرّفتُ على عبدالله علوان عن قربٍ وأصبح يعرفني وأعرفه، ليترك في حياتي بصمةً لا تزال باقيةً حتى بعد وفاته.
كان علوان أكثر من مجرد كاتبٍ يجلس في زاوية شارعٍ مزدحم. كان روحاً نابضةً تستقطب الشباب والكبار على حدٍّ سواء. كانت طاولته البسيطة في ظاهرها منتدىً شبابياً غير رسميٍّ يجتمع حوله العشرات لمناقشته والاستماع إلى حكاياته التي لم تفقد بريقها يوماً. لم يكن الشارع يتوقف عن النبض إلّا في حالةٍ واحدةٍ وهي مرض عبدالله علوان. حينها فقط، كانت الطاولة تخلو والوجوه يعتريها القلق. قال لي علوان ذات مرّةٍ عن شارع المطاعم بعد أن فقد روحه في أعقاب الحرب في 2015: "هذا المكان لم يكن مجرد تجمعٍ للناس، بل مساحةً للحرية والفكر والتواصل الإنساني الحقيقي. كان جزءاً من روحي".
من بين مرتادي الشارع أيضاً كان الكاتب والروائي محمد الشجاع، الذي أبحر معي في حديثٍ طويلٍ عن الشارع وما يحمله له من ذكريات. يستذكر الشجاع أن الشارع في بداياته حوى بعض المطاعم الصغيرة محدودة المساحة لتتوافق مع عرض الشارع الضيّق. ونقلت الطاولات والكراسي إلى وسط الشارع الذي لا تمرّ فيه السيارات. ويكتفي مؤسس الشارع العمّ مدهش بطاولةٍ وحيدةٍ، إذ يشتري منه مرتادو الشارع الشايَ ويتجهون به إلى طاولات المطاعم الأخرى. اتفق أصحاب المطاعم أن طاولاتهم ليست حكراً على من وضعها، وإنما هي مفتوحةٌ لمن يريد الجلوس حولها.
يشرح لي الشاعر ريان الشيباني أن موقع الشارع المميز في صنعاء كفل له هذه المكانة ويقول: "عادةً ترتبط الثقافة بالأمكنة المفتوحة ومن ذلك المقاهي. في اليمن لا يبدو الأمر كذلك بسبب عادة تعاطي القات في المقاهي التي تدفع الكثير من المثقفين والأدباء إلى الابتعاد عنها واللقاء في مجالس مغلقةٍ في أوقات ما بعد الظهيرة وحتى المساء. فتسبب طقس القات وعزلة الكتاب في منع تشكل مناخٍ ثقافيٍ مرتبطٍ بالمقهى، إلا من استثناءٍ بسيطٍ وذلك ما يعرف بشارع المطاعم".
يتفق الشجاع مع الشيباني في أن شارع المطاعم رغم صخبه بات ملاذاً لرواده من صخب الحياة خارجه، ومساحةً للراحة من توتراتها. ويرى الكاتبان أن من أبرز مميزات شارع المطاعم أنه بات مساحةً مُحرّرةً من تعاطي نبتة القات التي يعافها عددٌ من الكتاب والصحفيين والرياضيين وبعض المسؤولين والسائحين. ويتفق الكاتبان على أن الشارع كان يجمع كل تلك الفئات قبل الحرب، قد يجتمعون على طاولةٍ واحدةٍ ولا يعرفون بعضهم البعض، لكنهم يتحدثون معاً في مجالات السياسة والثقافة والفن والتعليم والحياة.

تناولتْ قصصٌ ورواياتٌ كثيرةٌ ما أحدثه الشارع من أثرٍ في مدينة صنعاء. ومن الكتابات التي رصدت ذلك الأثرَ المجموعةُ القصصية "ناس شارع المطاعم" الصادرة سنة 2017 للكاتب اليمني وجدي الأهدل. في مجموعته التي تضم اثنتي عشرة قصةً قصيرةً جميعها تتناول شخصياتٍ من شارع المطاعم، كتب الأهدل في مقدمته: "الداخل إلى هذا الشارع السد يبدأ سنته الأولى مشرداً، ثم في سنته الثانية يصير مجنوناً، ثم بعد ذلك تستقر حالته ويغدو مواطناً عادياً من مواطني شارع المطاعم". في مقدمته تلك يشير الكاتب إلى أن الشارع ليس مجرد مكانٍ للمقاهي والمطاعم، بل هو أيضاً فضاءٌ غير رسميٍّ للمشردين الذين يتحولون بمرور الوقت إلى جزءٍ من نسيجه الاجتماعي.
القصص التالية على مقدمة المجموعة توضح ما يرمي إليه الكاتب، فشارع المطاعم امتاز برحابةٍ تندُر في غيره من شوارع صنعاء. فمع تردي الأوضاع المعيشية وغياب شبكات الدعم الاجتماعي، يصبح من السهل أن يجد الأفراد أنفسهم في حالةٍ من الضياع، لكن الشارع بطبيعته المفتوحة يستقطبهم ويوفر لهم مساحةً آمنةً للبقاء. لكنه أيضاً قد يكون نقطة تحولٍ مع اندماج بعضهم تدريجياً في نسيج الحياة اليومية بالعمل في البسطات أو انضمامهم للنقاشات المثارة ما قد يؤثر فيهم ويغير من مسار حياتهم وينقذهم من الضياع.
وفي مجتمعٍ يمنيٍّ محافظٍ، نادراً ما كانت النساء تظهر في فضاءاتٍ عامةٍ كانت حكراً على الرجال. ومع ذلك كان شارع المطاعم في صنعاء استثناءً وأصبح مساحةً نادرةً تجمع بين النساء والرجال في إطارٍ مختلفٍ عن المألوف. مِنْ بين مَنْ كُنّ يترددن على الشارع الصحفيةُ والناشطة النسوية وداد البدوي، التي حدثتني بحنينٍ عن ذكرياتها هناك واصفةً تلك اللحظات أنها امتدادٌ لروح عدن: "عندما دخلتُ شارع المطاعم لأول مرةٍ شعرتُ وكأنني في عدن تماماً. كل شيءٍ كان مختلفاً ومميزاً، بدءاً من الأجواء، وانتهاءً بطبيعة الأطعمة البسيطة مثل خبز الطاوة والشاي بالحليب، الذي كان له نكهةٌ خاصةٌ في هذا المكان".
وتستذكر وداد تلك الجلسات التي كانت تبدأ بتناول كوبٍ من الشاي بالحليب، وتنتهي بأحاديث ملهمةٍ مع شخصياتٍ مختلفةٍ من جميع المحافظات. تقول: "كانت تلك المطاعم مكاناً نلتقي فيه بأشخاصٍ لا نعرفهم، لكننا نخرج وقد كوّنا صداقاتٍ جديدة. كان المكان يعكس بساطة وروح اليمني الذي يجمع بين كل الفئات، بغضّ النظر عن اختلافاتهم".
وفي سنة 2015 ومع اندلاع الحرب تأثر الشارع كثيراً بعدما تسبب عنف الحرب في هجرة العديد من مرتادي شارع المطاعم إلى محافظاتٍ أخرى، إضافةً إلى تردي الأوضاع الاقتصادية مع عدم امتلاك ثمن الشاي والأكل.
لكن مجموعةً من مثقفي صنعاء وكتابها ممن اعتادوا ألق أجواء شارع المطاعم ظلوا يرتادونه حتى اليوم رغم كل تلك الظروف. غابت أحاديث السياسة والثقافة وحلّ محلّها اجترار ذكرياتهم في الشارع الذي خبا مجده. يصف لي العمّ مدهش كيف غيرت الحرب طبيعة الشارع. في البداية شهد الشارع تناقصاً ملحوظاً في زبائنه الذين كانوا يأتون إليه قبل الحرب، ثم أصبح وجود الزبائن القدامى من كتّابٍ ومثقفين ومسؤولين أمراً نادر الحدوث. يقول إنه لا يعلم السبب لكنه يرجح أن العديد من الزبائن المعتادين قد تأثرت ظروفهم بسبب الحرب.
توقف مؤسس الشارع العمّ مدهش عن العمل منذ عدّة سنواتٍ، وأصبح يأتي إلى الشارع أقلّ من السابق بعدما سلّم مفاتيح المقهى لأولاده. لم يكن العمّ مدهش يتحدث إلينا بحرّيةٍ مطلقةٍ كما تعودنا منذ ارتيادنا للشارع، إذ امتد إليه أثر الحرب التي تعيشها اليمن والخوف الذي تملّكنا حتى عند الحديث عن أيّ موضوعٍ قد لا يكون له علاقةٌ بالسياسة.
تقول لي وداد البدوي إن الوضع بعد الحرب بدأ بالتغير تدريجياً: "مع تشديد القيود في صنعاء ومنع الاختلاط، أصبح وجودنا نحن النساء في هذه الأماكن مصدراً للمضايقات. لم يكن الأمر مجرد رسائل غير مباشرةٍ، وتطور إلى إرسال أشخاصٍ لإزعاجنا أثناء الجلوس. في النهاية، اضطررنا إلى التوقف عن زيارة هذه الأماكن التي كانت جزءاً من هويتنا اليومية". لم تذكر وداد صراحةً من المسؤول عن تلك المضايقات، لكن الحوثيين أصدروا قراراتٍ بمنع الاختلاط في الجامعات وبعض المساحات العامة الأخرى منذ سيطرتهم على العاصمة صنعاء في 2017.
