ألهمني الكتابُ بدءَ مشروعٍ أدبيٍ جديدٍ، وزادَ من هَوَسي في البحثِ في التاريخ الليبي وتأمّلِ الكتبِ التي قرأتُها قبلَ ذلك. فقد قرأتُ كتباً لرحّالين مستشرقين مثل كتابِ "مغامرات في طرابلس" للطبيبِ الإنجليزي إيرنست إتش غريفن الذي صدرَ في ترجمةٍ عربيةٍ عن دارِ الفِرجاني سنة 1993. وقرأتُ كُتبَ الطبيب الليبيّ محمد المفتي، المهتمّ بالتاريخ الليبي، مثلَ كتاب "السعداوي والمؤتمر" الذي صدرَ أوّل مرّةٍ سنة 2005. وبالطبع قرأتُ بعضَ كتبِ القادة السياسيّين أو العسكريّين الإيطاليّين أمثال رودولفو غراتسياني وآلبرتو دينتي دي بيرا.
ما يجمعُ هذه الكتبَ وغيرَها أنّها كُتِبت من وجهاتِ نظرٍ قريبةٍ من وجهةِ نظرِ مراكزِها. فمثلاً كتاب "السعداوي والمؤتمر"، الذي يسردُ فيه محمد المفتي تاريخَ المناضلِ الليبيّ وأحدِ أهمّ وجوه الاستقلال بشير السعداوي، يتّخذُ وجهةَ نظرٍ قريبةً من العقيد الليبي معمر القذافي في المعركة السياسية التي نشأت بين بشير السعداوي وأوّل وآخِر ملوك ليبيا الحديثة محمد إدريس السنوسي. وكتاب "مغامرات في طرابلس" فيه نظرةٌ استعلائيةٌ استشراقيةٌ عن المجاهدين الليبيين غربَ مدينة طرابلس. وهكذا أعادَ كتابُ علي عبد اللطيف حميده تقييمي لقراءاتي السابقة، فهو ينتقدُ في أساسِه تجاهلَ النخبة الغربية والعربية والليبية مسألةَ إبادةِ قوّاتِ الاستعمار الفاشية ستّين ألف ليبيٍّ على الأقل بين سنتَي 1929 و1934. فالكتاب، كما يقولُ عنه الأستاذ عليّ في مقدّمته، هو "كتابٌ ينتقدُ الفكرَ الاستعماريَّ واللغةَ المُستخدَمةَ في تغطيةِ الفظائع. وهو تحليلٌ للإجراءات والمؤسّسات وراءَ هذه العقيدة واللغة. وتحليلٌ أيضاً للتاريخ الشفهيّ المهُمّش للناجين".
مضى عامان على قراءتي كتاب "الإبادة الجماعية في ليبيا" عندما تعرّفتُ إلى علي حميده بمعيّةِ صديقٍ لي، وقد وددتُ أن أستكتبَه لمجلة الفِراتْس، إلّا أنّه فاجأني بدعوتِه لي أن أُجرِيَ معه مقابلة. إذن تورّطتُ في الكتابة. وحتى أعرفَ ما أريدُه من تلك المقابلة تماماً عكفتُ على إعادةِ قراءةِ بعضٍ من كتاب "الإبادة الجماعية في ليبيا" وقرأتُ كتابَيْن آخَرَيْن للرجل، أحدُهما كتاب "المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا"، وهي أطروحتُه لنَيْلِ درجةِ الدكتوراه في العلومِ السياسيةِ في جامعة واشنطن سنة 1990. وقد صدر أوّلَ الأمر بالإنجليزية، مثل جُلِّ كتبِه، عن جامعة نيويورك سنة 1994 تحت عنوانٍ "للّه، للوطن والعشيرة"، ونشرَه مركزُ دراسات الوحدة العربية في نسختِه العربية سنة 1995، ثمّ أعيدَ طبعُه بنسخةٍ منقّحةٍ سنة 2009. يعيدُ علي عبد اللطيف حميده في الكتاب تفسيرَ التاريخ الليبي منذ نهاية الدولة القرمانلية سنة 1835 وحتى انتهاء حركةِ المقاومة الليبية سنة 1932 ضدّ الفاشية الإيطالية.
الكتاب الآخَر هو "الأصوات المهمّشة: الخضوع والعصيان في ليبيا أثناء الاستعمار وبعده" وقد صدرَتْ ترجمتُه العربية سنة 2009 عن مركز دراسات الوحدة العربية أيضاً. وهو كتابٌ ينطلقُ فيه عليٌّ من تخصّصِه الدقيقِ، أيْ دراسة المجتمعات المهمّشة، للحديثِ عن مسائل منسيّةٍ أو مسكوتٍ عنها في التاريخ الليبي مثلَ مسألة التواطؤ مع سلطات الاستعمار الإيطالي والعمّال والفلاحين الليبيين والإبادة الجماعية، إذ يُعَدّ الكتابُ بذرةَ كتابِه الأكثر احتفاءً في الأوساط الغربية والعربية "الإبادة الجماعية في ليبيا". وبعد جلسة قراءةٍ مطوّلةٍ في الكتبِ وبعضِ مقالات الرجّل والمقابلات معه، ضربتُ معه موعداً للحديث، فجلسنا نتحاور. ليبِيّان في ديارِ الغربة، أنا في مكتبي بشقّتي في المرسى بتُونسَ العاصمة، وهو أمام مكتبةِ بيتِه ليسَ بعيداً عن الجامعة التي يُدرِّسُ بها في الولايات المتحدة.
ينتقدُ علي حميده الروايةَ المركزية للتاريخ الليبي الحديث التي تقسّمه إلى ثلاثة أزمنةٍ: قبل الاستعمار متمثّلاً في الدولة العثمانية، وزمن الاستعمار الإيطالي (ثمّ الإنجليزي) من سنة 1911 إلى 1943، والدولة الوطنية بعد الاستعمار بدءاً من سنة 1951. يرى الكاتب أنّ هذا التقسيم يُسخِّف التاريخ الليبي ويحصرُ علاقةَ الليبيين بمركزِ الحكم في إطارِ الحاكمِ والمحكوم. وكان هذا من دوافعِه في تغيير منهجِ البحثِ، لأنَّ "التاريخ أعقدُ مِن وضعِه في قوالب استعماريةٍ جاهزة"، على حدّ تعبيره لي.
وهكذا حاولَ علي عبد اللطيف حميده فهمَ تفاعلاتِ القوى قبل سنة 1911 بين الدولة المركزية والقبائل والفلاحين. إذ يقول في "الأصوات المهمّشة" إنّ "قدرة الدول الجِهَوية [دولة أولاد محمد في فزّان والحركة السنوسية في برقة] والقبائل على التصدّي لسلطة الدولة المركزية في طرابلس [جاء] من بُعد موقعها [عنها]". ويضيفُ القول إنّ قبائل الداخل وفلّاحيه كانوا مسلّحين للدفاعِ عن أنفسهم وأنعامهم وأموالهم "وكانت حيازة الأرض تتوقف على قدرة القبائل على الدفاع عنها ضدّ القبائل الأخرى. وقد بَلْوَرَت الصفوفُ القَبَليةُ الجِهَويةُ [التحالفات القبلية الفلاحية] استراتيجيةً دفاعيةً لمجابهة جيوش الدولة والغزو الأجنبي والحروب القبلية حول الأرض". وفي المقطعَيْن السابقَيْن يتّضحُ نقدُ حميده الروايةَ السائدةَ أنّ القبائل كانت تَدِين بالولاءِ للدولة المركزية في طرابلس. ولِنَقدِه هذا أن يفسِّرَ ثوراتِ القبائل والفلاحين وانتفاضاتهم في عهدِ الدولة القرمانلية قبل 1835. لا بكونِها ثورةَ شعبٍ على الحاكم، بل بوصفِها ثورةَ دُويلاتٍ ذاتِ حُكمٍ شبه ذاتيٍّ عن القرمانليين، وكلاء خليفةِ المسلمين في طرابلس. وهذا ينزعُ صورَ الشيطنة والتمجيد لثوراتٍ تاريخية مجّدتها الدولة الوطنية، مثلما حدثَ مع تمجيدِ النظام الجماهيري (بين سنتَي 1977 و2011) ثورةَ غومة المحمودي لِما كان يسمّيه أتباع العقيد الليبي الراحل معمر القذافي "الاحتلال العثماني التركي".
يؤمن علي عبد اللطيف حميده بأنّ التاريخ الليبي أَعقَدُ من تصوّرات الدولة الوطنية عنه، وأَعقَدُ أيضاً ممّا كتبه المؤرّخون الليبيّون، لا سيّما فيما يخصّ الحرية التي كانت تتمتع بها القبائل الليبية ومعها الفلّاحون في تنظيمِ أنفسهم. فلا يمكنُ أن تكونَ هذه المجتمعات التي عاشت بعيداً عن سيطرةِ وتأثيرِ المركزِ بزعمائها وقُضاتِها ومراكزها الصوفية وفلّاحيها وحرفيّيها، كما يصفُهم الليبيون الآن، مجموعةً من البدو المتخلّفين مدفوعين بالعصبية القبلية. وهو بهذا ينادي بالتحرّر من التعريفاتِ المسبَقة والجاهزة التي يعدّها استعماريةً واستشراقيةً، فيقول: "كان فيه مجتمعٌ حيٌّ، فيه عنفٌ، فيه إبداعٌ، فيه حروبٌ، فيه تحالفاتٌ ومحاولاتٌ لإنشاء مؤسّساتٍ [. . .] ولهذا علينا النظر إلى السياق الاجتماعي والاقتصادي، أي اقتصاد المجتمع وقتَها [. . .] كيف عرّف هؤلاء كلمة وطن؟ هل لها فعلاً معنى كلمة وطن التي نستخدمها الآن؟". يرفضُ حميده هذه "الروايات الجاهزة والمعلّبة عن القبليّة في ليبيا"، وقد أصرّ غيرَ مَرّةٍ أثناء الحوار على تجاوزِ تقسيمِ مكوّنات الجغرافيا الليبية إلى بدوٍ وحضر.
دفعه هذا الكلام في كتاب "المجتمع والدولة والاستعمار" إلى تأريخ الاقتصاد السياسي لجُلِّ القبائل الليبية وجغرافية تحالفاتها ليسَ داخل ليبيا فقط، بل في البلدان المجاورة كمصر وتونس والجزائر وتشاد والسودان. وبهذا يمكنُ فهم ردودِ أفعال كثيرٍ من مواقف شيوخِ القبائلِ عند بدايةِ الغزو الإيطالي لليبيا في أكتوبر 1911، فقد وقفَ بعضُ شيوخِ القبائل على الحيادِ من هذا الغزو. ولهذا "لم يرَ هؤلاء في الجيش الإيطالي العدوَّ الرئيسيَّ، فالعديد من الشيوخ رَأَوا أنّ الشيوخ المنافسين يمثلون خطراً داهماً يتهددُ مكانتَهم وسلطتَهم. وبما أنّ هؤلاء الشيوخ لم تكن لهم أهدافٌ دينيةٌ أو وطنيةٌ، فلَم يجدوا صعوبةً في التواطؤ مع الدولة الإيطالية لحماية المصالح الاقتصادية لقبائلهم. لقد كان الاستعمار بالنسبة إلى هؤلاء الشيوخ والأعيان وسيلةً عمليةً للمحافظة على مصالحهم ومواقعهم"، مثلما يقول حميده في كتاب "الأصوات المهمّشة". ما زالتْ هذه المسألةُ حساسة جدّاً في ليبيا، ولكن علي عبد اللطيف حميده يدعو لدراستِها دون محاولةِ التصنيف في خاناتٍ جاهزةٍ بين الوطنية والعمالة والبطولة والخيانة، وهي تصنيفات وُلِدَتْ أصلاً مع مولدِ الدولة الوطنية.
يتّضحُ قصدُ علي حميده عندما يتحرّى المرءُ كيفيةَ تعاملِ المملكة الليبية منذ 1951 حتى 1969 مع ملفّاتٍ شائكةٍ في العهد الاستعماري الإيطالي. لم تعمل الدولةُ وقتَها جدّياً على استعادةِ الأراضي الزراعية التي نهبَتْها السلطات الاستعمارية وسلّمَتْها إلى المستوطنين الإيطاليين. وكان رأيُ مسؤولي المملكة الليبية مِن رأيِ الملك محمد إدريس السنوسي، في مسائل العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية فيما يتعلّقُ مثلاً بالمجنّدين الليبيين الذين عملوا في الجيش الإيطالي أو التاريخ الإشكالي لبعضِ الزعماءِ وأعيانِ المدن وموقفِهم من الاستعمار الإيطالي أو حتى الشخصيات الليبية التي انضَوَتْ تحت الحركة الفاشية، لا سيّما في الثلاثينيات. حَظَرَت الرواية الرسمية كلَّ هذه الموضوعات من النقدِ أو التحليل أو حتى التأريخ، عملاً بمقولةٍ أُشِيعَت عن الملك نفسه تقول: "حتْحاتْ على ما فات"، أيْ أنّ المملكة الليبية تَجُبُّ ما قَبْلَها.
يوافق الكاتب الليبيّ صالح أبو الخير ما فعله الملك محمد إدريس السنوسي، في مقالةٍ له على موقع بوابة الوسط عنوانها "حتحات على ما فات.. رؤية متقدمة للتحرير من قيدِ التاريخ"، إذ يقول: "لقد تفطّن إدريس السنوسي إلى أن الإقدام على فتح الذاكرة الجماعية الملطخة بالدماء والتضحيات مجازفة غير محسوبة العواقب، واختار أن يقدّم قيمة التعايش والتوافق على قيمة الحقيقة التاريخية". يتفهّمُ علي عبد اللطيف حميده هذا الإجراء، ويخبرني بأنّ ما حدثَ له سياقُه التاريخي، وكان مبدأ "السكوت على التاريخ" هو الخيار الأمثل لتلك المرحلة، لكنّه يضيفُ بالقول: "لكن لكلِّ خيارٍ تبعاتُه [. . .] دولة الاستقلال استمرّت ثمانية عشر عاماً، وأجّل المسؤولون فيها الكثير من الأسئلة وانصرفوا إلى مسائل التنمية وبناء الدولة وتعليم الأجيال الجديدة. لكن ما تدفنُه نهاراً جثّةً يأتيك في الليل كوابيس، وهذا ما حدث. جاء معمر القذافي وخطابُه العنيف، الذي لم يأتِ من فراغ".
يقول علي عبد اللطيف حميده إنّ كلّ هذا من "المحرّمات عند الليبيين اليوم، لكنّها تُوظَّف. فقد وظّفها القذافي من قَبلُ وتوظِّفها الآن الجماعات السياسية. الجميع يوظِّف تاريخَ المرحلة الاستعمارية، لأنّها مرجعيتنا في التعريف بأنفسنا". فقد التجأ العقيد معمر القذافي إلى إنعاش الروح الوطنية الليبية اعتماداً على الإشادةِ بالأبطال والشهداء ومآثِر المقاومين ضدّ الاستعمار. وهكذا أصبحت الكتابة التاريخية في البلاد بعد الاستعمار الإيطالي تتناول مسألة التعاون والتواطؤ مع الدولة الاستعمارية على "نحوٍ عاطفيٍ وموجّه سياسياً" حسب أستاذ العلوم الاجتماعية. وهكذا بعد أن فَرَضَت حكوماتُ المملكة الليبية الرقابةَ على التاريخ الوطني ابتداءً من 1951 أُتيحت موادّ جديدةٌ للباحثين منذ 1970 بعد إسقاط الملكية، بسبب رغبةِ النظامِ الجديد في نزعِ المصداقية عن وجهةِ نظر النظام الملكيّ المتعلّقة بالتاريخ، وجَعَلَت الملك محمد إدريس السنوسي رمزاً وحيداً للجهاد، كما تشير كلمات النشيد الوطني الليبي حينها بالقول "حَيِّ إدريسَ سليلَ الفاتحين، إنّه في ليبيا رمزُ الجهاد". فقد نَحَت الدراساتُ الليبية بعد عهد المملكة بالتحديد "نحو اختزالِ دوافع المُتَطَلْيِنِين [المتعاونين مع الدولة الإيطالية] في مجرّدِ الضعفِ الأخلاقي". ويضيفُ علي حميده متحسّراً ومتسائلاً بالقولِ: "ماذا كان سيحدثُ في ليبيا، وحتى في طريقة كتابتنا للتاريخ، إذا ما انتحى معمر القذافي نهجاً خفّف فيه من لغةِ العنفِ والعمالة والتخوين لرموز المملكة؟".
على ارتباطِه الوثيق بثورةِ السابع عشر من فبراير 2011، لا يَعتقِدُ علي عبد اللطيف حميده بالنظرة الاختزالية السائدة اليوم عن حركةِ الضبّاط الوحدويين الأحرار التي قادَها معمر القذافي سنة 1969 للإطاحة بالملك، بكونها انحرافاً أو انقلاباً عسكرياً لمجموعةٍ من الضبّاط المتعطشين للحُكم. على العكسِ من ذلك، يراها حركةً جاءت لتكمل مسيرةَ الاستقلال المنقوص. عبّرت حركة الضبّاط الوحدويين الأحرار في بداياتها عن تطلّعات المجتمع الليبيّ، ولم تكن انقلاباً عسكرياً ساعياً للسيطرة على الحكم من أجل السلطة فقط، بل جاءت "متأصّلةً برسوخ مجتمع الداخل الليبي [في نضاله المستمر ضد الاستعمار] بإدارته السنوسية، وتجربة الجمهورية الطرابلسية [التي أُسّست سنة 1918 في الغرب الليبي] من خلال ارتباطهما بثقافة الجامعة الإسلامية ومؤسسات القرابة المستقلّة ذاتياً، وانعدام الثقة في الدولة المركزية والغرب نتيجة مرارة التجربة الاستعمارية". هذا ما يكتبه علي حميده في كتبِه وهذا ما عبّر عنه صراحةً في اللقاء معه، إذ يرى أنّ معمر القذافي، في بداياتِه على الأقل، كان قادراً على التعبير عن ثقافة مقاومة الاستعمار والوطنية الليبية. وبثّ القذافي ذلك من خلال ترجمة هذا الميراث إلى عقيدةٍ ثوريّةٍ "مستخدِماً لغةً شعبيةً يفهمُها الليبيون العاديّون [. . .] فهو يتحدّث كبدويٍّ من الدواخل، ويلبس مثل لباسه، ويؤمّ المصلّين كإمامٍ أو أميرٍ للمؤمنين". وقد سعى القذافي إلى تغيير قصة المقاومة ومهاجمة رموزِ النظام الملكي حتى أنّه وصفَ استقلال ليبيا سنة 1951 بالاستقلالِ المُزَيَّف، فمثلاً زاد من إعلاءِ شأنِ عمر المختار، بطل المقاومة الليبية في برقة، وأحمد الشريف السنوسي، القائد الثالث للحركةِ السنوسية، ليتّخذَهما بديلَيْن رمزيَّيْن للملك محمد إدريس السنوسي، مع أنّ الأوّل كان يجاهدُ رسمياً، على اختلافِ وجهاتِ النظر في بعضِ المسائل، تحت اسم الحركة السنوسية التي يقودها إدريس السنوسي. وبهذا صار فيلم "عمر المختار" أداةً من أدواتِ النظامِ في تقديسِ عمر المختار مقابل تجاهل وتوسيخ سمعة كثيرين من رموز الحركة السنوسية، لا سيّما من كان لهم دورٌ بعد ذلك في تأسيس المملكة الليبية.
لا يبدو علي عبد اللطيف حميده راضياً على وضعِ الدراسات والكتاباتِ التاريخية في ليبيا، فجُلّها سطحية لا تتعاملُ مع القضايا التاريخية برزانة، أو استُخدِمتْ لأغراضَ سياسية، لا سيما بعد أن عطَّل نظامِ العقيد البحثَ العلمي الجاد، وزادَ على ذلكِ "الوضع البائس الآن"، على حدّ تعبيره. يقول حميده: "للأسف نحن الليبيون لم نعرف أنفسنا [. . .] والأكاديميا الليبية ما زالت متأخرة كثيراً".
يذكّرني ما يقوله حميده بكتابات الشيخ الطّاهر الزاوي، وكان من معارضي النظام الملكي في الخارِج، التي على قيمتِها التاريخية والجهد المبذولِ فيها، إلا أنّها بدت لي في أحيانٍ كثيرة تتهجّمُ على الملكِ إدريس السنوسي وحاشيتِه أكثر ممّا فعلَ القذافي بنفسه. وهذا ما يحدثُ الآن إذا تناوَلَ المرءُ كتاباتِ معارضي العقيد عنه وعن نظامِه بعد سقوطِه سنة 2011، فجُلّ تلك الكتابات تفتقدُ النّظرَ إلى إرثِ نظام الأربعينَ عاماً وسياقاتِه التاريخية والمؤثّرات الداخلية والخارجية بِرَزانة. فقد قرأتُ بعضَها وكان منها كتاب عبد الرحمن شلقم، سفير ليبيا السابق في روما، الذي عنوانه "شخصيات حول القذافي" ونُشِرَ سنة 2012، وفوجئتُ من النَّفَسِ التنكيلي الذي يحملُه الكتاب في محاولتِه فضحَ الدائرة التي كانت تلتفُّ حول العقيد. فقد كتبَ عبد الرحمن شلقم متأثّراً بانتصارِ الثورة الليبية على العقيد، إذْ كان مِن أهمّ قُوّادِها.
ليسَ الأمرُ سهلاً. ولهذا يرى علي حميده أنّ النخبة السياسية والأكاديمية الليبية تحتاج لمعرفةِ محيطِها أكثر من ذي قبل، وألّا تتجاهل الجيرانَ سواءً العرب منهم أو الأفارقة أو حتى إيطاليا. يقول حميده: "نحنُ لم ندرس الآخَر [. . .] ولم نوطّن علوماً حتى اليوم مثل علم الأنثروبولوجيا [الإناسة]، فلا وجود حتى اليوم لبحثٍ أنثربولوجيٍّ ليبيٍّ أصيل [. . .] وكلّ ما أنتجناه هو عبارةٌ عن محاولاتِ استعمالِ أدواتِ ونظريات الغرب ومحاولة تطبيقها على مجتمعنا". لكنّه يرى أنّ ما وقعَ فيه الليبيون وقعَ فيه غيرُهم من العرب، ولا سيّما القوميون الذين جاؤوا برؤية أنّ الدولة القومية والقومية العربية "لا بعدَها ولا دونَها" أي لا قبلها ولا بعدها.
يظهرُ كلام علي عبد اللطيف حميده جليّاً وواضحاً في كتاباتِ العرب، حتى الحديثة منها. ففي مقالة "إسرائيل مسألة ثلاثية الأوجه" للكاتب السوري ياسين الحاج صالح على مجلة الفِراتْس، يتناول الكاتبُ العواميدَ الثلاثةَ التي تأسّسَتْ عليها دولة إسرائيل: العامود الديني في الدين اليهودي، العامود التاريخي في تجربةِ الإبادة "الهولوكوست"، والعامود الاستعماري الاستيطاني الحاصل منذ تأسيسها. ما يثيرُ الاهتمام هو ما قاله الحاج صالح عن التاريخ الاستعماري في المنطقة العربية: "إسرائيل في قراءةٍ أُولى، قوّةٌ استعماريةٌ وامتدادٌ للاستعمار الذي عرفته أكثر البلدان العربية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ولعلّها أكثرُ من ذلك. فهي امتدادٌ لشكلٍ خاصٍّ من الاستعمار يُدعَى الاستعمار الاستيطاني، الذي عرفته الجزائرُ وحدها من بين البلدان العربية". أي أنّ ياسين الحاج صالح تجاهلَ التجربة الليبية تماماً، مع أنّ الاستعمار الإيطالي انطبقتْ عليه صفةُ إحلالِ شعبٍ بشعبٍ، لا سيّما في برقة، وصفةُ الاستيطان، إذْ أرادت إيطاليا أن تستوطن نصفَ مليونِ إيطالي مع حلولِ سنة 1950.
لا يقعُ المشارقةُ وحدهم، على حدِّ تعبير حميده، في فخِّ الجهلِ بليبيا، وإنما المغاربةُ الملتصقون بالبلاد أيضاً. في البدء، لَم يودّ التعليقَ على كتابِ التونسيّ المنصف ونّاس "الشخصية الليبية: ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة" الصادر سنة 2014. لكنّه قال لي: "هذا الكتاب قطاف زايد [هراء إن صحّ التعبير]. للأسف النخبة العربية الفرنكوفونية بالذات تختزلُ التاريخ الليبي في العصبيات والحروبِ القبلية والبداوة. هذه نظرةٌ غربيةٌ استعلائيةٌ ورثوها من الفرنسيين [. . .] والمشكلة أنّ النخبة الليبية تصدّق ما يقوله صاحب كتاب الشخصية الليبية". يطرحُ المنصف ونّاس، في كتابٍ صغيرٍ، تاريخاً مختصراً لكيفية تشكّل الشخصية الليبية بالقولِ إنّ البداوة في ليبيا لم تنتهِ، على التحديث الاقتصادي الذي أتى به النفط. وعلى العكس فقد سُيِّسَت البداوة وأصبحت حاضرةً في ذهنية الليبي وتعامله مع الدولة بمبدأ الغنيمة والتغلّب. وبالنسبة لحميده "هي في الحقيقة إعادة النظرة الفرنكوفونية التي أشاعها بورقيبة للتاريخ الليبي. وكأنّ هي النموذج الأمثل لفهم حالةٍ مختلفةٍ مثل الحالة الليبية. بعبارةٍ أُخرى: هل التجربة الفرنكوفونية التونسية هي تجربةٌ ناجحةٌ وهي مقياسٌ لقياس التجارب الأخرى مثل الحالة الليبية؟".
يطرحُ الكاتبُ في "المجتمع والدولة والاستعمار" تاريخاً مغايراً لهذا الاختزال والاستسهال للتاريخ الليبي. يقول إنّ النظر إلى الاقتصاد السياسي السائد في ذلك الوقت يُبطِلُ مفهومَ غلبةِ الصورة النمطية عن القبليِّ الذي يغزو غيرَه ويقطع الطرقَ ليعيش. فقد كان نظامُ تجارةِ القوافل من الصحراءِ إلى أوروبا هو النمطَ السائد في عمومِ البلاد. وهذا النظامُ وشبكاتُه المعقَّدة يُحتِّمُ وجودَ عقدٍ اجتماعيٍ ممتدٍّ في المدن والبلدات التي تُعَدُّ محطّاتٍ للتجارة. ويزيدُ على ذلك أنّ الغرب الليبي، أو ما كان يُسمى إقليمَ طرابلس، كان يعتمدُ في جزءٍ كبيرٍ منه على الفِلاحة، وهي نمطٌ اقتصاديٌّ مخالفٍ للحياةِ البدوية. وعلى عكسِ الرواية الشائعة، كما فعل المؤرّخ السنوسي محمد الطيب الأشهب، بأنّ قبائل بَرقة البدوية المتفرقة والمتناحرة التي وحّدتها الحركة السنوسية ليس لها اقتصادٌ سياسيٌ، يقول علي حميده إنّ القبائل في برقة كانت تمتلك اقتصاداً يجعلها مستقلةً ذاتياً عن الدولة المركزية، ولهذا لم تَحْتَجْ إليها. وعليه، لَم تتأثّر إلّا المراكز الحضرية مثل بنغازي ودرنة بالإصلاحات الإدارية العثمانية في القرن التاسع عشر. وهكذا فإن "الحركة السنوسية لم تظهر في فراغ اجتماعيٍ واقتصاديٍ [. . .] ولكن النظام القبلي في برقة تميّز بالتعقيد ووجود مؤسساتٍ متطوّرةٍ وشبكة التحالفات من صحراءِ سِرْت حتى الصحراء الغربية [المصرية]". يتجاهلُ العَربُ الذين كتبوا عن ليبيا مثلَ هذا السياقِ الاقتصادي. فحتى كتاب المؤرّخ الفلسطيني أحمد صدقي الدجاني "الحركة السنوسية" الذي طُبِعَ أوّل مرّةٍ سنة 1967، على أهمّيتهِ التوثيقية التي حَرَصَ فيها الكاتب على التأريخ للحركة سياسياً، فَشَلَ في دراسة الاقتصاد السياسي للحركة السنوسية دراسةً مفصلة.
يقعُ القوميون العَرب في فخٍّ شبيهٍ بالذي وقعَ فيه المنصف ونّاس. إذ ينظرُ القوميون إلى التاريخ العربي، وفي هذه الحالة الليبي، على أنّه نضالٌ عربيٌ مستمرٌ ضدّ قوّات الاستعمار والاحتلال الأجنبي سواءً التركي أو الغربي. تظهر هذه الإشكالية فيما يصفه علي عبد اللطيف حميده بتأثّرهم بالنظريات الاستعمارية. يقول لي: "لأنّ تأثير المناهج الاستعمارية والاستشراقية ما زال مهيمناً على التجربة العربية. المراكز العربية وقعت في مأزقٍ، فقد انتقدت التجربة الغربية والاستعمارية، ولكنهم أخذوا منها مسألة التحقيب التاريخي فسمّوا عصور الانحطاط في أوروبا بالعصور الوسطى، مع أنّ تلك العصور شهدت تقدماً في الحضارة العربية". يضيف حميده: "الماركسيون العرب لم يكونوا أفضَل من القوميين، فقد تبعوا النظرة الماركسية للتاريخ [التحقيب التاريخي لصراعِ الطبقات]. وجدتُ أنّ كبار المثقفين والقادة العرب وقعوا في هذا المأزق".
وفي مقابلتِه مع مجلّةِ "عراجين" الليبية سنة 2010، يناقش حميده الإسلاميين العَربَ ودغدغتَهم "أحاسيس الإنسان العقائدي الذي يعتقد أنه في حالة انتصارٍ بالعودة إلى الخلف فيؤدّي ذلك إلى تعمية أنفسنا عن الأسئلة الأساسية التي تواجهُها شعوبُ المنطقة في التنمية والتقدم". ومن ثمّ لا يؤمن الكاتب بمعاداة الغرب التي تجيّشُ المشاعرَ المعاديةَ وتستغلُّ التاريخَ الاستعماريَّ للقوى الغربية في المنطقة، وإنّما يؤمن بإعادة "تفكيك تاريخ الاستعمار، ومحاولة طرحة أسئلةٍ جديدةٍ، دون أن أكون أسيراً لمرجعية القوى الوطنية".
سألتُه عن سببِ تجاهلِ حنة آرنت المسألةَ الليبيةَ، فقال لي: "حسب اجتهادي فهي لم تكن على درايةٍ بما حدث في ليبيا. الدولة الفاشية كانت بارعةً في الرقابة وتغطية جرائمها، فلهذا ربما لم تصلها [أي آرنت] الأخبارُ عن ليبيا، مع أنّها كانت في منتهى الوضوح والنبوغ في الربط بين فظائع إفريقيا وخاصّةً في الكونغو وناميبيا وما حصل في المحرقة اليهودية". يطرحُ علي عبد اللطيف حميده على النقيض روايةً أخرى عن أصولِ معسكراتِ الإبادة النازية بالقولِ إنّ النازيين تأثروا "بالنجاح الإيطالي في نزعِ السكّان المحليين وإفراغ شرق ليبيا"، واتّخذوا النموذجَ الإيطاليَّ "خطّتهم المستقبلية لأوروبا. أرسل النازيّون وفوداً إلى روما وطرابلس [. . .] نشروا كتباً وأقاموا محاضراتٍ عن النجاح الإيطالي [. . .] إنّ سحقَ المقاومة ومعسكرات الاعتقال، وحصيلة القتلى العالية، كلّه أثّر في النازيين"، حسب قوله في كتابِ "الإبادة الجماعية في ليبيا".
يقسّم علي عبد اللطيف حميده المدارسَ الأوروبية، فيما يتعلّق بالاستعمار الإيطالي لليبيا، إلى خَمسِ مدارس. الأُولى مدرسةٌ تعرّف الفاشية الإيطالية على أنّها نظامٌ شموليٌ لكنّه نقلَ السكّان المحليين في ليبيا وباقي مستعمرات إيطاليا في إفريقيا من التخلّف إلى الحضارة. هذه المدرسة تستقي معلوماتِها من مصادر إيطاليةٍ فقد نجت الفاشية، على عكسِ النازية، بعد الحرب العالمية الثانية، فضحّت فقط بشخصيةِ القائد "بينيتو موسوليني". المدرسة الثانية صامتةٌ حيالَ الإبادة الليبية وتُسوِّق للمقولةِ الرائجة عن الإيطاليين كونَهم "الشعب الطيّب"، فكل الإيطاليين أناسٌ طيّبون والشخصية الإيطالية وسطيةٌ غير قادرةٍ على ارتكابِ المجازر أو إبادة شعبٍ بأكمله كما فعل الألمان النازيّون. يقول حميده: "الأكاديميون الذين ينتمون إلى هذه المدرسة لا يعرفون العربيةَ، ويركّزون في أبحاثهم على إيطاليا ومستعمرات إيطاليا [الأخرى] في إفريقيا، [ويركزون أكثر] على التحديث والوطنية والعمارة والسياحة". المدرسة الثالثة تروِّج للفاشية على أنّها نظامٌ ممتازٌ للتنمية والتحديث، دون حتى ذكرِ الضحايا البشرية التي أُفْنِيَت. المدرسة الرابعة مدرسةٌ تعترف بحدوثِ الإبادة في ليبيا، إلّا أنّها صامتةٌ وغير مهتمّةٍ بتبعاتِها في ليبيا وإيطاليا. "وحتى اليوم، يجدُ المرءُ كتباً ومراجع لمعسكرات الاعتقالات والمجازر البشرية، تقول إنّها كانت قصّةً حزينةً في التاريخ، ومن ثمّ تستمرّ في الحديث عن ليبيا وإيطاليا و[التجربة الاستعمارية] كأنّ شيئاً لم يحدث". ومن وجوه هذه المدرسة رئيسُ الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو بيرلسكوني الذي اعتذر لليبيا عن "التاريخ المحزن للاستعمار" سنة 2008. المدرسة الخامسة والأخيرة مدرسةُ دراسات الإبادة المعاصرة، والتي ما زالت تستثني الحالة الليبية التي ماتَ فيها قرابةُ ثلاثمئة ألفِ إنسانٍ، أو ما يساوي ثلثَ سكّان ليبيا، في أقلّ من عقد.
باستثناءِ قلّةٍ من الباحثين الإيطاليين، فإنّ جُلّ الكتابات والأعمال الفنّية الإيطالية التي انتقدت الفاشية اشتغلت على نقدِها في إيطاليا. لم تفتح إيطاليا أيّ معهدٍ أو أقسامٍ لدراساتِ ما بعد الاستعمار إلّا منذ سنة 1990. ولم يكن هناك أصواتٌ نقديةٌ حقيقيةٌ ما عدا أمثالِ جورجو روشات وآنجلو دل بوكا وإنزو سانتاريللي الذين جُمِعَتْ دراساتُهم في كتابٍ مهمٍّ عنوانُه "عمر المختار وإعادة الاحتلال الفاشي لليبيا" الذي نُشِرَ سنة 1988. عدا ذلك يؤمن حميده أنّ النخبة الإيطالية المعادية للفاشية لم تقترب من المسألة الاستعمارية الإيطالية، مع أنّها تناولت ثورة التحرير الجزائرية. على سبيل المثال، أنتجَ المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو الفيلمَ الشهيرَ "معركة الجزائر" المعروض سنة 1966 وانتقد سياسات الاستعمار الفرنسي، لكنّه كان صامتاً حيالَ ما فَعَلَتْه إيطاليا بليبيا. يقول حميده إنّ بونتيكورفو "اعترفَ بأنّ الجمهور الإيطالي لن يحبّ فيلماً عن الاستعمار الإيطالي [في ليبيا]". وهكذا يعرضُ الكاتب طيلة كتابِه نماذج مختلفةً عن إعادة تشكيلِ أسطورة "الشعب الطيّب" عبر السينما والدراسات الأكاديمية والموسيقى والآلة الإعلامية الغربية التي تعاونت فيها هوليوود مع السلطات الإيطالية بعد الحرب. وحتى اليوم، لا تُدرَّسُ مرحلة الاستعمار الإيطالي في المدارس الإيطالية إلا سطحيّاً.
يدعو علي عبد اللطيف حميده في كتابِ "الإبادة الجماعية في ليبيا" إلى العودةِ للتاريخ الشفوي، أي تاريخ المهمَّشين. فقد اعتمدَ، صحبةَ الوثائق والمراجع، في جزءٍ كبيرٍ من عملِه على روايات الناجين من معسكرات الاعتقال الفاشية، التي اشتغلَ المركز الليبي للدراسات والمحفوظات التاريخية على حفظها بتسجيلِ أصواتِ الليبيين وقصصهم إبّان الاستعمار. وقابلَ الكاتبُ بعضَ أولئك الناجين، الذين لم يثقوا به بسهولةٍ، وطابقَ رواياتهم مع الوثائق والمراجع ليشكّل روايةً جديدةً لتاريخ الإبادة الليبية، فقد تجاهلت أغلبُ الكتب التي تناولت الإبادةَ الليبيةَ تلك المصادرَ الشفوية. أيضاً اعتمدَ علي عبد اللطيف حميدة على الأدبِ الشعبيِّ متمثّلاً في الشِّعر، وحَلَّلَهُ وفكَّكَه ببراعةٍ داخلَ الكتاب ليشكّل صورةَ المجتمعات القَبَلية التي أجبرها الفاشيون على دخول معسكرات الاعتقال. وهكذا وظّفَ الكاتبُ خلفيّتَه الثقافيةَ في رواية التاريخ، كونَه كان له تجربةٌ شعريةٌ قبل الدخول في التجربة الأكاديمية.
