بعد ساعات انتظار طويلة معتادة، قضَتها بين القراءة وحلّ بعض المعادلات الرياضية، غلبها الإجهاد واستسلمت للنوم متوسدةً حقيبتها. والتقطت ابنتها المنتظرة معها صورة لها، ونشرتها مصحوبة بتعليق غاضب تتساءل فيه متى تتحمل السلطات في مصر مسؤوليتها عن المعتقلين وأسرهم.
راجت الصورة بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، وشاركها كثيرٌ من المتضامنين معها وولدها طلباً لإطلاق سراحه وإنهاء معاناة الأم التي لا تزال منذ عقود تقضي ساعات طويلة من أيامها انتظاراً أمام أبواب السجون، لزيارة زوج أو ابن أو ابنة أعلنوا آراء غير مرضية للسلطات المصرية أو طالبوا بوقف التعذيب في السجون.
بعد نحو خمس سنوات من التقاط تلك الصورة، انتشرت لليلى سويف صورة جديدة، هذه المرة وهي في سرير إحدى مستشفيات لندن بسبب تدهور صحتها بعد مئة وخمسين يوماً من الإضراب عن الطعام الذي بدأته في أكتوبر 2024. أعلنت والدة السجين السياسي علاء عبدالفتاح إضرابها احتجاجاً على تجاهل السلطات المصرية تطبيق نصوص قانونَي العقوبات والإجراءات الجنائية على ابنها الذي اكتملت مدة سجنه المقررة خمسَ سنوات في 29 سبتمبر 2024، إذ يحتم القانونان إطلاق سراح السجناء مع انقضاء مدة عقوبتهم القانونية.
الصورتان، وبينهما أعوام، لا تكفيان لتلخيص حياة ليلى سويف، وهي ابنة اثنين من أهم مؤسسي التعليم الجامعي في مصر والمناضلة من أجل الحريات الأكاديمية وزوجة واحد من مؤسسي الحركة الحقوقية المصرية ووالدة علاء عبدالفتاح، أحد أشهر وجوه الثورة المصرية في 2011. لكن الصورتين تدلان على صخب الحياة التي تعيشها الجدة البشوش التي تحلم بسنوات قادمة هادئة تقضيها مع أبنائها وأحفادها بلا صراعات.
أما حياة ليلى سويف نفسها وتشكُّلها بين والديها وامتدادها في أبنائها، فترسم صورة ثلاثة أجيال متعاقبة لأسرةٍ اختارت أجيالها العلم طريقاً والعدالة رسالةً، لتتلخص في قصة ليلى سيرة الطبقة المتعلمة في مصر وعلاقتها المتقلبة بالدولة وسلطاتها المتعاقبة.
التقطت ليلى سويف أول أنفاسها في الأول من مايو سنة 1956 في إحدى مستشفيات إنجلترا، حيث كان والداها فاطمة موسى ومصطفى سويف في بعثة تعليمية. عادا بعدها للإسهام في إعادة تأسيس كلية الآداب بجامعة القاهرة، بعد أن هجرها الأساتذة الأجانب عقب معاهدة حازت فيها مصر استقلالها عن إنجلترا في السنة نفسها التي ولدت فيها ليلى.
أثناء رحلة والديها الدراسية إلى المملكة المتحدة وقت وُلدت ابنتهما الثانية ليلى، فقد أباها مصطفى سويف والده بعد أسابيع قليلة من ميلاد ابنته وفقدت أمها والدتها في العام نفسه، ليكون التعايُش مع الفقد أول لبنةٍ في بناء شخصية ليلى سويف التي ظلّت تتعايش مع الابتعاد القسري عن أحبابها سبعةَ عقود.
في اللقاءات القليلة المصورة معهما في مكتبة التلفزيون المصري، يظهر الوالدان الأكاديميان مثل ابنتهما ليلى، يتمتعان بصوت هادئ وابتسامة طيبة وتواضع لا ينجح في إخفاء شغفهما بالعلم وتكريسه.
مثل الكثير من أبناء جيلهما من الأكاديميين المصريين، أتى والدا ليلى من خلفية بسيطة، فلم يكن أي من جدّيها لأبيها أو أمها من ذوي الثروة أو النفوذ أو العلم. لكن الجدّين والجدّتين يشتركون في أنهم، على حرمانهم من التعليم، جاهدوا كي يتلقى أبناؤهم ما حُرموا منه في وقتٍ كان فيه التعليم سبيلاً للترقي الاجتماعي في مصر.
خدمت الأقدار الوالدين فاطمة موسى ومصطفى سويف ليتخرجا بتفوّق في الجامعة ويكملا الدراسات العليا، في وقتٍ كانت فيه بلدهما تتحرر من الاحتلال الإنجليزي وتُمَصر جامعة القاهرة. فعادا من بعثتهما في إنجلترا حاملين الرضيعة ليلى، لينشئ والدها أول قسم للدراسات النفسية (علم النفس حالياً) في الجامعات المصرية، وتعيد والدتها تأسيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في الجامعة نفسها، جامعة القاهرة.
لاحقاً اشترك مصطفى سويف مع صديقه فنان العمارة والمؤلف الموسيقي أبو بكر خيرت في تأسيس أكاديمية الفنون المصرية بمعاهدها المختلفة، وكان مصطفى سويف أول رئيس لها. أما والدتها فقد أدخلت، مع زميليها وأستاذيها رشاد رشدي ولويس عوض، الأدبَ العربي وترجمته ضمن مناهج قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، ووضعتْ فاطمة موسى بعضَ أوائل المؤلفات العلمية المكتوبة بالعربية في تخصص الترجمة. ترجمت الوالدة أيضاً أعمال نجيب محفوظ إلى الإنجليزية، ولاحقاً ترجمت أشهر روايات ابنتها أهداف سويف "خارطة الحب" من الإنجليزية إلى العربية.
ظلّت فاطمة موسى تُدرِّس طلاب الدراسات العليا في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة حتى وفاتها سنة 2007 بعد أن بلغت الثمانين من العمر. كذلك ظلّ مصطفى سويف يضع المؤلفات في علم النفس وينشر مقالاته النقدية حتى أشهر قليلة قبل وفاته في 2016. هذا التعلّق الشديد بالعمل والدأب عليه صفة أخرى مرّرها الأبوان لابنتهما الوسطى ليلى، التي لا تزال تصرّ على تدريس محاضرتها وتصحيح أوراق طلابها بنفسها فيما تنتظر أمام أبواب السجون لزيارة ابنها علاء، أو ابنتها الصغرى سناء التي حُبست مرتين بسبب نشاطها الحقوقي وآرائها على مواقع التواصل الاجتماعي.
كانت فاطمة موسى أول سيدة ترأس قسم اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة وأول امرأة ترأس لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وهو كيان أسسه طه حسين ويناط به منذ نشأته وضع السياسات الثقافية المصرية والدفاع عن استقلالها. ولاحقاً أصبحت ابنتها ليلى من أهم علماء الرياضيات في كلية العلوم بجامعة القاهرة نفسها، ونالت تكريمات أكاديمية لتميّزها في مجالها العلمي. وشاركت في تأسيس حركة "9 مارس" التي حاولت منذ نشأتها في 2003 استعادة استقلال الجامعة المصرية وتخليص البحث العلمي والعمل الأكاديمي في مصر من سيطرة الأجهزة الأمنية. ولا يزال المشاركون في نشاطات هذه الحركة يتعرضون للتهديد والحبس أحياناً.
لكن حركة "9 مارس" لم تكن أولى خطوات ليلى سويف في التمرد. فمع أنها قضت طفولتها ومراهقتها في هدوء نسبي، تغير ذلك الهدوء مع هزيمة الجيش المصري واحتلال إسرائيلَ سيناء في الخامس من يونيو 1967 وهي بعد في الحادية عشرة من العمر. اشتعلت بعدها حركة الطلاب المطالبة بالإصلاح السياسي وتطهير الجيش ومواجهة إسرائيل لاستعادة الأرض، وظلّت كذلك حتى بلغت ليلى السادسة عشرة، لتخرج في أول مظاهرة لها مع زميلاتها طالبات مدرسة الأورمان الثانوية للبنات مشاركة في الحراك الطُلابي.
وقت لقائنا كان ابنها الأكبر الكاتب والمبرمج علاء عبدالفتاح يواجه تضييقات داخل محبسه تصعب التواصل بينه وبين عائلته، دخل على إثرها إضراباً جزئياً عن الطعام لم يكن إضرابه الأول. فمنذ سنوات لا يجد أفراد أسرة ليلى سويف، وغيرهم من المحبوسين والمسجونين لأسباب سياسية، سوى وضع أجسادهم على المحك للحصول على حقوقهم التي تقرّها القوانين السارية ولائحة السجون.
ومع قلقها ومحاولاتها حينها إنهاء الحبس الاحتياطي المطوّل لعلاء عبدالفتاح بالطرق القانونية، إلا أن ليلى ضحكت وهي تتذكر خروجها في مظاهرتها الأولى، وقالت إنها لم تُعد من ذلك اليوم من عالم الاحتجاج الذي خطت إليه وصار عنواناً لحياتها. قالت ساخرة: "منذ ذلك اليوم بدأت رحلة خمسين عاماً في كار النضال"، والكار كلمة عامية مصرية تعني الحِرفة.
مع سخريتها إلا أن ليلى سويف تعني ما تقول. فقد تحوّل كل فعلٍ من حياتها منذ تلك اللحظة، حتى فعل الأمومة والإنجاب، إلى نضالٍ وتحدّ. وربما اتحد ذلك الشق من روحها مع ما يماثله من زوجها المحامي الحقوقي الراحل أحمد سيف الإسلام، ليمرراه إلى أولادهما الثلاثة علاء ومنى وسناء.
يقول أحد أفراد عائلة ليلى للفِراتسْ، وهو ممن عرفوها منذ الطفولة، إن ليلى أكثر من يشبه الأبوين من بين إخوتها، وهي أيضاً أكثرهم بُعداً عنهما. وإنها وزوجها الراحل يشبهان والديها "أب وأم حقانيين بيحاولوا يحافظوا على أولادهم". ويراها "ليست نسخة من أحدهما وإن ورثت منهما صفات، أهمها الحفاظ على القيم الأساسية مثل العدل والحق، وأن الإنسان لا يجب أن يعيش مهتماً بنفسه أكثر من الطبيعي، وأن يكون له دور مجتمعي. وأن قيمته تظهر في مدى تأثيره فيمن وما حوله".
شباب ليلى كان معاكساً تماماً لطفولتها الهادئة. فهي ابنة جيل انتفض ضدّ السلطة في القاهرة وباريس وعواصم ومدن أخرى فيما عُرف بربيع مايو 1968، وإن لأسباب مختلفة. ثم تجددت الاحتجاجات في مصر بداية السبعينيات –التي تزامنت مع مراهقة ليلى وشبابها– للأسباب نفسها تقريباً التي غضب لها الطلاب المصريون في الستينيات، وهي المطالبة بالإصلاح السياسي وتطهير الجيش وإنهاء ما رآه الطلاب استسلاماً لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي في سيناء.
واجهت السلطات المصرية احتجاجات الطلاب كل مرةٍ بعنفٍ بالغ. ووسط الاحتجاجات المشتعلة حول العالم، كانت ليلى سويف تراقب وتسأل وتسمع من والديها تفسيرهما، وتتلقى دروساً مبكرة في مفهوم العدالة. وخصوصاً من والدها الذي وضع بعض المؤلفات البارزة حول ذلك المفهوم، منها كتابه "الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي" الصادر في طبعته الأولى سنة 1960.
كان الغضبُ لغياب العدالة دافعَ ليلى للمشاركة في مظاهرتها الأولى احتجاجاً على القبض على طُلاب معتصمين في جامعة القاهرة يطالبون بمحاربة إسرائيل. وبينما كان صوتها يغيب بين جموع المتظاهرين في احتجاجات "انتفاضة الخبز" في 18 و19 يناير 1977، وهي انتفاضة شعبية في عدة مدن مصرية رئيسية احتجاجاً على رفع الأسعار، كان الحب ينمو هادئاً بينها وبين القيادي الطلابي أحمد سيف الإسلام. وكان زواجهما وما تبعه من قصة صدام جديدة مع السلطات المصرية فصلاً مطولاً في توريط ليلى في مواصلة "كار النضال" الذي فُرض عليها فواجهته بصلابة وصبر.
وفقاً لقانونَي العقوبات المصري وقانون الإجراءات الجنائية الذي كان سارياً وقت صدور الحكم، انقضت مدة العقوبة الصادرة ضدّ علاء عبدالفتاح في 28 سبتمبر 2024، إذ تُحسب مدة قضاء السجين العقوبةَ بدايةً من اليوم الأول لاحتجازه. إلا أن الجهات القضائية ووزارة الداخلية تصرّ على استمرار حبسه حتى 2027، وترفض احتساب عامَي الحبس الاحتياطي المنصوص عليه في المادة 482 من قانون الإجراءات الجنائية.
لهذا السبب بدأت ليلى سويف إضرابها التام عن الطعام في اليوم التالي على انقضاء مدة محكومية ابنها. وتدهورت صحتها بعد أكثر من 150 يوماً من الإضراب لترقد في إحدى مستشفيات لندن، قبل أن توافق على أن يكون إضرابها جزئياً عقب تحركات برلمانية وحقوقية لدعم حق ابنها في الخروج من السجن.
التعذيب في أماكن الاحتجاز خطّ مسار حياة ليلى منذ تعلّق قلبها بالقيادي الطلابي أحمد سيف الإسلام، وصولاً إلى سجن ابنها الذي احتجّ على التعذيب فسُجن لهذا السبب ثم تعرض بنفسه للتعذيب في السجن، كما تسجل عدة شكاوى قانونية حققت فيها النيابة العامة في مصر ولم يعلن بعد عن مصيرها.
عقب تخرّجه وزوجته في الجامعة وعمله بالمحاماة في الثمانينيات، ناضل أحمد سيف الإسلام ضدّ التعذيب، أسوةً بأستاذه نبيل الهلالي الذي قضى حياته مدافعاً عن الطلاب والعمال والبسطاء بلا مقابل. وتعرّض أحمد سيف الإسلام نفسه للتعذيب في مرات اعتقاله المتكررة بسبب نشاطه السياسي ثم الحقوقي. وفي مرات سجنه وتعذيبه المتعددة، كانت ليلى تخوض نضالاً موازياً، اختارت فيه أن تقاوم على طريقتها.
تتفاخر ابنتهما منى سيف، الباحثة في مجال علم الأحياء، بقصة حمل والدتها فيها ولا تنفك تكررها. مرات للتفاخر بالحب الذي جمع بين أبويها وبأنها ابنة هذا الحب، ومرات استلهاماً لما تنطوي عليه قصة مجيئها للحياة من نضال والدتها تحديداً. عندما حملت ليلى في ابنتها الثانية، كان أحمد سيف مطلوباً في مرة من مرات اعتقاله العديدة، ومختبئاً لدى أصدقاء له. وأثناء اختبائه أصرّت ليلى على أن يترك لها أخاً أو أختاً لعلاء تربيها حتى ينتهي اعتقاله. كان إصرارها على انتزاع حياة جديدة من قبضة السجن فعل صمود بالنسبة إليها، واصلته وهي تنتظر وفي يدها صغيرها علاء، وفي رحمها صغيرتها منى أمام أبواب السجن لزيارة الزوج الحبيس.
لم تكن ليلى سويف وحيدة في نضالها هذا، فقد شهد عقد الثمانينيات تأسيس الحركة الحقوقية المصرية من رحم الحركة الطلابية التي وُلِدَت في الستينيات والسبعينيات. كانت الكاتبات والفنانات والمحاميات المعارضات يلِدن في السجون. أما زوجات السجناء السياسيين فيرعَين أولادهن ويرعَين الأزواج المسجونين وسط موجات الاعتقالات التي لا تكاد تتوقف، والتي طالت قانونيين مثل أحمد سيف الإسلام والراحل هشام مبارك. وهشام مبارك محامٍ انخرط طوال عقدَي الثمانينيات والتسعينيات في تمثيل من تعرضوا للتعذيب، وكذلك تمثيل الطلاب والعمال ممن تعرضوا للاحتجاز بسبب من مواقفهم السياسية أو للمطالبة بحقوقهم القانونية. وطالت الحملة أيضاً شعراء مثل الراحل محمد عفيفي مطر وغيره كثيرين سجّلوا ما لاقوه من تعذيب في دواوين وروايات ومذكرات، أبرزها ديوان "احتفالات المومياء المتوحشة" لمحمد عفيفي مطر.
أثناء سجن الزوج كانت ليلى سويف على عادتها تصل إلى مدرجات الجامعة قبل طلابها ثم تعود إلى البيت لاستقبال علاء من المدرسة ورعاية منى والصغيرة سناء بمساندة من أبويها. ووسط مهامها تلك تُعِدّ "الطبلية" لتنتظر بها أمام بوابة السجن حتى تلتقي زوجها. لاحقاً، باتت تفعل الأمر نفسه مع فارق أنها أصبحت تعدّ الطبلية لزيارة ابنها.
في معايشتها لتلك الأعباء، تلخص ليلى سويف حال آلاف الأمهات والزوجات المصريات الواقفات أمام أماكن الاحتجاز تحت الشمس اللاهبة أو في البرد القارس. ينتظرن من أجل دقائق يسعهن فيها الاطمئنان أبنائهن وبناتهن وأزواجهن، إذ تقدّر مؤسسات حقوقية محلية ودولية في سنة 2015 أن واحداً وأربعين ألفاً من البنات والأبناء والأزواج يقضون قسطاً من أعمارهم في السجون بسبب رأيٍ معلن. وترجح تقارير حقوقية معتمدة من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أن عدد من تعتبرهم سجناء سياسيين، فاق ستين ألفاً في السنوات اللاحقة.
تعريف ليلى لِما هو مفروض عليها مختلف. فهي لا تكتفي بواجب الرعاية للأبناء والأحفاد وتدريس الطلاب والحرص على دقة تصحيح أوراقهم فحسب، بل تمدّ قائمة ما هو مفروض عليها لترتب لنفسها واجبات إضافية. في سنة 2003 مع الاجتياح الأمريكي البريطاني للعراق، اندلعت المظاهرات في الجامعات المصرية احتجاجاً على الاحتلال. واقتحمت قوات الأمن جامعة القاهرة للمرة الأولى منذ عقود لتفضّ تظاهرات الطلاب وتعتقل العشرات، منهم طلاب ليلى في كلية العلوم. كانت تلك الواقعة شرارة ميلاد حركة "9 مارس" لاستقلال الجامعات التي شاركت ليلى في تأسيسها.
حركة "9 مارس" كانت واحدة من اللبنات الأولى التي انبنت عليها حركة "كفاية"، التي أُعلن عنها في 2004 لتجسد غضباً سياسياً مكتوماً كان يتشكل ضدّ حكم الرئيس السابق حسني مبارك، الذي أتم ثلاثاً وعشرين سنة في الحكم وقتئذ. هذا الحراك الذي شكل موجاته الأولى جيل ليلى وسيف (كما تدعو زوجها) من أبناء الحركة الطلابية في الستينيات والسبعينيات، ظلّ يغلي. وانضمّ إليه ابنهما الأكبر علاء عضواً في حركة "شباب من أجل التغيير"، ليصل جيله مع جيل أبويه لاحقاً إلى المحطة الكبرى في ثورة 25 يناير سنة 2011.
تقول ليلى عن أبنائها إنها وزوجها لم يدفعاهم يوماً إلى الاقتراب من السياسة أو الاحتجاج، بل إن الأبناء اختاروا مبكراً الابتعاد عن مجال عمل أبيهم في المحاماة وكرهوا السياسة. اهتم الابن الأكبر علاء منذ الصغر بالبرمجيات، ودرست مُنى الوسطى علم الأحياء وتخصصت في الأبحاث المتصلة بمكافحة السرطان، أما سناء "آخر العنقود" كما يسمّونها فشغفت بالسينما الوثائقية ودرست الإخراج.
لكن جينات التمرد مرّت كجينات الشغف بالعلم والمعرفة إلى الأبناء، ليصبح علاء عبدالفتاح واحداً من مؤسسي حركة البرمجيات الحرة والمعرفة مفتوحة المصدر في مصر والعالم. وعندما كشف قضاة مصريون بالمستندات عن تزويرٍ شابَ الانتخابات الرئاسية التعددية الأولى في مصر والتي رسخت مقعد الرئيس السابق حسني مبارك في 2005، كان علاء وشقيقته الأصغر منى في طليعة الشباب المتضامنين مع القضاة عقب اعتداء قوات الأمن عليهم في مقر ناديهم بوسط القاهرة، وتعرض كلاهما للضرب والاحتجاز لفترة قصيرة.
وكما شاركت ليلى في تأسيس "9 مارس" وساهم سيف في تأسيس "جبهة الدفاع عن متظاهري مصر"، كان علاء عبدالفتاح ضمن النواة الأولى لتشكيل "شباب من أجل التغيير"، إلى جانب تشكيل مجتمع البرمجيات مفتوحة المصدر في مصر والعالم العربي.
في 25 يناير 2011، لم تعترض ليلى عندما جاءتها مكالمة علاء من جنوب إفريقيا حيث يعمل، يخبرها قبل انقطاع الاتصالات كلياً في مصر أنه قرر إنهاء عمله والعودة فوراً، لأنه غير قادر على أن يكون بعيداً عن مصر ولا يشارك في الثورة. تقول لي "كل واحد من ولادي كان معتبر السياسة شيء سخيف. كان تمردهم الأساسي علينا [هي وزوجها] هو الابتعاد المتعمد عن السياسة باعتبارها شيء سخيف. لكن كل واحد فيهم النداهة ندهته [انجذب للسياسة بلا مقاومة]".
كان علاء وشقيقتاه مثل أبويهما ليلى وسيف، أفراداً ضمن سيلٍ جارفٍ من الراغبين في حياة أعدل لأنفسهم ولمن حولهم. لكن حركة التدوين في مصر التي بدأت في 2005، وكان هو من مؤسسيها، جعلته في بؤرة الضوء. خاصة وأنها كانت طريقاً سار فيه علاء على خطى أبيه في مكافحة التعذيب، ولكن عبر أدواته هو: نشر المعرفة وكسر مركزية التحكم فيها.
أتي جيل علاء عبدالفتاح الذين ولدوا لمتمردي الستينيات والسبعينيات بأدوات جديدة للتمرد، تتفق مع ميلادهم في عصر الإنترنت، ليكملوا الطريق نفسه الذي سار فيه الآباء. وانضم إليهم كثيرون، وفّر لهم نشاط علاء وزملائه في كسر هيمنة الإعلام الرسمي فرصة وأدوات لكي يكونوا جزءاً من هذا الحراك.
كانت النتيجة المباشرة لِما قام به علاء عبدالفتاح، ولشهرة والده ووالدته في الاحتجاج على التعذيب والسعي لتكريس العدالة، أن أصبح يمثل لدى بعض صناع القرار وجهاً دالاً على المشاغبة. ليقضي خمسة عشر عاماً مرّت منذ 2011 حبيساً في السجون، إلا من شهور قليلة يطلق سراحه فيها قبل أن تظهر تهمة جديدة تلقي به خلف القضبان. وتعود ليلى سويف لقضاء سنوات شيخوختها منتظرة أمام السجون، أو مضربة عن الطعام مطالبة بحق ابنها في الحياة خارج السجن.
لكن مع تلك الصورة، إلا أن مَن يُدقق يجد أنها في كل تحرك لم تكن سوى ابنة تحمل القيم التي تربت عليها وتضعها موضع التنفيذ، ثم زوجة تساند زوجها في قراره بأن يضع مهنته وجسده عقبة في طريق استمرار التعذيب، فأستاذة جامعية توقن أن أداء عملها على أكمل وجه لا يكون إلا بالدفاع عن استقلال الجامعة وحرية البحث العلمي وسلامة الطلاب. وأخيراً هي أم لم تعد تملك سوى جسدها أداةً لمقاومة استمرار سجن ابنها بالمخالفة للقانون.
تمثل ليلى سويف حلقة وصل بين جيلين. وتلخص حياتها الصاخبة سيرة ثلاثة أجيال شهدت مصر في حياتهم تحولات كثيرة. من دولة محتلة يجد فلاحوها في تعليم أبنائهم سبيلاً للمقاومة، فدولة متحررة تفتح الباب لمتعلميها لإعادة تأسيس جامعاتها ورسم خريطة مستقبل عرقلته خيارات الحكم، ثم دولة تختار أجهزة فيها سجن من يعبرون عن آراء تراها تلك الأجهزة مهددة للاستقرار في مواجهة أخطار محيطة بها. في كل تلك التحولات تقف أمهات، مثل ليلى سويف، تختار كل منهن الصمود على طريقتها، ولو كانت وضع الحياة على محك حرية الأبناء.
