تابَعَ شبابُ الحركة الإسلامية وشيوخُها مضامينَ الافتتاحيات الخَمْسِ مكتشفِين أيَّ نُورٍ كنتُ أَعْرُجُ بهم إليه حتى استبانَ المقصودُ في الحلقة الأخيرة. انطلقَت الحلقةُ الخامسة من قصّة "سُطَيْح"، وهو رجلٌ من العصور الغابرة لَم يكن فيه عظمٌ سوى الجمجمة، ولم يكن يَقوَى على قعودٍ أو قيامٍ أو حركةٍ، بل يُطوَى كما يُطوَى الحصير. تدرّجتُ بالنَصِّ ناظراً في الإنسان المُسطَّحِ فِكراً في عالَمنا العربيّ، مع ما يتركّز نتيجةَ ذلك من حاجتنا للخروج من إعاقةِ تسطيحٍ أصابت "الإسلاميّين" خاصّةً، وهو ما يَفرِض عليهم مراجعاتٍ صعبة. خَلُصَ نصُّ سُطَيْحٍ في فقراتِه الأخيرةِ إلى نقدِ تجربةِ زعيمَيْن مرجعيَّيْن هُما المصريُّ حسن البنّا، مؤسّسُ جماعة الإخوان المسلمين، والهنديُّ أبو الأعلى المودوديُّ، مؤسّسُ الجماعة الإسلامية في شبه القارّة الهندية. رأيتُ أنّ كلَيْهما لم يتمكّنا من معالجة إعاقات الفكر المُسَطَّح ولم يستطيعا التخفيفَ من المصاعب والنوائب الواقعة على بلدَيْهما. لا غرابةَ إثر ذلك أنْ جاءت الإدانةُ حاسمةً لكلِّ نصوصِ "من أين نبدأ" لكونِها استفزازاً سافراً لا يُطاق.
رأت طائفةٌ معتبَرةٌ مِن قرّاءِ "المعرفة"، فضلاً عن قيادة الحركة، أنّ الإشكال لا يقتصر على الافتتاحيات الخَمس وإنّما يشمل ما يتخلّل المجلّةَ من قضايا لا تهتمّ بها المجلّات الملتزِمة مشرقاً ومغرباً. لقد حافظ قِسمٌ من المجلّة على السَمْتِ السائدِ بما شابَهَ مِن أبوابِ "في رحاب القرآن الكريم" و"الحديث الشريف" ومسائل "القضاء والقَدَر" و"الفِطرة" و"مصادر المنهج الإسلامي" و"خرّيجو مدرسة النبوّة". لكن تعلُّقَ السؤالِ المُلِحَّ بدلالةِ المقالات الأُخرى التي بَدَتْ نشازاً في مجمل المنشور من قَبيل الحديث عن "الثورة الفرنسية" أو "ظاهرة انتحار النُخَب في اليابان" أو "انهيار الإمبراطورية السوفييتية" أو "الحوار الإسلامي المسيحي" أو "سباق التسلّح". رأى بعضُهم في تناول هذه المسائل ترفاً فكرياً، في حين عَدَّها أغلبُهم سوءَ تقديرٍ لحاجيّات الجماعة يمكن أن يؤدِّيَ إلى زعزعة بناء الحركة في نظرتها وتكوينها وفاعليّتها المميّزة.
عند ذلك بدأ العدُّ التنازليُّ لعلاقتي بالجماعة ومجلّتِها وفكرِها "الاحتجاجي" الذي صرتُ أراه إعاقةً لأيّ إضافاتٍ تعين على تفهّمِ ما في داخل الجماعة من حراكٍ، فضلاً عمّا في الخارج. رحلةُ السنوات التالية لطلبي الإعفاءَ من رئاسة تحرير المجلّة بَدَأَتْ من تجاوزِ نزعةِ الاحتجاج التي لا ترى مع الآخَرِ المُختلِف سوى علاقة القطيعة والعداء لتمضيَ قُدُماً في خطابٍ مختلفٍ طبيعةً ومدىً. بذلك تحدّد منطلَقُ خطاب "الإسلاميين التقدميين" في التأسيس بتخطّي مُسلَّماتٍ سائدةٍ في الأدبيّات الحركية، لا سيّما الحركة الإسلامية، وفي مقدّمتها المقولتان المتلازمتان: أُولاهما أن معاناة العالم الإسلامي ناجمةٌ من مؤامرات الغرب المادّي ومكائده السياسية ونزوعه التوسّعي. والثانية هي الاعتقاد بأنّ ما لدى المسلمين من تراثٍ وتصوّراتٍ وثقافةٍ دينيةٍ كفيلٌ بحَلِّ مشاكل المسلمين اليوم. لَم يُنكِر خطابُ المراجعة، مِن جهةٍ، وجودَ سياساتٍ عدائيةٍ استعماريةٍ تجاه مصالح العالم العربي والإسلامي وحقوقه. ولَم يتنصَّلْ، من جهةٍ ثانيةٍ، من التراث القديم إذْ لَم يَعُدّه عائقاً للنهوض والفاعلية التاريخية.
مقتضى انطلاقِ هذه المراجعة تَطَلَّبَ الاشتغالَ على هاتَيْن المقولتَيْن بالذاتِ لكن عبر "فكرٍ نقديٍّ" يتّجه، في مستوىً أوّل، إلى صياغةٍ سرديةٍ مغايرةٍ عن الذات وعن الآخَر وعن أهمّية التعامل معه. وهي في المستوى الثاني تعمل على وضع المعرفة الدينية في صيغةٍ علميةٍ تؤسّس لمبادئ الدِين بصورةٍ موضوعيةٍ ممثّلةٍ للمعارف الإنسانية المستجدّة. وفي هذه الصيغة تأسيسٌ ثقافيٌّ عقلانيٌّ يستند للرؤية القرآنية للإنسان. تلك كانت إجابة الإسلاميين التقدميين عن التساؤل المحيّر: من أين نبدأ؟ الذي يعني، في مستوىً أوّل، الإقرارَ بأنّا لسنا على شيءٍ. وفي عَتَبَتِه الثانية ضرورةُ تَفَهُّمِ سياقات العصر المعرفية والثقافية والتاريخية.
ثمّ في سنة 1969 حصلت الأزمةُ الثالثة في تونس، إذ أُلغِيَت تجربةٌ تنمويّةٌ قائمةٌ على "التعاضد" المُجمِّعِ لملكيّاتٍ فلاحيةٍ صغرى وأُخرى تجاريةٍ تُسَيِّرُها أجهزةُ الدولة. بعد انطلاقِ التجربةِ منذ بداية الستينيّات، وعلى ما تَحقّق من نتائج ببناءِ أقطابٍ صناعيةٍ كبرى تَقَرَّرَ إنهاءُ التجربة بصورةٍ مفجعة. حُوكِمَ القائمون عليها بتهمة الخيانة العظمى سنةَ 1970 وحُمِّلوا مسؤوليةَ الفشل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. اللافتُ أنّ التحوّل الحاصل إثر ذلك تمّ بتوجّهٍ تنمويٍّ معاكسٍ فيه انفتاحٌ اقتصاديٌّ لبناءِ رأسماليةِ الدولة لكن بمِثْلِ التجميعِ السُلطويِّ الذي فَرَضَ التعاضدَ من قَبْل.
وحين يعيش شابٌّ ثلاثينيٌّ عالَمَهُ هذا بأبعادِه الثلاثةِ، الشرقية والغربية والوطنية، هل تراه ينكفئ ويستكين؟ الجواب هو بالنفيِ، خاصّةً أن الأمرَ لم يتوقّف عند هذا الحدّ بل تصاعد في سنة 1979 بوتيرةٍ مُربكةٍ أكثر تأزيماً للوعي والسلوك.
وُقِّعَت معاهدةُ كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل في واشنطن في مارس من ذلك العام. صاحَبَها إدانةٌ عربيةٌ محتشمةٌ تأكّد بها أن مصر غادرَت السِربَ ولَم تعُدْ "أُمَّ الدنيا". وفي مطلعِ العام ذاتِه، أطاحت الثورة الإسلامية في إيران بنظامِ الشاه الذي كان يُعَدُّ تغريبياً. نجح التغييرُ بدعم القوى الشعبية والسياسية الدينية والعلمانية المختلفة، لكن خَلُصَ إلى قيام أوّل تعبيرٍ رسميٍّ لما سيُعرف بعدَها "الإسلامَ السياسيَّ" في كامل المنطقة العربية. ثالثةُ الأثافي حصلت في نوفمبر، عندما استولى مسلّحون على الحرمِ المكّيِّ عقب الانتهاء من مناسك الحجّ. وبعد حصارٍ قارَبَ خمسةَ عشرَ يوماً، اقتحمت قوّات الأمن الحرمَ وقَضَتْ على المتمرّدين الذين وَقَّتُوه غُرَّةَ السَنَةِ الهجريةِ 1400 لِما تَحْمِلُه في اعتقادهم من العلامات الممهِّدة لـظهور "المَهْدِيّ". خاتمةُ هذه الأحداث المحورية حَصَلَت بدخولِ الجيش السوفييتي أفغانستان أواخرَ ديسمبر لدعمِ الحُكمِ الشيوعيِّ القائمِ والمُوالي لموسكو. دامت الحربُ عشرَ سنواتٍ وانتهت بانسحاب القوّات السوفييتية منهزمةً بفضل المقاومة الأفغانية وبحصيلةٍ كبيرةٍ من القتلى والجرحى من الجانبين ودمارٍ هائلٍ وأكبرِ تشريدٍ للمدنيّين منذ الحرب العالمية الثانية. أبرزُ ما في هذه الحرب إيذانُها بتفكّك الاتحاد السوفييتي وانهيار الجيش الأحمر الذي صُوِّرَ أنّه لا يُقهَر.
وهذا الاتجاهُ الإسلاميُّ تقدميٌّ بمفهومنا لأنّ أهمَّ ما يعنيه، وما نراه تقدّمياً، هو الإقرارُ بضرورةِ إنهاءِ علاقةِ التصادم مع الآخَرِ لكونِها تَشْغَلُ عن الشروع في علاجِ تَخَشُّبِ الثقافة والوعي المحلِّيَّيْن. وهو، في الوقتِ ذاتِه، شروعٌ في نقدٍ ذاتيٍّ يُقِرُّ بمحدوديةِ المعرفة الإنسانية وأنّ البَشَرَ مهما اختلفت مقارباتُهم لحقيقةِ أزماتِهم يظلّون متساوين في حاجاتهم للاستفادة من بعضهم. كذا فإنّ التقدّم الإسلاميّ من هذا المنطلق يصبح رهاناً على حوارٍ متكافئٍ مع الآخَر مع وعيٍ بأهمّيةِ الاختلافِ معه. ومع فهمِ العالَمِ، والغربِ خصوصاً، ومساءلَتِه معرفيّاً ومنهجيّاً وتاريخيّاً، تنتهي حالةُ الانبهار، فيُضْحِي المُختلِفُ وسيلةً لإثراء البيئة المحلّية بالحداثة من غيرِ التضحية بأصالتِها وأُسُسِها. بمعنىً آخَرَ، وفي مسعىً لإثباتِ الذاتِ، الهدفُ مُصالحةُ المجتمع مع عصرِه وتأهيلُ ثقافتِه المحلّية لتصبحَ على مستوى التفاعل مع الحضارة الصاعدة.
في الثمانينيات والتسعينيات دشّن الإسلاميون التقدميون في تونس نشاطاً فكرياً نقدياً لَقِيَ رواجاً بإصدار مجلّتهم "21.15"، أو مجلّة الفكر الإسلامي المستقبليّ، مطلعَ الثمانينيات. وقد صدر عددُها الأوّلُ في يناير 1982. يُبرز عنوانُ المجلة وِجْهَتَها في إقامة تفاعلٍ بين الواقع الحضاري للقرن الهجري الخامس عشر وبين حضارة القرن الميلادي الواحد والعشرين. وفي رفعها شعار "الفكر الإسلامي المستقبلي"، حدّدت المجلّةُ منهجَ التعامل مع الماضي وما تولّد عنه من تجارب تاريخيةٍ وتراثٍ فكريٍّ وروحيٍّ وحضاريّ. أهمُّ ما في هذه المستقبلية تواصلُها مع تمدّنِ المسلمين المُنجَزِ لأنه، وفقَ رؤيتِها، رصيدٌ إنسانيٌّ لا ينبغي التفريطُ فيه، ولِما في هذا الرصيد من قابليةٍ للاتّساع والإبداع، وما يحمله أيضاً من مشاركةٍ وتأثيرٍ في الفعل التاريخي.
ما حصل من جهات الدولة الرسمية، عند انكشاف التنظيم الحركيّ الممتدّ في كامل البلاد، بلغ حدّاً من القسوة وعنه تدرّج المشهدُ الوطنيُّ في حالة استقطابٍ شعارها "من ليس مع النظام القائم فهو مُعادٍ للوطن". ومن شمولية السلطة الحاكمة ومن حالة الاستقطاب الحادّ حُسِمَ مستقبلُ كلٍّ من الحركة الأُمِّ وكذلك المجموعة التقدّمية المنشقّة عنها. فمع انتشارٍ واسعٍ للأُولى جَعَلَها أقربَ إلى ظاهرةٍ اجتماعيةٍ سياسيةٍ مناضلةٍ خاصّةٍ في المجال الشبابي المدرسي والجامعي، اكتفت الثانيةُ بأن تكون مجموعةَ تفكيرٍ نقديٍّ ذاتَ خاصّيةٍ ثقافيةٍ إنسانيةٍ تحمل سرديةً مغايرةً عن الذات والآخَر.
بناءً على ذلك، تشكّل الواقع الوطني التونسي ضمن مسارَيْن فارقَيْن. أَوّلُهما يخصّ المناخَ الفكريَّ الذي احتضن الحركة الإسلامية الأُمَّ وأثّر في منهجها. واعتمد هذا المسارُ حقبةً تاريخيةً، أيْ تاريخَ النهضة الإسلامية، منظومةً فكريةً اجتماعيةً ومرجعيةً للنصّ المؤسِّسِ (القرآن الكريم) وحُكمُ تأويل هذا النصِّ بالعادةِ يكون بالفهمِ الذي سادَ في زمنِ نزولِه. ما نتج عن هذا هو مسارٌ بخطابٍ احتجاجيٍّ ذي خلفيةٍ عقديةٍ سَلَفية. كانت الحركة الإسلامية التونسية، في منظورها وسياساتها وتكوين قياداتها، نتاجَ واقعٍ تحديثيٍّ ظهر في تونس منذ مطلع القرن العشرين، وسادَ بقيام الدولة الوطنية المستقلّة في منتصف الخمسينيات. لم تستطِع الحركةُ الأُمُّ الانعتاقَ من الاتجاهات الإحيائية (الدينية) الغالبة في العالم العربي، والتي لم تساعدها في منافسة التيارات الحداثية على الحكم.
في المقابل، فالسؤال الذي أرَّقَ القدراتِ الاستراتيجيةَ للحركة الأُمِّ، هو ما حرص الإسلاميون التقدميون على الإجابة عنه بمقولة "أولوية الثقافي على السياسي". إزاء هذا، طغى على المسار الثاني، أي التقدّمي، خطابٌ شموليٌّ سادَ غالبَ التيارات الاجتماعية والسياسية الحداثية الحاكمة والمعارضة. ظلَّ عمومُ هذا المسار متحصّناً بعقيدةِ امتلاك البديل الأمثل والأشمل لمتطلّبات العصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
لا غرابةَ إذن أنْ سادَ المشهدَ الوطنيَّ فكرٌ فردانيٌّ يهمِّش الآخَرَ ولا يتردّد في تقريعه وتشويه صورته لدى الجمهور والنخبة. ومن هنا استقرّ بين الحركة الإسلامية التونسية وبعض مؤيّديها وبين السلطة في التسعينيات خلافٌ جذريٌّ على مرجعية الدولة وسياسة دَوْلَنَة الدِين وتوظيف مؤسّساته، فكان الناتجُ سياساتٍ من السلطة لاستئصال شَأْفَتِها. أَنْهَكَ هذا التضييقُ عمومَ المخالِفين من القوى السياسية والاجتماعية والفكرية، ما زاد في ترسيخ حالةٍ من التنافي بين هذه القوى عَطَّلَتْ أيَّ تشاركٍ من أجل تنمية مشروعٍ وطنيٍّ سياديّ. هذه الظروف لم تكُن لِتُساعِدَ الحركةَ الإسلاميةَ على القيام بمراجعاتِها النقدية اللازمة لتكون مقبولةً لدى النُخَبِ والجمهور. وما كانت الحركةُ مُقبِلةً أو قادرةً على المراجعات، لافتقارها إلى مسألةِ "توطين العالَم" – أي مزاوجةِ الحداثة العالمية مع المرجعية التراثية والثقافة المحلية – ممّا أبقى وعيَها التاريخيَّ ورؤيتَها قاصرَيْن عن مستلزماتِ المشروع الوطنيّ وبدائلِه النوعية. أفضى ذلك إلى بروز ظاهرةٍ اجتماعيةٍ سياسيةٍ دينيةٍ، كانت مرشّحةً لتكون تياراً فاعلاً، وهو ما يُعرَف في التراث الإسلامي بِاسمِ "النِحْلة".
الإشكالُ الأساسُ لدى الحركة الإسلامية التونسية هو استمرارُها في مُفارَقَتها الكبرى، بوضعها القَلِقِ الذي لَم تُراجِعْه، لتتحرّرَ من التباسِ المنزلةِ بين المنزلتَيْن المتباينتَيْن، ألا وهي السَلَفية التحديثية. هذا بالذات ما عمل الإسلاميون التقدميون على الخروج منه بإنتاج دائرةٍ مفاهيميةٍ ذاتِ أربعةِ عناصر.
أَوّلُ هذه العناصر هو " الوعي الشُهودي"، ويتمثّل في أنّ إثبات الذات لا يكون إلّا بعيداً عن خطاب الاحتجاج المجانِب للعصر وللمجتمع. شهوديةُ هذا الوعي تكون بتوطينِ العالَمِ، أيْ بجعلِه جزءاً من الثقافة المحلّية وليس عنصراً مناقِضاً لها أو بديلاً عنها. وكذلك بجعل الشعور الديني أمراً معقولاً وقابلاً للتعقّل وقادراً على الإسهام الإجرائيّ في الحياة الاجتماعية والسياسية، ممّا يُبعِدُه عن النزوع النِحْلَويّ المنغلق. وبهذا المكوّن يُحوَّل الخطابُ الدينيُّ إلى مادّةٍ معرفيةٍ بلا شوائب الأوهام والمخاوف بفضل ما تستفيده من المعارف الإنسانية الأوسع.
يُفضي هذا المكوّن الأول إلى عنصر ثانٍ متعلقٍ بـمبدأِ "أولويّة الثقافيّ على السياسيّ"، وهو ما صرف الإسلاميين التقدميين عن إنشاءِ حزبٍ أو حركةٍ تُولِي النضالَ السياسيَّ موقعَ الصدارة نظرياً أو عملياً. فتغييرُ المجتمع عندهم يمرُّ عبر تغيير ثقافته بما يجعلها عقلانيةً عصريةً وأصيلة. هذا مع إدراكٍ للحاجة الملحّة لاكتساب وضوحٍ سياسيٍّ يجعلهم يسيرون في دروب المجتمع على هدىً وبصيرة. يرجع هذا الاختيار إلى ما تتطلّبه مراجعةُ التراث العربي الإسلامي من جهودٍ قصدَ بناءِ فكرٍ جديدٍ يعيد الفعاليةَ للدِين والأُمّة. إضافةً إلى هذا، فإن العمل السياسي الفعّال لا يَتأَتَّـى في غياب السَنَدِ الثقافي الفكري، والذي دُونَه تنزلق السياسةُ في الاضطراب المُخِلِّ وتصبح رهينةَ الخطط قصيرةِ الأمد.
ثالثُ مكوّنات الرباعية المفاهيمية للإسلاميين التقدميين تتعلّق بـمبدأ "غائيّة الفكر الدِينيّ في الإسلام"، أي الغاية والهدف المعرفيّ من الفكر الإسلاميّ، وبضرورة القيام بمراجعاتٍ عَقَديةٍ لِما هو سائدٌ فيه. أبرزُ مواقع المراجعة في "المنهج الجَبْري" الذي لا يترك مجالاً لحرّية الإنسان ولا يُبقي معنىً للمشيئة الإلهية ذاتها. معضلةُ هذا الفكر اعتبارُه أنّ الزمنَ حيّزٌ ثابتٌ، تترتّب فيه الحوادثُ استتباعاً لقوالبَ أزليّةٍ حتميّةٍ لا فِكاكَ منها. مقابل هذه الغائيّة الجَبْرية توجد أُخرى انتقائيةٌ تقدّميةٌ، وهذه تقضي بأنّ حركةَ الكون في الزمان في ترابطٍ مع مراحل الحياة وخاضعةٌ لتقدير البَشَر للأشياء والاختيارات المجتمعية. الزمنُ ليس خطّاً قد رُسِمَ فعلاً بحيث لا يمكن تغييره وإنما هو مجالٌ مفتوحٌ يمكن إعادةُ رسمِه وتغييره. وبهذه الغائيّة الانتقائية تُفتَح دروبٌ لتَخَلُّقِ حاضرٍ مغايرٍ متجاوزاً العجزَ القِيَمِيَّ والقصورَ عن إدراكِ سُبُلِ الحقيقةِ الكُليّة. فالواقع برأيِهم ليس قَدَراً مطلَقاً لا يمكن تغييره.
بناءً على ما سَبَقَ، يتولّد لدى الإسلاميين التقدميين المكوِّن الرابعُ لرباعيّتهم المفاهيمية، وهو المتّصل بـتبنّي "ثقافة التعدّد ومشروعية الاختلاف". وأهمّية ثقافة التعدّد تتأَتّى في تخطّيها حالةَ التمركزِ حول الذاتِ وما في هذا التمركز من رفضِ المخالِفِ من الأفكار والتوجّهات أو الاعتقادِ بامتلاك الخيارات الوحيدة الموصلة إلى الخلاص. أساسُ هذا المكوّن إدراكُ أن ما يُتبنّى من رؤىً ليس سوى حصيلة علاقة الوعي بالواقع المجتمعي في جانبه المادّي والرمزي. ومؤدَّى هذا نسبيةُ المعرفة الإنسانية مع ما تقتضيه من تواضعٍ واحترامٍ للآخَر المختلِف، لأن رؤية العالَم ليست العالَم نفسَه إنما ما يبنيه عقلُنا عن هذا العالَم من خلال علاماتٍ ورموزٍ نضعُها ونقاربُه بها.
يبدو أن شرعيةَ سؤالِ الانطلاق تظلُّ مُلِحَّةً لأنّ تجنّبَ الإجابة خطأٌ مُنتهاه رفضُ تطوير الفكر وتسديد المسار، وهو كذلك إقرارٌ لمنهج السمع والطاعة والولاء. هذا في حينِ أنّ اللحظة التاريخية التي سَوّغَت نشأةَ الحركة الأُمّ ترى أنّ الرؤية الإسلامية ليست مُعطىً من الدِين بل ممّا نُحْدِثُه نحن وما يتمثّلُه العقلُ من الدِين. على ذلك، صار سؤالُ المراجعة والتمحيص والنقد ضربةَ لازبٍ. وهذا صميمُ ما استوعبَه الإسلامُ التقدّميُّ منذ نشأته وفيما أنجزه ونشره من أجل إرساء فكرٍ مستقبليٍّ يتصدّى للنِحْلَويّة المتربّصة بكلِّ العقائد الدينية وغير الدينية. رأى الإسلاميون التقدميون في الدِين إيماناً بمصيرِ الإنسان وبفعلِه لأنه يضعُهُ في سياقٍ تاريخيٍّ ووجوديٍّ أشملَ، ويعيد صياغةَ علاقتِه بمحيطِه الكونيّ والمجتمعيّ والذاتيّ. بهذا يُصبح التديّنُ حقيقةً حيويّةً تُحرِّرُ من الاغتراب وما يقودُه هذا إلى تطوير خطابٍ إنسانيٍّ مفتوح.
ويبقى السؤالُ والفكرةُ نواةَ مشروعٍ واعدٍ، وُضِعَت معالمُه الأولى وتنتظر اليومَ ابتدارَ جيلٍ آخَر قوامُه شبابٌ من نُخَبِ التعدّد المتضامن للمشاركة في الزمن الرقميّ، فتجترح آفاقاً للتفاعل الثقافي والمعرفي، تعزيزاً للقِيَم الإنسانية المشترَكة والاختلاف المُثري للنسيج الحضاري.
