دعاني عمي القاطن بضاحية باريس لأذهب معه في جولة يلتقي فيها أحد عملائه. وبعد أن أنهى عمله، مررنا على محل لصديق له، وكان ابن صديقه واقفاً في الخارج. عرفني عليه عمي وتركنا في الخارج ودخل يبحث عن بعض المشروبات، وتبادلنا أرقام هواتفنا والتقينا في حانةٍ بعدها بأيّام. لا أذكر شيئاً عن ذلك الموعد أو ما تلاه غير أنني استيقظت ذات صباح عارية من ملابسي في نزل حقير يقف أمامي رجل عارٍ إلا من جواربه متفاخراً بما أقدم عليه. أبى عقلي الخائف أن يقتنع بما حدث وكي لا يُجنّ خدّر كل هذا العنف وتجاهله كأنه لم يكن. هذا ما شرحته لي الطبيبة النفسية لاحقاً عندما بدأتُ جلسات العلاج النفسي. لم أكن متأكدة حينها من مواقفي الدينية حيال تجربة كهذه. كنت خائفة من الله ومن نفسي ومن الخيبة في عينيّ والدي. ظل السؤال يلحّ في رأسي: "هل كان وحده؟ هل صوّرني؟ هل سيبتزني الآن؟" وبسذاجة الأطفال ورغبةً بالنجاة كان لابد لي أن أقنعه بالزواج، وهكذا ابتدأت رحلة طويلة من العنف الجنسي والجسدي والنفسي والمادي ومحاولات الانتحار الفاشلة.
حين تزوجنا، لم أعد أخشى شيئاً. هجرتني عائلتي وحياتي السابقة وهجرني طيف الأمل. لقد مِتُّ. كانت "ميلنا" المرشدة الاجتماعية في الدائرة الثالثة عشر في باريس. ذهبت إليها في يونيو 2019 بطلب من زوجي لطلب مسكن أكبر. تنبهتْ المرشدةُ للحزن في عينيّ فبحتُ لها بحقيقة ما حدث لي، وحينها بدأت رحلتي مع المؤسسات الفرنسية.
يُصْرَفُ فعل "اغتصب" بالفرنسية في الماضي بأن يقال "أيل آ إيتي فيولي" بمعنى "اغتُصبت". بيد أن الفرنسيين في لغتهم العامية يقولون "أيل سي فات فيولي" بمعنى سَمَحَتْ باغتصابها، وبهذا يصرّفون "سَمَحَ" بهذه الزمنية ويربطونه بفعل "اغتصب" وكأنّه تصريح بموافقة الضحية على الاغتصاب، وهو ما يتنافى مع كنه الفعل الذي يحتم أساساً رفض إقامة علاقة جنسية مع الطرف الآخر.
وتواجهُ الأجنبيات في فرنسا قيوداً يفرضها النظام السياسي والقضائي وجمعيات حماية الطفل والأمومة وجمعيات حماية المرأة على أقوالهن وأفعالهن. فإذا كان بإمكان الضحايا الفرنسيات التنقل في فرنسا أو أوروبا والحصول على ملجأ آخر وعمل مغاير أو التمتع بدخلٍ ماليٍ من صندوق إعانات الدولة، إلا أنّ الأجنبيات، لاسيما اللواتي لا يملكن حق الإقامة بعد، يُقَدن كالقُطعان إلى مؤسسات الدولة الفرنسية وهيئات خاصة تفرضُ عليهن الخنوع لها، ويُجهّزن للعيشِ وفق النظام الفرنسي، وإذا قاومَنَ السلطة فقد يُطردنَ من البلادِ أو يخسرنَ حق الوصاية على أطفالهنَّ إن كان لهنَّ أطفال.
واجهتُ مع أمّهات إفريقيات وعربياتٍ هذه المنظومة الفرنسية بعد أن هربتُ من زوجي، فوجدتُ نفسي في دوّامةٍ من الإجراءات المعقدة في كل خطوةٍ أخطوها من دخولي مراكز الإيواء، ومطالبتي بالحماية من زوجي الذي هددني بالقتل واختطاف ابني، إلى الاحتفاظِ بابني وطلبِ الإقامة. عشتُ، ومازلتُ، في جحيمٍ مستعرٍّ وكأنّ فرنسا بمؤسساساتها الحكومية وغير الحكومية تحالفت مع مغتصبي ضدّي. لجأت النسوة إلى فرنسا هرباً من الفقر والبطالة والعنف الجسدي والجنسي والنفسي فوجدن أنفسهن أمام مؤسسات تنصّب نفسها وصية على حيواتهنَّ وأفكارهنَّ وأجسادهن. وإن كانت هياكل الإيواء ووحدات المساعدات الاجتماعية ومنظمات الدفاع عن المعنفات وحماية الطفولة وغيرهم أيادي تمتدُّ لانتشال الضحايا من مستقنع الفقر والجريمة، فإن المقابل قد يكون الحريّة اللاتي جاءت النسوة حالمات بها.
حَمِلتُ فسرّعَ حملي بحثي عن مكان أسكن فيه. تكاثفت مجهودات السيّدة ميلنا ومستشفى الأم والطفل لإيجاد مأوىً لي بعيداً عن زوجي. قبل ذلك كنتُ أقطنُ بالدائرة الثالثة عشر بباريس بمبنى الطلبة. أخبرتني المرشدة الاجتماعية أنها لا تستطيع أن توفر لي دخلاً ما لم أتجاوز الشهر السابع من الحمل لأن عمري أقل من خمسة وعشرين عاماً، ولأنني أتمتع ببطاقة إقامة طالبة. سارعتُ لإيجاد عمل لأتحمل مصاريف الحمل وأجهز نفسي لقدوم ابني. عملتُ في مخبزٍ في الدائرة الخامسة عشر، لكن طردني رب العملِ ما إن علم بحملي، وتحجج بإجراء إصلاحات في المخبزِ شهراً، ولأنني لم أحصّل بعد أيّاماً كافية للعطلة، فتظاهر بمساعدتي للحصول على منحة البطالة بفصلي من العمل على أن يرجعني ما إن تنتهي الأشغال. حاولت ملاحقته قانونياً، إذ يمنع القانون الفرنسي طرد امرأة حامل. خسرت مالياً ولم يثمر جهدي. ظللتُ شهرين بلا دخلٍ ولا مأوى، إذ أصرّ عليّ والدي أن أترك البيت القديم وأصرّت عليّ المرشدة أن أقطن عند شقيقتي.
كان الفصلُ صيفاً، وطرقتُ فيه أبواب الجمعيّات الحقوقية وجمعيات مناهضة العنف ضد المرأة. تشجعت السيدة آنا تاليا كريسبو، الناشطة الحقوقية ومنسقة العنف الزوجي بمنظمة "دوروا دارجانس"، في الدفاع عني واستنكرت ما تفعله محاميتِي الأولى "سيلفي" في قضيتي، واقترحت عليّ محامية ثانية. كانت المحامية الثانية السيدة إستيل كانو متألمة لما حصل لي، لكنها لم تستطع فعل شيء. استماتت السيدة سيلفي في الدفاع عن حقها في ملفي ورفضت رفضاً جازماً أن تقتسم أموال المعونة القضائية، التي توفّرها الدولة، مع المحامية الثانية. انتهى بنا الأمر أمام عمادة المحامين التي وقفتْ معها لأنني لا أعرف القانون جيّداً ولم أكتب استمارة الاعتراض على الدفع بأحسن وجه. لم أستطع أن أوكّل السيّدة إستيل لأن القانون يمنع أن يكون المحامي الذي يدافع عنك أمام عمادة المحامين هو ذاته الذي يتولى قضيتك. كانت سيلفي امرأة جافة. لم تبدِ أيّة تعاطف معي، إنما أهمها أن أتطلق بسرعة لتقبض المعونة. أمرتني عمادة المحامين أن أسدد لها أجرة الطلاق في حين أنني إلى يومنا هذا ما زلت "متزوجة"، فقد فُصِلتُ عن زوجي في يناير 2021، ولكنني لم أتمم إجراءات الطلاق، إذ وجَبَ إثباتُ تعدّي زوجي علي بقرار جنائيٍ ولأنّ الإجراءات طويلة سقطَ حكم الانفصال بعد ثلاثين شهراً، وبهذا نحن لسنا مطلقين ولا متزوجين ولا منفصلين. وأمام تعقد الإجراءات القانونية بدأت أبواب الجمعيّات توصد في وجهي، ولم أجد حلاً إلا أن أقصد محامياً على حسابي.
توتّرت علاقتي بشقيقتي أكثر، فهي لم تكن مؤهلةً للتعامل مع شخص يعاني اكتئاباً حاداً واضطرابِ ما بعد الصدمة. لم تغفر لي القسوة التي عاملتُها بها حين كنت مع زوجي، ولا أنني كنت سبباً في انهيار والدي. كانت رافضة أن تقرّ أن ما حدث لي قد حدث فعلاً. وما زال الصمت عمّا حدث جاثمٌ في عائلتنا. لا أحد يريد أن يسمع القصة. لا أحد يعرف التفاصيل المؤلمة، ولا أحد يدرك شيئاً عن العنف ضدّي وعن وضعه رأسي في الحمام ولا عن البصاق على وجهي. لا أحد خبر القيء الذي غطست فيه رأسي. ولا أحد يريد أن يعرف هول ما عشت، بل يطالبني الجميع بمواصلة هذه الحياة كأن خدشاً بسيطاً لامس زجاج روحي. ولهذه الأسباب أساساً عجلّتُ الرحيل.
تحتّم علي لقاءَ السيّدة ماغي لور سفار، الطبيبة المشرفة على المستشفى، قبل الموافقة على دخولي إليه، لتحديد حالتي الصحية واحتياجاتي ومدة إقامتي في المكان. أرادت إدارة المستشفى فهمَ حالتي النفسية لتساعدني، إذ كنتُ أمام موقفين متناقضين من حملي، فمن جهة كان هذا الجنين نتاج اغتصابٍ وعنفٍ، ومن جهة أخرى كنتُ سعيدة جداً بالحياة التي تتراكم في رحمي. لقد كنتُ ممتنة لهذا الجنين الذي جاء ليعلمني كسرَ الصمت. كنتُ أيضاً قلقةً من أن يكون الطفل ولداً لا بنتاً، وخشيتُ أن تكون له نظرات والده أو نسيج بشرته أو لون سحنته، وربطت ذلك في مخيلتي مع مشاهد العنف التي عشتها، وكان صعباً جداً التفرقة بين الاثنين. استمعت إليّ ماغي لور سفَار ثم قالت: "الهدف من هذه الوَحدة ليس تخدير النساء، بل مساعدتهن لتخطي الصدمات. أنتِ مثلاً تظهرين علامات نموذجية عن المصابات باضطراب ما بعد الصدمة والتفكك العاطفي. تحتاجين للنوم والراحة وخاصة إلى تجاوز الصمت". ولم يمضِ سوى مساءُ يوم تلك المقابلة حتى اتصلت بي المشرفة وأعلمتني بتوفر غرفة.
أُدخِلتُ وحدة الرعاية الخاصة للأم والطفل في المستشفى، وهو واحد من اثني عشرة مستشفى من هذا النوع في باريس منذ أوائل الثمانينيات تقدّم الخدمات للجميع، حتى أولئك اللاتي لا يمتلكن أوراق إقامة. المستشفى غير مخصصاً للولادة، إذ يهتم القائمون عليه بتقديم الرعاية النفسية والصحية للنساء اللواتي يتعرّضن إلى ضغطٍ اجتماعيٍ ونفسيٍ أو عشنَ حالاتِ عنفٍ. تستقبل هذه الوحدات الأم وطفلها على السواء، وتعمل أساساً على تقوية علاقة الأم بطفلها قبل وصوله الثالثة من العمر، ولا تقضي الأمهات في هذه المستشفيات إلا أياماً معدودة في الأسبوع أو لزيارة الطبيب زيارةً قصيرة في اليوم، وفي الحالات الصحيّة النادرة يمكنهنّ قضاء بضعة أشهر. يقدم الأطباء والأخِصّائيون النفسيون في المستشفى رعاية نفسية كما تقتضي الحاجة، ويوفّر المستشفى مرشدة اجتماعية للأم تساعدها في أمورها الإدارية والقانونية مثل البحث عن سكن وطلب المساعدات المالية وتوجيهها إلى المحامين والجمعيات المختصة برعاية الأم والطفل وحتى طلب الحصول على إقامة. وتوفر مساعدات طبيّة للتخفيف من أعباء الولادة كالسَّهر وقلة النوم، وتساعد العاملاتُ الأمهاتِ في تحضير الحليب للطفل والغذاء لهن، وتتكفل الدولة بمصاريف المستشفى.
كان الطابق الأول في مستشفى الدائرة الحادية عشرة مخصصاً للنّفساوات والطابق الثاني للحوامل. لا يسمح المستشفى بالزيارات العائلية إلا في المساء، ولعدد محدد من الساعات، ولا يسمح خارج أوقات الزيارة بخروج الأمهات وحدهن إلا ساعات معدودة أو مع مرافقٍ، وللضرورات القصوى كجلسة استماع في المحكمة. يوفّر الطاقم الطبي رعايةً صحيةً شاملةً للأمهات، فهناك أخصائيو نساء وتوليد وأخصائيون في طب الأطفال وممرضات وعاملات في التربية. تجتمع النسوة صباحاً بعد الفطور في غرفة كبيرة فيها لُعَبٌ فيغنّين ويلعبنَ مع الأطفال بلغاتٍ مختلفة. يحاول مستشفى الدائرة الحادية عشرة أن يواكب تنوع الثقافات للوافدات، فمعظمهن من دول الساحل والصحراء. يعمل المستشفى على الصحة الإنجابية للنسوة اللائي ما زلن على علاقة بأصحابهنّ، ويخصص المستشفى أخصائيين لتوعية النساء بالعنف الجنسي، ويعزز المكان علاقة الأم بطفلها بمواعيد يومية مع أخصائي طفولة.
كانت الجو بداية أكتوبر 2019 بارداً وقد أثلجت بداية نوفمبر. استقبلني العاملون في المستشفى بلطف. لكنّهم دققوا في أغراضي خوفاً من حملي أداة حادة قد أؤذي بها نفسي أو الآخرين حولي. كنتُ سعيدةً جداً بالمستشفى، وأتطلّع لأن يقول لي أحدهم برقة "أنا أصدّقك و آسف لم عشته". نمت جيّداً في أوّل ليلةٍ وفي الصباح جاءت الممرضة لتفحصني وتتأكد من دقات قلب الجنين، وأعطتني فطوري. التقيت بعدها الأخصائية النفسيّة والمرشدة الاجتماعية بالمركز. كنت متعطشة لأن يعاملونني بوصفي إنساناً، وبدا لي لطفهم حباً فتعلّقت بهم ولم أرغب بالرحيل. أحببتُ فضاء الأمان الذي أتحدث فيه فيُسمع صوتي. لا أعلم ما إن كانت حالتي النفسية كوّنت هذا الانطباع فلم أنتبه إلى التجاوزات. فقد حدثتني المقيمات هناك عن تذمرهنَّ من سوء المعاملة، وإجبارهنَّ على شرب أدوية مهدئة أو تقرير ما إذا كان يسمح لهنَّ بدعوة أصحابهنّ أو رؤية أطفالهنّ. أخبرتني مُنْيَة، وهي امرأة مغربية عندها ابنتيْن توأمٍ سأتعرفُ عليها لاحقاً في مركزٍ للإيواء، أنها ترجّتهم ليسمحوا لها أن تنام ابنتاها حذوها في سريرها، فهذا ما تعرفه في بلدها. لكنّهم رفضوا رفضاً قاطعاً وتعمدّوا دخول غرفتها في أي وقت للتثبت من نوم التوأم في سريرهما خالياً من غطاء أو ألعاب. كانوا لا يسمحون لها أن تعطيهما الماء أو أن تضعهما في حوض الاستحمام. كانت الاختلافات في وجهات النظر متعددة، لكنّ منية كانت تردد أنها وحدها الأم ووحدها من يقرر كيف تكبر ابنتيها.
واجهت الأمهات صعوبات في حلقات النقاش التي ينظمها المشفى مع أخصائيي التوليد وأمراض النساء، لاسيما عند الحديث عن أنوثتهنَّ. وكنَّ منزعجات من فرض حلقات النقاش. بعض النسوة كنَّ يصرخن في العاملات ويطردنهنّ من غرفهِنّ، ولم يخترن الذهاب إلى المستشفى، وكنّ رافضات أي مساعدة حتى من عند النزيلات الأخريات.
لا أستطيع الجزم بأن المشفى قادر على مساعدة النزيلات، لكنه حتماً يقدِّم المساعدة لمن ترغب. لقد ساعدتني إقامتي في المشفى شهرين في الحفاظ على توازن نفسي ما والتركيز على قدوم ولدي وقبوله. أذكر جيّداً أن إحدى الممرضات كان اسمها ماري قالت لي الجملة التي قلبت بها المعادلة في رأسي: "إن العنف دخل من هنا [مشيرة إلى رحمي] والآن، حين يخرج الولد سيتلاشى معه كل العنف. إن الأمر أشبه بشهيق وزفير". ربطت هذه الجملةُ قدومَ ابني بنهاية المعاناة. ومع أنّ المشفى نجحَ في دعمي نفسياً، إلا أنّ الفريق المتخصص بالمساعدات الإدارية والقانونية لم يكونوا ذوي كفاءة. لم تكن المرشدة ملمّة بقوانين الأجانب في فرنسا ولم تحاول تقديم أي مساعدة لإيجاد محامٍ أو الاستفسار عن الإقامة أو الحماية أو الطلاق. تقاعست في إيجاد حل لسكني خصوصاً أنني شارفت على الولادة وأن المشفى الذي تعهّد بتخبئة هويّتي، سيضطر للإفصاح عنها لطليقي ما إن ألد، لأن المادة 35-1112 في قانون قطاع الصحّة العامة لا يسمحُ لطفلٍ أو قاصرٍ أن يظل في المستشفى بلا رضا الوالدين.
ولدتُ في مستشفى الولادة سان جوزيف بالدائرة الرابعة، وبقيتُ فيه خمسة عشر يوماً أملاً أن تساعدني المرشدة وحاجتي إلى المتابعة الصحية. لكن أمام فشل المحاولات وضغط العائلة، عدت للسكن عند شقيقتي.
تلقّى معظم العاملين بمراكز الإيواء شهادات أو تدريبات في المرافقة التربوية الاجتماعية أو الإدارية، ولكن من غير تدريب في التعامل مع نساء في حالاتِ اكتئابٍ حادّة أو أمراضٍ نفسيةٍ أو ممّن يواجهنَ ضغوطات ما بعد الولادة. وليس للعاملين دراية بقانون الأجانب في فرنسا مع أنّ من مهامهم تحديد الحالاتِ الحرجة والعاجلة، وتوفير المرافقة اللازمة. يعمل كذلك في هذه المراكز أخصائيون نفسيون لكنهم ليسوا أطباءً، وهم قلّة إذ يقارب عددهم 2 بالمئة من العاملين، وبهذا تُوَجَّهُ النسوة إلى مراكز العلاج النفسي.
يتكون مركز الإيواء "لي ليلا" من سبعةٍ وثلاثين غرفة. في كل غرفة سرير للأم وفراش للطفل ومطبخ صغير وحمام، وتحتوي باحة المركز على مطعم رخيص يقدم وجبات الغداء فقط ويغلق أبوابه في عطل آخر الأسبوع. في القبو قاعة رياضة مجهزة بالكامل لكن على النساء دفع مقابل للانتفاع من خدماتها، فيعزفن عن الذهاب إليها حرصاً على توفير هذا المال لشيء آخر.
تعرّفت في المركز على منية المغربية التي أصبحت جارتي. لا تذكر منية شيئاً عن أحلامها في المغرب قبل أن تتزوج وتأتي إلى فرنسا، فقد زوّجها والدها إلى رجل أكبر منها بثلاثين سنة يعمل في شركةٍ في فرنسا، وأقام لها زوجُها عرساً وقدّم لها على تأشيرة عائلية. قضت منيّة مع زوجها خمسة عشر يوماً في بيتِ والدته بالمغرب، لم تشعر فيها بالسعادة الزوجية والعاطفية والجنسيّة التي كانت تتخيّلها. وحين وصلتْ معه إلى البيت في فرنسا، وجدت المكان متسخاً وقذراً وصغيراً، وكان الأثاث مهترئاً ولم تجد سريراً في غرفة النوم، وفاجأتها رائحة الحشيش وآثاره التي تملأ الأرضية. قال لها وهو يتابع حيرتَها من واقعها الجديد أنّ الأمر مؤقت، لأن أشغال البيت الذي يبنيه لم تنته بعد، وأنه سيأخذها لرؤيته. وخرج وتركها في البيت وأغلق عليها الباب بالقفل ليعود ليلاً ثملاً، فوجد أنها نظّفت البيت من قذارته وأحسنت توضيبه. فهمت منية أن العلاقات الزوجية هكذا، وليس مثلما تخيّلتها في الأفلام التركية التي كانت تشاهدها.
مرت بضعة أشهر وبدت ملامح الحمل تتكور في صدر منية ورحمها، وفي شهرها السابع ضربها زوجها ضرباً مبرحاً لأنها رفضت مضاجعته. أمام منظر الدم، اتصّل زوجها بالحماية ليخبرهم أنها وقعت. وجدت منية نفسها مع ممرضة تفحصها وتأخذ إفادتها. بفرنسيّة ضعيفة وتوّجس كبير لم تنفِ منية رواية زوجها وقالت إنها لا تذكر كيف وقعت. فحصت الممرضة المرأة فحصاً كليّاً فتعارضتْ الرضوض والزرقة المنتشرة في جسدها مع روايتها. نبّهت الممرضة المدعي العام إلى الاشتباه في قضية عنف مع إنكار الضحية. وضعها المستشفى أمام خيار صعب، هي التي اضطرت أن تلد ابنيْتها قبل الآوان، فإما أن تعود إلى زوجها تاركةً البنتيْن، وإما أن تقدم شكوى. قالت لي منية: "كلام الطبيبة النفسية بدا لي تهديداً أكثر من تقديم مساعدة، أنا لم أشكو حتى أخوَيْ عندما ضرباني صغيرة لأمي، فكيف أشكو زوجي وأبا بناتي؟ لكنني اخترت بناتي". قضتْ منية سنةً في مستشفى الأم والطفل، وبعدها أوتَها السلطات مع ابنتيها في ملجأ "لي ليلا". اعتدتُ لقاءها والحديث معها. كانت قد سبقتني في الملجأ وباتت تعرف طريقة سير الأمور فيه، فعرّفتني على الأمهات العربيّات.
عرفتني منية على دجامب، جارتها في المركز، مشيرة إلى أنها كانت نزيلة معها في مستشفى الأم والطفل. خُتِنَت دجامب قسراً في قريتها كيفو بالكونغو. وصفت لي دجامب مشاهدَ ختانها وهي طفلة ذات خمس سنوات، كانت مشاهد فظيعة. وبعد ختانها كانت نساء القرية تتثبّت من بكارتها دورياً. وفي كل دورة كنّ يحبسنها في غرفتها وتأتي النسوة تتفقد ما إذا ما زلت عذراء. لم تفكر دجامب بأي شيء سوى مغادرة قريتها إلى العاصمة كينشاسا، حيث بإمكانها العمل وتوفير النقود لتهاجر إلى أوروبا. قالت لي: "لم أفكر بأمي ولا إخوتي، بل بالنجاة فقط. وهكذا في الرابعة عشر من عمري هربت برفقة حبيبي إلى كينشاسا. عملنا هناك سنتين ثم قررنا أن أهاجر إلى فرنسا ويلتحق بي ما إن سويت وضعية إقامتي". كانت الطريق وعرة ومحفوفة بالمخاطر حين وصلت دجامب إلى ليبيا مع بعض المهاجرين، غيّر المهرّب الليبي المتكفّل بتهريبهم من البحر معاملته وباعد بين النساء والرجال، وحين تحتم موعد السفر جاء ليلاً ونادى عليها ليخبرها أنّها الوحيدة التي لم تستكمل المبلغ المطلوب، قالت: "قال لي أن عليّ أن أدفع الآن أو لن يسمح لي بالسفر. رجوته وقلت له بأنني سأعطيه رقم خطيبي وهو سيسد المبلغ. فجأة تبدلت نظرته إليّ وحين اقترب مني شممت رائحة الكحول قوية"، وهناك اغتصبها الرجل. وحين انتهى علّق على مكان ختانها وقال لها: "شعر عانتك لا يغطي التشويه. عليك أن تحلقيه"، وانطلق ضاحكاً.
حين وصلت دجامب فرنسا، اكتشفت أنّها حامل بطفلة في الشهر الرابع ولن تتمكن من الإجهاض. وهكذا صارت طعماً سائغاً في أفواه المؤسسات الفرنسية، إذ يحظر القانون الفرنسي طرد الأطفال من البلد، ولا يمكنُ المباعدة بين الأهل وأولادهم إلا إذا جُرِّدَ الأوّلون من حقوقهم المدنية تجاههم، ويمكِنُ لدواعٍ معينة طرد الوالديْن من التراب الفرنسي. حاولت دجامب جاهدةً أن تثبت أحقيتها في ابنتها. صارحتني أنها كانت تستجيب لكل أوامر الطبيبة النفسية في المستشفى وتقبل كل الفحوصات، وتأخذ كل الأدوية، وتشارك في كل الورشات مهما كانت حالتها النفسية، وحين نقِلت إلى مركز الإيواء تضاعفت معاناتها مع ضعف مواردها المادية وتفاقم حاجات ابنتها، وفهِمت أنها تجدف وحدها عكس التيار وأنها لتصل إلى اليابسة عليها أن تجاريه. لم تتوانَ دجامب في الذهاب إلى العاملين بالمركز وسؤالهم عن كيفية الاستجابة لحاجيات طفلتها مع أنّها لا تحتاج النصح.
كان العاملون في المركز من جنسياتٍ وطبائع مختلفة. إلا أنّ العرب والفرنسين يغلبون على بقية الجنسيات وكان هناك رجلان فقط أما البقية فمن النساء. أحد الرجلين اسمه حكيم يعملُ حارساً ليلياً في المركز. حكيم رجل جزائري في الخمسين من العمر، ضخم الجثة له شاربان كثيفان، ذو سحنة بيضاء وصوت أجش. كان حكيم يلقي نكاته السمجة و يديه بينما يدخل إلى غرفنا من غير أن يطرق الباب، وإذ وجدنا مجتمعات يردد: "العاهرات الكل هنا".
هناك كثير من المحاباة في المركز، فالمغربي يساعد المغربيات والجزائرية تساعد الجزائرية وهكذا. يدعو العاملون مواطناتهم على الفطور في المطعم مجاناً، وكانوا يدبرون لهنّ حفاظات الأطفال من حضانة المركز، ويُعلِمونهن إن توفرت أدوات طبخ أو هِبات من أحذيةٍ وملابس وعطور ليختاروا قبل الجميع. وجدتْ منية مساعدة كبيرة من جَلّول، المرشد الاجتماعي، لكن سرعان ما تحول ذلك إلى نقمة عليها فقد اتهمتها النساء بإقامة علاقة معه، وحين كثرت الإشاعات عنها وعن غيرها بعثت إدارة المراكز بمديرة جديدة إلى المركز.
جاءت هذه المديرة لتغيير كل ما كان موجوداً، فأصبح ممنوعاً على المساعدين أن يفطروا مع المرأة نفسها وإلا فإن عليهم أن يدفعوا عن الاثنين، ثم زادت المديرة الإيجار من خمسة وسبعين يورو في الشهر إلى 20 بالمئة من مداخيلهنّ، قالت وقتها: "النسوة اللائي يعملن، عليهن أن يدفعن عن النسوة اللائي لا يعملن"، وأصبح ممنوعاً على المرأة غير العاملة وضع طفلها في الحضانة يوماً كاملاً ولا أسبوعاً كاملاً، وصار يحق لها ترك طفلها في الحضانة أمسيتان فقط، وعليها اصطحابه قبل الساعة الرابعة مساءً. فرضت المديرة على النساء تغيير ملابسهنَّ قبل النزول إلى المطعم أو الحضانة، وعززت التحريات عن الزائرين وصارت لا تسمح إلا بدخول الأزواج. وقررت التحكم بطريقة التصرف في المساعدات التي تأخذها النسوة اللائي لا يملكن أوراق إقامة.
أذكر أن سُلاف، مساعدة المديرة، كانت تونسية عنصريّة وتعامل السوداوات بازدراء، فكانت لا تتردد في طردهنَّ من الباحة حيث يجلسن، وكانت تسخرُ من شعر إبطهنّ أو من صلعهنّ. وأذكرُ جيّداً عاملة النظافة، فرنسية متعصبّة، كانت تصرخ في المقيمات وتدخل غرفهنّ بلا استئذان، وإذا ما وجدت شيئاً يخص المركز أو شكّت في أنه يخص المركز، كانت تأخذه بلا إذن وتتهم الأمهات بالسرقة وتحط من شأنهن.
لم أقو على البقاء طويلاً في المركز مع أنني كنت أحتاج دعماً، فأسرعت لإيجاد مقر سكن وعمل وحضانة.
في حوارٍ أجريتُه مع المحامي أندري هوزي الحاصل على الدكتوراه في الحقوق، نفى الرجل هشاشة البناء القضائي الفرنسي. يدعم المحامي فكرة التشكيك في أقوال المجني عليهن حتى "تتم الإدانة بشكل كامل"، معللاً ذلك بأن العدالة عليها أن "تبقى محايدة وجافة إلى أن يأتي ما يخالف ذلك"، ويستدل على ذلك بخبرته الطويلة التي تبين فيها كذب مدّعيات كُثر. مما يدعمُ كلام المحامي أنّ قضايا الاغتصاب في فرنسا ما زالت محفوفة بالإبهام والصمت الاجتماعي، ولا تستطيع الوحدات القضائية البت فيها بسهولة.
لم تتشكّل في مراكز الشرطة الفرنسية وحدات لمناهضة العنف ضد المرأة إلا مع الأول من يناير سنة 2024. ومع ذلك لا تحتوِ كلّ المراكز على تلك الوحدات، والمراكز التي بها هذا النوع من الوحدات لا تجد العاملين فيها مخولين لأخذ إفادات الضحايا، وهو ما يؤكده المحامي أندريه هوزي، إذ يقول إن "الشرطة والحرس الوطني صاروا مرهفين أكثر تجاه هذه القضايا". ولكنه يشدد على أن الدلائل المؤيدة لحجج المدّعيات متروكة لتقدير القاضي فحسب، وبإمكان هذه الدلائل المؤيدة أن تكون شهادات من الجيران أو الأقارب أو المختصين النفسيين أو الاجتماعيين الذين تابعوا ملفاتهنّ خاصة إذا لم تقدم الضحية شهادة طبية تثبت العنف المسلّط عليها.
رفضَ القضاء الفرنسي النظر في 58 بالمئة من قضايا العنف على النساء سنةَ 2022 كما ذكر المركز الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية الفرنسي. يبرر المحامي أندريه هوزي هذا الرقم الكبير للرفض بأنّه يرجع إلى تجني النساء على المُدَّعى عليهم برفعهنّ شكاوٍ بغيةَ الإضرار بالطرف الآخر، وقال "لا يمكن أن يكون هذا خلل في النظام القضائي الفرنسي". وأضاف أنّ النساء يشتكين ولو من خلاف "بسيط" في شؤون إدارة البيت أو الأطفال أو الأموال أو حتى العلاقات الاجتماعية. يشدد السيد هوزي على حتمية التشكيك في أقوال المدعي في كل القضايا، لاسيما قضايا العنف ضد المرأة خصوصاً تلك التي تفتقر بشدة إلى الدلائل والحجج القانونية و"التي تترك للظن أن المدعيّة لا تصدق القول أو ربما تبالغ في ردة فعلها". ويضيفُ هوزيه بإلحاح: "القضاء يتعامل مع قضايا العنف حسب خصوصية كل قضية بحيث لا توجد خصائص قانونية جازمة أو معممة".
يصرّ المحامي على الدفاع عن نجاح المؤسسة القضائية الفرنسية في التصدي للعنف المسلط على النساء. وذلك على ما شهدته فرنسا من ارتفاع عدد شكاوى قضايا العنف ارتفاعاً كبيراً منذ بداية حراك "مي تو" سنة 2017. وقد تبنَّت رئيسة المحكمة القضائية كاترين ماتيو في بلدية "مو" قضايا العنف ضد النساء في أهداف مؤسستها، فهي تستنكر مواقف نوّابٍ في الجهاز التشريعي من القضية في تصريح صحفي على منصّة الأخبار القانونية أكتو جوريديك، قائلة: "عندما نسمع شخصيات بارزة ومؤثرة، وحتى نوّاب منتخبين، يستهينون بالعنف ضد المرأة، وعندما نراهم ينخرطون في لوم الضحايا، فإننا نواجه تحدياً لا يمكن للعدالة أن ترفعه وحدها".
تثبت الإحصائيات زيادة قبول ملفات حماية النساء، ومع أن قانون حماية النساء من العنفِ رقم 769 فُُعِّلَ في التاسع من يوليو سنة 2010 إلا أن وتيرة إسناد وثيقة الحماية تصاعد بعد 2017، أي بعد حركة "أنا أيضاً". وقد كان الهيكل القضائي قبل ذاك يتجنّب الاستفادة منه، أولاً لأنّه يجمع بين القانون المدني والجنائي، وثانياً لأنّ البتّ فيه آنذاك كان يحتاج وقتاً طويلاً، فكانت الضحية إمّا ميّتة أو أنقذتها المرشدات الاجتماعيات. وتغيّر القانون ونُقِّحَ مرّات عدّة، وفي 2019 قُصِّرت مدّة البتّ في القضية إلى ستة أيام. ويشترط قبول ملفات الحماية أدلةً عن العنف السابق مع دلائل أخرى تثبت وجود خطر قادم، ومع ذلك فإن الجهات المختصّة توافق على 66 بالمئة فقط من الطلبات؛ إذ تُعقد جلسة النظر في الملف في ستة أيام منذ تقديمه، ويكون الحكم جارياً حتى في حالة الطعن.
يحضر الطرفان، المُدَّعِيَة والمُدَّعى عليه، الجلسة ويقدم كل منهما حججه، ويقرر قاضي الأسرة بصفة مستعجلة في أسبوع على أقصى التقدير. ويبث في تفاصيل الحماية في حالة الموافقة كمن يسكن البيت ومنع التواصل بين الطرفين ومن يملك حقوق الحضانة وطرق زيارة الأطفال والمساهمة المالية للطرف غير الحاضن، ويكون الحكم سارياً ستة أشهر على أقصى تقدير. يصرّ أندريه هوزي على أن القاضي ينظر في الدلائل المؤيدة وتصرفات الطرفين في الجلسة، لكنه لا ينكر أن التعامل مع الأجنبيات عند النظر في ملفات الحماية يحرج القاضي، إذ تُمَكِّن الحمايةُ الأجنبيات اللاتي لا يتمتعن بالإقامة من الحصول عليها عشر سنوات مجاناً، وهذا التفصيل يرتكز عليه معظم الجناة لتبرير طلب المُدَّعِيَات الحمايةَ وإنكار حالات العنف التي عشنها، فأحيانا يرفض القضاة طلب الضحية مع الدلائل القوية وموافقة المدعي العام للنيابة لمطلب الحماية، خاصة إذا كان القاضي معادياً للهجرة أو داعماً لليمين المتطرف في فرنسا.
قَدَّمتُ طلبَ الحماية ثلاث مرات. في المرة الأولى استغفلتني المحامية لتحقق ربحاً مالياً من إعانات الدولة. ومع أنني قدّمتُ الملف وحدي إلا أنها اقترحت أن تحضر، ثم أجَّلتْ الجلسة شهريْن، فما كان من القاضية إلا أن ترفض الطلب لأنه، حسب نظرها، لم يعد هناك ما يؤيّدُ الاستعجال في النظرِ فيه. في المرة الثانية، قدّمتُ الملف بمساعدة كريستين تيغيي، المرشدة الاجتماعية بمركز الإيواء، ووجدت نفسي مع القاضية نفسها، لكنها وافقت على طلبي هذه المرة، لأن المدعي العام أبدى موافقته عكس المرة الأولى. وكانت مدّة الحماية ستة أشهرٍ لم يحترم زوجي فيها أوامر القاضية وهددني بالقتل. وبعد فواتِ مدّة الحماية تعيّن علي تجديدها، ولهذا في المرة الثالثة، ولجهلي بالقانون، ظننت أنني سأكون أمام القاضية نفسها فلم أحضر جيّدا الأوراق. وجدتُ قاضيةً جامِدة مع أنّها أكدت لطليقي الذي قاطعها القول أنه اعتدى عليها لفظياً ثلاث مرات في خمس دقائق، إلا أنها رفضت مطلب الحماية لأنّه قال لها بأنني أسعى فقط إلى الحصول على أوراق الإقامة. وكنتُ قد قدمتُ فعلياً على الإقامة ولم أحصل على بطاقتي بعد. طردتنا القاضية من الجلسة، فوجدتُ نفسي وحيدة غير محمية، وهربتُ بعد ذلك من مركز الإيواء لأنّ زوجي عرفَ العنوان. انتقلتُ إلى السكنِ في ضاحية باريس الجنوبية.
ومع أن مؤشر الفساد في مؤسسات الدولة في فرنسا يضع البلد في موقع جيّد، حيث تحتل المركز الواحد والعشرين من 180 دولة، إلا أن وتيرة الأرقام تزداد في بعض المؤسسات وعلى رأسها أقسام الشرطة والحرس. لا يمكننا الجزم إذا ما كان ذلك لارتفاع التحقيقات أم لزيادة الفساد، إذ ضاعفت سلطات التفتيش على الفساد تحقيقاتها لتنتقل من ثلاثين إلى ستة وخمسين تحقيقاً بين سنتي 2021 و 2022. وسجلت إدارة التفتيش العامة للشرطة الوطنية والتي تأسست في أكتوبر 1986 ارتفاعاً مستمراً في الفساد في أقسام الشرطة، إذ بلغ عدد حالات الفساد 829 سنة 2023 في حين لم يتجاوز 619 في 2016.
إن أكثر ما آذاني في مسيرة القضاء هو تعاطي الشرطة مع ملفي، فهي لم تستجوب جيراني عندما كنتُ في مبيت الطلبة إلا بعد مرور أكثر من سنة ونصف، مع العلم أن المبيت لا يستقبل الطلاب إلا سنة دراسية واحدة، فلم يكن هناك أي أحد من جيراني حين الاستجواب. وبذا صرتُ أشكّ في أن الشرطة منخرطة في التلاعب بالحقائق، لاسيما أنّه تباهى أمامي طيلة علاقتنا عن ما يجري بينه وبينهم من اتفاقيات، فقد أخبرني أنّه يعمل مخبراً عند الشرطة فيغفلون عنه في تجارته الصغيرة في المخدرات، بينما يمدهم بمعلومات قيمة على الرؤوس الكبيرة. أحسستُ بتواطئِ الشرطة مع طليقي أكثرَ عندما انتشرَ فيديو جنسي لي وضعهُ على الانترنت، وبعثَ إلي رابط الفيديو يبتزّني به. ظل الفيديو سبعة أشهر على الانترنت وحصد آلاف المشاهدات والتعليقات، ولكنه اختفى نهائياً بعد ثلاثة أيامٍ من تقديمي الشكوى، ولم يستطع المحققون استرجاعه. منذ سنتين طلبت القاضية تعيين مختص تقني للبحث في الأمر إلا أن الشرطة وإلى يومنا هذا لم تكلّف المختص رسمياً ما يصعب عمله لاحقاً. أحسَّ طليقي بتفوّقه على القانون فهددني بالقتل واختطاف ابني منّي أكثر من مرة حتى هذا العام. آخرها لحظات كتابة هذه المقالة.
من أكبر هواجس الأهل هنا، لا سيما المهمشين والفقراء والمساكين، هو الخوف المستمر من هذه الوحدة. تكللّت محاولاتي بالاتصال بالسيّدة هيلين تامبور، رئيسة وحدة المساعدة الاجتماعيّة للطفولة، بالفشل الذريع. لم تقبل المديرة الحديث معي من غير تبرير.
يمكن للوحدة التدخل عند وجود خطر على الطفل قاصراً كانَ أو يافعاً بين عمر الثمانية عشر والعشرين. وبإمكانها التدخل بخمسة طرق مختلفة، أقسّمها هُنا وفق درجةِ التدخل في علاقةِ الطفل بعائلته: فأما الأولى هي المساعدة التربوية في البيت، وهي تدخل إداري يقوم أساساً على تحديد أهداف بعقد بين وكيل المنطقة والعائلة مدة تتراوح بين ثلاثة أشهر وستة مع إمكانية التجديد. وتقَدِّرُ الإحصاءات عددَ هذا النوع من التدخلات بواحدٍ وخمسين ألفاً تقريباً. أو يعيّن القاضي أخصائيي تربية لمتابعةِ العلاقةِ بين الوالديْن والطِفل وتقييمِها، ومدّة التدخل هذه من ستةِ أشهرٍ إلى سنتيْن مع إمكانيةِ التجديدِ. وعادة ما تتبع المساعدة التربوية. ويقدّر عدد التدخلاتِ من هذا النوع إلى ما يقارب مئة وعشرين ألفاً سنة 2022.
القسم الثاني يقوم أساساً على نوعين من التدخل إداريٍ وجزائيٍ. فيعطى الطفل في الإداري لوحدة رعاية الطفولة، وهذا حال الأطفال القصر الذين تخلى عنهم ذووهم أو اللذين دخلوا التراب الفرنسي بلا مرافق أو بطريقة غير قانونية، وعددهم أربعة ألافِ طفلٍ وقاصرٍ تقريباً كما في إحصائيات 2022. وفي حالةٍ أخرى يسلب الطفل من أهله لوجود خطر على حياته بلا قرار قضائي، وعدد الأطفال والقصّر الذين عايشوا هذه التجربة هو عشرة آلاف تقريباً. أما اليافعون بين 18 و20 سنة فيجب أن يتوجهوا بأنفسهم إلى وحدة الحماية الاجتماعية لمساعدتهم، ويبلغ عددهم واحداً وثلاثين ألفاً، كما تنصّ الإحصائيات. أما الجزائي فيقوم على ثلاثة أنواع: إما أن تسحب الحقوق المدنية للوالدين كليّاً أو جزئياً، وتصل عدد الحالات إلى أربعة آلاف تقريباً. أو يوضع الطفل تحت وصاية أقاربه أو عائلة ما، وعدد الحالات تصل إلى عشرة آلاف حالة. أو تتكفل وحدة رعاية الطفل به بأمر مباشر من القاضي، وتحت هذا البند تندرج أكثر الحالات، إذ يصل عدد الأطفال الذين تحميهم الوحدة بأمر قضائي إلى مئة وثلاثين ألفاً تقريباً.
وجب التعمق في تحليل هذه الأرقام، فمع أن عدد الأطفال الذين تتابعهم هذه الوحدة في تزايد مستمر، وهم مئتين وثمانية آلاف سنةَ 2022، فإن عدد القُصَّر الذين تحميهم في تراجع. لاحظتُ عند اطلاعي على الإحصاءات ارتفاعاً ملحوظاً في تدخلات هذه الوحدات من غير سلب الطفل، فقد وصل عدد الحالات إلى مئة وسبعين ألفاً تقريباً أواخر 2022، أي 81 بالمئة من الحالات. هذا التناقص في الأعداد ينم عن نزعة سياسية و اقتصادية، إذ تصاعدت تكاليف هذه التدخلات 7 بالمئة بين سنة 2010 و 2014، إحصائيات 2022 لم تنشر بعد، أي ما يقارب ثلاثمئة وعشرين ألف مليون يورو. لا توجد دراسات أو إحصائيات تؤكد الفساد المستشري في هذه الوحدات، بيد أن كثيراً من الصحفيين والكتاب والخبراء أشاروا إلى ما وصفوه "بالسلب التعسفي".
تناقش المحامية والكاتبة كريستين سيريدا بالتعاون مع الطبيبة والباحثة في العلوم الإجتماعية والإنسانية إيزابيل سالمون هشاشة بناء هذه الوحدة، في كتابها الصادر في مارس 2023 "السلب التعسفي للأطفال: العدالة تحت التأثيرات". وتشير الكاتبة إلى ضعف النظام القضائي في التعامل مع إجراءات عملها ورضوخه لتكهنات الأخصائيين العاملين بالوحدة وآرائهم، مما يترك مجالاً شاسعاً للخطأ في التقدير واتخاذ القرار. وهو ما تؤكده المحامية إدلين لو جلوفو في تقرير أنجزته صحيفة "لو بولفار دو فولتير". كما تطرق الفلم الصادر في 2023 "لا شيء للخسارة" الفرنسي، لهذه القضية حيث قدم مشكلة أم عزباء فرنسية واجهت سلباً تعسفيا لابنها وانتهى بها الأمر أن اختطافته وهربت به خارج فرنسا.
الدراسات والإحصائيات عن سلب الأطفال شحيحة جداً وهي تُنشر للعامة، ولا يمكن الاتكال عليها لتحقيق رأي موضوعي وحيادي. والموضوع ما زال شائكاً في فرنسا، فحين اتصلت بمركز الإحصاء جاءني الردّ منهم جافاً وجازماً بأنّهم لا يهتمون بجنسيات الأطفال. فهموا ما كنتُ أحاول رصده، أي تتبعُ أطفال الأمهات الأجنبيات. ومع أن وحدة الأبحاث و الدراسات والتقييم والإحصاء التي تشكلت في التسعينيات تحصي تدخلات هذه الوحدات وأنواعها ومصاريفها وجنسيات الأطفال المعنيين بالتدخل، فإن الإحصاءات لا يمكن أن تكون جازمة، فهي تفرّق بين الأطفال القصر الذين دخلوا التراب الفرنسي بطريقة غير قانونية وبين الأطفال الأجانب الموجودين أو المولودين على التراب الفرنسي. وبخصوص الفئة الأخيرة فهي لا تهتم بجنسياتهم، بل تقسمهم فقط إلى أوروبيين وغير أوروبيين. في حين أن عدداً من الأطفال مزدوجو الجنسية، وبهذا فلا يمكننا الارتكاز على نجاعة الدراسة لتبين حالات تسلط المؤسسات الفرنسية على الأجانب. ويجدر بالذكر أن تركز الأعداد الكبرى لهذه التدخلات يتوازى مع مناطق التركز الكبرى للأجانب على التراب الفرنسي.
أجريتُ حواراً مع السيد سامبا نينجاني، مدير جمعية سوفجارد، وهي جمعية تهتم بتوجيه النساء إلى مراكز الإيواء، ومقرّ الجعيّة في "إيفلين" جنوب الضاحية الباريسية. لم يرغب السيد سامبا بمحاورتي في البداية إلا أنني أصرّيت فأجرى معي الحوار بالهاتف، سألتُه عن المعاملة في مراكز الإيواء، فأعلمني أن المرشدات الاجتماعيات يحددن الأوليات ويبعثنَ لهم ملفات السيدات اللائي وجب إيواءهنّ. يؤكد السيد سامبا أنّ "العاملين بمراكز الإيواء يتلقون دورات تدريبية دورية في كيفية التعامل مع المقيمات". شرح لي أن المسؤولات عن المركز يجتمعنَ شهرياً مع الأمهات لتحديد أهداف وجودهن والعمل على تحقيقها، وقد أردف قائلاً أنّ "غاية المركز ليس الإيواء بل حماية الطفولة". لا ينفي المدير أن جلّ المقيمات هنّ من جنسيات أجنبية وأن تسيير أمور المركز والاستجابة للحاجيات الخصوصية لكل فرد يحدده المديرون وحدهم. قال لي: "في حالة وجود خلاف، وهو أمر نادر الحدوث، فإن الأم المعنية بإمكانها الكتابة إلى الإدارة المختصة التي تجد حلاًّ". وينكرُ نينجاني حدوث تجاوزات ويؤمن أنّ المناوشات عادة ما تحصل بين الأمهات أنفسهنّ وليس مع فريق العمل، وحين سألته عن الضغط الذي تعيشه السيّدات والتزامهنّ الصمت خوفاً، أصر على عدم معرفته بالأمر وبأن على الأمهات أن تكتبن للإدارة.
أجرت الباحثة كلار جان، وهي أستاذة بجامعة باريس نانتار، دراسةً عنوانها "الحياة في مركز إيواء: الطفل في ديناميكية العلاقة بين أمه والمختصين". ترصد الباحثة أنّها حاورت تسعاً وأربعين امرأة أقمن سابقاً بمركز إيواء للأم والطفل. رصدت الباحثة أنّ هناك نوعين من النساء داخل المراكز: نساء يافعات دون سن العشرين، والأخريات الأكبر سناً. وكانت معظم اليافعات فرنسيات مقيمات مع أوليائهِن لكنَّ حملهنَّ وتّر العلاقات مع القرين. أما الأخريات، الكبيرات في السن، فمعظمهنّ أجنبيات. لاحظت كلار في دراستها التباين بين استساغة اليافعات نصائح المختصين وبين تعنت الكبيرات، وتؤكد الحوارات التي أجرتها معهن حاجز التركيبة النفسية للمهاجرات في قبول هيكل المؤسسات الفرنسية والانخراط فيه، فمعظم الأجنبيات اللاتي حاورَتْهنّ لم يعتدْن التحدث عن أنفسهنّ ولا طلب المساعدة من أحد، فقد عَلَّمتْهُنّ الطفولة القاسية الاتكال على أنفِسهِنّ، ولم يستسغنَ فكرة الجلوس والبوح والتحدث المستمر عما يعتمر خواطرهنّ، ولم يثقنَ في إيجابيات هذا الدعم، إذ كان المركز مسكناً حتى تسوية أمورهنَّ القانونية وتحقيق استقلالهنّ المادي والاجتماعي. في المقابل، كن يقبلنَ برحابة صدر كل الاجتماعات التي تخص إجراءات العثور على سكن أو تعليم أو عمل لكنّهن كنّ "عدائيات"، حسب توصيف الباحثة، في تقبل النصح بخصوص كيفية تربية أطفالهنّ. تؤكد الباحثة أن الحوار يتوتر وبإمكانه أن يأخذ منعطفات خطيرة إذا ما حاول أحدُ المسؤولين فرض مثال تربوي يختلف تماماً مع مرجع الأم في التربية.
لا تنكر كلار التوجس الكامن في قلوب النسوة من أن يُسْلَبُ منهن أطفالهن، فالعيون التي تراقب عن كثب كل التحركات والتقلبات، بإمكانها بجرة قلم أن تفتح أبواب الجحيم عليهن، وقد شددت الباحثة عن إجماعهن "أن لا حق لهن في الخطأ". ولأنني مثلهن لا حق لي في الخطأ، فقد استغنيت عن المساعدة المالية والقانونية والتقيت بمحامٍ كلفتُه بالقضايا المدنية والجنائية بمبالغ خيالية بالتقسيط. أعمل بدوامين لأحصّل المبلغ ولا أنقص شيئاً من ترفِ الحياة الذي يحتاجه ولدي. سبعةُ أيام عمل، وسبعُ مواعيد شهرية مع طبيبتي النفسية، وسبعةُ عقاقير مختلفة كل يوم لأنام قليلاً بلا كوابيس. ما زالت الرحلة طويلة، فالشرطة قررت تتبع طليقي في قضية نشر فيديو جنسي لي على الانترنت ولكنها لن تتبعه بسبب الاغتصاب ولا بسبب العنف الذي صيّرني اليوم حاملةً لبطاقة إعاقة، إذ إنني لم أعد أسمع شيئاً بإذني اليسرى. سيتحتم على المحامي إعادة تقديم الشكوى، وطلب أن يعين قاضي تحقيق لإعادة النظر في القضية. في أحسن الحالات سيستمر الأمر سنتين أو ثلاثة، وربما أكثر وقد لا يأتي الأمر بثماره.
تهرب الأجنبيات، خاصة الإفريقيات، ممّا تفرضه مجتمعاتهنّ عليهن ليجدن أنفسهن في وصاية المؤسسات الفرنسية، وهي وصاية أشد فتكاً وأكثر دراية بأساليب التلاعب بالمفردات. تتأصلّ الوصاية في أيامهنَّ فيعشن في خوف دائم من أن يطردن، ومن أن يُسلبن أطفالهنّ، وتخاف اللائي تجنسنّ منهنّ من أن تسحب منهنّ الجنسية. تأتي النساء إلى فرنسا حالمات بالحريّة وحقوق الإنسان والتكافؤ في الفرص والعدالة بل تذهب بعضهنَّ في الحلم شوطاً فتحلم ببلد "لائكي" علمانيٍ لا سيادة للدين فيه. تصفعهنّ الحقيقة في امتحانات الحياة فتبدد أمامهن عقود من الأحلام الواهية وتأبى الحقيقة الواحدة خانعة أمامهن: سيبقيْنَ دائماً مواطنات بدرجة ثانية. لا ينفصهنّ قانون ولا يحميهنّ تمرّد ولا يُسمع لهنّ صوت.