"يا ابنتي ما هذه الحياة إلا دقائق معدودات"
جلس الرجل العجوز الضعيف أمامي على كرسي متحرَّكٍ منحنياً إلى الأمام ومشلولاً من خصره حتى الأسفل. لا أتذكَّرُ كثيراً عن الزنزانة التي كان فيها، أو الضابط الأمريكي الذي كان يقف جواري، أو مدة المقابلة. وقفت مدهوشة أنظر إلى وجهه المغطى بالتجاعيد، والذي يبدو مُتعباً ولكنه هادئٌ. كانت لحيتُه رمادية ومتشابكة بطولٍ يفوق بكثير الصورة الشائعة للجَدّ. بدى وكأنه أثرٌ من أزمان وأماكن مضت. أو مثل شخص لم يستطع عالمنا المتعب والمفجوع التعامل مع أمثاله فقرر تجاهله وتركه وراءه ظهريّاً.
كان ذلك في صيف سنة 2004 حين كنتُ أعمل في الولايات المتحدة مع شركة توظّف مترجمين للعمل مع الجيش الأمريكي في الخارج. وقد قضيت عدة أشهر في السنة التي سبقتها مترجمةً جنوب العراق. وفي صباح مشمس كنت جالسةً على مكتبي فقرأتُ تصريحاً لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وصف فيه الأشخاصَ المحتجزين في معتقل غوانتانامو بأنهم "من بين أخطر القتلة، وأفضلهم تدريباً، وأكثرهم شراسة على وجه الأرض". نظرتُ إلى الشاشة بضع دقائق وتذكرت تجربتي في العراق التي تعلّمت منها الحذر من مثل هذه التصريحات، فاضطربت. رفض مديري طلبي العودةَ إلى العراق والانضمام إلى فريق ديفيد بتريوس، الذي كان يحظى بشهرة متزايدة في "عملية حرية العراق"، لخطورة ذلك برأيه. لذا قال لي يمكنني اختيار أي مكان آخر للعمل. فأخبرتُه أنني "أودُّ الذهاب إلى غوانتانامو". أثارَ ذلك دهشة مديري الذي سألني لماذا اخترت غوانتانامو، فأخبرته بأنّني أرغبُ في رؤية أسوأ الأسوأ.
بعد حملة القصف الأمريكية على "طالبان"، نقل الجيش الأمريكي المعتقلين الذين كانوا في الغالب من أفغانستان جوّاً إلى خليج غوانتانامو، المعروف بـ"غيتمو". وما بين 2001 و 2004 كان معظم المعتقلين غيرَ مدركين مكانَ وجودهم أو سببه. وفي تلك السنوات الأولى بدأت قصص التعذيب تظهر، لكن عندما وصلتُ إلى هناك سنة 2004 تغيرت الأمور وبات المعتقلون يدركون مكان وجودهم، وأُخبِرت عائلاتهم بذلك، وأُتيحت لهم فرصة سردِ رواياتهم والرد على الاتهامات الموجّهة إليهم. حينَها أيضاً رُسمت بوصلات على أرضيات زنازينهم تشير إلى اتجاه القبلة، وحصلوا على التمر لأكله عند الإفطار في شهر رمضان.
كان خليج غوانتانامو أحد أغرب الأماكن التي رأيتها على الإطلاق. عشنا أنا وزملائي المترجمين في منطقة مقطورات مؤقتاً، قبل نقلنا إلى مساكن دائمة. كانت الأرض حول المقطورات جرداء خالية من الحياة، إلا من بعض السحالي العملاقة والجرذان الضخمة التي كانت تجوب الجزيرة. أما المقطورات فكانت ضيقة وباردة ومحزنة، وكانت غرفتي صغيرة جداً بالكاد تسع سريراً واحداً وخزانة صغيرة والقليل من الأشياء الأخرى. كنت أظل مستيقظةً ليلاً ساعات طويلة أفكر في المعتقلين الذين كانوا على بُعد مسافة قصيرة بالسيارة من القاعدة، يعيشون في عالم مختلف تماماً.
في الزنزانة الصغيرة سألت المعتقَل المشلول بصوتي المرتجف: "ماذا حدث لك؟" كنت محرجة وغير مرتاحة. كان يرتدي زيّ السجن البرتقالي، كباقي المعتقلين، ومن غير المناسب رؤية رجل مسن في مثل هذه الحالة المهينة. نظر إليّ برِقَّة، غريبةٍ من شخص متَّهم بجرائم فظيعة ومحتجز في أسوأ المعتقلات سمعةً في العالم. شعرت بالذنب لأنني تعاطفت معه إنسانياً ولأنني أشفقت على هذا الرجل الذي يتحدث بلغتي التي تحدثت بها وأنا فتاة صغيرة في مصر.
بحلول ذلك الوقت، أصبحت غيتمو مرادفة لبعض أبشع الصور والمفردات، كصورِ الرجال ملتحين الذين يرتدون بدلات برتقالية ويركعون في أقفاص على أرض مغطاة بالحصى وأيديهم مكبلة خلف ظهورهم وتحيط بهم الأسلاك الشائكة "تقنيات الاستجواب المُعززة"، وهو مصطلح مهذب يُستخدم للإشارة إلى التعذيب، والإيهام بالغرق والمواقع السوداء، أي السجون السرية. والمصطلحات التي كانت غير مألوفة قبل عامين أصبحت الآن عناوين رئيسة منتظمة، وكنا ما نزال نحاول فهمها. في ذلك الوقت قيل لنا إننا نعيش في عالم واضح المعالم أبيض وأسود، أي خير وشر، ونحارب قوى الشر من أجل بقائنا شعباً محباً للحرية. وإذا كان مركز التجارة العالمي والبنتاغون هما ساحات الدمار فقد وصلتُ إلى قلب المعركة هنا في غوانتانامو.
أجاب المعتقل بصوت واهن مثله وتحدث بوضوح وبطء: "لقد فعلها الأمريكيون". لكنني قلت في نفسي، لا لم نفعل، لو كنتَ رجلاً صالحاً ما كنت هنا في تلك البدلة والأصفاد. وجدت نفسي أحبس دموعي وفكي مشدود، لقد رأى فكّي ينقبض وخياشيم أنفي تتسع وأنا أقاومها. "لا بأس يا ابنتي، ما هذه الحياة إلا دقائق معدودات مقارنة بالحياة الآخرة". نظرتُ إليه مجدداً مذهولة بسكينته التي ارتجفت بسببها. في تلك اللحظة وفي هذه الزنزانة المظلمة المخيفة التي أضحت منزله، تمنيت أن أمتلك إيماناً مثل إيمانه.
منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وكما هي الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الأمريكيين، تقلّب إيماني بالله وعلاقتي بالإسلام وإدراكي لمكانتي في أمريكا مسلمة أمريكية. فقبل ذلك اليوم كنت أعيش في حالة من السعادة بسبب ما أنا عليه ببساطة، وأعمق ما سُئلته عن هويتي هل ذهبت إلى المدرسة على ظهر جمل في مصر أو واعدت "رجلاً أبيض"، وحينها لم أكن على دراية بمفهوم "الأسمر" مجموعةً عرقية، لذلك كنت في حيرةٍ من أمري تماماً من هذا السؤال. ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر، أصبحت الأسئلة أعقد ولحقتني إلى خليج غوانتانامو.
بعد فترة وجيزة من وصولي إلى هناك، جاءني مترجم من أصلٍ عربي عانى في بلاده من آفة الطائفية عقوداً من الزمن عكس مصر. كان جذاباً وأنيقاً ومتطفلاً. عندما التقينا أول مرة، قلت له: "مرحباً، أنا ياسمين" فكرّر: "ياسمين"، وهو يقلل من شأني، ثم سألني "هل أنتِ سنّية أم شيعية؟"، ابتسمت برحابة صدر وأجبته: "لا، أنا مسلمة عادية". فألقى برأسه إلى الوراء وضحك بصوتٍ عالٍ، ثم سألني: "من أين عائلتك؟"، قلت وأنا منزعجة: "من مصر"، فقال لي بإيماءة وابتسامة العارِف: "آه، حسناً، أنت سنّية". أجبته ووجنتاي تحترقان من الحرج: "آه، حسناً"، وكنت أشعر بالغضب من افتراضاته وغروره. كانت الثلاث سنوات الماضية مليئة بمثل هذه الادعاءات، إذ صُنّف الجميع في فئة أو أخرى لتبرير تصرفاتٍ لم يكن تبريرها ممكناً في أي وقت آخر. أتذكر أنني نظرت إليه بتحدٍّ معتقدةً أنه لا يعرف شيئاً عن شخصيتي أو ما أؤمن به.
وفي أحيان أخرى بدا لي أن هذه التسميات لم تكن مهمة على الإطلاق لأن العرب والمسلمين عند كثيرين كانوا سواء. وفي ظهيرة أحد الأيام كنت آكل الغداء في المطعم الوحيد الجيد في القاعدة مع ضابط شاب، وفي أثناء إخباره لي عن التدريب الأساسي الذي تلقاه قبل إرساله إلى العراق، إذ بنا نسمع بمكبرات الصوت أغنية شعبية مصرية قديمة مفضلة عندي، اعتدنا سماعها في مصر عندما كنت مراهقةً صغيرةً في حفلات أعياد الميلاد، إذ كنت أرقص بغنج، أو بغرابة، حسب الموجودين في قاعات الرقص، في الفنادق الفارهة، بينما يراقبنا آباؤنا عن كثب. فقال الجندي الشاب مبتسماً: "مهلاً، أنا أعرف هذه الأغنية". سألته وأنا مسرورة، "آه حقاً؟"، لكن سرعان ما تلاشت ابتسامتي عندما أجاب: "نعم كنا نسمعها داخل دبابتنا أثناء التدريب الأساسي ليشعلوا حماستنا قبل ذهابنا إلى العراق". قلت له: "أنت تعلم أنها أغنية مصرية، أليس كذلك؟"، فأجابني ضاحكاً: "إن جميع هذه الأغاني بالنسبة لي تشبه بعضها البعض". قلت ساخرةً: "صحيح … إذن، لقد قاموا بتشغيل أغنية مصرية لإثارة غضبك تجاه العراقيين، بسبب قيام مجموعة معظمها سعوديون بالهجوم على مركز التجارة العالمي". فتلاشت ابتسامته وقال: "أوه". نظرت إليه وأنا محبطة، إذ كان من المحزن التفكير في جيل من الجنود الأمريكيين الشباب الذين يتجهون إلى الحرب، مع كل المسؤولية الملقاة على عاتقهم قواتٍ غازية، ويعتقدون أنّ العرب جميعهم "متشابهون".
لقد كان لغيتمو، أكثر بكثير من العراق، تأثيرٌ غريبٌ عليّ في محاولتي فهم هويتي بعد 11 سبتمبر. كان من الصعب على أشخاص مثلي ممن كانت نشأتهم وهويتهم معقدة أن يصنّفوا الناس في مجموعات واضحة وبسيطة. لقد حاولت أن أكون أمريكيةً بالكامل، ومصريةً ومسلمةً أيضاً، وباءت جهودي، في نظر عدد من الضباط الأمريكيين أو المعتقلين أو المترجمين الآخرين، دائماً بالفشل، إذ كان لكلٍّ منهم توقعات مختلفة عني. ولكنني أعتقد أن لقائي بالرجل العجوز على الكرسي المتحرك وضعني على الطريق الصحيح. أصبحت أصلّي الآن عشر مرات في اليوم: خمس مرات امتثالاً لتعاليم الإسلام، وخمس مرات إضافية "لتعويض" كلّ تلك السنوات الأخرى من حياتي التي لم أكن أصلي فيها على الإطلاق، وهي قاعدة اخترعتها في حماستي الجديدة للعودة إلى "الصراط المستقيم" المذكور في القرآن.
في أحد الأيام وصل إلى القاعدة "خبير في الإرهاب" من واشنطن العاصمة لتقديم عرض عن الإسلام المتطرف. اعتقدت أنه إذا كان من واشنطن العاصمة فلا بدّ أن يكون بارعاً، وهو افتراض اختبرته عندما انتقلت لاحقاً إلى العاصمة. أتذكر دخولي إلى القاعة التي كان يقدم فيها المتحدث عرضه لمزيج من العسكريين والمترجمين والمتعاقدين، ممن تعاملوا مع المحتجزين. جلستُ في الصف الأمامي واضعةً يديّ على حجري أنتظر بفارغ الصبر. بدأ بإعطاء "صورة عامة" عن الإسلام فسرد في الشريحة الأولى أعنف الآيات القرآنية وشرح تبريرها قتلَ "الكفار". أما الشريحة التالية فكانت عن النبي محمد الذي قدمه المتحدث متحرشاً عنيفاً بالأطفال. أتذكر أنني كنت أنظر حولي إلى المترجمين الآخرين بحاجب مقطّب كما لو كنت أسأل: "ما هذا؟"، وسَرَت همهمة بين الحشد. استشاط المترجمون غضباً، ووقف أحدهم وبدأ يصرخ في وجه الرجل على المنصة قائلاً إنه يسيء إلى الإسلام، فهدّأه نقيبٌ في البحرية. شعرت بالخدر وقلت في داخلي هذا لا يبدو صائباً، إذ كان من المفترض أن يكون هذا عرضاً عن الإسلام المتطرف، فلماذا يقدم الإسلام نفسه على أنه متطرف؟
بعد العرض التقديمي، توجهت إلى طرف بعيد من القاعدة حيث تيقنت أنني لن أصادف أحداً، وانهمرت دموعي الساخنة على وجهي وشعرت بالغثيان. هل كان هذا الرجل محقاً بشأن الإسلام، هو خبيرٌ من العاصمة، فكيف لا يكون محقاً. لكن ماذا عن الرجل العجوز على الكرسي المتحرك، شعرت بالإحباط واهتز إيماني الجديد بشدة من هذا الرجل الذي تحدث بثقة وهدوء، كما كان يتحدث العجوز المشلول. كان كِلا الرجلَيْن واضحَيْن بلا لبس في قناعاتهما، ولكن بعد أن استمعتُ إليهما شعرتُ بالضياع وعدم اليقين وعدم الأمان.
في ذلك اليوم، توقفت عن الصلاة تماماً. تطلب الأمر مني سنوات لأتوقف عن الشعور بالذنب حيال سماحي بسهولة أن يتشكل إيماني من لقاءات قصيرة مع رجلَيْن واثقَيْن بنفسيهما، أحدهما يرتدي بدلة والآخر على كرسي متحرك، مع العلم أنّي كنت صغيرةً وكانت تلك أوقاتاً استثنائية وغير عادية. إن إعادة سرد هذه التجارب علناً أوّلَ مرّةٍ أمر غير مريح البتة، إّ أتذكر أموراً كنت قد نسيتها، أو ببساطة وضعتها بعيدةً في ذاكرتي لأنها سببت لي كثيراً من الألم والخسارات حينها، لكنني أعلم الآن أنني لم أكن الوحيدة في حيرتي.
وبمغادرتي غوانتانامو بعد عامين من وصولي أدركت أن وجود هذا المكان في حدِّ ذاته يمثل ضربة مدمرة لمكانة أمريكا الأخلاقية في العالم. وأنه رمز للخسارة العميقة، لبراءة تجربتي مهاجرةً من الجيل الأول في الولايات المتحدة، بتخلّي البلاد عن قيَمِها الأمريكية والحروب التي لا داعي لها والمعاناة التي تبعت ذلك وآلمت المسلمين وغير المسلمين على حدٍّ سواء. يتحدث السياسيون الأمريكيون اليوم عن إنهاء "الحروب الأبدية" كما لو أنها فُرضت علينا، لكنهم نادراً ما يعترفون بدورنا الكبير واللصيق في شنها ودوامها وكيف أفسَدَنا ذلك التوسع التدريجي للأهداف في أفغانستان وغزو العراق المبني على أكذوبة وغيتمو.
لم يكن قراري بالذهاب إلى غيتمو، مع كراهيتي للمكان، قراراً سهلاً. وما زلتُ أعاني حتى الآن من أخلاقيات اختياري. ولكن إذا لم أذهب إلى هناك لا أعتقد أنني كنت سأفهم "الحرب الأمريكية على الإرهاب"، وما تعنيه فعلاً هذه الحرب، أو الضرر الذي أحدثته، أو كنت سأحاول التخفيف من هذا الضرر. ما زالت الصور والمحادثات من غيتمو عالقةً في ذهني حتى يومنا هذا، وأثّرت بعمق على عملي وشكّلت هويتي، بل أثّرت على حياتي بأكملها. أتذكر الرجل العجوز على الكرسي المتحرك و"خبير الإرهاب" الذي شكك في إيماني بالله وعلاقتي بمعتقداتي الدينية. أتذكر المترجمين الآخرين الذين علّموني كثير عن الشرق الأوسط وجروحه التي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا. أتذكر الجندي الشاب والأغنية المصرية وصداقتنا غير المتوقعة، وأنا ممتنة لذلك كله.
أتممتُ عامي الرابع والعشرين في خليج غوانتانامو بكوبا وسط مئات الرجال الذين يرتدون البدلات البرتقالية والزي العسكري الأمريكي. أتذكر جلوسي وحدي على درج مقطورتي ذلك المساء وشعوري بالشيخوخة أول مرة في حياتي. أتذكر بكائي بصمت والتفاف ذراعيّ حول نفسي وأنا منحنية إلى الأمام أحدق إلى الأسفل، كأنّي أبحث عن معنى في تلك الأرض الصلبة البنية المليئة بالجرذان والسحالي. آلمني قلبي وتجاوز عدد الأسئلة التي تدور في ذهني ما كنت أعتقد أنني أستطيع الإجابة عليه. لقد تبيّن لي أنّ العالم لم يكن واضح المعالم أبيض وأسود كما قيل لنا.