تجربتي الشخصيةُ في كشافةِ حلب ليست مجردَ حكايةٍ فرديةٍ، إنما هي نافذةٌ لفَهمِ الدَورِ العميقِ والمعقّدِ الذي تؤدّيه المنظّماتُ الكشفيةُ المسيحيةُ في حلب، وكيف تحوّلَت هذه المنظّماتُ إلى ملاذاتٍ صغيرةٍ تعيدُ إنتاجَ السلطةِ والنفوذِ، ممّا يوسّع نطاقَها من مجرّدِ تجمّعاتٍ شبابيةٍ إلى قوّةٍ خفيّةٍ تُعيد تشكيلَ المجتمعِ المسيحيِّ وقولبتَه.
في سوريا ولا سيّما في مدينة حلب، ثاني أهمِّ محافظةٍ في البلاد، كان التجمّع بجميعِ أشكالِه محظوراً بشكلٍ شبهِ كاملٍ في عهدِ الأسدَيْن الأبِ والابنِ. فبرزت المنظّماتُ الكشفيةُ وسيلةً للالتفافِ على حظرِ التجمّعاتِ. فقد سُمِحَ للمسيحيّين بتنظيمِ تجمّعاتٍ تحت ستارِ الكشافةِ، ما مثّلَ نوعاً من التمييزِ الإيجابيِّ من النظامِ الذي روّجَ لنفسِه حامياً للأقلّياتِ في زمنٍ غابت فيه الكثيرُ من الحقوقِ الأساسية. يقول روجيه أصفر في مقالتِه "مسيحيّو حلب: المسار والمآل": "حَرصَ بشار الأسد على تخصيصِ المسيحيين بلفتاتٍ عديدةٍ منذ مطلعِ عهدِه وصولاً إلى ما بعد بدايةِ الثورةِ، حيث صارت هذه 'اللفتات' أشدَّ تركيزاً وتواتراً لتكشفَ غايةً أساسيةً من غاياتِ هذه السياسات. فداخلياً، هي تعزّز شعورَ المسيحيين بأن لهم حظوتهم عند هذا النظام ممّا يجعلهم كأقليةٍ في حلفٍ مع أقلّيةٍ أخرى ترتبط بالنظام الحاكم، ألا وهي الطائفة العلوية. وخارجياً، هي تؤكّد على ما دأبَ النظامُ على ترديدِه من كونه الحامي للأقليات والتعدّدية في قلب منطقةٍ تسودها اضطراباتٌ استُهدِف خلالها المسيحيون مراراً على يد متطرّفين سُنّة".
تعرّض الوجود المسيحي في حلب إلى تقلّباتٍ عديدةٍ في التاريخ، وقد تزامن غالبها مع نزاعاتٍ في المنطقة. فقد أدّت النزاعات في بعض الفترات إلى زيادة أعداد المسيحيين، كما حدث عندما استقرّ آلاف الأرمن والسريان في حلب هرباً من بطش الأتراك في سنة 1915، بينما أدّى الشعور بالخطر على الهوية أو السعي لحياة أفضل إلى تضاؤل أعدادهم في فتراتٍ أخرى. إلا أن النزاع السوري الأخير شهد تقلصاً غير مسبوقٍ في أعداد المسيحيين، حيث تراجعت نسبتهم من 12 بالمئة قبل عام 2011 إلى ما دون 2 بالمئة بعد زلزال 2023. يجدر بالذكر أن الأغلبية العظمى من أحياء المسيحيين تقع في حلب الغربية التي بقيت تحت سيطرة النظام طوال فترة النزاع ولم تتعرض لدمارٍ كبيرٍ كما في حلب الشرقية.
مسيحيّو حلب المثال الأمثل عن الطبقية المناطقية البحتة، فسكّان حيّ الفيلات ذي الأغلبية المسيحية يكادون لا يعلمون شيئاً عن مسيحيّي حيّ الأشرفية مع أن المسافة التي تفصلهم لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة سيراً على الأقدام. ونكاد نتلمس جدران "الغيتو" المسيحي إذا تجاوزتْ أقدامُ شبّانِه شارعَ الشيخ طه باتجاهِ الشيخ مقصود أو إذا تزحلقَتْ جنوباً كعوبُ بناتِه عشيّةَ الأحدِ خارجَ حيِّ العزيزية إلى بسطاتِ حيّ الجميليةِ حيث يتربّص المجهول بكامل خطورته الأسطورية المزروعة في الأذهان. خارج الغيتو المسيحي حيث تشيع رائحة العرق والأسنان المكسورة والبشرة السمراء وأقدام الأطفال الحافية، صورٌ تحوّلَت إلى فزّاعةٍ استخدمَها جميعُ قادةِ المجتمعِ المسيحيِّ بأطيافِه لبثِّ الذعرِ في قلوبِ خرافِهم "غيرِ" الضالّةِ تجاهَ جيرانِهم المُسلمين.
"لا شيء يقع أبعد من ساحة سعد الله الجابري، لا شيء يستحق المعرفة" هذا ما يردّده الكهنة في عِظات يوم الأحد لخمسٍ وعشرين دقيقةً مملّةً، فتتسلّل هذه الكلمات إلى مسامع الرعيّة وتستقرّ في لاوَعْيِهم. ثم يستمر الكهنة في عظاتهم باستجداء التبرعات لتحصين مجتمعهم المسيحي ذاته من الأظافر المتّسخة لجيرانهم الكُثر، أرانب الإنجاب وباعة الخضراوات تحت بيوت المسيحيين شبه الدافئة. عمّق الكهنةُ وممثلو الكنيسة هذا الرأيَ المبطَّنَ والنظرةَ الفوقيةَ للمجتمع المسيحي عن الجيران المسلمين. أتساءل إن كان مضمون العظات هو ما يُعيبها أم أن المشكلة تكمن فيما صمتتْ العظات عن قوله طوال العقود الخمسة الفائتة، وكأنّها احترفت العيش في إقليم مُنعزل مُتخيّل كامل الانفصال عن وجدان جيرانها.
في تلك الأحياء شديدة العزلة أتت فكرة الانضمام للمنظّمات الكشفية وأخواتها جواباً شافياً لأولئك الذين يبحثون عن مساحةٍ للتنفس. وإن أردنا اختصار المؤسسات الكشفية المسيحية وشبيهاتها في مدينة حلب في جملةٍ واحدةٍ، فهي مجموعة دويلاتٍ مصغرّة ذات نكهةٍ دينيةٍ عسكريةٍ تمتّعَت بقدرٍ لا بأس به من وهم الحكم الذاتي. المضحك المبكي أن معظم أعضاءِ إداراتها يُرجعون قراراتهم الاعتباطية إلى مجموعة أنظمةٍ يلقبونها بفخرٍ بائسٍ "الدستور الداخلي" للكشاف.
أُعجب بادن باول وقتها بطاقة عساكره اليافعين المتفجرة، وأدرك ذلك الأربعيني المخضرم أن الانتصار على العدو يتطلب معرفةً وثيقةً بساحة المعركة وقدرةً ثابتةً على تطويع الطبيعة حليفاً أساسيّاً. جمّع العقيد أفكاره ونسّقها في كتابه "الكشافة للأولاد" الصادر سنة 1908، والذي أصبح لاحقاً حجر أساس الحركة الكشفية. والكتابُ نسخةٌ منقّحةٌ من كتيّبٍ عسكريٍ عن مهاراتِ البقاءِ والنجاةِ كان بادن باول قد كَتَبَه ونَشَرَه. راجَ الكتابُ محلّياً وتبنّت العديدُ من المدارس البريطانية وقتَها أفكارَ الحركةِ الكشفيةِ لِما فيها من فائدةٍ ملموسةٍ في تعليمِ الطلاب الصغار أهميةَ الانضباط.
سرعانَ ما لاقَت الحركةُ ترحيباً في أوساطٍ أوسعَ. وقد أسهمَ في انتشارِها الكبيرِ عددٌ من العواملِ، منها تَوقُ سكّانِ المدنِ الكبيرةِ إلى إعادةِ أبنائهم للتعاملِ مع الطبيعةِ من جديدٍ بعد أن أفقدَتهم الثورةُ الصناعيةُ علاقتَهم المتوارَثةَ بالأرض. ومِن العواملِ انتشارُ المستعمَراتِ الأوروبيةِ في مختلفِ أصقاعِ الأرضِ وتولّيها مهمّةَ تبشيرِ الكوكبِ بأفكارِها المعاصِرة. أمّا أهمُّ العواملِ فالطبيعةُ المرنةُ للحركةِ الكشفيةِ بذاتِها التي تسمحُ باستيعابِ طيفٍ كبيرٍ من الألوان والمعتقدات دون نزعِ صفةِ الكشفيّةِ عنها. واليومَ يوجدُ ما يعادلُ الخمسين مليون فردٍ من الكشافةِ على كوكبِ الأرضِ، نِصفُهم في إندونيسيا ذاتِ الأغلبيةِ المسلمةِ، والعددُ ما زال بازديادٍ.
التحقَ الشرقُ الأوسطُ بفكرة الكشافاتِ مُبكراً منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى. وتدلُّ السجلّاتُ أن أكبرَ التجمّعاتِ الكشفيةِ في المنطقة كانت في دمشق وبيروت، حصّةِ الانتدابِ الفرنسيِّ من كعكةِ سايكس بيكو الشهيرة. وقد شكّلَت بعضُها قلقاً سياسياً للمستعمِرِ في بعض الأحيانِ، ما أدّى إلى قرارِ حلِّها من سلطةِ الانتدابِ عندما بدأَت تهدّدُ وتعلنُ نيّتَها طردَ المستعمِرِ. لكنّها مع ذلك حافظَت على وجودِها المؤثِّرِ في المنطقة.
لسوريا دورٌ ريادي في الكشافة ولا سيّما في الخمسينيات حين استضافت اجتماعَ الكشافات العربية، لكنّها طُرِدَت في التسعينيات من منظمة الكشاف العالمية لتأخّرِها المستمرِّ في سدادِ أقساطِ الاشتراك. في فترةِ "الأبد" الحاليّةِ التي تقضيها عائلةُ الأسدِ في سدّةِ الحكمِ، شهدَت الحركةُ الكشفيةُ التي تقع خارجَ الغطاءِ المسيحيِّ شبهَ انقراضٍ. علماً أنّ منظمةَ "كشّاف سوريا" ما زالت قائمةً حتى اللحظةِ، لكنني أشكُّ بأنها حالياً أكثرُ من مجرّدِ امتدادٍ عضويٍّ لخليّةِ "الأمانة السورية للتنمية" السرطانيةِ، وهي منظمةٌ غيرُ حكوميةٍ أنشأَتها السيدةُ الأولى أسماء الأسد لتكونَ مؤسسةً جامعةً لمختلف المنظّمات الأُخرى وتحتكرَ العملَ الإنسانيَّ والتنمويَّ في مناطقِ سيطرةِ النظامِ السوريّ.
يوجد في مدينة حلب وحدَها أكثر من عشرين تشكيلاً كشفياً مسيحياً، عدا عن شبيهاتها من الأخويّات والمنظّمات الرعويّة، بعضها مخصّصٌ للفتيان وبعضها مخصّصٌ للفتيات وبعضها مختلَط. وهذا يتيحُ لغالبِ عائلاتِ المسيحيين إلحاقَ أبنائهم وبناتهنّ بجمعيةٍ أو أخويةٍ أو كشّافٍ، علماً أن التسجيلَ في تلك المنظمات يراعي خطوطَ الانشقاق الطبقية في المجتمع المتقوقع إيّاه، فمألوفٌ أن يلتحق أبناء تلك المدرسة الخاصة ذات القسط المالي الباهظ بذلك الكشاف بعينه، بينما ينتسب أطفال ذاك الحيّ الفقير إلى الأخويّة المتواضعة التابعة له.
وبالحديث عن الهيكل التنظيمي للكشافات، سأستشفّ معظمَ معلوماتي من تجربتي الشخصية وممّا بقيَ في الذاكرة. ينقسم الكشّافُ في الموارد البشرية ثلاثةَ أقسامٍ؛ أولاداً، ومسؤولين، وممثلين عن الكنيسة. تتراوح أعمارُ الأولاد بين الثمان سنوات والثماني عشرة منقسمين إلى ثلاثِ مجموعاتٍ، "أخوة" و"فرسان" و"رواد"، تبعاً لمرحلتهم العمرية. بينما المسؤولون (الشيفية، وواحدُهم شيف) هم الأطفالُ ذاتُهم الذين وصلوا سنَّ القيادةِ، عادةً يكونون في عمر العشرينات ومعظمُهم من طلّابِ الجامعاتِ، وربما رضخَت بعضُ الكشافات لكهولٍ طفيليّين لا يعرفون الاستقالةَ وقرّروا التحنّطَ على كرسيّ الحُكمِ. ويَشغلُ الآباءُ الكهنةُ قسمَ ممثّلِي الكنيسةِ، وجَرَت العادةُ أن يُعمَّروا في مناصبِهم طويلاً، ولهم الكلمةُ الفصلُ في قراراتِ الكشافِ المهمةِ مثل اختيارِ مكانِ المخيّمِ وإدارةِ الميزانيةِ السنويةِ وتنصيبِ القائدِ العامِّ. متوسّطُ عددِ الأطفالِ في الكشّافِ الواحدِ يقاربُ المئةَ ويقابلُه حوالي عشرون مسؤولاً (شيف) وممثلٌ كنسيٌ أو اثنان على الأكثر.
تلتقي كلُّ فرقةٍ كشفيةٍ أسبوعياً في موعدٍ ثابتٍ. ويتبع الاجتماعُ الأسبوعيُّ التقليديُّ إيقاعاً مألوفاً يحتلُّ "الموضوع" حصّةَ الأسدِ منه، وهو مجموعةٌ متنوعةٌ من الأنشطة التي تسايرُ فكرةَ الفصلِ، فقد تكون محاضرةً جافّةً عن اليابان أو جلسةً دينيّةً مع الأبِ الروحيّ عن خطيئةِ العادةِ السرّيةِ أو – إذا ابتسمَ الحظُّ – اجتماعاً مشتركاً مع كشّافٍ من الجنسِ الآخَرِ. نكلِّلُ الاجتماعَ الأسبوعيَّ بـ"اللعبة"، وأذكرُ بعضاً من أشهرِها: الشامية والصنم والرماح، وجميعُها يتطلّب جهداً بدنياً وذهنياً إلّا أنّ تسعين بالمئة من الأطفال يفضِّلون ركلَ كرةِ القدمِ في جميعِ المناسبات.
في ختامِ كلِّ سنةٍ كشفيّةٍ يُقامُ حفلُ "الوعد" الذي يُرفَّعُ فيه الأطفالُ والشبّانُ من فرقةٍ كشفيةٍ إلى الفرقةِ التي تلِيها وفقاً لفئاتِهم العمريّةِ شريطةَ أن يتمِّمَ الفردُ جميعَ المهامِّ الموكَلةَ إليه في "دفتر الامتحانات"، والتي تتفاوت ما بين إنجازِ عقدةٍ ما باستخدامِ حبلٍ وقصبتَيْن إلى حفظِ نصٍّ قصيرٍ عن ظهرِ قلبٍ. بعضُها يَسهُلُ إنجازُه وبعضُها الآخَرُ غدا مصدراً مُبكراً لاكتشافِ القلقِ، فلكلِّ كشّافٍ خصوصيتُه باختيارِ معاييرِ اجتيازِ الامتحاناتِ ومواعيدِ إتمامِها.
التحقتُ بكشافِ المَوارنةِ في الصفِ الرابعِ الابتدائيِ مع بدءِ العامِ الدراسيِ، وهو أصغرُ عمرٍ لقبولِ طلباتِ الانتسابِ. اختارَ أهلي ذلك الكشافَ بعينِه لعددٍ من الأسبابِ. أَوّلُها أنّه كشافٌ مناسبٌ لجماعةِ الطبقةِ المتوسطةِ التي كنّا ننتمي لها. وثانياً لأن معظمَ شبابِ عائلتي الذين يكبُرونني سِنّاً سَبَقَ وانضمّوا للكشّافِ ذاتِه. أمّا السببُ الثالثُ فانتسابُ والدِي سابقاً للكشاف ذاتِه عندما كان في سنٍّ مشابهٍ قبل ثلاثةِ عقودٍ ونَيِّفٍ. لَم يكُن ضرورياً أن أكونَ من الطائفةِ المارونيةِ لأنتسبَ لكشّافِ الموارنةِ، فالطائفةُ لَم تكُن تؤثِّرُ في اختيارِ الكشافِ لأعضائِه. هُنا قد يقفُ أشقّاؤُنا اللبنانيّون مشدوهي الأفواهِ أمامَ روعةِ هذا الإنجازِ الحضاريّ.
قضيتُ في كشاف الموارنة حوالي اثنتَي عشرة سنةً، معظمُها متلقّياً، نظراً لمرحلتي العمرية. في سنواتي الأخيرةِ أصبحتُ في سِنٍّ يسمحُ لي أن أكونَ مسؤولاً ولكنّي لم أستطِع الصمودَ أكثرَ من سنتَين في ذلك الدورِ، أُغرِّدُ وحيداً خارج سربِ موالاةِ نظامِ الأسدِ التي كانت طاغيةً بين الزملاءِ.
يتبعُ المخيّمُ جدولاً صارماً تحكمُه أصواتُ صفّاراتِ الشيفيّةِ المسؤولين معلنةً بدءَ الاجتماعات وختامَها، وهي الأنشطةُ من لحظةِ الاستيقاظِ حتى موعدِ النوم. تلتزم الأنشطةُ حروفَ "المورس" المخصّصةَ لها. ونظامُ "المورس" هو طريقةُ تواصلٍ تعتمدُ على إشاراتٍ صوتيةٍ أو ضوئيةٍ مستخدِمةً نقاطاً وخطوطاً أو نبضاتٍ قصيرةً وطويلةً لتمثيلِ الحروفِ والأرقامِ، ما يساعدُ في تنظيمِ الأنشطةِ بدقّةٍ وانضباط.
في المخيّمِ، تهيمنُ مجموعةٌ من القوانين الضمنيةِ، بعضُها له تبريرٌ منطقيٌّ كالالتزامِ بالصمتِ التامِّ بعد "إطفاء الأنوار" مساءً، وبعضُها متوارَثٌ يتّسمُ بالغرابة. فمثلاً الجلوسُ على أيِّ كرسيٍّ ممنوعٌ بل ويَستوجِب العقابَ. وإنهاءُ طبقِ الطعامِ أو ما يُعرَف بمسحِ الصحنِ مُقدَّسٌ ولا يَحتملُ المساوَمةَ. كذلك وجودُ الممنوعاتِ في فقرةِ التفتيشِ قد يؤدّي إلى فصلِ العضوِ من الكشّافِ وإعادتِه إلى أهلِه قبل انتهاءِ المخيّمِ. وأخطرُ الممنوعاتِ حينَها كانت العلكة. ويتخللُ النومَ فقرةُ الحَرَسِ التي تستدعي تناوُبَ أعضاءِ الفِرَقِ على حراسةِ العَلَمِ السوريِّ المُنتصبِ في ساحةِ العَلَمِ ستّين دقيقةً بالتمامِ والكمال. مَن اختبرَ ساعةَ الحَرَسِ في الكشافاتِ يؤمن أن مفهومَ الزمنِ نسبيٌّ، فالدقائق في تلك الساعة ثقيلةٌ كثورٍ بليدٍ، نقضيها شبهَ أمواتٍ على عتبةِ اليقظةِ متأهّبين لخطرٍ مُتخيَّل.
نتهامسُ ليلاً بأن وضعَنا الحاليَّ أفضلُ بكثيرٍ من أسلافِنا، فالضربُ الصريحُ أصبحَ مُحرَّماً، وقصصُ العقوباتِ التي تضمّنَت شدَّ وثاقِ المشاكسين بالحبالِ ساعاتٍ على الأشجارِ تحت الشمسِ الحارقةِ صارت مجرّدَ أساطير.
أستطيعُ الكتابةَ عن المخيّماتِ أياماً بلياليها أصفُ التفاصيلَ الصغيرةَ قبل الكبيرة. كيف سجّلَت ذاكرتي بعضَ أرسخِ لحظاتِ الطفولةِ عندما تُوِّجتُ بجائزةِ "الفتى المثاليّ" في نهاية أوّلِ مخيّمٍ صيفيّ. أو تلك الليلة المجنونة التي قضينا معظمَها رقصاً، حين كان القفزُ يُعَدُّ رقصاً، على أصواتِ أغانٍ لا أذكر من معاني كلماتها شيئاً سوى أنّها تُشعِرُني بالأُخوّةِ العميقةِ بين جماعةِ القرودِ السعيدة. أو تلك القشعريرة التي أستعيدُها من شبابي في ذاك الحديثِ المخيفِ الذي تشاركتُه همساً مع صديقي المقرّبِ عن الأرواحِ الخبيثةِ والتلبّسِ بعد إطفاءِ الأنوارِ ونحن نتحسّس ما حولنا في عتمةِ المهجع.
"يا سيدي وقائدي يسوع المسيح
الذي انتخبتني أنا الضعيف
لأكون قائداً وحارساً لأخوتي
هَب أن يكون كلامي ومثلي
نوراً يضيء لهم طريق شريعتك
وأن أعرف أن أريهم أسرارك الإلهية في الطبيعة التي خلقتها
وأن أعلمهم ما يجب
وأن أقودهم من مرحلة لمرحلة
حتى نصل إليك يا إلهي
في مخيم الراحة والسرور
حيث نصبت خيمتك مع خيمنا إلى الأبد. آمين"
لطالما أذهلَتني كلماتُ تلك الصلاةِ فأستشعر بها ذلك المزيجَ من الشجاعة والطاعة التي تعلّمنا أن نقدّسَها قيماً ساميةً في حياتنا الكشفية، فمِن الأُبويّة المفرِطة في الكلمات إلى ما يتبعُها من ذكورةٍ سامّةٍ، فالذَكَرُ الناجحُ خُلِقَ ليقودَ بالفطرة. إلّا أن ما يثيرُ الدهشةَ هو ذاك النَفَسُ البعثيُّ الذي يتخلّلُ كلماتِ الصلاةِ من مثيلاتِ: "سيدي وقائدي، يضيءُ طريقَ شريعتِك، إلى الأبد" بحيث يَجعلُ يسوعَ المسيحَ رفيقاً حزبياً في سوريا الأسد.
يتجلّى التوازي بصريّاً بين الحركةِ الكشفية وخدمةِ الجيش الإلزاميّ عند التحديقِ في زِيِّهما الرسميِّ جنباً إلى جنبٍ، فمع تبديلِ البندقية والحذاء العسكري بالصفّارة وحذاء "الكوسلا" الجلدي الرسمي إلّا أنّ كليهما يتزيّن بأوسمةٍ عديدةٍ على الأكتافِ والزنودِ لِاستعراضِ ولاءاتٍ باليةٍ. في الكشافاتِ كلّما زادَ عددُ الأوسمةِ رَمَزَ ذلك إلى تميّزِ الفرد بقدرتِه المذهلة على التضحية بشبابه مقابلَ تولّيه منصباً وهميّاً يخوّلُه قيادةَ دُويلةٍ مُتخيَّلةٍ نصفُ سكّانِها من الأطفال دون سنِّ الرابعة عشر.
بالنظر إلى آليّةِ عمل الكشاف وطبيعةِ قِيَمِه أستطيع أن أستنتجَ بيُسْرٍ أن هدفَ الكشافِ غيرَ المُعلَنِ هو تقديسُ الخضوعِ لأشكالِ السلطةِ القائمة. لستُ بصددِ القولِ بأنّ الكشافات هي امتدادٌ غيرُ معلَنٍ للأفرُعِ الأمنيّةِ في حلب، ولكن ما أحاولُ قولَه هو أن الكشافات أدواتٌ فعّالةٌ لتطويع المجتمع لتبقى القيمُ الباليةُ ذاتُها في حصانةٍ من التطور. فدَورُها السلبيُّ إفراغُ الحياةِ الاجتماعيةِ من السياسةِ الفاعلةِ، لأن طبيعةَ الكشافاتِ تُوهِمُ بممارسةِ الديمقراطية في المنظومة بدلَ المشاركة في الحياة السياسية على مستوى الدولة ككُلّ. ثمّ تمتدّ لتحميَ صورةَ الكنيسةِ المتهالكةِ وتقديسَ الذكورةِ العنيفةِ وطاعةَ المسؤولين العمياءَ حتى وإنْ تكرّرَت أخطاؤهم، ناهيك عن كراهيةِ الآخَرِ المختلفِ والتمجيدِ العقيمِ والفهمِ القاصرِ لفكرةِ التضحيةِ في سبيلِ الوطنِ على طريقةِ القرن التاسع عشر، وما إلى ذلك من عفنٍ أخضرَ يُرادُ تزيينُه للناظرين.
هاتفتُ والدي لأستفهمَ عن رغبتِه في إلحاقي بالكشافِ، فأتى جوابُه سريعاً خالياً من التعقيد: "لتتعلّم بعضَ المهاراتِ اليدويةِ والاعتمادَ على الذات، ولأن حضورَ قدّاسِ يومِ الأحدِ كان إجبارياً". اعترَضَت والدتي المكالمةَ لتضيفَ بأنّ الالتحاقَ بالكشافات تقليدٌ اجتماعيٌّ وأقلُّ تكلفةً بكثيرٍ من أنشطةٍ أُخرى كتعلّمِ آلةٍ موسيقيةٍ أو التسجيل في نادٍ رياضيّ. ثمّ أضافَت والدتي بأن عُمرَها كان قد تجاوزَ الأربعين حين أدرَكَت أن الكشّافات ليست حكراً على المسيحيين.
بَتَرتُ المكالمةَ معهما لأعاودَ الكتابةَ عن الكشّاف. تَحضُرُني رغبةٌ في تدوينِ إجابةٍ لَم يَتَفَوَّها بها حَرفياً ولكنّها تسرّبَت مِن بين الكلماتِ: نبعثُ أولادَنا للكشّافِ كي "يَنْدَعِكوا". والدَّعْكُ في معجمِ "لسان العرب" هو تليينُ الشيءِ حتى يفقدَ خشونتَه. ويبدو أنّ ابنَ منظورٍ أصابَ الصميمَ بتقديمِه ذلك المعنى، لنجعلَ من الشباب الصغار كتلةً أكثرَ تجانساً فتنزلقَ بسهولةٍ في قوالبِنا مسبقةِ الصنع. فكم من الأطفال طُرِدوا من منظّماتهم لأنّهم لم يُولُوا كشافاتِهم الأولويةَ الحصريّةَ المقدَّسةَ وتغيَّبوا عن إحدى المخيّمات. وكم من الشباب اليافعين نُبِذُوا خارجَ سربِ الكشافِ حين وصلوا سنّاً معيّنةً بحجّةِ أن طبيعةَ شخصياتِهم لا تصلحُ لأن يكونوا قادةً كشفيّين. أُسنِدُ خاصرتي بيدٍ وأُكملُ الكتابةَ بالأُخرى كي لا تفقعَ من الضحكِ؛ قادة؟ في سنّ التاسعة عشر؟ تلك الإمكاناتُ اليافعةُ التي أُقصِيتْ خارجَ دوائرِها الاجتماعيةِ جرّاءَ ركلةٍ صبيانيّةٍ في العقبِ من بعضِ "القادة المناسبين للقيادة" تركَت عند العديدِ من الشبّانِ تشوّهاً دائماً في احترامِ الذاتِ والثقةِ في الآخَرِ.
أُغمضُ عينيَّ كي لا تُصادِفا وحشاً منهم في أثناءِ فقرةِ التفتيش الكريهةِ في المخيّم. أنا الفتى الصغيرُ، أقفُ كالألِفِ الممدودةِ وكَعْبايَ يلامِسان نهايةَ الفراشِ المرتَّبِ. أتوجّسُ من خذلانِ حنجرتي إذا ما أصدرَت صوتاً إثرَ تلقّي "لطّة" أي ضربةٍ من الشيفِ بحبلِ الصفارةِ، أحاولُ ضبطَ تعبيراتِ وجهي لتَلْزَمَ المعاييرَ المطلوبةَ وأَفتحُ جفنيَّ لتلتقيا مباشرةً بعَينَي الشيفِ الملقَّبِ بالغولِ فتهربُ مِن فمي ابتسامةٌ لتحجبَ رغبتي بالبكاءِ. يَنهرُني الغولُ قائلاً:
- عَمْ ضَحْكَك ما؟ رُوح جِيب السكادو (حقيبة الظهر بالفرنسية) وتَعا لعندي أنت كمان يا نائب يا قدوة.
- لَكْ والله ما قصدي شي، شيف.
- عم تقول "ولَكْ" للشيف! جِبْلِي ياها لَهون ولا تكتّر حَكي متل النسوان!
انتهى المشهدُ بتناثرِ أغراضي التي كانت مرتّبةً بعنايةٍ وكأنني على نقطةِ تفتيشٍ حدوديةٍ. عيناي مليئتان بالدموع، أنا ابنُ العشرةِ أعوامٍ، نكثتُ لِتَوِّي بالعهدِ بأن أواصلَ سجلّاً نظيفاً في جولاتِ التفتيشِ. عُدَّ ندائيَ التلقائيُّ "ولَكْ" إهانةً وتصغيراً. أُعزِّي نفسي بتماثلِ وضعي مع وضعِ العديدِ من أقراني في تلك الجولةِ المجنونةِ. وأشكرُ ربّي أنني لَم أكُن أحدَ الأطفالِ الذين وصلَت عقوبتُهم حدَّ إفراغِ كيسِ غسيلِهم المتّسخِ ببقايا برازِهم أمام الجميع.
أذكر أنني التقيتُ الغولَ ذاتَه في مناسباتٍ أُخرى عديدةٍ. مَرّةً حين تلذّذَ بمشهدٍ دفعَنا نحوَ حافّةِ البكاءِ عندما سَلَخَ جلودَنا الهشّةَ بِلِيفَتِه في فقرةِ الاستحمامِ. وأُخرى حين كان يمازحُنا بالإغراقِ المؤقّتِ في أحدِ المسابحِ. حِسُّ فكاهةٍ مألوفٌ ومسموحٌ به في بيئةٍ تستخدم العنفَ والتخويفَ بحجّةِ جعلِنا "رجالاً مدعوكين" لنواجهَ مستقبلَنا المُشرقَ. مَضَت الأيامُ وتضاءلَ الغولُ حين كبرتُ. صادفتُه في شارعٍ باللاذقيةِ حين ذهبتُ للتقصّي عن بعضِ الكتبِ الممنوعةِ وتَبادَلنا التحيّةَ بحماسةٍ مصطَنعةٍ ومضى كلٌّ منا في سبيلِه منفرِداً تائهاً في مدينةٍ لا يألفُها. مع ذلك، أذكر جيداً يومَ عثرتُ على الغولِ بين أسناني. حينها كنتُ في الصفِّ التاسع. أيقَظَني صبيٌّ في الصفِّ السابعِ ليلاً لأستلمَ مكانَه في مناوبةِ الحرسِ لأنّ دَوري حانَ ولأنّ مناوَبتَه قد انتهت. أيقَظَني بتسليطِ ضوءِ "البِيلِ" أي المصباحِ اليدويِّ مباشرةً في وجهي النائمِ لأنني لَم أستجبْ لنداءاتِه المتكرّرةِ. حينها استلمَ الغولُ داخلي دفّةَ القيادةِ فضربتُ ذلك الصبيَّ وركلتُه مراراً ثم رميتُ ذاك المصباحَ اليدويَّ على رأسِه مباشرةً، وتبعتُها بجملة: "مشان تتعلم تضوي البيل في عيني".
أستطيع الكتابةَ عن ذلك ساعاتٍ وأياماً لكنني لا أريدُ الجنوحَ لسردٍ ذاتيٍّ يجترُّ الماضيَ، إنما أردتُ استراقَ النظرِ إلى ظاهرةِ الكشافِ في حلب بعدسةٍ مشاكسةٍ تحاول التحرّرَ من فخِّ الذاتيِّ قدرَ الإمكانِ أو على الأقلِّ تَجاوُزَه. في حينِ لَم أحاولْ تقديمَ نصٍّ تعريفيٍّ دقيقٍ عن بنيةِ عملِ الكشافاتِ وفوائدِها، رغبتُ في أن أفتحَ صمامَ الكلامِ قليلاً فحسب، بحيث تتسرّبُ عدوَى الكلامِ لمن له رغبةٌ بالبوحِ بدَورِه، ولا مانعَ بعدَها إن شارَكَني أحدُهم الرأيَ أو خالَفَني آخَرُ بشدّةٍ ما دامت عجلةُ الكلامِ قد بدأَت بالدوران.
أتذكر وعد فرقة الفرسان:
"أعدُ بشرفي متكلاً على نعمة الله
أن أخدم بكل مقدرتي
الله والكنيسة والوطن
وأن أساعد قريبي في كل مناسبة
وأن أحافظ على دستور الفرسان
وأن أقدّم المساعدة لعائلتي
وأصدقائي وكشافي"
أتصفّحُ الإنترنت بحثاً عن صورٍ حديثةٍ لكشّافي. يسكنُني الفضولُ تجاهَ من أصبحَ قائدَ المجموعةِ، ومَن هو المرشدُ الروحيُّ الحاليُّ. هل استعادوا مقرَّهم في ساحةِ فرحات بعدَ تجميدِ الحربِ. وهل ما زال دير كفرون المتهالكُ وجهتَهم الصيفيّة. أرى صوراً عديدةً لشبّانٍ جُددٍ. بعضُ الوجوهِ ما زال مألوفاً، أمّا الأكثريّةُ فتعودُ لجيلٍ يافعٍ جديدٍ، تجمعُهم صورةٌ جماعيّةٌ باللباسِ الكشفيِّ الرسميِّ. جواربُهم الكُحليةُ تعانقُ الرُكَبَ. يردّدون معاً: "مجموعةٌ واحدةٌ … عائلةٌ واحدة". يجتاحُني الحنينُ للطفولة. أحبُّ تلك المجموعةَ وأحزنُ عليها. أخشى عليهم من سُلطةِ الغُولِ، فهو لم يكن يوماً فرداً بعينِه، بل هي بيئةُ التَغوُّلِ التي وجدَت في كشافات حلب ومثيلاتِها من المنظمّاتِ تربةً خصبةً لإعادةِ إنتاجِ السلطة.