رواية جزائرية تقسم المجتمع ما بين حفظ القيم وتحرير الوعي

يكشف الجدلُ في رواية "هوّارية" للكاتبة إنعام بيّوض عن حياة الكتّاب ما بين مطرقة الأدب النظيف وسندان حرية التعبير

Share
رواية جزائرية تقسم المجتمع ما بين حفظ القيم وتحرير الوعي
الروائي المصري نجيب محفوظ في القاهرة عام 1999 (من صور رافاييل غيلارد / خدمة غيتي للصور)

تغيّرَت حياتي كثيراً بعد الثاني والعشرين من مايو 2022. كنتُ عشِيّتَها على متنِ طيران الإمارات صحبةَ زوجتي ريما متّجهاً إلى أبوظبي. فقد كانت روايتي "خبز على طاولة الخال ميلاد" في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر". وبينما نحن في الطائرة أعلَن القائمون على حفل جوائز البوكر عن الرواية الفائزة وكرّموا رواياتِ القائمة القصيرة. كانت ريما تتابع أخبارَ حفلِ إعلان الجائزة من تطبيق واتساب مع عائلتها في ليبيا مستعينةً بإنترنت الطائرةِ الذي يَسمحُ بتبادلِ رسائلِ واتساب النصّيةِ فقط. لم تمضِ سوى بضعِ دقائقَ حتى شَعّت عيناها فرحاً وطِفقَت الرسائلُ النصّيةُ تنهالُ تهنئةً بالفوز بالجائزة التي يحلمُ بها جُلُّ الروائيين العَرب، فهي كما يصِفونها "أرفعُ جائزةٍ عالميةٍ للرواية العربية". صِرتُ فجأةً أصغَرَ كاتبٍ عربيٍ وأوَّلَ كاتبٍ ليبيٍّ يحظى بالجائزة في عُمرِ الواحدة والثلاثين. وعلِمتُ ساعتَها أنه سيُنظَر إلى فوزي في العالم العربي على أنّه مفاجأة. وقد تباينَت ردودُ الفعلِ على هذه المفاجأةِ ما بين استحسانٍ واستهجانٍ وجدل.

ليسَ الاستحسانُ بيتَ القصيدِ هنا، بل الاستهجانُ والجدلُ. فقد احتفلَ الجزائريون منذ أيامٍ بفوز رواية الكاتبة إنعام بيّوض "هوّارية"، الصادرةِ عن دارِ ميم، بجائزة "آسيا جبّار للرواية" عن المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار في الجزائر. ولم يلبَث الاحتفالُ إلا أياماً ثمّ تحوّلَ إلى جدلٍ في ما جاءَ بالروايةِ من "ألفاظٍ خادشةٍ للحياء" على حدِّ تعبير المستهجِنين. أثارَت الروايةُ لَغَطاً كبيراً في الجزائر امتدّ صداهُ إلى بقيةِ الأقطار العربية. واصطفَّ النّاسُ عمومُهم في معسكرَيْن أحدُهما حليفٌ "للأدبِ النظيف"، أي الأدب الذي يؤدّي دورَ الواعِظ فيَخلو من مشاهدِ الوصفِ الماجنِ ويصوِّرُ الشخصيات على أحسنِ ما يكون من الكلام وينزِعُ عن الواقعِ عيوبَه. وذلك لأنّ الأدبَ سفيرُ دولةٍ إلى العالَمِ فكيفَ به يصوِّرُ حسبَ تعبيرِهم شخصياتٍ شاذّةً تصفُ الأعضاءَ الجنسيةَ للبشر وتخوضُ في الملذّات وتُردّدُ عباراتِ الشتم. فشَنَّ أتباعُ هذا المعسكر حملةً على الكاتبةِ ودارِ النشر، رَفعوا فيها شعارَ "هل ترضى قراءته أمام عائلتك؟" ويرى المعسكرُ الثاني أنّ الأدبَ حُرٌّ يتحدّى المحرَّماتِ كلَّها ويصفُ الواقعَ بحذافيره ولا يجمِّلُه، معتقِدين أنّ القراءةَ فعلٌ فرديٌ ومستخفّين بآراءِ المعسكرِ الأوّلِ وأفكاره. بل يَسخرُ بعضُهم من "الأدب النظيف" الذي يطالِبُ به خصومُهم لأنّه أدبٌ مفصّلٌ على مقاسِ السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية في بلدانهم، فيقعون مثلَهم في فخّ الوصايةِ على القراءة.

واحتّدَ الجدلُ بين المعسكرَيْن لتعلِنَ مديرةُ الدارِ السيدةُ آسيا علي موسى يومَ الثلاثاء السادس عشر من يوليو 2024 على صفحةِ الدارِ على فيسبوك إغلاقَها بسببِ الحملة. وقالت السيدةُ آسيا في منشورِها: "مَضَتْ سنواتٌ من المعافَرَة، على حُلْوِها ومُرِّها، حاولَت فيها دارُ ميم للنشرِ أن تقدِّم للجزائرِ، للمثقّفِ، للقارئِ، للكاتبِ، للمشهدِ ولصناعةِ الكتابِ، أن تقدِّم عملاً ذا قيمةٍ فنيةٍ جماليةٍ ومعرفية. أصابت وأخطأَت ككُلِّ مجتهدٍ، ولكنها قدّمَت صورةً طيّبةً للبلاد في كلِّ المحافل … ولكن لا جدوى ولا معنى من محاربةِ العبثِ … نُعلِنُ أنّ ميم أغلقَت أبوابَها منذ اللحظةِ في وجهِ الريحِ وفي وجهِ النارِ". ولم يكَد يَخمَد الجدلُ حتى نشَرَ الروائيُ الجزائريُ واسيني الأعرج مقالةً يومَ الثلاثاء الثاني والعشرين من يوليو 2024 في موقع العربي الجديد بعنوان "الدرجةُ الصِفرُ للقراءة" وصفَ فيه مهاجِمي الروائيةِ إنعام بيّوض وروايتِها بالإرهابيين والانكشاريين الجُدُد، مذكِّراً بسنواتِ العَشريةِ السوداءِ في الجزائر عندما كانت الدولةُ تحارِبُ الإرهابَ. فاستَعرَت الحملةُ من جديدٍ لتشملَ الأستاذَ واسيني ورواياتِه أيضاً. فلِكلمةِ "انكشاريين" دلالاتهُا السيئةُ في دول الشمال الإفريقي. فقد كان الانكشاريون أسوأَ جنودِ الدولة العثمانية. ويَحفظُ الموروثُ والتاريخُ المغاربيُّ بشاعتَهم، ويوصَفُ كلُّ إرهابيٍّ بِهم.

ليسَ الجدلُ في رواية "هوّارية" جديداً أو خاصّاً بالعالَم العربي. فكثيرٌ من شعوبِ العالمِ مَرّتْ بمستوياتٍ وخلفياتٍ من الجدلِ لأسبابٍ سياسيةٍ أو اجتماعيةٍ أو دينية. ففي الولايات المتحدة اليومَ نَشهَدُ صعودَ موجة ثقافية تحاول الوصايةَ على ما يُقالُ في الصحافةِ والإعلامِ وفي الأدب والسينما والموسيقى والمسرح. ورافقَت الحربَ الروسيةَ الأوكرانيةَ حربٌ أدبيةٌ كان من أبطالِها أحدُ آباءِ الرواية المعاصرة فيودور دوستويفسكي، إذ جادَل كثيرون في أوكرانيا والعالم الغربي بأنّ روايات دوستويفسكي تحتفي بالروح الاستعمارية والتفوّقِ الروسيِّ ونادَوا بحظرِها. 

وانقسمَ العربُ قبل "هوّارية" قسمَيْن غيرَ مَرّةٍ. فقد حدثَ الأمرُ ذاتُه، وإن كانَ بحدّةٍ أكبرَ، مع روايةِ "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب حيدر حيدر الصادرةِ سنة 1983. وانتظرَت الروايةُ سبعةَ عشرَ عاماً حتى تثيرَ جدلاً واسعاً في مصر سنة 2000 بعد أن أعادت هيئةُ قصور الثقافة المصرية نشرَها فمُنِعَت الروايةُ في دولٍ عربيةٍ وكُفِّرَ كاتبُها لِما فيها من "تعدٍّ على الذات الإلهية" على حدِّ تعبيرِ منتقدِيها. من أمثلةِ نقدِها ما نَشَرَه الكاتبُ المصريُ محمد عبّاس في مقاله "من يبايعُني على الموت" في صحيفة الشعب يهاجِمُ فيه الروايةَ ويدعو إلى الجهاد ضدّها، ممّا أَثّرَ في الكاتب حيدر حيدر الذي صَرّحَ في لقاءٍ مع اليوم السابع في يوليو 2009 قائلاً: "سامحَك اللهُ على ما قُلتَه بحقّي وما وصمْتَني به … سَبَّني وسَبَّ أهلي وأبي وأمي، تاركاً أثراً سيّئاً وجرحاً عميقاً في نفسي".

بعد أن فازَ نجيب محفوظ بجائزة "نوبل" للآداب سنة 1988 عن أعماله الأدبية مع تنويهٍ بروايةِ "أولاد حارتنا" المنشورةِ سنة 1958 تَجادَلَ الناسُ فيها. فقد رأى شيوخٌ كثيرونُ أنّ في الرواية تعدّياً على الذاتِ الإلهية والأنبياءِ لِما فيها من رمزيّاتٍ دينيّةٍ. فكُفِّرَ محفوظٌ ومُنِعَت روايتُه من النشرِ. وفي الرابع عشر من أكتوبر 1994 حاولَ مجهولٌ اغتيالَ الروائيّ. ولم يَخْفِت الجدلُ في الرواية حتى بعد موتِ محفوظٍ سنة 2006. فقد نَشَرَ أحمد إبراهيم خضر على شبكةِ الألَوُكة سنةَ 2010 مقالاً عنوانُه "تعدّي نجيب محفوظ على الله والأنبياء" قال فيه: "​​لا شكَّ أن حِسَّ أيِّ مؤمنٍ يقشعرُّ بشدّةٍ لمثلِ هذه الجُرأةِ على 'الله تعالى'. فما بالُنا لو أن هذه الرمزيةَ ترتبطُ عند الكاتب بأمورٍ تَضربُ هذا الحسَّ في الصميم، مثلَ رمزيّتِه بموتِ الله تعالى في موتِ الجبلاوي أو سيّد سيّد الرحيمي ... ولا يستطيع مُدَّعٍ أن يبرِّرَ هذا التطاولَ بمذهبيةٍ فنّيةٍ لا يقدرُ على فهمِها الذين لا يَفهمون في الفن والأدب".

ومَنَعَ مجمعُ البحوث الإسلامية التابعُ للأزهرِ روايةَ "سقوط الإمام" لنوال السعداوي الصادرةَ سنةِ 1987. ومُنِعَتْ روايةُ "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري لِما فيها من "بذاءة" وأوصافٍ ومشاهدَ بذيئةٍ. ومُنِعَتْ خُماسيةُ "مدن الملح" للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف من النشرِ في دولِ الخليجِ، وسُحِبَت جنسيةُ الكاتب. وقد وَضَعَ معرِضُ الرياض للكتاب أعمالاً لمنيف في القائمة السوداء سنة 2017 في حينِ عُرِضَتْ لوحاتٌ شخصيةٌ للكاتب في المعرِضِ ذاتِه. 

تُطَارِدُ رواياتٌ بعينِها كُتّابَها. وقد حدثَ الأمرُ ذاتُه معي بعد إعلان فوزِ روايتي "خبز على طاولة الخال ميلاد" بجائزة البوكر العربية، إذ أثارَت الروايةُ جدلاً في ليبيا والعالم العربي لأسبابٍ مشابهةٍ لما سبقَها من أعمالٍ عربيةٍ ذكرتُها. أَثّرَ هذا الجدلُ فيَّ شخصياً، وطالَتني حملاتُ تشويهٍ شخصيٍ، وأكَلَ لحميَ مَن أكَلَ، وطارت الإشاعاتُ عن تاريخيَ الشخصيّ. فقيلَ بأنني نشرتُ الروايةَ بدعمٍ فرنسيٍ، وبأنّ الجائزةَ لا تُعطَى إلا لكلِّ متخاذلٍ جاهزٍ لتشويهِ مجتمعِه، وبأنني نشرتُ قبل ذلك كتاباً عن الإلحاد. بل طالَت الاتهاماتُ حتى ميوليَ الجنسيةَ وأفكاريَ الدينيةَ وجنسيّتي بالزعمِ أنّ الليبيَّ الحَقَّ لا يَنشرُ مثلَ هذا الأدب. وما زِلتُ أَذكرُ شاعراً ليبياً قال ساخراً بأنّ روايتي تونسيّةٌ، لأنّه يرى أنّ التونسيين شعبٌ يَستسهِلُ كتابةَ مثلِ هذا الكلامِ الخادشِ للحياء، عكسَ الليبيين المحافِظين في رأيِه. واستعملَ بعضُهم قضيّةَ كتابي للنَيْلِ ممّن وصفوهم بالظلاميين والإرهابيين و"حرّاس الفضيلة" فتَحوّلَ خبرُ فوزِ الروايةِ من جامعٍ للأُمّةٍ الليبيةِ إلى عاملِ انقسامٍ، وهو أمرٌ لم أَودَّه أبداً. ولم تكن الاتهاماتُ والشتائمُ من أُناسٍ لا يَقرؤون فحسبُ، بل من المحسوبين على المثقفين والناشرين والكتّاب، أي الذين يَعُونَ أدبَ الروايةِ وقد تشرَّبوه وقَرَؤوا من رواياتِ العالَمِ أشكالاً شتّى. فوَجدتُ نفسيَ وحيداً أبحثُ عن مكانٍ آمنٍ بعيداً عن كلِّ هذا اللَغَطِ، ولم أكتبْ عن الأمرِ ولم أَرُدَّ على أحدٍ عَلَناً. وربما تُعَدُّ هذه المقالةَ الأُولى التي أكتبُها سارداً ما حدثَ وما يحدثُ للكتّاب والمبدعين بعد أن تُناصِبَهم مجتمعاتُهم أو سلطاتُ بلادهم العداءَ عندما يكتبون ما لا يروقُ أهلَ اليمين أو أهلَ الشِمال على حدٍّ سواء.


بعدما وصلتُ إلى أبوظبي في مايو 2022 أمضيتُ يومَيْن أو ثلاثةً تتلقّفُني وسائلُ الإعلامِ والصحفُ في أبوظبي وخارجها. كنتُ أهربُ من فتحِ هاتفي، فقد كان ملغَّماً بعددٍ عظيمٍ من الصحفيين الذين حصلوا على رقمي وأرادوا محاوَرتي. وامتلأَ صندوقُ رسائلي في برامجِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِ كلِّها بالمهنِّئين والمهنِّئات والذين يودّون التعرّفَ إلى الفائز بالبوكر. وكانت زوجتي تنقلُ لي التهانيَ والمبارَكات التي تأتيها من كلِّ حدبٍ وصوبٍ. ومما أخبرَتني به ريما أنّ وزارةَ الثقافة والتنمية المعرفية الليبيةَ بحكومة الوحدة الوطنية نشرَت تهنِّئُني على صفحتها في موقع فيسبوك، وكذلك نشرَت الوزيرةُ مبروكة توغي على صفحتها. لَم أهتمّ بالأمر لأنني أعرفُ أنّ الوزارةَ تسعى إلى الاكتساب السياسي منّي، فقد لُدِغتُ من جُحْرِها مرَّتَيْن مِن قبلُ. الأُولى عند أوّلِ محاولتي للنشر سنة 2012، فقد كنتُ ابنَ واحدٍ وعشرينَ عاماً وأردتُ نشرَ مجموعةٍ قصصيةٍ. وكأيِّ كاتبٍ ليبيٍّ آخَرَ ذهبتُ إلى الوزارة لأنشرَ عندها، إذ كان هذا العرفَ السائدَ في ليبيا منذ السبعينيات. وحصلتُ على عقدٍ من الوزارة في عهدِ الوزيرِ الحبيب الأمين، ولكن أمضيتُ سنةً ويزيدُ محاولاً نشرَ كتابي بلا فائدة.

أما الثانيةُ فكانت عندما نَشرَتْ دارُ الفِرجاني الليبيةُ ومؤسسةُ آريتي للفنون والثقافة سنة 2017 كتابَ "شمس على نوافذ مغلقة" الذي يضمُّ نصوصاً متنوّعةً من قصصٍ وقصائدَ ومقاطعَ من روايةٍ لخمسةٍ وعشرين كاتباً وكاتبةً من الجيل الشاب، كنتُ أحدَهم. احتفَت دارُ النشرِ ومؤسسةُ آريتي بالكتّاب المشاركين في حفلاتِ توقيعٍ في طرابلس وبنغازي ومدينة الزاوية غربَ العاصمة. وبعد أن ذاعت شهرةُ الكِتَاب واحتفلَ المثقفون الليبيون به، شُنَّت حملةٌ على الكِتاب لِما في أحدِ نصوصِه من مقاطعَ "خادشة للحياء وتسبُّ الذاتَ الإلهية" على حدِّ تعبيرِ المهاجمين. أثارَ ذلك الكتابُ جدلاً واسعاً في ليبيا، مما اضطَرَّ دارَ النشر إلى سَحبِه من السوق. ودوهِمَت مكتباتُ دارِ الفِرجاني للبحثِ عن الكِتابِ المُتّهَمِ، وحُرِّضَ على الكُتّابِ لا سيّما الذين حضروا حفلاتِ التوقيعِ وانتشرَت صورُهم مع صاحبِ النصِّ، الكاتبِ أحمد البخاري. اضطُرَّ محرِّرو الكِتابِ، الكاتبة ليلى المُغربي والأستاذ خالد مطاوع، وكذلك بعضُ الكتّابِ إلى مغادرةِ البِلاد. بلْ واختُطِفَ أحدُهم، وعِشتُ صحبةَ كتّابٍ آخَرين في مسلسلِ رُعبٍ طالَ شهراً. ثم خرجَت وزارةُ الثقافة، أو الهيئةُ العامة للثقافة حينَها، تتبرّأُ من الكِتابِ والكُتّابِ مدّعيةً أنها لم توافِق على نشرِه، مع أنّ النصَّ المنشورَ الذي قامَت قائمةُ الليبيين عليه صَدَرَ قبل ذلك في روايةٍ بعنوان "كاشان" للكاتبِ أحمد البخاري سنةَ 2012 عن دارِ الرُوّادِ الليبيةِ وتحصّلَ على موافقةِ وزارة الثقافة حينَها. علّمَتْني هاتان الحادثتان ألّا أَتّكِئَ أبداً على أيِّ مؤسسةٍ رسميةٍ ليبيةٍ، لا سيّما وزارة الثقافة. أذكرُ عند رؤيتي تهنئةَ وزارة الثقافة لي ذلك اليوم في مايو 2022 أنّني قلتُ لريما: "لَم يعرفوني قبلَ اليوم. انتظري حتّى يقرؤوا الرواية".

في الأيامِ الأُولى ما بعد فوزي بالجائزة انشغلتُ بجوٍّ مغشوشٍ بالنصرِ والاحتفاء. وكنتُ، بكلِّ صدقٍ، في كلِّ حوارٍ صحفيٍ أُهدي "هذا الفوزَ إلى ليبيا، بلدي، بلدِ الطُيُوب". وبلدُ الطُيُوبِ قصيدةٌ للشاعرِ الليبيِ الراحلِ علي صدقي عبد القادر. تزايدَ الاهتمامُ بي وبروايتي، ممّا جعَلَ سارقي الكتبِ يقتنصون اللحظاتِ المناسبةَ للربحِ، فرُفِعَت روايتي بعد أن أعادَ أحدُ السُرّاقِ كتابتَها على حاسوبِه ونَشَرَها إلكترونياً فتلقّفَها القرّاءُ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ. وبدأ الجدلُ أوّلاً في أحقّيةِ روايتِي بالفوزِ، وذلك في دوائرِ مثقّفِي العالَم العربيّ لا سيّما بعد تسريبِ خبرِ فوزِ روايتِي وروايةٍ أُخرى قبل موعدِ الإعلانِ بساعاتٍ قليلة. جعَلَ ذلك عالمَ المثقفين العربِ مشتعِلاً أيّاماً بالشكِّ في نزاهةِ البوكر وما إنْ كانت تُحابي كُتّاباً وبلداناً بعينِهم من أجلِ مصالحَ ما. لكن هذه حُجّةٌ عليهِم لا لَهُم. إذ ما أَذهلَ هؤلاءِ أنني كنتُ كاتباً صاعداً من الهامِشِ من مدينةٍ لها خصومةٌ لَم تَبرُدْ مع دولة الإمارات العربية المتحدة بعد أن دَعمَت الأخيرةُ حملةَ خليفة حفتر العسكريةَ على طرابلسَ سنة 2019، لا سيّما أنّ إمارةَ أبوظبي ماطَلَت في إعطائي تأشيرةَ الدخولِ لحضورِ حفلِ الجائزةِ بينما سبقَني زملائي الكُتّابُ إليها بأيام. ثم دعاني القائمون على معرضِ أبوظبي الدوليِ للكتابِ سنةَ 2023 فرُفِضَتْ تأشيرةُ دخولي إلى الإمارة. لَم يَبْقَ للمهاجِمين إلا الاتجاهُ إلى النصِّ ونقدُه ومحاربتُه، وهذا ما حدث. لَم أهتمّ كثيراً بهذا الجَدَلِ لأنني كنتُ منشغلاً بجدلٍ آخَرَ في بلدي ليبيا رأيتُه أكثرَ خطورةً وأخذتُ احتياطي منه، فقد لُدِغتُ مما يشابهه مَرّة.

أمضيتُ شهراً بعد جدلِ كتابِ "شمس على نوافذ مغلقة" في حالةِ رعبٍ وخوفٍ أهربُ من الأماكن العامة وأتوجَّسُ خيفةَ مَن حولي عند وجودي في المقاهي مع الأصدقاءِ، وذلك بعد أن أخبرَني قريبٌ لي، يعملُ في إحدى المجموعاتِ المسلّحةِ في طرابلس، بأنّ إحدى تلك المجموعاتِ تُجهِّزُ "قائمةً سوداءَ" للكُتّاب المشاركين في الكتابِ لملاحقتِهم وحبسِهم. إضافةً إلى المشاكل الاجتماعية التي لاحقَتني طيلةَ وجودي في طرابلس ذلك الشهر، فقد ضغطَ عليَّ أقاربي ولاحَقوني إمّا شامِتين أو متعجِّبين من مشارَكتي في كتابٍ ينافي أخلاقَ المجتمع الليبيِّ المحافِظ. وكنتُ غِرّاً أُحاولُ إفهامَهم ماذا يعني "أدب" وماذا يعني "خيال"، ولكن سُدىً. واستفزَّني ربُّ عملي في مؤسسةِ الشيخ الطاهر الزاوي الخيريةِ ساخراً وهو يقول لي: "شنو يا محمّد، تنشر في الأفكار العلمانية؟" فوجدتُ نفسي مدفوعاً إلى إيجادِ طريقةٍ للخروجِ من ليبيا حتى حينٍ، وفعلاً سافرتُ إلى تونس لأعيشَ في "منفايَ الاختياريِّ" شُهوراً أعيدُ فيها علاقتي مع الأدب والكتابة. وقد كانت الساعاتُ التي أمضيتُها في مطارِ معيتيقة الدولي من أشدِّ الساعات على نفسي، فحتّى يومِنا هذا ما زلتُ أذكرُ مشاعري وأنا أدخلُ المطارَ صحبةَ صديقٍ لي طلبتُ منه أن ينتظرَني خارجَ المطار لأُعلِمَه بتحرّكاتي، وأذكرُ خوفيَ الباديَ من عيني وأنا أُسلِّمُ جوازَ سفري إلى ضابطِ الجوازات وأرمُقُ ملامحَ وجهِه وهو يقرأُ اسمي ويُدخِلُ بياناتي في منظومة الجوازات. وما زلتُ أذكرُ ارتعادَ جسدي وأنا أجتازُ التفتيشَ وأذكرُ جلوسي بكرسيٍّ يُتيحُ لي رصدَ المكانِ كاملاً في قاعةِ الانتظار، فقد تعلّمتُ من ضابطٍ في الجيش الليبي حيلةً قالها لي مرّةً: "لا أُديرُ ظَهري إلّا للحائط". أذكرُ أعدادَ السجائرِ التي التهمْتُها في غرفةِ التدخينِ بقاعةِ الانتظارِ، وما زالت اللحظاتُ التي سبقَت صعودي الطائرةَ حاضرةً أمامي وأنا أكتبُ هذه الكلمات، أعيشُها كأنّني أعيشُها أوّلَ مرّةٍ، فالخوفُ من الاعتقالِ لَمْ يَتلاشَ إلّا عندما أَقلعَت الطائرةُ عن أرضِ مطار معيتيقة الدولي. ولهذا وقبلَ الإعلانِ عن الروايةِ الفائزةِ في البوكر، كنتُ قد اتّخذْتُ احتياطاتي استباقاً لجدلٍ سيُثارُ ما إن فازت روايتي، فرحلتُ عن ليبيا قبلَ ذلك بأيّام.

يذكرُ الكاتبُ واللُّغويُ الليبيُ علي فهمي خشيم في كتابِه "هذا ما حدث" الصادرِ عن دارِ الكتاب الجديد، قصةً حدثَت له في أيامِه الأولى في الصحافة في الخمسينيات عندما نَشَرَ قصّةَ رجلٍ متنبّئٍ في مدينته مصراتة. فيقولُ في الكتاب عن هذا المتنبّئِ "وقد أَكرَمَنا بطاسةِ شايٍ خاثرةٍ، وأَرانا كَوماً من الحجارةِ قال إنّ النبيَّ موسى مدفونٌ فيه وبجانبِه يرقدُ النبيُّ إبراهيمُ عليهما السلامُ، وكلامٌ آخَرُ كثيرٌ. لَم أُقصِّرْ … وبسرعةٍ بَعثتُ إلى الرائد (وهي إحدى الصحف الليبية) بما كان فنشرَتْه تحت عنوانٍ كبيرٍ: نبيٌّ جديدٌ يَظهرُ في مصراتة!" ثمّ يحكي الكاتبُ أنّ القيامةَ قامت، واحتَجَّ الناسُ ونُشِرَتْ مقالاتٌ تهاجمُه وتهاجمُ صحيفةَ الرائد في جريدةِ طرابلس الغرب حتى اختبأ أياماً من غضبِ الناس. يضيفُ علي فهمي خشيم "كانت الدنيا هائجةً وأنا قابعٌ في مربوعَتي (ما يُشبِهُ مضافةَ الرجال) حذراً من النتائج … وكان الأستاذُ البشتي قد رَدَّ على المنتقِدين ردّاً عنيفاً عن حريةِ الرأيِ وواجبِ الصحافةِ أن تنشرَ كلَّ شيءٍ وأيَّ شيءٍ". عندما قرأتُ نصَّ الأستاذِ عليٍّ هذا، وقفتُ عنده ولم يغادِرني، وتعجّبتُ كيف لَم يتحرّكْ رأيُ العِبادِ في ليبيا والعالم العربي بالكلمة المكتوبة قيدَ أُنمُلَةٍ، فلا هم يفرِّقون بينَ التحقيق الصحفيّ وبينَ نقلِ كلامٍ يُصدِّقُه صاحبُه، فكيفَ نطلبُ منهم أن يفرِّقوا بين الخيالِ والحقيقةِ إن كُتِبَ الخيالُ بلسانِ الحقيقة.

أُثيرَ الجدلُ في رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" في ليبيا يوم الخامس والعشرين مايو 2022. وكان مثارُ الجدلِ في البداية مقطعاً في مطلعِها يصفُ فيه الخالُ ميلاد، الشخصيةُ الرئيسةُ في الروايةِ، مشاعرَه وهو يحسُّ بأنَّ ضِلعاً من أضلاعِه قد اختفى، مشبّهاً ذلك الضلعَ بالقصةِ التوراتيّةِ في خَلْقِ حوّاءَ من ضِلعِ آدمَ، فيصفُه بالضلع "الذي اختلسه الله من آدم". جُنَّ جنونُ كثيرين في ليبيا. ومنبعُ غضبِهم أن يصفَ الكاتبُ اللهَ سبحانَه بالمختلس. لاتَ حينَ جِدالٍ لُغَويٍّ في الأمرِ، ولكن ما حدثَ أنّ المقطعَ انتشرَ في وسائل التواصل الاجتماعي في ليبيا فاتّهَمَني كثيرون بالكُفرِ والإلحادِ والتعدّي على الذاتِ الإلهية. وأذكرُ زميلاً لي أيامَ المدرسة الثانوية كتبَ تعليقاً يقول فيه: "أعرفُ هذا الكاتبَ وكان يَدرسُ معي وقد كتبَ كتاباً عن الإلحاد". ولا أعلمُ حتّى اليومِ أيَّ كتابٍ عن الإلحادِ هذا الذي كتبتُه من غيرِ أنْ أُدرِكَ، وما صفةُ الكتاب؛ هل هو يُعادي النزعاتِ الإلحاديةَ أم يروِّجُ لها. وبعد ذلك المقطع تَوالَت مقاطعُ ونصوصٌ من الرواية تَظهرُ فيها "بذاءةُ" بعضِ الشخصياتِ والوصفُ "الإباحيُّ" لبعضِ المشاهدِ بلا خَجَلٍ منّي ولا من الشخصية. وقد هاجَمَ الروايةَ ليبيّون من أطيافِ المجتمعِ من مثقّفين وكتّابٍ وناشرين وشعراءَ وصحفيّين وشخصياتٍ عامةٍ وشخصياتٍ دينيةٍ وصفحاتٍ لها تأثيرٌ عظيمٌ في الرأي العام مثل صفحة "بالتريس" وصفحة "الموسيقار"، وهما صفحتان لهما متابِعون كُثُر. فنادَى الناسُ بحَبْسي ومنعِ كتابي، بل نادَى بعضُهم بقتلي. وانقسمَ الشارعُ الليبيُ بينَ هذه الكثرةِ وقِلّةٍ من المثقفين والكتّاب والصحفيين الذين ينادُون بحمايتي ويطالِبون حكومةَ الوحدة الوطنية بتحمّلِ مسؤوليتِها في الدفاع عن حريةِ التعبير والاحتفاءِ بي. لكنّ الحكومةَ، وممثِّلَتَها وزارةَ الثقافة الليبية ووزيرتَها حَذَفَت، كما توقعتُ، منشوراتِ التهنئةِ بالفوز لكنّها نَسِيَتْ حذفَ منشوراتِ التهنئةِ بالوصول إلى القائمةِ الطويلةِ والقائمةِ القصيرةِ من الجائزة. ويُمكِنُ للمرءِ حتّى يومِنا هذا دخولُ صفحةِ الوزارةِ وقراءَةُ منشوراتِ التهنئةِ هذهِ إلا منشورَ الإعلانِ عن الفوز. وتحصّلَت دارُ الفرجاني قبل ذلك بأيامٍ على عقدِ إعادةِ نشرِ الروايةِ في ليبيا، لكنّ وزارةَ الثقافةِ بعد إعلانِ الجائزةِ ماطَلَتْ في إعطاءِ الدارِ تصريحَ النشرِ، ففَهِمَ صاحبُ الدارِ أنّهم لا يودّون ذلك. ووَصَلَت الأخبارُ إلى عائلتي وأقاربي فانقسَموا كما حدثَ سابقاً بين شامتٍ وغاضبٍ ومتعاطفٍ لا يريد تصديقَ أنني أَتَيتُ بكبيرةِ الكبائرِ. وممّا حدثَ أنّ أحدَ أعمامي حاولَ إقناعَ أبي بمُروقي وكُفري وإتياني هذه الكبيرةَ لكن لَم يؤثِّرْ فيه. عِشتُ أياماً صعبةً بعد ذلك الإعلان، أياماً شكَّكتُ في جدوى الكتابة وفي أنها لعنةٌ صُبَّتْ عليَّ. انهَرْتُ في غرفتي بالفندق في أبوظبي فكنتُ كطفلٍ جاءَ إلى أُمّه فَرحاً بهديةٍ من طينٍ فرَمَتْها في وجهِه وضربَته لتلطيخِه ثوبَها. استمرَّت الحملةُ أياماً وقد قَضَّتْ مضجعي أشهُراً بعدَها، ولا أظنني شُفِيتُ منها حتى يومِنا هذا، فما زالت آثارُها تطاردُني كلّما كتبتُ نصّاً. 

سُحِبَت روايةُ "خبز على طاولة الخال ميلاد" من المكتبات الليبية، وحقّقَت الأجهزةُ الأمنيةُ مع أصحابِ المكتباتِ الذين كانوا يَبيعونَها من غيرِ قرارٍ صادرٍ من الدولة الليبية، فهي ممنوعةٌ بقُوّةِ السلاحِ. وقد حَدَّثَني بعضُ القُرّاءِ في ليبيا أنّهُم اشتروا الروايةَ من "تحت الطاولة" فهي تُباعُ كما تُباعُ المخدِّرات. رجعتُ من أبوظبي إلى تونس وبقيتُ فيها أشهُراً سِتّةً أتخبَّطُ بين الشوقِ إلى ليبيا والخوفِ على نفسي، وممزَّقاً بين الرغبةِ بالعودةِ إلى الكتابة والقرفِ منها، وهارباً من أبناءِ وطني – وهُم كثيرون في تونس – من العاصمة التونسية إلى مدينة الحمامات في عمارةٍ لا يسكُنُها أحدٌ غيري وزوجتي وبعضُ المصطافين على البحر، وأَتَريَّبُ من كلِّ كلمةٍ ليبيةٍ أسمعُها في الشارعِ، ومتشكِّكاً في قُدرتي على الكتابة. 

كنتُ ألتقي بعضَ الأصدقاء من ليبيا في زياراتهم الدوريةِ إلى تونس وقد أخبرَني مَن لَه ارتباطٌ بإحدى الجماعاتِ المسلَّحةِ أنّهم لو وجدوني "سيُفَرِّغون الكلاشن" في جسدي. لكنني لَم أَرغَبْ أبداً في الاستفادة من اللحظة بطلبِ اللجوءِ في إحدى الدولِ الأوروبيةِ، وقد جاءَتني عروضٌ كثيرةٌ من كتّابٍ ومثقفين ليبيّين أرادوا تسهيلَ الإجراءات عليَّ. بقيتُ هناك في الحمامات أصارعُ وحدتي ورغبتي بالعودة إلى الكتابة. ولَم يحدُثْ أن سلّمتُ لمساعدةٍ إلا عند عرضِ عضوةِ مؤسسةِ القلمِ العالميةِ التي تنشغلُ بحمايةِ الكتّابِ في العالمِ أن تساعدَني في إيجادِ حلٍّ لي بعرضِ ملفّي عند لجنةٍ للمؤسسة. وبعد إصرارِ زوجتي عليَّ، والتي كانت ذكيةً كفايةً بتجميع بعض الأدلّة التي تُثبِتُ وجودَ خطرٍ على حياتي في ليبيا، تنازلتُ وأَرسلتُ الأدلّةَ إلى المرأةِ وانتظرناها أياماً وأسابيعَ بلا ردٍّ، حتى وصلَتْني رسالةٌ بأنّ اللجنةَ لا ترى خطراً على حياتي، وذلك لأنّ الحملةَ كانت قد خَفَتَتْ، ولأنّ الأدلّةَ لا تُظهِرُ إلّا جدلاً بسيطاً لا يمثّلُ خطراً عليَّ. فَهِمْتُ حينهَا أنّ قراريَ الأَوّلَ بعدمِ طلبِ المساعدةِ من أحدٍ كان صائباً، وهو قرارٌ أتمسّكُ به حتى هذه اللحظة. وفهمتُ أيضاً أنّ السنواتِ القادمةَ سأعيشُها في صراعٍ دائمٍ مع مجتمعي، وهو صراعٌ أَقبَلُه لأنني ممسوسٌ بداءِ الأدبِ ولأنني مؤمِنٌ بأنّ عليَّ أن أَقُصَّ ما حَيِيتُ وربما لأنني ما زلتُ أعيشُ على نوعٍ من الفطرةِ الإنسانيّة التي لا طَويّةَ لها – صدِّقْ أو لا تصدِّقْ – ولا رغبةَ لها إلا الأَسْطرةُ والحَكْيُ حُبّاً في الحكايةِ، وحُبّاً في الفهمِ والتساؤلِ، لا حُبّاً في تمريرِ مواعظَ أو مواقفَ سياسيةٍ أو حقوقية. وهذا ما دفعَني في الأصل إلى كتابةِ رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" وتسطيرِ كلِّ ما أكتبُه. 

لَم تكُن روايتي الأُولى التي مُنعَت في ليبيا وشُوِّهَ كاتبُها وعِرضُه وأُكِلَ لحمُه. فقدَ سَبقَتها رواياتٌ عدّةٌ كروايةِ "للجوع وجوهٌ أُخرى" للكاتبة وفاء البوعيسي سنة 2007 التي أثارت جدلاً دينياً عند نشرِها، فندّدَ بها خطباءُ المساجدِ لِما رَأَوهُ مِن تهجّمِ الكاتبة على المسلمين وسخريتِها من شعائرهم الدينية ودعوتِها إلى المسيحية. فما كان مِن الكاتبةِ إلا أن غادرَت ليبيا وسكنَت في هولندا زمناً. وحدثَ الأمرُ نفسُه لروايةِ "العلكة" للكاتب منصور بوشناف عند نشرِها في 2008، فقد مُنِعَت من النشرِ مرّتَيْن. الأُولى عند نشرِها أوّلَ مرّةٍ بعنوان "سراب الليل". والثانيةُ إثرَ إعادةِ نشرِها بعد الثورة الليبية على نظامِ معمّر القذّافي. ومُنِعَت كتبٌ ليبيةٌ كثيرةٌ من روايةٍ وشِعرٍ وتاريخٍ في عهد القذافي أو عهد المملكة الليبية أو حتى عهد فبراير. فقد مَنَعَت إدارةُ المطبوعات والمصنَّفات الفنّية الليبية بوزارة الثقافة في عهدِ حكومة الوحدة الوطنية توزيعَ مجموعةِ "المكحلة" القصصية للكاتب أحمد يوسف عقيلة سنة 2023. إلا أنّ روايتَيْ "خبز على طاولة الخال ميلاد" و"شمس على نوافذ مغلقة" لم تُمنعا رسمياً، إذْ لا يوجدُ على حدِّ عِلمي قرارٌ من الدولة الليبية بمنعِهما، بل مُنِعَتا بضغطِ الشارع وبقوّةِ السلاح.

يَذكرُ لي ناشرون ليبيون وأصحابُ مكتباتٍ بأن الأجهزةَ الأمنيةَ في العاصمة طرابلس تزورُهم بين الفَينةِ والأُخرى وتُضيِّقُ عليهم مرّاتٍ عدّةً، وقد حُقِّقَ مع أحدِهم لأنّ فتاةً قارئةً مَرَّتْ على مكتبتِه فرَأَتْ روايةً من أدبِ الرعبِ اسمُها "أنتخيرستوس" للكاتب أحمد خالد مصطفى في الرفوفِ فبَلَّغَت عنه وحقّقَتْ معه إحدى الأجهزةِ الأمنيةِ لبيعِه كتاباً يروِّج للأفكارِ الماسونيّة. 


عُدتُ إلى طرابلس في نوفمبر سنة 2022. كانت رحلةُ العودة تلكَ محفوفةً بالمخاطر. ووجدتُ نفسي أمامَ واقعٍ نفسيٍ عجيبٍ لا أَهدأُ فيه. فقد كنتُ وما زلتُ حتى يومنا هذا أنظرُ إلى مرايا سيّارتي قلقاً بين الحينِ والآخَرِ مخافةَ أن يَتبَعني أحد. فأنا أعيشُ في ليبيا في رُهابٍ مستمرٍّ خشيةَ الخطفِ. لكنني عندما أكتبُ أنسى كلَّ شيءٍ؛ مخاوفي والرقيبَ، وأكتبُ لأنّ الروحَ الفطريةَ تلك تتملّكُني. لا أريد أن أعطيَ دروساً في الأدبِ وما الذي يعنيه لأحدٍ، ولا أرغبُ حقّاً في أن أكون ضحيّةً وأَتَّهِمَ النّاسَ بالجهل والخوف من الخيال، ولا أن أخوضَ حروباً وعْظِيةً أطالِبُ فيها بالحقِّ في حريّةِ التعبيرِ، إذْ إنني أَرَى أهمَّ تعبيرٍ عن هذه الحرية هو فِعْل الكتابةِ بعينِه. 

وحتى لا نُوغِلَ في جَلدِ الذّات، فالظاهرةُ ليسَت عربيةً فحسبُ. إذْ أنّ الرقابةَ على الخيالِ والأدبِ تنتشرُ في العالَمِ أجمَع. بل إنّ رقابةَ اليساريين في الغَربِ تضاهي رقابةَ اليمنيين، فلا ينقضي عامٌ إلا ويَمُرُّ بي خبرٌ عن جدلٍ في موقفِ أحدِ فنّاني كوميديا "الستانداب" في الولايات المتحدة لطُرفَةٍ قالَها. وقد وَجدتُ نفسي في نقاشاتٍ، بسبب موقفي هذا، مع يساريين يطالِبونني بالوقوفِ معهم من أجلِ حريةِ التعبيرِ، وأن يكونَ الكاتبُ متفاعلاً مع قضايا مجتمعِه، فهم يعتقدون أنهم أوصياءُ على ما أكتبُه أو أودُّ روايتَه، كما يعتقدُ المحافِظون. الجميعُ منغمِسٌ في الثباتِ على موقفِه والنظرِ إلى الأمورِ بعينِه لا بعينِ الآخَرين. أمّا أنا فأضعُ نفسي دائماً في موقفِ نُقّادِي وأولئك الذين عبّروا يوماً عن رغبتِهم في قتلي، لأنني أودُّ فهمَهم وتفهُّمَهم. وقلّما يجدُ المرءُ إنساناً يؤمِنُ بالكتابةِ أسلوبَ حياةٍ يُمكِنُه تجريدُها من المواقف السياسية والدينية ولا يَربِطُها بشخصِ الكاتب نفسِه. وقلّما أجدُ إنساناً يمكنني أن أحدّثَه عن تلك المشاعر العظيمة بين الألمِ والفرحةِ التي تراودُني عندما أكتب. هذا لأننا في العالم العربي لَم نَعِ أنّ الكتابةَ والقراءةَ بالحقِّ فعلٌ فرديٌّ. وممّا يُثبِتُ نظريّتي هذه أنّني في أبوظبي اجتمعتُ مع ناشري، الأستاذِ شوقي العنيزي صاحبِ دارِ مسكلياني، والذي كان للُطْفِه يحاولُ حمايتي، فاقترحَ عليَّ أن نحذفَ عبارةَ الاختلاسِ التي كانت أكثرَ العباراتِ جدلاً في الروايةِ، فرَفضْتُ اقتراحَه هذا. ولكن بعدَ أشهُرٍ في جولةِ دعايةٍ للكتابِ وجدتُ نسخةً أصليةً من نُسَخِ الكتابِ قد غُيِّرَت فيها الكلمةُ إلى "أَخَذَ" فغَضِبْتُ، لكنّني لَم أُراجِع الأستاذَ شوقي في الأَمرِ حتى اليوم، لأنني كنتُ أعرفُ أنّه فعلَ ذلك بنِيّةٍ حسنةٍ. ومِن عجيبِ ما حصلَ للرواية أن انتُقِدَت من معسكراتٍ فكريةٍ متضادّةٍ. فأذكرُ أنّ هناك مَن نَقَدَ الروايةَ لأنها نِسْويةٌ أكثرَ من اللازمِ، بينما هناك من رَأَى الروايةَ ذكوريةً. وقيلَ عنها إنّها خجولةٌ غيرُ جريئةٍ مثلما قِيلَ إنّها بذيئة.

ما أكثرَ ما تفعلُه النيّاتُ الحسنةُ، فالطريقُ إلى الجحيمِ معبَّدٌ بها، على رأيِ المقولةِ المشهورة. وأنا مُدرِكٌ بأنّ كثيراً من المتصارعين في الخيالِ وفَنِّ الروايةِ تقودُهم نِيّةٌ حسنةٌ إمّا في "حفظِ قِيَمِ الأسرةِ العربية" أو "تحريرِ الوعيِ العربي" كما يحلو للفريقَين أن يَدَّعي. أَثَّرَ الجدلُ المُثارُ في رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" بعد فوزِه بجائزة نوبل في الرجلِ جسدياً ونفسياً. فقد واجَهَ محاولةَ اغتيالٍ مِن أحدِ المدفوعين بتلك النِيّاتِ الحسنة. ويَشِي آخِرُ ما كَتَبَه العمُّ نجيب في كتابه "أحلام فترة النقاهة" بالأثرِ العظيمِ الذي تَركَتْه الحادثةُ في نفسِه. ومُنِعَت "أولاد حارتنا" من النشرِ زمناً. محمد شكري صاحبُ "الخبز الحافي" قال رَدّاً على منتقِدِيه: "أنا أكلتُ من القُمامةِ ونِمْتُ في الشوارع فماذا تَنتظرون منّي أن أَكتُبَ؟ عن الفراشات؟" وكأنّ على الكاتبِ أنْ يُبرِّرَ ما يكتُبُه. ولهذا أَدَّعي بأنّني أُدرِكُ تماماً ما تَمُرُّ به الكاتبةُ إنعام بيّوض الآنَ، وأَتخيّلُ أَلَمَها وغضبَها وحزنَها، وربما خوفَها على نفسِها. فالكُلُّ يريدُ أن ينهشَ لحمَها أو لحمَ روايتِها. والكُلُّ يريدُ أن يَجتَرَّ الجَدَلَ نفسَه من غيرِ الالتفاتِ إلى ما قد يُغيِّرُه هذا في المبدِعين أنفسِهم. لقد فَقَدَتْ ليبيا بعد كتابِ "شمس على نوافذ مغلقة" كُتّاباً وكاتباتٍ من الجيل الجديدِ الذين كان الأَحرَى أن يصبِحوا محلَّ حفاوةٍ وتشجيع. وأَعرفُ كُتّاباً وكاتباتٍ توقّفوا عن الكتابةِ بسببِ ذلك الكِتاب. وبسببِه تَطرّفَ بعضُ الكُتّابِ إلى أقصى اليسارِ. وبعضُهم عَجَزَ عن النشرِ. وتَغرَّبَ آخَرون ولَجَؤوا إلى دولٍ أُخرى خوفاً من الملاحَقةِ تارِكِين بيوتَهم والأرضَ التي وُلِدوا وتَرَعرَعوا فيها. 

اشترك في نشرتنا البريدية