الإفريقيون يستذكرون التشادي أوتيل بونو في نضالهم الجديد ضد الهيمنة الفرنسية

بينما يتظاهر التشاديون ضد النفوذ العسكري والاقتصادي الفرنسي، فإنهم يستحضرون تجربة نضال أوتيل بونو الذي نادى بالمَطالب نفسها حتى اغتياله سنة 1973

Share
الإفريقيون يستذكرون التشادي أوتيل بونو في نضالهم الجديد ضد الهيمنة الفرنسية
(تصميم: حاتم عرفة / الفِراتْس)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

خَرَجَ آلافُ التشاديين جُلُّهم من الشباب إلى شوارع العاصمة التشادية أنجامينا يردّدون "تشاد حُرَّة، فرنسا بَرَّه" في الرابع عشر من مايو 2022. كانت تلك أوّلَ مظاهرةٍ كبيرةٍ في البلاد منذ عقودٍ، وشارَك فيها الشماليون والجنوبيون معاً إذ صرخوا بصوتٍ واحدٍ مطالِبين فرنسا الخروجَ من الأراضي التشادية. لَم أَرَ في حياتي مسيرةً بهذا الحجم معارِضةً وجودَ القواتِ الفرنسيةِ وقواعدِها العسكرية في تشاد. كنتُ أعرفُ كثيراً من الشباب، التقيتُ بعضَهم في الجامعة وأعرفُ وجوهَهم، لأننا نعيش في مدينةٍ صغيرة.

كنتُ أقرأُ مُسَوَّدةَ روايةِ "غراميّاتٌ استثنائيةٌ وفادحة" للروائي والمترجم السوداني عاطف الحاج سعيد، حين وصلني خبرُ المظاهرة. تَسردُ الروايةُ قصصَ مهاجرين إفريقيين يحلمون بعبور قناة المانْش الفاصلة بين بريطانيا وبقيّة أوروبا، وهم قابعون في غابةِ كاليه الفرنسية. غادرتُ مكتبَ المنصّةِ الإخباريةِ التشاديةِ أنجام بوست الناطقةِ بالعربيةِ والفرنسيةِ، التي أعمل فيها محرّراً صحفياً. وصلتُ إلى مكانِ التجمّع ومَشَيتُ معهم وأنا أقرأ الشعاراتِ "لا لوجودِ القواعدِ الفرنسية" و"إن حمايةَ تشاد تقعُ على عاتقِ أبنائها وليس القواعد الأجنبية" وشعاراتٍ أُخرى تتّهم فرنسا بسرقةِ خيراتِ البلاد. كنتُ أستمعُ للهتافات وأُوَجِّه المصوِّر.

تلك المظاهرةُ جزءٌ من حراكٍ إفريقيٍ كبيرٍ سُمِّيَ "الربيع الإفريقي"، إذ بدأَت المطالباتُ بأن ترحلَ فرنسا مِن السنغال، وواصلَ الحراكُ انتشارَه حتى مالي والنيجر وبوركينا فاسو، لتسقطَ الأنظمةُ المواليةُ لفرنسا. ففي السنغال أَتَت المظاهراتُ بحزبِ "سونكو" المنادي بالوحدة الإفريقية الشاملة إلى الحُكم عقبَ مظاهراتٍ وعصيانٍ شعبيٍ وانتخابات. وفي غينيا أَسقطَ الحِراكُ الرئيسَ السابقَ ألفا كوندي. وفي مالي أتى الربيعُ الإفريقيُ بمجلسٍ عسكريٍ بقيادة العقيدِ أسيمي غويتا. وفي النيجر أُرسِلَ الرئيسُ السابقُ محمد أبو عزوم، أو بازوم كما يَنطقه بعضُ الأفارقة، إلى غياهبِ السجن لتصبحَ البلادُ تحت قيادةِ مجلسٍ عسكريٍ أدّى تسنّمُه السلطةَ إلى أزمةٍ سياسيةٍ بينه وبين فرنسا. حصلَ الأمرُ نفسُه في بوركينا فاسو التي صار يحكمُها مجلسٌ عسكريٌ بقيادة الضابط الشّابِّ إبراهيم تراوري. وفي معظمِ هذه الدول طُرِدَت القواعدُ الأجنبيةُ، وآخِرُها كانت النيجر التي طَردَت القواتِ الفرنسيةَ ثم الأمريكيةَ التي تَنشطُ هناك بحُجّةِ محاربةِ الإرهاب.

تُعَدُّ انتفاضةُ بوركينا فاسو في أكتوبر عام 2014 بدايةَ الربيع الإفريقي. وهي انتفاضةٌ مَنَعَت الرئيسَ بليز كومباوري من تعديلِ الدستور ليواصلَ البقاءَ في الحُكم بدعمٍ من فرنسا، وقد أَدَّت المظاهراتُ الشعبيةُ إلى فِرارِه إلى السنغال. لكنّ فصلَ الربيعِ شهدَ ركوداً حتى أغسطس عام 2020، حين انقلبَ عسكريون ماليّون على حكومةِ إبراهيم أبوبكر كيتا، وذلك بحجّةِ أن الرئيسَ المدنيَ لا يدعمُ الجيشَ الذي يواجِهُ الإرهابيين. وقد سوّقَ الانقلابيون حجّةَ أنّهم في خطِّ المواجهة مع الإرهابيين بينما كان الرئيسُ يمنعُهم من الدخول إلى بعض المناطق بحجّةِ كونِها خطوطاً حمراءَ مع أنّ القواتِ الفرنسيةَ تنشطُ فيها. وقد تحجّجوا أيضاً بأنّ الفرنسيين كانوا يوفِّرون الدعمَ والسلاحَ والحمايةَ للإرهابيين، ممّا دفعَهم إلى القيام بانقلابٍ ضدَّ الرئيس الذي يتحرّكُ بأوامرَ من قصرِ الإليزيه في باريس.

دخلَ المجلسُ العسكريُ الجديدُ في مالي حرباً مع المجموعة الاقتصادية لدولِ غربِ إفريقيا، المعروفةِ بِاسمِ إيكواس، التي كان يقودُها آنذاك رئيسُ ساحل العاج الحسن وتارا. وبضغطٍ من فرنسا فَرضَت المجموعةُ عقوباتٍ اقتصاديةً وحصاراً على جمهوريةِ مالي، ما دفعَ السلطةَ الانتقاليةَ إلى المطالَبةِ بمغادرةِ فرنسا أراضيها. وهبَّ الشعبُ في حملاتٍ ومظاهراتٍ شعبيةٍ تسبّبت في مغادرةِ القوات الفرنسية المتمركزةِ في البلاد. طالَبَت السلطاتُ فرنسا بمغادرةِ البلاد ثم استبدَلَت بها قوّاتَ فاغنر الروسيّةَ حين توجّسَت من تدخلٍ إقليميٍ بإيعازٍ من فرنسا، وذلك بعد تجاذُباتٍ معها، إذ لَم يُصدِّق الفرنسيون أنه يمكن لمالي طردُ جنودِهم من أراضيها.

فَتَحَ كلُّ ذلك شهيّةَ ملايين الإفريقيين الذين حَلُموا برؤيةِ فرنسا ذليلةً، لأنها أذلّتهم باستعمارها ثم بدعمها حكوماتٍ تأتمرُ بأمرِها. انتقلَت الشرارةُ إلى كثيرٍ من الدول المجاورة، وكانت جُلُّها تندِّد بوجودِ القواعد الفرنسية في إفريقيا وتتّهمُها بدعم الإرهابيين بالسلاح كي تجدَ مبرّراً للبقاء. وفي أوساطِ المنادين بالوحدة الإفريقية، قادَ مجموعةٌ من النشطاءِ في أوروبا وفي مواقع التواصل الاجتماعي حملةً إعلاميةً شرسةً على فِرنسا، وكانت أبرزُهم نتالي يامب المعروفةُ بِاسمِ "سيدة سوتشي"، وهي ناشطةٌ كاميرونيةٌ سويسريةٌ، واشتهرَت عقبَ مشاركتِها في مؤتمر سوتشي بروسيا حيث انتقدَت الاستعمارَ الفرنسيَ ووجودَ الفرنسيين. وكان من هؤلاء الناشطُ كيميه سيبا من جمهوريةِ بِنين، المُكرِّسُ جهودَه كلَّها لمحاربةِ عُملاتِ "فرانكا سيفا" التي تستخدمها أربعُ عشرةَ دولةً إفريقيةً وتُطبَعُ في فِرنسا التي تأخذُ نصفَ قيمةِ العملة.

نتجَ عن الربيع الإفريقي بمظاهراته وانقلابِ الموازين السياسية فيه خروجُ كلٍّ من النيجر ومالي وبوركينا فاسو من اتفاقيةِ إيكواس، وهي ضربةٌ قَضَت على آمالِ فرنسا في العودةِ إلى هذه البلدان التي عَرفَت ثوراتٍ وانقلاباتٍ على أنظمةٍ لها علاقاتٌ قويةٌ معها، إذ أصبحَت المطالبُ الأولى للسلطاتِ الجديدةِ في هذه البلدان طردَ القواتِ الفرنسيةِ من أراضيها. 

ويطالِبُ أبناءُ شعوبِ دولِ الساحلِ والصحراءِ بمغادرةِ فِرنسا للمنطقة لأنهم يعتقدون أنها السببُ في وجودِ الإرهاب والجماعات الجهادية. وقد زعمَ العسكرُ الذين نفَّذوا الانقلابَ تِلْوَ الآخَرِ أنهم جاؤوا ليُلبّوا رغباتِ الشعوبِ. وقد أَغضَبَ هذا فِرنسا فعَدَّتْ جهاتٌ سياسيةٌ وشعبيةٌ فيها هذه الانتفاضاتِ "شعوراً معادياً لفرنسا"، إذْ لا تريد تَركَ إفريقيا لأنها ستَتْرُكُ معها عقودَها في النفط واليورانيوم والحديد ومعادنَ أُخرى ومواقعَ إستراتيجيةٍ، وتخافُ أن تَحُلَّ روسيا والصينُ محلَّها.

في مظاهرةِ ذلك اليومِ من مايو 2022 توقّفَ الجمعُ في شارعٍ وبدأَ زميلي في الجامعة يَخطُب في الناسِ باللغة العربية. صادَفَ أنّنا كنّا في شارعٍ صغيرٍ في الدائرة الثامنة في حيّ دقيل رياض خلفَ فندقِ "كمبينسكي" أو "ليدجر بلازا"، أوّلِ فندقٍ راقٍ في العاصمة التشادية أنجمينا، بَناه نظامُ العقيد الليبي الراحلِ معمّر القذافي. كان اسم الشارع الذي يقع فيه الفندق "شارع دكتور أوتيل بونو". وأوتيل بونو هو المناضل التشادي الذي أفنى حياته حالماً بإنهاء الهيمنة الفرنسية على إفريقيا.

لَم تكُن هذه أوّلَ مظاهرةٍ معارِضةٍ للوجودِ الفرنسيِّ في تشاد. إذ سبقَتها مظاهرةٌ نظّمَها الطبيبُ أوتيل بونو قبل أكثرَ من نصفِ قرنٍ تُعارِضُ الاستعمارَ الفرنسيَّ والرئيسَ فرنسوا (أو إنغرتا كما سمّى نفسه لاحقاً) تومبالباي الذي اتّهَمَه معارِضوه بأنّه كان رَجُلَ فرنسا في تشاد عندما أصبحَ رئيساً للبلاد في أغسطس 1960. شَخّصَ الطبيبُ المرضَ باكراً وحاولَ علاجَه، لكنه قُتِلَ لإسكاتِه كما تحاولُ فرنسا الآنَ إسكاتَ الأصواتِ المعارِضةِ لها في القارّة الإفريقية بتدبيرِ الانقلابات على من يرفعُ رايةَ الانفصالِ التامِّ عنها وبتمكينِ كلِّ من يَخطبُ وُدَّها. 

هذه المظاهراتُ تذكِّرُنا بأنّ كثيراً من القضايا التي ناضلَ من أجلِها بونو وعلى رأسِها التحرُّرُ من تبِعاتِ الاستعمار لا تزال قائمةً وهو ما يجعل النظرَ في سيرةِ هذا المناضلِ الإفريقيِ أمراً مُلحّاً. 


وُلِدَ أوتيل تشيرا بونو لأسرةٍ فقيرةٍ في عام 1934 بمدينة أَرْشامْبول، التي صار اسمُها "سار" بعد ثورةِ تومبالباي الثقافية. وفارقَ الحياةَ في 26 أغسطس 1973 في باريس. عند دخوله ابتدائيةَ المدرسةِ المركزيةِ عام 1940 في فور لامي، وهو اسمُ أنجامينا وقتَها، برزَ التلميذُ النجيبُ بين أقرانه وحصدَ المركزَ الأولَ سنواتٍ إلى أن وصلَت برقيةٌ من وزارة التعليم الفرنسية إلى إدارة المدرسة في سنة 1946 تقول: "نطلبُ منكم ترتيبَ إجراءاتِ نقلِ التلميذَين لوي فيردي [وهو ابنُ إداريٍّ فرنسيٍّ] وأوتيل بونو إلى فرنسا لنتائجهما الباهرة". في تلك السنوات كانت فرنسا تنقلُ التلاميذَ التشاديين النجباءَ إلى مدارسِها كما حدثَ لمصطفى سعيد بطلِ روايةِ "موسم الهجرة إلى الشمال"، للكاتب السوداني الطيّب صالح، حين نقلَته الإدارةُ الإنجليزيةُ من الخرطوم إلى القاهرة ثم إلى لندن.

درس أوتيل بونو في مدرسةٍ إعداديةٍٍ بمدينة بوردو في الجنوب الغربي لفرنسا، ثمّ درسَ الثانويةَ في محافظة كاهور غيرَ بعيدٍ عن نهر اللوت. وحصلَ على الشهادة الثانوية في سنة 1953 فالتَحَق إثرَها بكلّية الطبِّ والصيدلةِ في مدينة تولوز وتخرَّج منها سنة 1960 طبيباً بدرجةِ امتيازٍ، وكان الأوَّلَ في دفعتِه. كان الرجلُ من أوائلِ الأطباءِ في البلاد، وسيصبح بعد ذلك مِن أشرسِ المعارضين لنظامِ تومبالباي وللوجود الفرنسي في تشاد. لم تكن سنواتُه السبعُ كلُّها للدراسة ونَيلِ الامتياز، فقد تعرَّفَ بناشطِين في حركة اتحاد طلاب دول إفريقيا السوداء، وهو اتحادٌ يجمع كلَّ الطلّاب الإفريقيين الذين يدرسون في فرنسا.

نَتَجَ اتحادُ الطلاب هذا عن مؤتمرَي ليون وبوردو في سنة 1950، وكانت سلسلة مؤتمراتٍ عُقِدَت في المدينتين من أجل توحيد اتحادات الطلاب الإفريقيين في فرنسا كافّةً، ورفعِ المطالباتِ من مسألةِ المِنَحِ والإسكانِ إلى الالتزام السياسي بالوقوف مع الجزائريين في حرب التحرير الجزائرية. وطالَبَ الاتحادُ باستقلال الدول الإفريقية عن الاستعمار الفرنسي والإمبريالية الغربية. ضمّ الاتحادُ أكثرَ من ثلاثة عشر ألف طالبٍ إفريقيٍ، أغلبُهم من المثقفين أمثالِ ألفا كوندي الذي صار رئيساً لغينيا في أولِ انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ في بلاده، وليوبولد سيزار سينغور الذي صار أولَ رئيسٍ للسنغال، وأوتيل بونو وهو من أهمِّ المعارضين للهيمنة الفرنسية في ستينيات القرن الماضي.

انتشرت اليومَ فكرةُ وجوبِ طردِ فرنسا من إفريقيا كما حصلَ في بدايات تأسيس اتحاد طلاب دول إفريقيا السوداء. يمثِّلُ الاتحادَ ذاتَه اليومَ ناشطون يعيش بعضُهم في فرنسا وأوروبا، ويستخدمون خطابَ اتحادِ أوتيل بونو نفسه، لكنهم ينشطون في مواقع التواصل الاجتماعي وبدعمٍ من حالةِ سخطٍ في المجتمعات الإفريقية المثقّفة، وذلك لتَصاعُدِ فكرةِ الوحدة الإفريقية واللهجة الاستحقارية لفرنسا غيرِ الراصدةِ تَغيُّرَ مُجرَياتِ الأحداثِ في العقودِ الأخيرة. كان لروسيا أثرٌ عظيمٌ ودعمٌ لهذه الخطاباتِ المطالِبةِ تَرْكَ العملةِ المرتبطةِ بفرنسا وطردَ القواتِ الفرنسية من أراضي إفريقيا. مَرّةً أُخرى يتّحد إفريقيون من دولٍ استعمرَتها فرنسا للمطالبة بالاستقلال التامّ من هيمنتِها لأنهم يعتقدون كما اعتقَدَ بونو ورفاقُه من قبلُ أنّ فرنسا سببُ تخلّفِ دُولِهم هذه.

انضمَّ أوتيل بونو إلى اتحاد طلّاب دول إفريقيا السوداء، ثمّ إلى الاتحاد العالمي للطلاب، ما بَصَّرَهُ نيّةَ المستعمِر. حاوَرَ مثقّفِيه ونُخبتَه السياسيةَ وفَهِمَ ما يُخطَّطُ له في إفريقيا حتى بعد الاستقلال الذي أرادته فرنسا شكلياً. تعرّفَ في فرنسا على المناضل السنغالي سيني نيانغ الذي واصلَ النضالَ للديمقراطية في بلاده السنغال فسُجِنَ مرّاتٍ ونُفِيَ حتى حصلَ على العفو من سينغور بعد تولّيهِ رئاسةَ السنغال المستقلّةِ سنة 1960. واحتَكَّ أوتيل بالحقوقيِّ الإيفواريِّ فرانسيس ودييه المطرودِ من فرنسا ليواصلَ العملَ النضاليَ في بلاده ساحل العاج فأسَّسَ أهمَّ نقابةٍ فيها، نقابةَ الباحثين في التعليم العالي، ومارسَ ضغطاً على الحكومة حتى اضطُرَّ إلى الهروب إلى الجزائر قبل أن يعودَ ليصبحَ عميداً لكلية القانون ومؤسِّسَ "الرابطة الإيفوارية" لحقوق الإنسان وممثِّلَ منظمةِ العفوِ الدوليةِ في بلاده. وقد ارتبطَ أوتيل بونو بهؤلاء في القضيةِ والقَدَرِ، فعاشَ مثلَهم في معركةٍ دائمةٍ مع السلطات التشادية. كان اتحادُ طلّابِ دولِ إفريقيا السوداء يضمُّ نخبةَ الطلابِ الإفريقيين الذين عرفوا جميعُهم السجنَ فيما بعدُ، ولَم يتمكّن غيرُ اثنين منهم من الوصولِ إلى السُلطةِ في أوّلِ انتخاباتٍ حُرَّةٍ ونزيهةٍ في بَلديْهما. 

في اتحادِ الطلابِ بَرَزَ نجمُ طالبِ الطبّ الذي بدا كطالبٍ في كلية العلوم السياسة لخطاباته القويةِ ووعيِه الكبيرِ بضرورةِ استقلالِ القارّة. اقتنَع في لقاءاته ونقاشاته مع مثقفين إفريقيين بالعودة إلى تشاد ليكونَ قريباً ممّا تعانيه الشعوبُ الإفريقيةُ، لذا قرّرَ الرجوعَ إلى وطنِه في سنة 1957 بحُجّةِ الإجازة السنوية ورؤيةِ الأهلِ مُخفِياً هدفَه في توعية الشعب التشادي بضرورةِ الثورة. يروي المؤرِّخُ الحاجّ غاروندي عن تلك الأيام في كتابه "شهادة مناضل من فرولينا" المنشورِ في مارس 2007 من دارِ لارماتان الفرنسية للنشر: "سمعتُ عن وصولِه [يقصد بونو] وعَقدِه مؤتمراتٍ ولقاءاتٍ مع الطلاب في خريفِ سنة 1957، كنتُ في الثانوية ولَم أَلْقَهُ، لكنّي لقيتُه في السنةِ التي بعدَها حين وصلَ إلينا في سبتمبر سنة 1958. كنتُ في مدينةِ أبشة وسمعتُ عن محاضرته فقادَني الفضولُ إلى الذهاب إلى الغرفة التجارية يومَ السادس والعشرين من سبتمبر، أي قبلَ ثمانٍ وأربعين ساعةً من الاستفتاء الدستوري، وهناك رأيتُه وسمعتُه يتحدث عن القانون الدستوري وكأنه قَضى كلَّ تلك السنوات يدرسه".

جذبَ ثراءُ إفريقيا بالموادِّ الأوليةِ والمعادنِ الحيتانَ الكبيرةَ إلى السوق الإفريقي، لا سيّما الصين، كما دفعَ الروسَ إلى السعي للحصول على موطئ قدمٍ في المنطقة. وجودُ هذه الدول وبشروطٍ تعاونيةٍ وعادلةٍ بلا أيّ استعلاءٍ جعلَ الدولَ الإفريقيةَ تفكّرُ بالابتعادِ عن فرنسا التي لا تُعطي شيئاً ولا تَدعمُ إلا بمقابلٍ ثمينٍ، بينما يرى أهلُ دولِ الساحل والصحراء أن الصينَ تبني جسوراً وسِككاً للحديد ومشروعاتٍ في البنيةِ التحتيةِ في شرق إفريقيا، فدَفَعَهم وجودُ البدائل إلى النفورِ من اللغة الاستعلائية والشروطِ الكثيرةِ للفرنسيين. 

هذا شيءٌ يوضِّحه موقفُ الرئيسِ الفرنسيِ السابقِ نيكولا ساركوزي في السادس والعشرين من يوليو 2017 داخل أروقةِ جامعةِ شيخ أنتا ديوب في العاصمة السنغالية داكار أمام مجموعةٍ من الطلاب، إذ قال لهم: "لا يمكن لأحدٍ أن يطلبَ من أجيال اليوم التكفيرَ عن جريمةٍ ارتكبَتْها الأجيالُ السابقةُ، ولا يمكنُ لأحدٍ أن يطلبَ من الأبناء أن يندموا على أخطاء آبائهم". هذا التعليقُ أَزعجَ ملايين الإفريقيين الذين يرَوْنَ أنه يجبُ على المستعمر أن يعتذرَ ويُعوّضَ الضحايا. وحين وصلَ إيمانويل ماكرون إلى السلطةِ أكَّدَ التحوّلَ في السياسات مع إفريقيا، ورغبةَ بلاده في تَرْكِ "الإرث الاستعماري" وتعزيزِ علاقةٍ جديدةٍ متوازنةٍ ومتكافئةٍ، لكن بَدَتْ للإفريقيين أنّ وعودَ ماكرون كانت كاذبة. 

وكما جمعَ الاتحادُ كثيراً من الإفريقيين في زمنِ أوتيل بونو، اتّحدَت كلٌّ مِن مالي والنيجر وبوركينافاسو حين فَرَضَت مجموعةُ دولِ غربِ إفريقيا عليهم عقوباتٍ، وقد أُشيعَ أنّ ثمّةَ مساعٍ لإنشاء "كونفدراليّة" أي اتحاديةِ دولٍ بين البلدان الثائرة. وقد مَنَعَ التضامنُ الإفريقيُ وخطابُ النشطاءِ والدعمُ الشعبيُ لقادة الانقلابات والدعاوى إلى الوحدة التدخلَ العسكريَ الذي أرادته فرنسا في كلٍّ من مالي والنيجر، وقَضَت على العقوبات التي تلاشت مع الوقت.

وهذا يعيدُنا إلى أوتيل المشارِك في مؤتمرٍ للحزب الإفريقي للاستقلال، وهو حزبٌ أُسِّسَ في السنغال وفتحَ فروعاً إقليميةً في دولٍ إفريقيةٍ عدّةٍ، وانضمَّ أوتيل إليه سنة 1958 لتوافُقِه مع ميولِه اليساريةِ اللينينيّةِ، نسبةً إلى لينين قائدِ الثورة البلشفية، لكنّ ما ربطَه بالحزب أكثرَ هو اهتمامُه بقضايا السُودِ وسعيُه إلى توحيدِ الإفريقيين ومحاربةِ الاستعمار. وقد آمَنَ معه مثقفون إفريقيون بمقاصدِ الحزب الإفريقي، منهم الكاتبُ محمود ديوب الذي نظَّمَ أولَ إضرابٍ في السنغال، والماليُّ أحمدو سعيدو تراوري، وموديبو كايتا الذي أصبحَ رئيساً لمالي من الحزبِ نفسِه. لكن لَم يلبثْ أن أكلَ الحزبُ بعضُه بعضاً، وكأنَّ قَدَرَ الإفريقيين ألّا يجتمعوا. 


قَرّرَ أوتيل العودةَ إلى تشاد مرّةً أُخرى، وعَدَّ مسألةَ توعيةِ الشعب ودَفْعَهُ إلى الاستقلالِ مسؤوليتَه، لا سيّما بعد الإعلانِ عن "قانون ديفير الإطاري" وهو قانونٌ صدرَ عن الوزارة الفرنسية لما وراءَ البحارِ، أي المستعمَرات، في الثالث والعشرين من يونيو سنة 1956 وسُمِّيَ بِاسم غاستون ديفير وزيرِ الخارجيةِ بفِرنسا آنذاك. أَعطى القانونُ السلطةَ التنفيذيةَ التي كانت في يد فرنسا حقَّ اختيارِ أعضاءِ مجالسِ الحُكمِ والبرلماناتِ، ما يَمنعُ وصولَ معظمِ الإفريقيين إلى تمثيلِ مجتمعاتِهم فيَظلُّ الاختيارُ بين نخبةٍ اختارَتها فرنسا لتحكمَ البلدانَ الإفريقية. 

انتقلَ بونو إلى تونس في نهايات سنة 1958 واشتغلَ في مدينة سوسة الساحليّة، فأمضى زمنَ تدريبِه الطبّيِ هناك. وفيها اتصلَ بقادةِ الثورةِ الجزائريةِ الذين كَنَّ لهم كثيراً من الإعجاب، وأقامَ صداقاتٍ قويةً مع الوطنيين الجزائريين. كان أوتيل معجباً جداً بالثورة الجزائرية ورآها نموذجاً يجبُ احتذاؤه في كلِّ الدول الإفريقية. ولاحقاً زارَ الصينَ الشعبيةَ، بلادَ ماو تسي تونغ، في رحلةِ حجٍّ شيوعيةٍ لَقِيَ فيها الزعيمَ ماو عينَه، كما قال صالح كبزابو، رفيقُ أوتيل بونو ورئيسُ الاتحاد الوطني للديمقراطية والتجديد منذ أكتوبر 2022. 

كانت سنة 1960 "سنةَ إفريقيا" في المراجع التاريخية، إذ استقلّت فيه سبعَ عشرةَ دولةً إفريقيةً منها تشاد، وأصبحَ فرانسوا (إنغرتا لاحقاً) تومبالباي أوّلَ رئيسٍ للبلاد. آمَنَ بونو أنّ الاستقلالَ الذي منحَته السلطاتُ الاستعماريةُ كان صورياً، وقد كانت الإغراءاتُ والفرصُ في فرنسا تحومُ حول الطبيبِ الشابِّ الذي ذاعَ صيتُه بين سلطات الاستعمار والسلطات التشادية الجديدة، لكنّه قرّرَ تركَ كلِّ ذلك خلفَه والعودةَ ليبنيَ وطنَه سنة 1961. في تشاد الستينيات بدأَ المناضلُ اليساري عملَه طبيباً في مستشفى أنجمينا، ولكنه لم يتوقف عن النضال يوماً واحداً. كان الرجلُ غصّةً في حلقِ السلطات التشادية التي رضَت باستقلالٍ صوريٍ يرهنُ البلاد إلى فرنسا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ومن ذلك ارتباطُ عملةِ البلادِ بالفرنك الفرنسي. وكما يقول صالح كبزابو فإن أوتيل بونو لم يكن يريد السلطةَ التي أَغْرَته بها فرنسا، ويذكرُ صالح أنّ تومبالباي أراد إعدامَه فحاوَلَ الفرنسيون إقناعَ الطبيبِ بالعدولِ عن معارضةِ النظام مقابلَ منحِه منصبَ رئيسِ الوزراء أو وزيرِ الخارجية. ولكنّ صالحاً يَنقلُ بأنّ أوتيل قال للفرنسيين: "لا أريدُ السلطةَ، بل أريدُ مغادرتَكم بلادي، ومغادرةَ تومبالباي السلطةَ لأنه يعمل لصالحِكم".

أقنعَ المستعمِرُ الفرنسيُ كثيراً من الدول الإفريقية عقوداً بأنه لولا وجودُه لَما استمرّت دولُهم الحديثةُ، لِعجزِ الإفريقيين عن القيام بأيّ شيءٍ ناهيكَ مِن تسييرِ دولةٍ، وهي فكرةٌ صَدَّقَها رؤساءُ دولٍ احتفَظوا بالسلطةِ وتَركوا المعادنَ والخيراتِ لفرنسا، الأمرُ الذي زادَ جرحَ الإفريقيين. وإضافةً إلى ذلك، فإن محاربةَ الإرهاب لم تأتِ بنتائجَ، إذ يموتُ الناسُ في الجنوب في كمائنَ وانفجاراتٍ للعبوات الناسفة، بينما الفرنسيون في قواعدهم لا يفعلون شيئاً. وهذا أَقنعَ فئاتٍ أن وجودَ فرنسا لا يساعِد على شيء.

أذكرُ أنني سمعتُ عمر بيدو كامان، وهو من الأصدقاء المقرّبين للطبيب، على إذاعة دجا إف إم التشادية يقول: "أخبَرَني بونو حين قرّرَ العودةَ إلى تشاد بأن المشرفَ على شهادته قال له 'أنت أفضلُ الأطباء في هذه الجامعة، ابْقَ في فرنسا وستعملُ في أكبرِ مشفىً في البلاد، ما الذي يمكنكَ فعلُه في إفريقيا، فهُم لا يؤمنون بالطبّ". اللغةُ الاستعلائيةُ نفسُها استخدَمها نيكولا ساركوزي في داركار داخل أروقةِ جامعةِ شيخ أنتا ديوب وقبالةَ آلاف الشباب في سنة 2017 حين قال: "إفريقيا قارّةٌ لَمْ تَدخُل التاريخَ [عصرَنا] دخولاً تاماً. يعيشُ سكانُها في عالمٍ خياليٍ خالٍ من المغامرة البشرية أو فكرةِ التقدم، وهي تنغمس في نظامٍ ثابتٍ يبدو فيه أن كلَّ شيءٍ قد كُتِبَ مسبَقًا. إنّهم يحتاجون إلى إدراك أن العصرَ الذهبيَ الذي تتذكّره إفريقيا مدى الدهرِ لن يعودَ لأنه لم يكُن موجوداً من قبل".


تدعمُ فرنسا الأنظمةَ المواليةَ لها بالسُبلِ كافّةً. ففي تشاد دَعمَت إدريسَ ديبي الذي بقيَ في الحُكمِ ثلاثةَ عقودٍ. وفي فبراير 2019 اتجهَت قافلةٌ من قواتِ اتحاد القوى المقاوِمة المعارِضة له للاشتباك مع قوّاتِه فقصفَتهم الطائراتُ الفرنسيةُ وقُتِل أكثرُ من مئةِ متمرّدٍ تشاديّ. وحين مات إدريس ديبي في معاركَ مع المتمردين في إبريل 2021، جاء رئيسُ فرنسا إيمانويل ماكرون للعزاءِ ونَصّبَ ابنَه محمد إدريس رئيساً للمرحلة الانتقالية. وفي بوركينا فاسو دَعمت فرنسا كومبواريه قبل أن يَسقطَ كما فَعلَت مع أبو عزوم في النيجر وغيره. وعَملَت فرنسا على فرضِ "إيكواس" عقوباتٍ على كلٍّ من مالي والنيجر وبوركينافاسو، وهدّدَت مالي والنيجر بتدخّلٍ عسكري. هذا التهديدُ دفعَ السلطاتِ في مالي إلى السماح لقوات فاغنر الروسية بدخول البلاد والعمل على تقوية السلطة الجديدة كما فعلَ الروسُ في جمهورية إفريقيا الوسطى. هذه التدخّلاتُ الفرنسية في السياسية الإفريقية لها انعكاسٌ في سيرةِ أوتيل بونو.

نظّمَ أوتيل مظاهراتٍ بعد مؤتمرِ مدينة أرشامبول، وهو مؤتمرٌ ضمَّ النخبةَ السياسيةَ في البلاد، إذ كان يأملُ وأنصارُه بانفتاحٍ سياسيٍ وحرياتٍ أكثر. وفي يناير سنة 1963 كان يعقد مؤتمراتٍ وتجمعاتٍ توعويةً حثَّ فيها التشاديين على التحرّر من آثار الاستعمار، قال في إحداها : "نسمع في كلِّ عامٍ عن ارتفاع الناتج من القطن. المُزارعُ يقدّم كلَّ ما يستطيع، لكننا نبيعُ القطنَ إلى فرنسا بأسعارٍ زهيدة. مَن المستفيدُ في هذه العملية؟ هل تتحسن حياةُ الفلّاحِ التشاديِّ مع ارتفاع الإنتاج؟ يجب أن تتغيّر هذه الأحوال". كان يقصدُ بتغيّرِ الأحوالِ تغييرَ المعاملةِ مع فرنسا. وعقبَ عودتِه إلى بيته، زارَه أعضاءُ من الأجهزة الأمنيّة وساقوه إلى السجن بتهمة "إثارة الفِتَنِ والقذفِ والتحريض" وحُكِمَ عليه بالسجن خمسَ سنواتٍ، لكنّه حصلَ على العفوِ بعد شهرين. 

لكنّ الطبيبَ سُجِنَ مرّةً أُخرى بعد أيامٍ من خروجه من السجن. فقد اعتقلَته السلطاتُ في مارس سنة 1963 عقبَ تنظيمه مظاهرةً على النظام، واتُّهِمَ بجريمةِ "التآمُر على الدولة" مع عشرين شخصيةً سياسيةً فيهم وزراءُ أمثالُ أبو محمد نصر وزير الداخلية، وعلي كوسو وزير العدل. في تلك السنة حَلَّ الرئيسُ الأحزابَ كلَّها وأَعلنَ أن حزبَه، الحزب التشادي التقدمي، هو الحزب الشرعي في الجمهورية وعلى جميع التشاديين الانضمامُ إليه، وعَطَّلَ الحياةَ السياسيةَ في البلادِ ونَظَّمَ حملةَ اعتقالاتٍ طالَت كلَّ صوتٍ معارِضٍ. عقبَ تلك الاعتقالات حُكِمَ على أوتيل بونو بالإعدام في محاكمةٍ مُسيَّسة. ولكنْ بتأثيرٍ من الرأي العامّ الدوليّ وجهودٍ كبيرةٍ بذلَتها الفِرنسيةُ نادين بونو (المعروفةُ بنادين دوش) زوجُ الطبيبِ الناشطةُ في الحزب الشيوعي الفرنسي في حملاتٍ كبيرةٍ نظّمَتها بدعمٍ من الحزب الشيوعي أُفْرِجَ عن الطبيب في أغسطس سنة 1965. ساعدَ هذا الاعتقالُ على انتشارِ اسمِ الطبيب وزادَ شعبيّتَه وسطَ التشاديين على عكسِ ما سعى إليه تومبالباي. 

بدأَت ثورةُ فرولينا بحلولِ عام 1970، وهي ثورةٌ مسلَّحةٌ قادَها سكانُ شمالِ تشاد على ما سَمَّوهُ اضطهادَ تومبالباي الآتي من الجنوب؛ إذ كان يُقصي الشمالَ محاباةً للجنوب. قَوَتْ الثورةُ وبدأَت تَشنُّ هجماتٍ مسلّحةً على الحكومة، وخاضت معاركَ ومناوشاتٍ مع حكومة تومبالباي وباتَ الوضعُ السياسيُّ مقلقاً، إذ لم يكن هناك أحزابٌ سياسيةٌ ولا جمعياتٌ مدنية. وسطَ هذه المعمعةِ غادَرَ أوتيل البلادَ بتأثيرٍ من زوجتِه نادين التي بدأَت تَخشى موتَه، توجّهَ إلى فرنسا وأصبحَ يواصلُ نشاطَه منها. يقول أرنود ديمقباي، وهو من المؤرّخين الذين كتبوا عن تلك السنوات، أن الطبيبَ حصلَ على رسالةٍ من الثُوّارِ تقول "تعالَ إلى الشمال وسوفَ نجعلُكَ رئيساً للبلاد"، لكن أوتيل لم يؤمِن بخيارِ السلاح.

لَم يكُن الطبيبُ على اتفاقٍ مع الثُوّارِ في حربِهم على تومبالباي، فقد وصفَ موقفَه قائلاً: "الفرنسيون قَدِموا إلى تومبالباي دعماً عظيماً. دَعَموه في الإدارة والموارد بَلْ دعموه عسكرياً في صراعه مع المتمرّدين، لكن هذا الدعمَ كلَّه لم يُغيِّر شيئاً، لا على المستوى الإداري ولا العسكري، ولا الصعوبات الاقتصادية، لأن المشكلةَ في شخصه. أما بخصوصِ فرولينا فهي تمارسُ حقَّها في النضال والثورة، لكنّي لستُ مِن مؤيّدي تغييرِ الأمورِ بالسلاح"، لذا قرَّرَ أن يأتيَ بصوتٍ ثالثٍ كما سمّاه، وأسّسَ حزبَ الحركة الديمقراطية لتجديدِ تشاد وقرّرَ عرضَ البرنامج السياسي للحزب في مؤتمرٍ صحفيٍ بباريس، وقبل أن يُعلِنَ تاريخَ ذلك المؤتمرِ أعلنَ ديباجةَ النظام الأساسي الذي جاءَ فيه وجوبُ القطيعةِ مع فرنسا، ولزومُ النضالِ ضد تومبالباي المُرسي نظامَ الحزبِ الواحدِ، وأَكَّدَ ضرورةَ مشاركةِ الأطيافِ السياسية والاجتماعية كلِّها في القرار السياسي.

وقد جاءَ في بيانِ إعلانِ حزب الحركة الديمقراطية لتجديد تشاد: "هذا بيانٌ للشعب، وللوحدة الوطنية، ولسياسةٍ استقلاليةٍ سيادية". وأورَدَ في الصفحة الخامسة من البيان أنّ تومبالباي عقدَ مؤتمراتٍ وطاولاتٍ حواريةً "للوحدة الوطنية، لا سيّما في اللحظات التي يمرُّ فيها حُكمُه بصعوباتٍ، لكنّ كلَّ هذه الاجتماعات ذهبَت سُدىً لأن تومبالباي هو العدوُّ الأولُ للوحدة الوطنية وهو المسؤولُ الأولُ عن تمزقِ النسيج الاجتماعي بين التشاديين. لكي نحصلَ على وحدةٍ وطنيةٍ، يجب التخلصُ من تومبالباي". وأعلَنَ أوتيل بونو انعقادَ مؤتمرِ انطلاقِ الحزب بتاريخ 27 أغسطس 1973 في باريس، ولكن ذلك المؤتمرَ لم يَنعقدْ أبداً، لأن أوتيل بونو قُتِلَ قبل انعقاده بيومٍ واحد. 


كان يومَ أحدٍ بتاريخ 26 أغسطس 1973، وكانت الأجواءُ لطيفةً عندما تهيّأَ الطبيبُ أوتيل بونو ذو التسعة والثلاثين عاماً لمغادرةِ شقّتِه في حيّ الباستيل الباريسيِ ليلتحقَ بمَوعدٍ. مَشى بونو في شارعِ لا روكيت حيث يركنُ سيارتَه عادةً، وركبَها الساعةَ التاسعةَ والنصف صباحاً. وقبل أن ينطلقَ لمحَ رجلاً أبيضَ لا يعرفُه يدنو منه. كان الغريبُ يحملُ مسدساً من عيارِ تسعة مليمتر. أطلقَ الرجلُ رصاصتَين في رأسِ الطبيب وهربَ تاركاً أوتيل الذي مات فوراً مخلّفاً زوجَهُ وثلاثةَ أطفال.

بعد أشهُرٍ من وفاةِ أوتيل اعْتَقَلَ حسين حبري، قائدُ ثورة فرولينا على حُكم تومبالباي، جندياً فرنسياً يُدْعَى غالوبين كان متّهَماً بتعذيب الثوار وبالعمالة لنظام تومبالباي، اعترفَ حين تعذيبِه بأن تومبالباي أمرَ بقتلِ الطبيب أوتيل بونو وأنه أرسلَ شخصاً يُدْعَى ليون هاردي ليصفّيَ المُعارِضَ. ومع جهودِ السيد بيير كالدور محامي أوتيل، وزوجِه نادين بونو، إلّا أنّ المحقّقين لم يتمكّنوا من اتهامِ هاردي.

وَجَّهَ الرئيسُ إنغرتا تومبالباي سنة 1972 تهديداً لأوتيل بونو بملاحقته في خطابٍ قُبيلَ اغتياله، إذ قال تومبالباي: "في اليوم الذي يقرِّرُ فيه أوتيل بونو النضالَ ضدَّ نظامي بحزبٍ أو حركةٍ، لَن أتردّدَ في إطلاق النار عليه"، ويَتّهمُ صالح كبزابو، الذي كان وقتها صحفياً، الرئيسَ التشاديَ بالتدبير لقتلِ أوتيل. فقد كتبَ في جريدة جون أفريك الباريسيّة في عددِها الصادرِ بتاريخ 15 سبتمبر 1973 مقالةً عنوانُها "الطبيبُ أوتيل بونو لن يكونَ عائقاً"، وفيها يشيرُ السيدُ صالح كبزابو إلى الرئيس تومبالباي ويتّهمه بصريحِ العبارة مؤكّداً أنه أعلنَ مرّاتٍ أنه سيقتل مَن ينازعه في سلطته. 

وفي السياق نفسِه أكّدَ المؤرخُ التشاديُ علي نانا دقل في كتاب "تشاد والسياسة في السبعينيات وتورُّط الطبيب أوتيل بونو" الصادر سنة 2017 عن إيديلفير، أن تلك السنواتِ كانت مليئةً بالتوتر، وأنه بصفتِه عضواً في الحزب الحاكم يلقي اللَوْمَ على تومبالباي في مقتلِ أوتيل "الذي كان يسبّبُ الإحراجَ للرئيس تومبالباي"، على حدِّ تعبيره. ومع كلِّ هذه الاتهامات نَفَى الرئيسُ تومبالباي تورُّطَه في مقتلِه، وندَّدَ بعملية الاغتيال وحَمّلَ حركةَ فرولينا المسؤوليةَ مرّاتٍ، كما اتّهمَ أصدقاءَ الطبيبِ ورفاقَه مرّاتٍ أُخَرَ.

حين حاولَ الشبابُ في إفريقيا الخروجَ في مظاهراتٍ لإسقاط أنظمةٍ فشلَت في إدارة البلاد، شاهَدوا فرنسا تقفُ مع هذه الأنظمة وتدعمُها بالعتاد والإعلام، وهنا عادوا إلى قراءة التاريخ. إذ حاربَت الدولةُ الفرنسية كثيراً من الثوريين في إفريقيا، خاصةً أولئك الذين سعوا للخلاص من الاستعمار وقد كان أغلبُهم من الشيوعيين. وقتلَت بلجيكا الرئيسَ باريس لومومبا أوّلَ رئيسِ وزراءٍ منتخَبٍ لجمهورية الكونغو، قَتَلَه البلجيكيون بعد سنةٍ واحدةٍ من حُكمِه، ودعمَت فرنسا انقلاباً تسبّب في مقتلِ توماس سانكارا رئيسِ جمهورية بوركينا فاسو بين 1983 و1987 وهو ثوريٌّ شيوعيٌّ سعى إلى القضاء على الهيمنة الفرنسية في بلاده. وأغلبُ من قَضَتْ عليهم القوى الغربيةُ في الخمسينيات والستينيات كانوا شيوعيين. أما اليومَ فمحاربو فرنسا لا تجمعُهم الأيديولوجيا مع الشيوعيين، وإنّما حُلمُ الاستقلالِ التامِّ الذي يحرِّرُهم من تأثيرِ المستعمِر السابق، وهم يخرجون إلى الشوارع ويرفعون شعاراتٍ ولوحاتٍ تحمل أسماءَ وأقوالَ من قَتَلَتْهم فرنسا قبل عقودٍ لتَحُولَ دونَ تحريرِ إفريقيا.

بعد انقضاءِ نصفِ قرنٍ على اغتيالِ أوتيل بونو، خرجَ ملايينُ الإفريقيين في كلٍّ من السنغال ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا وتشاد للمطالَبة بمطالبِه نفسِها، ونجحَت كلٌّ من النيجر وغينيا ومالي والسنغال في التخلّص من القواعد الفرنسية. ومنذ زمنِ الاستقلال الأوّل، بدأَت شعوبُ إفريقيا السوداءِ ودُوَلُها تتمرّد على الوصاية والهيمنة السياسية والاقتصادية الفرنسية. وفي تلك المظاهرةِ التي جَرَتْ في الرابع عشر من مايو سنة 2022، وعايَشتُها في أنجامينا، رأيتُ متظاهراً شاباً يرفع لافتةً كَتَبَ عليها "أوتيل بونو، نحن لم نَنْسَ نضالَك". لافتةٌ جعلتني أُفكّرُ: هل سيُغْتَالُ الحُلمُ الإفريقيُ بالانعتاقِ من آثارِ الاستعمارِ مرّةً أُخرى؟

اشترك في نشرتنا البريدية