استمع لهذه القصة
وتُضيفُ أُمّي أنّ النِسوةَ كُنَّ يُحذّرْن من تقليمِ الأظافر عشيّةَ كلِّ أربعاءٍ، ويوصِين الأطفالَ باجتناب الإساءةِ إلى القططِ السوداءِ. والأهمُّ ألّا تستحمَّ الصبايا لئلّا يَراهُنَّ شابٌّ من الجنِّ فيُفتَنَ بهنَّ ويَتلبَّسَ أجسادَهنّ. وتُعطَّلُ الزياراتُ عشيّةَ الأربعاءِ، فلا تُزارُ المرأةُ النُفَساءُ حفاظاً عليها وعلى رضيعها من أهلِ بسم الله، إذ يُخشَى أن تَندسَّ بين الزائرات امرأةٌ من الجانِّ على صورةِ إحدى نساءِ المنزل رغبةً في خطفِ الوليدِ من أُمِّه.
وكان التطيّرُ يومَ الأربعاء من معتقَداتِ العرب قبل الإسلام. إذ يُذكَرُ عن الجاهليين أنّهم كانوا يَتشاءمون مِن حُلول هذا اليومِ. فلا يُباعُ فيه ولا يُسافَر ولا يُعقَد النكاحُ ولا يُعاشِرُ الرجلُ زوجتَه. ويقالُ إنّ البَرَصَ قد يصيبُ من قصَّ أظفارَه يومَ الأربعاء، وتُكرَه فيه عيادةُ المريض. وفي هذا يقولُ الشاعر:
لَمْ يُؤتَ في الأربعاءِ مريض ... إلّا دَفنَّاهُ في الخميس
وتُروَى في هذا الشأنِ أحاديثُ ضعيفةُ السَنَدِ عن الرسولِ عليه الصلاة والسلام، كأنْ يُقالَ إنَّ يومَ الأربعاءِ "يومُ نَحْسٍ مُستمرٍّ. لا أَخْذَ فيه ولا عطاءَ". ويبدو أنها أحاديثُ وجدَت طريقَها إلى مِخيالِنا وعاداتِ أهلِنا فغَدَت من المسَلَّماتِ اتقاءً لشرِّ العابثين من الجنِّ. ومنه قَرَّ في أذهانِ أهلِ منزلِنا في حُومَة السُوق بجِرْبَةَ ألّا حراكَ عشيّةَ كلِّ أربعاءٍ. حتى أنّ خالتي حليمةَ كانت تَهجُرُ آلةَ خياطتِها. لا أعلمُ من تكونُ خالتي حليمةُ لكنَّ تشديدَ أُمّي على نقلِ حديثِها إليَّ أَوحَى بأنَّ الأَمرَ كان جادّاً.
وقِصّةُ يومِ الأربعاءِ إحدى الحكاياتِ والأساطير التي يَتناقلُها أهلُ جِربةَ خصوصاً وأهلُ تونس عموماً. توحي هذه القصصُ المنتشرةُ في أرجاءِ البلاد عن أهلِ بسمِ الله أنّ الإيمانَ التونسيَّ قائمٌ في جزءٍ منه على الخرافة. هذا ما ذهبَ إليه المؤرّخُ الهادي التيمومي في كتابه "كيف صارَ التونسيون تونسيين" بقولِه إنّ هذا الإيمانَ لا يُحصَرُ في أوساط "العامّة" إنّما يَشملُ عدداً لا يُستهانُ به من "النُخبة". وهذا مع مُحارَبة روّادِ الفكرِ والثقافة هذا الضربَ من الإيمان بالشعوذة والخرافات منذ القرنِ التاسعِ عشرَ حتى نشوءِ الدولة الوطنيّة التي فَرضَت التعليمَ الإجباريَّ على التونسيين لحثِّهم على اتّباعِ منهجِ التفكير العلميّ الحديث. يَظهرُ الإيمانُ بالسِحرِ ومَسِّ الجانِّ جليّاً في البرامج الحوارية على الفضائيات التونسية، ووَلَهِ المغامِرين من أصقاع البلاد بزيارةِ البقاعِ والديارِ "المسكونة" واستكشافِها كأنّها معالمُ سياحية. حتى طالَ الأمرُ الساسةَ وقصورَ الحكّامِ، إذ يُشاعُ أنّ زينَ العابدين بن علي، الرئيسَ الأسبقَ لتونس، كان يزاولُ مع زوجتِه الشعوذةَ والسِحرَ.
هذه الحكايةُ هي إحدى قصصٍ كثيرةٍ شَبَبْتُ على سماعِها مِن مسامَراتِ الحوشِ القديم. فقد دَأَبَ الأهلُ والأقاربُ على الاجتماع وسطَ الحوشِ كلَّ ليلةِ سبتٍ يتسامرون فلا تخلو أحاديثُهم مِن أخبارِ أهلِ بسم الله. وكان الرّواةُ من أهلِنا قاصّين بارعين، فيصعُبُ على السامع أن يميّزَ الحقيقةَ مِن الخيال، فقصصُهم مِن صُلْبِ بيئتِنا ومعالِم جزيرتِنا. مثلَ أحاديثِ الفنادق السياحية المهجورة التي سَكَنَها الجانُّ وأقاموا فيها أعراسَهم، بل سُمِعَت الزغاريدُ وضربُ الطبول في فنادقَ هَجَرَها الإنسُ منذ سنين.
ورُويَت قصصٌ عن مخلوقٍ اسمُه "العُبِّيثة" على صورةِ امرأةٍ حسناءَ لها ساقا بَغلٍ. قيلَ إنها تبدو للبحّارة بفستانٍ أبيضَ، فتُغوي أكثرَهم شباباً حتى إذا تَبِعَها أحدُهم واختَلَت به كَشفَت له عن ساقِها وسَلَبَته روحَه. وأَصلُ قِصَّةِ العُبِّيثة أن رجلاً من أهل جربة أَرغَمَ ابنتَه على الزواج من شيخٍ طاعنٍ في السنِّ معروفٍ بالثراءِ والبخل. وفي ليلةِ الحِنّاء امتَلأَ الحوشُ بالنساء وضُربَت الطبولُ ورُدِّدَت الأغاني، وعلى حينِ غفلةٍ من النِسوةِ خرجَت الفتاةُ بردائِها وزينتِها وأَلْقَت بنفسِها في "بئر الدويرية" فغَدَت من بعد هذا عُبِّيثَةً يرى الناسُ خيالَها ليلاً قربَ الآبارِ والشواطئِ، عازمةً على الانتقام من كلِّ رجلٍ تَلقاهُ.
لا تقتصرُ حكاياتُ جربة في علاقتها بأهلِ بسم الله على ما يُروى في المجالس العائلية وفي الأحواش، بل ذاعَ صيتُ بعضِها في جلِّ مناطقِ تونس وبلدانٍ عربيةٍ بفضلِ مَواقعِ التواصل الاجتماعي. ولعلَّ أشهرَها قصّةُ "دار جربة" المسكونةِ التي ملأَت تونسَ وشغلَت ناسَها حتّى باتَت أشبهَ بمَعْلَمٍ سياحيٍّ يقصِدُه الناسُ فضولاً. وأَدرجَت بعضُ وكالاتِ الأسفار في تونس زيارةَ هذه الدار المسكونة بالجانّ على لائحةِ برامجِ رحلاتِها إلى جربة. أذكرُ أنّي مررتُ قبل سنواتٍ بهذه الدار فشعرتُ بما يشبهُ الضيقَ في صدري عند رؤيتِها وتذكّرتُ ما سمعتُه من أخبارها صغيراً. ومِن تلك الأخبارِ اشتعالُ النار فيها ليلاً، وأن من ينامُ فيها يجدُ نفسَه خارجَها صباحاً، ودخولُ شرطيَّيْن إليها ثم خروجُهما مُهَرولَيْن وعليهِما آثارُ ضربٍ، فإذا لَحِقَ هذا برجالِ الشرطة الذين كنُّا نَهابُهم صغاراً أكثرَ من أهلِ بسم الله ونسمّيهم في تونس "الحاكم"، فما بالُكَ بمصيرِ غيرِهم من المحكومين.
بحثتُ طويلاً عن أصلِ قصّةِ دار جربةَ المسكونةِ وأكادُ أجزمُ بأن لكلٍّ من ساكني جربة حكايتُه عنها ومعها. لكنّ ما اتّفَقَ الناسُ عليه هو أنّ الأرضَ المحيطةَ بالدار كانت مملوكةً لفلّاحٍ جِرْبيٍّ يزرعُها ويقتاتُ مِن خيرِها. وكانت أرضاً خصبةً تُدِرُّ عليه الخيرَ. وزَعموا أنَّ رجلاً مغربيّاً جاءه يوماً، عارِضاً عليه شراءَ الأرضِ. فرَفضَ الفلّاحُ، كعادةِ كلِّ جِرْبيٍّ متعلِّقٍ بأرضِه، لأنّها موردُ رزقِه ومسكنُ أهلِه ولا يصحُّ أن يَدخلَ عليهم رجلٌ غريبٌ. لكنَّ المغربيَّ أصرَّ وظلَّ يُراودُ الفلّاحَ ويُغريه بمبالغَ تفوقُ أضعافَ قيمةِ الأرض الحقيقية. لكن الفلّاحَ تمسّكَ برفضِه، فلَم يَستَمِلْه مالٌ، ولَم يَأْبَهْ إلى إصرارِ المغربيِّ، بل توجَّسَ من إلحاحِه الشديد.
اتّضَحَ أنَّ هذا المغربيَّ ساحرٌ ومشعوذٌ يُلِحُّ على شراءِ الأرض لأن فيها كنزاً عظيماً تحرسُه الجانُّ. فانصرفَ عن الفلّاح عازماً على النَيلِ منه ومن أهله لأنهم حالوا بينَه وبينَ الكنز. فاستغلَّ قواهُ في السِحر وسلّطَها على أرض الفلّاح. فغَدَت أرضاً جدباءَ، لا يَنبُتُ فيها زرعٌ، وتَحرقُ النيرانُ كلَّ محاصيلِها. فلمّا صارت الأرضُ قحطاً، عادَ المغربيُّ إلى الفلّاح مُجَدِّداً عرضَه. فصدّه الفلّاحُ مرّةً أُخرى، مؤكّداً أنَّه لن يبرحَ أرضَه. جُنَّ جنونُ المغربيّ فسلَّط سِحرَه هذه المرّةَ على عائلة الفلّاح، الذي عاد يوماً إلى بيته فوجد زوجَه وابنتَه جامدتين كأنّهما تمثالا شمعٍ. وبعد ليلةٍ رأى ابنَه مشنوقاً على جذعِ شجرةِ زيتونٍ. ففقدَ الفلّاحُ عقلَه وفرَّ هارباً لا يرومُ مقصداً يبلغُه. تقول القصّةُ إن الساحرَ المغربيَّ عادَ إلى هذه الأرض بعدَ ما فعلَه بأهلِها وبَنى فيها هذه الدارَ يفعلُ فيها ضروباً من السِحرِ لاستخراج الكنز من الأرض. ويُحكى أنّ الجانّ التي كانت تحرسُ هذا الكنزَ طلبَت منه قُرباناً مقابلَ نَيلِ مبتغاه. فاستعان بابنةِ أخيهِ اليتيمة وأخذَها إلى الدار وألبسَها فُستاناً أبيضَ ثمّ قَتَلَها وقدَّمَ جثمانَها إلى الجانّ. وظلّ الناسُ إلى يومنا هذا يؤكّدون أنهم ما زالوا يسمعون صوتَ بكائها ويرون خيالَها متى ما مرّوا بهذه الدار التي ما زالت مهجورة.
لازَمَني الخوفُ في صِبايَ طويلاً من أخبار هذه الدارِ حتّى أني خفتُ من كلِّ موضعٍ مهجورٍ وتجنّبتُ الظُلمةَ والخَلاءَ ما استطعتُ، وردّدتُ الأدعيةَ حاملاً كُتيّبَ "الحصن الحصين" في جيبي صحوةً ومناماً.
اختَلَف أهلُ جربة حول أصلِ تسمية المعمورة. فمنهم من يرى أنها سُمّيَت بذلك لأنها بناءٌ يُعمِّرُه أهلُ بسم الله. ويقول آخَرون إن بعضَها معمورٌ بقبورِ أولياءِ الله الصالحين. ومِن هذا حديثُ أمّي التي تذكرُ تردُّدَها في صِباها على معمورةِ "سيدي البشير" المنسوبةِ إلى وليٍّ صالحٍ بهذا الاسم عشيّةَ كلِّ جمعةٍ قبل غروب الشمس، تصحبُها في ذلك الخالاتُ والعجائزُ، فيَلِجْنَ المعمورةَ ويُشعِلْنَ فيها قنديلاً ويَضَعْنَ طعاماً مثلَ زيتِ الزيتون و"البسيسة"، وهي طعامٌ مغاربيٌّ مُعَدٌّ من خليطِ حبوبٍ كالشعير والحِلبة. وسَمعتُ أن العروسَ في جربة قديماً كانت تزورُ المعمورةَ قبل "الحِجْبَة"، وهي عادةٌ في جربة تقضي أن تَحتَجِبَ العروسُ في غرفةٍ عن الأنظار شهراً قبل عُرسِها.
وتقول الرواياتُ إنّ المعامير محروسةٌ من أهل بسم الله لكنّها لا تؤذي زوّارَها، وإنّما تُعِدُّ العذابَ لكلِّ من حاولَ هدمَها. وكان أهلُ الجزيرة يقصدونَها بغيةَ التبرّكِ وطلبِ الشفاء ودفعِ البلاء وطلبِ تحقيق الأماني. ولكلّ معمورةٍ اسمٌ، ويُعتقَد أنها تحمي أهلَ البيوت التي تُجاورُها شرطَ أن يزورَها أهلُ هذه البيوت زيارةً سريعةً ويضيئوا فيها الشموع. ومن هنا جاءَ المثلُ الجربيُّ: "جاء يضوّي في المعمورة" كنايةً عمّن كانت زيارتُه عاجلةً قصيرةً كأنه أقبلَ ليضيءَ شموعَ المعمورة ويرحلَ قبل مغيبِ الشمس.
لا تقتصرُ أخبارُ المعامير على ذِكرِ الأمثالِ، وإنّما تتعلّقُ بها حكاياتٌ تُروى على محملِ الجدّ. ومنها قصّةُ عجوزٍِ اسمُها صالحة، تذكُرُها الجدّاتُ إذا ما استبدَّ بهنّ الغضبُ فيَقُلْنَ "ما تْقَوِّمِشْ عَلَيَّ جْنون صالحة" أي لا تدعْني مِن فَرْطِ غضبي أَستحضِرُ الجانَّ من أصحابِ صالحة.
سألتُ عن قصّةِ صالحةَ فعرفتُ أنها امرأةٌ مِن عادتِها احتطابُ ما لَفَظَتْهُ أشجارُ الزياتين من أغصانٍ باليةٍ لتُضرِمَ فيها النارَ للطَهْو. وقيلَ يوماً إن جماعةً من أهلِها قد حذّروها من الاقترابِ من شجرة الزيتون عند معمورة المنزل والاحتطابِ منها. وأَنكَرَت صالحةُ أن يكون للمعمورة نفعٌ أو أذىً فقَصَدَت تلكَ الزيتونةَ وجمعَت ما تَيسَّرَ من حطبٍ وعادت أدراجَها إلى البيت. وبعد يومٍ وليلةٍ فتحَت صالحةُ دولابَها باحثةً عمّا جمَعَته من حطبٍ كي تُعدَّ عشاءَها فذُعِرَت من خُلُوِّ الدولاب من الحطب، ذلك أنّ الحطبَ لا يُعَدُّ مطمَعاً للُّصوصِ لوفرتِه أوّلاً، ولسهولةِ العثور عليه ثانياً. وهنا تذكّرَت صالحةُ حديثَ المعمورة وأيقنَت أنّ حرّاسَها من أهلِ بسم الله قد غَضِبوا لكونِها نازَعَتهم أرضَهم فدخلوا بيتَها وأعادوا الحطبَ مكانه. ويقول من عَرفَ صالحةَ إنها تغيّرَت إثرَ هذه الحادثة فغلبَ عليها الشرودُ وباتت كثيرةَ التمتمةِ بكلامٍ غيرِ مفهومٍ وأَخَذَت تحدّثُ نفسَها، بل لعلّها صارت في حديثٍ غيرِ منقطعٍ مع أهل بسم الله. ومنه اتّصلَت سيرةُ صالحةَ بالجنون. وهذه الصيغة التي نَجمَعُ عليها اسمَ الجنّ في المنطوق التونسيّ ولا يُقصَدُ بها الخَبَلَ كما في العربيّة الفُصحى، على أنّ الصلةَ قريبةٌ لغوياً بين صفة المجنون واسمِ الجنّ، كأنّ مردَّ الجُنون وغياب العقل عائدٌ إلى مسٍّ من الجانّ.
للمعمورة في جزيرة جربة أدوارٌ كثيرة. تقول رواياتٌ أُخرى إنّها كانت قديماً بمثابة شهادة الملكيّة التي تُعرَفُ بها نسبةُ الأراضي. وكانت تُبنى هذه القِبابُ الصغيرة كي يَعلَمَ المارُّ بها أنّ الأرضَ مملوكةٌ لا مُباحةٌ فيقول "هذه معمورة". وتشيرُ المعامير إلى كَرَمِ أهل الجزيرة مع عابري السبيل. فإذا توقّف مسافرٌ عندها وجدَ فيها شيئاً من المأكل والمشرب ونوراً من الشموع يهتدي به في مسيرِه ليلاً. وكان الأطفال يجتمعون في ليالي الصيف والمواسم جنبَ المعامير، فيفترشون الأرضَ ويأكلون ما طابَ من الثريدِ كي تحضرَ البركةُ في الطعام.
امتازَ برنامجُ "المُسامح كريم" في تلك الفترة، على غِرار برنامج "دائرة الضوء" الذي تبثُّه القناةُ نفسُها، بعرضِه قضاياً تدور حول الجانّ والعفاريت. تتناول هذه البرامجُ أحاديثَ الديار المسكونة، وقصصَ مسّ الجانّ للإنس، وتستضيف ضحايا أهل بسم الله، باحثةً عن سبلِ علاجِهم وفكِّ السِحر عنهم. وكان عبد الرزاق الشابي مولَعاً بهذا الضرب من الحالات. وما زلتُ أذكرُ قصّةَ رجلٍ استضافَه البرنامجُ لأن جنّياً ظلَّ يَسكنُه ثمانيَ سنين مدّعياً أن الجنيَّ قد شاركَه امرأتَه وأُبُوَّةَ ولدِه. طلب عبد الرزاق أولاً حضورَ معالِجٍ نفسيٍ لفحص الرجل فبَدَت المناظرة بين المعالج والضيف مبتذَلةً. فقد كان المعالجُ يرطنُ بالفرنسيّة فلا يفقهُ الرجلُ ولا المشاهدون من كلامه شيئاً. ثم يضيقُ الرجلُ بأن يشخّصَه المعالجُ باضطرابٍ نفسيٍّ فيقول غاضباً: "أنا لستُ بمجنون. هذا مِن عملِ الجانّ". ثم يسكت قليلاً ويسأله: "هل تؤمنُ بالجانّ؟ هو مذكورٌ في القرآن" وينتهي الحوار.
وبعد خروج المعالج من تلك الحلقة استَدعى عبد الرزاق شيخاً لمداواة الرجل. وكُتِبَ بخطٍّ عريضٍ على الشاشة "تشاهِدون بعد قليلٍ عمليّةَ إخراجِ الجانِّ مِن جسدِ الرجل". وكان هذا حالُ كثيرٍ من حلقاتِ المسامح الكريم. إذ يطلبُ عبد الرزاق من المشاهدين أن يبعِدوا أطفالهم عن شاشة التلفاز فنزداد نحن قرباً منها. وتُتلى الرقيةُ الشرعيةُ على الضيوف من الممسوسين فيصرُخون ويهرُبون ويتمرّغون بالأرض وتزدادُ أصواتُهم خشونةً، فيُقالُ إن هذه أصواتُ الجانّ، تكلَّمَت على ألسنتهم. اكتويتُ بنارِ فضولي صبيّاً وحَرَمَتْني حلقاتُ هذا البرنامج النومَ أسابيعَ.
يقول جدّي كلّما رآنا نشاهد هذه البرامج: "مثلُ هذه الأمور ما كانت لِتُعرَضَ سابقاً". وعرفتُ بعد سنين أنه كان يقصد بكلمة "سابقاً" زمنَ الحبيب بورقيبة، الرئيسِ الأول لتونس بعد استقلالها، مُلمِّحاً إلى ما شابَ السنين الأخيرةَ مِن حُكمِ خَلَفِه زين العابدين بن علي من انتشارِ الحديثِ عن السِحرِ والشعوذةِ وإذاعةِ حكاياتِ من مَسّتْهم الجانُّ بسوءٍ. كأنَّ جُلَّ مشاكلِ الإنسِ قد حُلَّت في زمنِ بن علي ولم يتبقَّ غيرُ مشاغلِ الجانّ التي لعلّها قد أحسّت بالغَيرةِ من رَغَدِ عَيشِنا ورفاهيةِ حياتِنا في تونس فجاءت كي تنازعَنا فيها وتطردَنا من هذا النعيم.
في السنين الأخيرةِ من حُكمِه، كان الرئيسُ زين العابدين بن علي يعيشُ عزلةً تامّةً عن مشاغل البلاد وهمومِها. يقول الكاتب الصحفي صلاح الدين الجورشي في وثائقيٍّ أعدَّته قناةُ الجزيرة، إنّ بن علي كان أسيرَ عالَمٍ ضيّقٍ جدّاً فلَم يكن يَشغلُ نفسَه إلا باللهوِ وملاعَبةِ أصغرِ أبنائِه محمد زين العابدين بن علي. وبَدَت البلادُ التونسيةُ تلك الفترةَ أشبهَ بسفينةٍ بلا رُبَّانٍ. وأكّدَ عبد الرزاق الشابي في حوارٍ له مع إذاعة شمس التونسية أنّ الرئيس بن علي كان مُغرماً بمتابعة برنامجَي المسامح كريم ودائرة الضوء، وكان يهاتِفُ إدارةَ قناة حنّبعل سائلاً عن الموضوع الذي ستذيعُه الحلقةُ القادمةُ من دائرة الضوء. وعلاوةً على هذا كان بن علي يتسلّى بحلِّ بعضِ ما جاء في هذه البرامج من قضاياً ويَتدخَّلُ مُباشرةً لردِّ الحقوق إلى أهلها.
ويبدو أنَّ بن علي قد كان مغرَماً بهذه البرامج غيرَ مُعترضٍ على ما جاء فيها من سِيَرِ الجانّ وعلاجِ أصحاب المسّ وفكّ السِحر. ذلك أنّه لَم يتدخّلْ لإيقافِ بثِّ برنامجِ دائرة الضوء الذي خصّصَ حلقتين للحديث عن الجانّ والديار المسكونة إلا عندما تطرّقَ هذا البرنامجُ إلى قضيّةِ جمعيّةٍ مشبوهةٍ تدعى "بسمة". وهذه الجمعيّةُ مملوكةٌ لزوجِ الرئيس وسيدةِ تونس الأُولى آنذاك، ليلى الطرابلسي، يقومُ نشاطُها على ادّعاءِ الاعتناءِ بأصحاب الاحتياجات الخاصّة. فمنذ شكّكَت إحدى حلقاتُ دائرة الضوء في دَورِ هذه الجمعية كانت تلك آخِرَ حلقةٍ يبثُها البرنامجُ.
ويضيفُ الخادمُ أنّه كان في البدء متوجّساً من قول الرئيس في هذه الأفعال لكنَّه وجدَه خانعاً مستسلماً، حتّى إذا ما تردّدَ الخادمُ نَهَرهُ بن علي ضاحكاً: "هيا يا ولد، اخدمْ خِدمتَك". ويذهبُ صاحبُ هذه الشهادة إلى أنّ الرئيسَ كان مسحوراً عاجزاً أمام سيدةِ تونس الأُولى غيرَ قادرٍ على معارضتِها أو ردِّ أيٍّ من طلباتها، وكان يقول لها على مسمعٍ من الخدم: "أنتِ تطلبين وأنا أنفّذ، أنتِ السكّين وأنا اللحم". جاءت هذه الشهادةُ مُوافِقةً لما تناقلَته أخبارٌ أُخرى، كاعترافِ الفلكيّ التونسيّ الحسن الشارني بأنّ ليلى الطرابلسي قد استعانت به وبعِلمِه لتنجبَ للرئيس ابناً ذكراً لأنها لم تُرزَقْ بغيرِ البنات. وذكرَت "الحكيمة الروحانية" شريفة المغربية أنّها كانت تتردّدُ على قصر قرطاج بدعوةٍ من ليلى الطرابلسي لفكّ السِحر المُسلَّطِ على أركان القصر. وكان العطاءُ للمنجِّمين والسَحَرةِ سخيّاً. فمن كان يرى هذه الأمورَ ويَشهدُها من سادة البلاد آنذاك فحَرِيٌّ به ألا يسألَ عن أحوالِ باقي العباد.
ويُذكَرُ أنّ ليلى الطرابلسي قد ردّت على هذه التصريحات في كتابٍ أخرجَته سنة 2012 بعنوان "حقيقتي". وفيه أفرَدَت فصلاً بعنوان "السِحر والتمائم الأُخرى" مؤكّدةً أنها لَم تَستعِن في حياتها بساحرٍ أو مشعوذٍ وأنّها لَم تسافِرْ إلى المغرب قَطّ، وإنما كان أعداؤها كزوجةِ الرئيس السابقة وبعضِ المقرّبين منه هم من سَلّطوا السِحرَ على بن علي بهدف إبعاده عنها. وذَكرَت ليلى الطرابلسي أنّ الجميعَ، من غير أن تذكرَ أسماءً بعينها، كانوا يهرولون من تونس إلى المغرب مروراً بجربة "المشهورة بأنّها موطنُ بعض العرّافين الممتازين" بهدف الكيدِ للرئيس. ذلك أنّهم أطعَموه بعضَ الخلطات ودسّوا له التمائمَ حتّى تَغيّرَ سلوكُه تجاهَها وباتَ يتحاشاها ويرفضُ الاقترابَ منها بل ويراها على صورةِ شيطان. ومهما بدا مِن تناقضٍ بين شهادات الخدمِ والسَحَرةِ وما رَدّتْ به ليلى الطرابلسي فإنّها في الحقيقة لا تَنفي إيمانَها بتأثير السِحرِ فقد رَدّتْ هذه التهمةَ عن نفسِها راميةً بها أطرافاً أُخرى.
في كتابه "كيف صار التونسيون تونسيين" يذكرُ المؤرّخُ التونسي الهادي التيمومي أنّ المُصلِحين الحداثيين حاولوا منذ العقد الثاني من القرن التاسع عشر مقاومةَ السِحرِ والشعوذةِ والخُرافةِ المنتشرةِ في البلاد. إذ ينقلُ التيمومي ما دوّنَه المبشّرُ المسيحي إيفالد، الذي جالَ تونسَ وطرابلسَ للتبشير في القرن التاسع عشر، عن ضلوعِ التونسيين في الإيمان بالخُرافة. فعند زيارتِه تونسَ سنةَ 1835 مَرَّ يوماً بمقامِ وليٍّ صالحٍ يُدعى فتح الله فوجدَ جمعاً من النساء يتسلَّقنَ ربوةً مجاورةً مقامَ هذا الوليّ ثم يَنحدِرن منها انزلاقاً على ظهورِهنّ اعتقاداً بأن هذا يسهِّلُ تحقُّقَ الدعاءِ ويُيسِّرُ على المتزوّجات الإنجابَ. وقد حاولتْ الحركةُ الإصلاحية الحدَّ من بعض الممارَسات المتعلقة بالخُرافة، كالتنجيم وادّعاءِ العِلم بالغيب. وأشار التيمومي في كتابه إلى نصِّ البند 656 من مجلة الجنايات والأحكام العُرفية التي صَدرَت إثرَ سنِّ دستورِ 1861 في عهدِ محمد الصادق باي أنّ "كلَّ منٍّ بالأخبارِ عنِ المغيباتِ بالرَملِ والفَلَكِ غيرَ عِلْمِ الميقات ونحوهما، وتكونُ هذه صناعتُه، تؤخَذُ منه تلك الآلاتُ ويُسجَن من يومٍ إلى سبعةِ أيامٍ، ويَدفعُ أحدَ عشرَ ريالاً إلى أربعةَ عشرَ ريالاً".
في نهاية سنة 1929 وضعَ المفكرُ والنقابيُ التونسيُ الطاهر الحدّاد كتابَه الشهيرَ "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" داعياً إلى النهوضِ بالمجتمع واستكمالِ مسيرةِ الإصلاح في زمنٍ كان فيه الاحتلالُ الفرنسيُّ جاثماً على تونس. وكانت عشرينياتُ القرن الماضي فترةً عانى فيها أهلُ تونس الويلاتِ، إذ ذاعَ الفقرُ بين الناس وتعاقبَت سنواتُ الجفاف وأُغرِقَت الأسواقُ بالسِلَعِ الأجنبية وظهرَت الأوبئةُ وخَيّمَ البؤسُ على العباد.
وأَدركَ الحداد أن نهضةَ الشعوب لا تتحقق بجهود الرجال دون النساء في زمنٍ استحالَ فيه كلُّ شيءٍ مهدَّداً، وأنّ انتشارَ الخُرافاتِ ورُكونَ الناسِ إلى السِحرِ والشعوذةِ عائدٌ في جزءٍ منه إلى إقصاء المرأة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية. لأن المرأةَ التي شَبّتْ على القرارِ في بيتِها وحرمانِها من التعليم ستَنشأُ بالضرورة على الجهل وتصديق كلِّ ما تُلَقَّنُ. ويَصفُ الحدّادُ المرأةَ في زمنِه قائلاً: "وما عالمُ المرأةِ عندَنا بالأخصّ إلا عالمٌ يغمرُه الجهلُ والتخريف". لأنّ الفتاةَ المحكوم عليها بالأمّيةِ مصيرُها أن تلحقَ نسوةً لا يَزِدْن عليها إلا بالخرافات التي ستبقى راسخةً في ذهنها. ويشيرُ الحداد إلى نوع التعليم الذي تتلقاه البنات في البيت فيقول: "فأَوّلُ تلقينٍ يكون هو الإيمان بوجود الغُول ونفعِ التمائم . . . وأنّ الدارَ أو الجبلَ الفلانيَّ مسكونٌ، وتأثيرِ السِحرِ وسرِّ الحَرفِ والطلاسمِ وبركاتِ الأضرحة". ويكشف الحدّاد عن تبعاتِ هذه الضروب من التربية التي تعودُ على المجتمع بالخراب، فالمرأةُ أمُّ الإنسان، فإذا فُرِضَ عليها الجهلُ فرضاً أَورثَت أبناءَها ما لُقِّنَته من أوهامٍ واعتقاداتٍ باليةٍ. ويستدعي الحدّادُ من ذكرياتِ صباهُ حكايةَ عجوزٍ كانت تقصُّ عليهم أخبارَ الأفاعي التي يعذِّبُ بها اللهُ الكفّارَ فتَمُصَّ ألسنتَهم وتلتفُّ على رقابِهم، وتروي لهم من الخرافات ما عدَّهُ الكاتب هذراً وضرراً يعيقُ حركةَ عقلِ الصبيانِ فيَبيتون على الخوف ويظلُّ أثرُ هذا القصِّ بادياً في عزائمهم.
كان الطاهر الحدّاد أشبهَ بطبيبٍ مُشَخِّصٍ لعللِ مجتمعه. فقد حاربَ الخرافةَ في صورة الجهل وكشفَ عن أسبابِها ومَرَدِّ الاعتقاد فيها. ونادى بالأخذ بما أذاعه من حلولٍ. وكان في هذا مؤكِّداً وجوبَ تعلُّمِ المرأةِ لتنالَ حظّاً من الإلمام بالعلوم الرياضيّة والطبيعيّة كي يزولَ مِن عقلِها "أنّ الرعدَ مَلَكٌ أبكمُ، وأنّ السِحرَ وحسابَ الرمالين وأخبارَ الدراويش بالغيب وقدرتَهم على النفع والضرر، وغيرَ ذلك من الأوهام حقائقُ مسلَّمةٌ يجبُ الإيمانُ بها". ويختم الحدّادُ قولَه في هذه المسألة بأن المرأةَ إذا تعلّمَت صَلُحَ حالُها وحالُ بَنِيها وغَدا لها من العِلمِ والتحصيل ما يُعيِنُها على تنشئةِ أولادِها تنشئةً حسنةً. خلافَ ما تُبديه بعضُ الأمّهات اللاتي إذا ما وَجَدْن مِن أبنائهنّ فضولاً وكثرةَ أسئلةٍ تَوجَّسْنَ ظنّاً أنّ الجنَّ تكلَّمَ على لسان الأطفال.
نَبّهَ الشيخُ والفقيهُ التونسيُّ محمد الطاهر بن عاشور، شيخُ جامع الزيتونة في القرن الماضي، إلى ما ذاعَ في المجتمع التونسيّ من اعتقادِ شؤمِ بعضِ الشهور والأيّام، كيوم الأربعاء الذي ذكرناه. وأَفتَى الشيخُ بن عاشور بتحريمِ التطَيُّرِ من شهرِ صَفَرَ ويومِ الأَربعاء. ورَدَّ هذه المعتقداتِ إلى إيمانِ الجاهليةِ القديمِ بالعفاريت والخوارق، فقال إنهم "كَذَبوا تكاذيبَ أشاعوها بين الناسِ مِن دعوى تعرُّضِ الغُولِ لهُم في أسفارهم ... ومحادثتِهم مع الجنِّ، وغيرِ ذلك". ووَصَلَ ما عَدَّهُ من ضلالات الجاهلية بما صار عليه الحالُ في تونس من إيمانٍ راسخٍ بهذه الأفكار. فقال في نصِّ فتواه "ولِأهلِ تونس حظٌّ عظيمٌ من اعتقاد التشاؤم بصَفَرَ، لا سيّما النساءُ وضِعافُ النفوس. فالنساءُ يسمِّينَه 'ربيب العاشوراء'، ليجعلوا فيه حظّاً من الحُزنِ وتجنُّبِ الأعراسِ والتنقّلات". وذِكرُ النساءِ هنا لا يتنزّلُ عبثاً، لا سيّما إذا ما قرَنّاه بما جاءَ في طرحِ الطاهر الحداد من اتّصالٍ بين حرمان المرأة من التعليم ومَيلِها إلى الخرافة.
وخَصَّ الشيخُ بن عاشور قِسماً من فتواه للحديث عن عادةِ التطيّرِ من يوم الأربعاء في تونس، خصوصاً الأربعاءَ الأخيرَ من شهرِ صَفَر. فقال: "وأهلُ تونس يسمّونها 'الأربعاء الكحلاء' أي السوداء، كنايةً عن نحسِها، لأنّ السوادَ شعارُ الحزن والمصائب" حتّى جعلَ بَعْضُ من وَصَفَهم الشيخُ بالجَهَلةِ المركَّبِين لهذا اليومِ صلاةً تُقامُ بُغيةَ دفعِ نحسِه وأذاه. وكان موقفُ الشيخ واضحاً في هذا الأمرِ إذ عدّه بدعةً وضلالة.
لَم تَسْلَمْ جزيرةُ جِربَةَ من هذه الحملةِ فاستُهدِفَت مقاماتُ الأولياء وأَتَت المَعاولُ على كلِّ معمورةٍ من معموراتِ الجزيرة. فخُرِّبَت الأبنيةُ وهُدِمَت قِبابُها حتّى كُتِبَ على معمورةٍ في منطقة المحبوبين بجربةَ "هذا شِرْك". ساهَمَ هذا في تغيُّرِ نظرةِ عددٍ من أهلِ جربة إلى المعامير، فشاعَ بينَهم أنّ هذه الأبنيةَ ليست تراثاً محليّاً بل بِدعاً جاءت مع التُرْكِ أو لعلّها من مخلّفات الاستعمار الفرنسيّ لحثِّ الناس على التخلُّفِ والجهالة. وتساءلَ الناسُ واختلفوا عن وجوبِ حفظِ المعمورات من عدمِه وذاعت هذه النقاشاتُ في وسائل التواصل الاجتماعيّ. كقصّةِ رجلٍ أرادَ هدمَ معمورةٍ تقعُ في منزلِ عائلته، ولكنّه خَشِيَ مخالفةَ وَصيّةِ أُمِّهِ بالحفاظ عليها فظَلَّ مُتردِّداً. وتناقلَ أهلُ جربةَ قصيدةً تُحدِّثُ عن المعامير يقولُ مطلعُها:
شْكُونْ في جزيرة جربة ما يسْمَعشْ بالمعمورة؟
حاجة كانت تلقاها في كُلْ مْسِيحْ منْزِل وكل دُورة
وهذا تعريفٌ بالمعمورة وتأكيدٌ على ذُيوعها في جربة لمعرفةِ كلِّ الناسِ بها. فتلقاها في كلّ "مْسيح" أي في المساحة الواقعة بين كل دارٍ ودارٍ، وفي كلّ منزلٍ ومنعرَجِ طريقٍ. تتناول الأبياتُ القادمةُ إقبالَ النساء على زيارة المعمورة وطقوسَهُنّ فيها:
النساء ماشِية جايّة تسألها وين تقولك للمعمورة
الِّي تضوّي بالشمع وتْحُطْ علم وتعطي الدُّورة
والِّي بِنتها مكتُوبها ما جَاشْ تْقُول نِمشي للمعمورة
والِّي ولدها مريض تْهِزُّو ليها تقول طبيبة مشهورة
والمُرادُ هنا أنّ المعمورةَ كانت قِبلةَ النساء يَقصِدْنَها لتسهيل الزواج على بناتهنّ وشفاءِ أولادِهنّ من الأمراض. ومن هذا شَبَّهَ أحدُ الأبياتِ المعمورةَ بالطبيبة التي يَتوافَدُ عليها المرضى. وذَكرَ إنارةَ النساءِ المعمورةَ بضوءِ الشموع ثمّ "تعطي الدورة" أي ترحلُ إثرَ ذلك لئلّا تطيلَ الإقامة فيها وفقاً للاعتقاد السائد. لكنّ بقيةَ أبياتِ القصيدة تهجو المعمورةَ لأنها مظهرٌ للجهل ونقيضٌ للعلم والإيمان، ومنه وَجَبَ هدمُها كما جرى في تلك الفترة:
مُعتقدات جهل بالدين والله يسامح من بدع المعمورة
واليوم والحمد للّه لم تبق سوى آثار منها مشهورة
بَرْشَا ناس فاقَتْ وعرفت دين ربِّي فِي أبهى صورة
والله يرحم من قرّى وَوَرّى وعرَّف الناس حقيقة المعمورة
تُبارِكُ القصيدةُ هدمَ المعمورة وتحمدُ اللهَ على أنّ المعامير قد استحالت اليومَ ركاماً وآثاراً لأن الناس استفاقت بفضل العلم والمعرفة والتربية الصحيحة فنبذَت هذه البِدَع. ولَئِنْ كانت النيّةُ هنا متّصلةً بهداية الناس إلى طريقِ الحقِّ فإنَّ ما نَتَجَ عن حملاتِ العنف والهدم لم يَزِدْ إلا مِن استفحالِ الجهل والشعوذة. فتخريبُ المعمورات لم يَعُدْ مُقتصِراً على أصحاب الفكر المتشدّد بل انضمَّ إليهم حفّارو القبور من الباحثين عن الكنوز. فهدموا المعاميرَ ونَبشوا تُربتَها معتقِدين أنها تضمُّ ثرواتٍ خبّأَها الأسلافُ والأجدادُ، حتّى استَدعى بعضُهم عرّافاً مغربيّاً ليفُكَّ طلاسمَ المعامير ويستخرجَ كنوزَها.
تزامَنَ ذلك مع انتشارٍ كبيرٍ لأدعياءِ العِلم بالغيب وقراءةِ الكفِّ وفكِّ السِحر وجَلبِ الحبيب. وذلك بعد أن مَرَّت الهبّةُ السلفيّةُ كسحابةِ صيفٍ على تونس فلَم تَقَعْ مِن نفوسِ أهلِها مَوقِعاً حَسَناً. وقد عزا الهادي التيمومي هذا الرفضَ إلى مَيلِ التونسيين إلى الاعتدال ونبذِ كلِّ أشكال التطرّف. وأكّدَ أنّ أهلَ تونس قد ظَلّوا متشبِّثين بالاعتقاد في السِحر والشعوذةِ مع "إيمانهم بأهمّية العِلم وانفتاحِهم على الحضارة الغربية المعاصرة" فقد عادت الفضائياتُ للاهتمام بمسائلِ الجانِّ والعفاريت.
وواصَلَ عبد الرزاق الشابّي انتِهاجَ هذا المسارِ في برنامج المسامح كريم، مع العقوباتِ التي سلّطَتها عليه الهيئةُ العُليا المستقلةُ للاتصال السمعيّ البصريّ. فقد قَضَت بإيقاف بثِّ البرنامج وتغريمِه أكثرَ من مرّةٍ بسبب الحلقات التي جمعَ فيها بين أُناسٍ مساكينَ وشيوخٍ من الرُقاةِ بهدفِ إهاجةِ الضيوف ودفعِهم إلى الإغماء والعَويل. ولَم تقتصِرْ هذه الظاهرةُ على القنوات التونسيّة، إنما كان هذا شأنَ عددٍ من البرامج العربيّة كبرنامج "آن الأوان"، الذي بُثَّ سنة 2014 على قناة المحور بتقديم المذيعة المصرية هالة سرحان، وخُصِّصَت فيه حلقاتٌ لاستخراجِ الجانّ والبحثِ في تورّطِ العفاريت في قضيّةِ حرقِ قرية الترامسة بمصر. وناقشَتْ قناةُ "القاهرة والناس" هذه الشؤونَ في برامجها فعُنِيَت بإخراج الشياطين وسماعِ قصص الناس مع الجانّ حتّى استدعَت يوماً رجلاً شائهَ الوجه مُدَّعيةً أنه كاهنُ عَبَدَةِ الشياطين، مع تحذيرٍ سابقٍ لأصحاب القلوب الضعيفة.
واستَغلَّ عددٌ من هؤلاء العرّافين سذاجةَ الناس فسَطَوا على أموالِهم وانتَهكوا حُرمَةَ أجسادِهم. ومن هذا قضيّةٌ هَزّتْ تونسَ منذ ثلاثِ سنواتٍ عُرِفَت بقضيّةِ "بلقاسم". وهو مشعوذٌ كان يُقنِعُ مَن يَقصِدْنَه من النساء بأنّ الجانّ قد تلبَّسَ بهِنّ وألّا سبيلَ إلى شفائِهنّ مِن المَسِّ إلا بخضوعهنّ إلى "العلاج السُفلِيّ" والمتمثّل في أن يواقِعَهنّ بهدفِ إخراجِ الجنّ. واعتَرفَ بلقاسم في تسجيلٍ صوتيٍّ بثَّه برنامجُ "الحقائق الأربع" أنّه قد "عالَجَ" مئاتِ النساء بهذه الطريقة.
دفعَتْني سيرةُ بلقاسم إلى البحث عن الإرثِ المتعارَف عليه بجِربةَ في شفاءِ من سُلِّطَ عليهم السِحرُ أو مَسَّهُم أهلُ بسم الله. فحدثَتْني أُمّي أنها كانت تذكرُ طائفةً من النساء يُسمَّيْن "الجَابْرِيَّات" وهُنَّ عجائزُ لَسْنَ من جزيرةِ جِربةَ، ويَطلُبُهنّ أهلُ الجزيرة لشفاءِ من كانت به علّةٌ روحيّةٌ فتُقامُ لهُنّ الولائمُ وتُوضَعُ على شَرَفِهنّ قِصاعُ الكُسكُسي فيَأكُلْن منها وأبناؤهن ثم يُباشِرْن عملَهنّ. وعرُفَِت الجابرياتُ بارتدائهنّ الحولي، وهو لباسٌ تقليديٌ تونسي من قماشٍ حريريٍّ، إلّا أن حولي الجابريات كان مُختلِفاً؛ فلَونُه أَسْودُ ويَضَعْنَه مباشرةً على أجسادِهنّ لأنَّ "دَمَهُنّ دائماً سَخُون".
حالَفَني الحظُّ بأن اهتديتُ إلى أحدِ بيوتِ الجابريات القُدامى، واستطَعتُ بعد عناءٍ لقاءَ إِحدى العجائز التي كانت تُمارِس هذه الحِرفة. وبعد تعهُّدٍ طويلٍ مِنّي بألّا أُسجِّلَ صوتَها وألّا أُصوِّرَها قَبِلَتْ مجالسَتي فأَصغيتُ إليها بلا مُقاطَعة، ذلك أنّها لم تُعْنَ بالإجابة عن أسئلتي وظَلّت تُحدِّثُ في غيرِ انقطاع. وأَوّلُ ما قالَته بعدَ طولِ استعاذةٍ إنّ أصلَ الجابريات يعودُ إلى وليٍّ صالحٍ هو جَدُّهنّ الأكبرُ الذي دَعا عليهنّ بالدَرْوَشة واكتساب القُدرة على المداواة. ولذلك كُنّ يَشفِين الناسَ قُربَ المساجد والزوايا أو يتنقَّلن إلى حوش المريض، وكانت عادتُهنّ في العلاج أن يَضَعْن المرضى وسطَ الحوشِ ثمّ يَقُمْن بما سمَّتْه العجوزُ "الجدب" فيَقرَأْنَ عليهم شيئاً من القرآن مصحوباً ببعض التمتمات. حتّى إذا أُغْمِيَ على أصحاب العِللِ وخَلدوا إلى النوم، استيقَظوا بعدَها وقد زالَ عنهم السِحرُ وبَطُلَ المَسُّ.
وأَكّدَت الجابريّةُ أنّه قد سبقَ وتردَّدَت عليها كلُّ فئاتِ البَشرِ باختلاف مِلَلِهم وحِرَفِهم، حتى قالت بأنّ أكثرَ من طبيبٍ قد زارها للتداوي والاستشارة. وكانت تُذَكِّرُ في كلِّ حينٍ أنّ حِرفةَ الجابريات لا تبتغي كسبَ المال إنّما هي بركةٌ يَرُمْنَ نقلَها لمن أصابته عينٌ أو تحرّشَ به ماردٌ من أهلِ بسم الله. ثُمَّ أن ما يتقاضَيْنَه لقاءَ عملِهِن ليس إلا إكراماً مُتمثّلاً في شيءٍ من القمح أو بعضِ السُكَّرِ والعجين أو كتفِ خروفٍ في أحسنِ الأحوال، وهنا يجودُ كُلٌّ باستطاعته.
ودَّعْتُ الجابريّةَ بعد أن قَرَأَتْ عليّ شيئاً من تمتماتٍ لم أفهمْها. ثُمَّ سِرْتُ أفكّرُ في هؤلاء النسوةِ اللائي أفنَيْنَ سِنينَهنّ في دفعِ البؤسِ عن الناس، ولو بأضعف الإيمان، مُقبِلاتٍ بصلاحِ النيّةِ ومُدبِراتٍ بما كَتَبَه اللهُ مِن رزقٍ، ثم في هؤلاء الذين ابْتُلِينا بهِم من أصحاب الدَجَلِ ونابشي جيوبِ الناسِ وأعراضِ المساكين. وخُيِّلَ إليَّ أن علاقتَنا في حوشنا بأهلِ بسم الله كانت خيراً من علاقتِنا بغيرِهم من الأهالي. فهُمْ، وإنْ كُنّا نخشاهم، لَم يتَعَرَّضوا لنا بسوءٍ نَذكرُه، وإنّما كُنتُ أَستأنسُ بأخبارهم صبيّاً وأَجِدُني اليومَ أَحِنُّ إلى تلك الليالي أَشدَّ ما يكون الحنينُ.