استمع لهذه القصة
ولأن حاصلَ تقسيمِ عددِ سكان الأردن على عددِ المسلمين في العالَم صغيرٌ، فإنّ عددَ الحجّاجِ المسموح به للأردنيين قليلٌ جدّاً. وعادةً تعطَى الأولويةُ للمتقدمين في العُمر أو لفئاتٍ أُخرى بطريقةٍ غيرِ عادلةٍ وبالمحسوبيات. ولهذا وصلتُ لقناعةٍ أنّ فُرَصي في أداءِ فريضةِ الحجّ بطريقةٍ نظاميةٍ ستكون ضئيلةً إن لَم تكُن شبهَ معدومةٍ.
أَخبَرني أحدُ الأصدقاء الموثوقين قبلَ موسم الحجّ بشهرين أن هناك فرصةً للحجّ، لكن بطريقةٍ غيرِ نظامية. ذلك أن السعوديةَ سعياً منها لتشجيع السياحة وتنويع مصادر الدخل في البلاد بدأَتْ سنةَ 2019 بمَنحِ تأشيراتِ زيارةٍ تخوِّل حامليها زيارةَ الأراضي السعودية لمدّةِ عامٍ كاملٍ باستثناء مكة المكرمة أثناء مناسك الحج. استخدمَ كثيرٌ من الناس تلك التأشيرات تجاوزاً لأداءِ فريضةِ الحجّ العامَ الماضي.
قرّرتُ أن أخوضَ تلك التجربةَ، ويا ليتَني لَم أفعل. فأنا كثيراً ما كنتُ أسمع مقولةَ إنجليزية "أنّ الطريقَ إلى جهنّمَ مُعَبَّدٌ بالنوايا الحسنة"، فحُسن النية لا يمنع الزلل، لكنّي لَم أدرك يوماً أنّ رحلتي إلى الحج خارجَ نظامِ الحملات الرسمية ستقودني إلى جهنم.
ولطالما سَمِعْنا عن وَفَيَاتِ الحج، والتي كانت تحصل غالباً بسبب حوادث التدافع أثناء رمي الجمرات في مِنىً بمكة المكرمة، أو المواقع المحيطة بها، كحادثة التدافع التي وقعت في 2015 وأَوْدَت بحياةِ أكثرِ من 2200 شخصاً، أو حتى حادثة سقوط الرافعة في المسجد الحرام في مكة في سبتمبر من العام نفسه بسبب الرياح العاتية والأمطار الغزيرة، ما تسبّب في مقتل 110 شخصاً، وإصابة 209 آخَرين.
ومع أنّ هذه الحوادثَ شكّلت لي هاجساً حقيقياً في بعض الأوقات، إلا أنني كنتُ متصالِحاً مع احتمالاتِ وقوعِها، خاصّةً في ظلّ الأعداد المليونية من الحجّاج الذين يتوافدون سنوياً من كلّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، محمَّلين بمستوياتٍ متفاوتةٍ من الوعي والتحضّر والقدرات التنظيمية، إذا جازَ التعبير.
ولَم يخطر ببالي لحظةً واحدةً أن يكونَ مصدرُ الخطر في موسم الحج هذا هو ضرباتُ الشمس الحارقة والإجهادُ الحراريُّ الذي فَتَكَ بمئاتٍ من الحُجّاج غيرِ النظاميين الذين لَم يَشفع لهم حُسْنُ نواياهم ونبلُ مقصدِهم في الإفلاتِ من المصير المأساوي الذي كان ينتظرهم.
ومع أنّ كثيراً من وكالات الأنباء والمنصّات الإخبارية تتناقل اليومَ خبرَ وفاةِ أكثر مِن ألفٍ وثلاثمئةِ حاجٍّ وحاجّةٍ أغلبُهم غيرُ نظاميٍّ، إلا أني رأيتُ أن هذه الأخبارَ تُروَى مِن مكانٍ قَصِيٍّ، ويُسرَدُ الخبرُ أرقاماً جامدةً. لهذا آثرتُ أن أرويَ قصّةَ تجربتي بكلّ أمانة، مِن حجزي تذاكرَ السفر للمملكة، مروراً بتهريبي إلى داخل مكة، وانتهاءً باقترابي من الموت عدّةَ مرّاتٍ أثناء تأديةِ الحجّ بشكلٍ غيرِ نظاميٍّ تحت لهيبِ الشمسِ الحارقة.
كانت الأمورُ تسيرُ على ما يُرامُ في أوّل الأيام قبل أن نُفاجَأَ بتشديدٍ غيرِ متوقَّعٍ من أجهزة الأمن السعودية. فنحن قد انطلقنا في رحلةٍ بالطائرة إلى المدينة المنورة في السابع من يونيو 2024 وأمضينا فيها ثلاثةَ أيامٍ هادئةٍ، إذ زُرْنا المسجدَ النبويَّ والروضةَ الشريفةَ. لَم يعكِّر صَفْوَ إقامتنا في المدينة إلّا الأخبارُ الواردةُ من كلّ مكانٍ التي تؤكِّد أن أجهزة الأمن السعودية قد لجأَت، وعلى غير العادة، إلى تشديد الإجراءات على الحُجّاج غيرِ النظاميين وأنها عازمةٌ هذه المرّة على منعهم من دخول مكة هذا العام.
تواصَلْنا مع الشيخ بلال، وهو "سمسار" الحجّ المسؤولُ عن تسهيل دخولنا مكة وتأمين الدعم اللازم من سكنٍ ومواصلاتٍ لأداء فريضة الحج. أكّدَ الشيخُ بلال صحّةَ أنباء التشديد الأمنيّ، وأن الأمورَ أصبحَت معقّدةً على غير المتوقع، إلّا أنه طمأننا بأن هناك فرصةً كبيرةً لتهريبنا إلى مكة عن طريق "الكدّادة" وهُم أصحابُ السياراتِ الخاصّةِ الموجودون في المنطقة الصحراوية بين جدّة ومكّة، الذين يهرِّبون الحُجّاجَ غيرَ النظاميين مقابلَ مبالغَ ماليةٍ باهظةٍ، مستغِلّين موسمَ الحجّ ورغبةَ الناس في أداء الفريضة تحت أيّ ظرفٍ كان.
بعد طول انتظارٍ، تلقَّينا مكالمةً من الشيخ بلال تُفيدُ بضرورة التوجّه إلى مكانٍ اسمُه "موقف الكيلو عشرة" لتهريبنا إلى داخل مكة. وهذا المكان يقع على طريق مكة القديم، وتتجمّع فيه سياراتُ الأُجرة أو سيارات "الكدّادين". تبعد منطقة كيلو عشرة مسافة نصفَ ساعةٍ بالسيارة عن مكة المكرمة، وكانت الخطةُ أن نذهب إلى هناك ليُقِلَّنا أحدُ هؤلاء الكدّادة بسيّارته إلى مكة.
تفاجأنا عندما وصلنا إلى موقف الكيلو عشرة أن المكان مكتظٌ بالناس، خاصةً من الأردن وفلسطين ومصر. وبدت على محيّاهم علاماتُ اليأس والتعب والإرهاق. وعندما سألتُ عن سبب وجودهم في هذه المنطقة، تبيّن أن كثيراً منهم ممّن قُبِض عليهم في وقتٍ سابقٍ ورُحّلوا من مكة إلى هذه المنطقة. فبعضهم سيعودون أدراجهم إلى بلدانهم لأنهم استُنزِفوا مالياً وبدنياً، بينما البعضُ الآخَرُ ما يزال مصمِّماً على المحاولة مرّةً أُخرى دخولَ مكة مستعيناً بالكدّادة مهما كلّفَ الثمن.
بدأَت رحلةُ تهريبنا إلى مكة بعد أن اتفقنا مع السائق على دفع ألف ريالٍ سعودي (حوالي 266 دولاراً أمريكياً) لكل راكب. أثناء مفاوضتنا مع السائق، نصحنا بالموافقة لأن هذا المبلغ سيتضاعف عدّة أضعافٍ مع كلّ يومِ تأخيرٍ، فوافقْنا فوراً. انطلقنا معه بالسيارة إلى مكة، وقد لاحظتُ أن السائق كان يستكشف المكان من معارفه وسائقين آخَرين مستخدماً لغةً غيرَ مفهومةٍ ومليئةً بالألغاز. في نقطةٍ معيّنةٍ على الطريق، طلب منا السائقُ القفزَ من السيارة والجريَ بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ إلى أحد البيوت التي ما زالت تحت الإنشاء في الجهة المقابلة للطريق، وهو ما فعلناه. كان ذلك حتى يتمكن من عبور إحدى نقاط التفتيش والالتفاف عليها.
حاولتُ التعرّفَ على رفاقي في السفر بينما كنّا مختبئِين. كان أحدُهم قادماً من الجزائر. سألتُه عن سبب سلوكه هذا الطريقَ، فكانت إجابتُه طريفةً إذ قال إنه كان يعمل طوال حياته بتهريب البنزين والمواشي من مصر إلى الجزائر مروراً بتونس، وأنه عندما ندم وقرّر أن يحجّ إلى بيت الله معلناً توبتَه، وجد نفسَه يحجُّ تهريباً إلى مكة، وكأن التهريبَ كان قَدَرَه المحتومَ خيراً أو شراً.
بعد دقائق من النكات والضحك، وصلَ السائقُ ورَكبْنا معه السيارةَ وواصَلْنا الطريقَ إلى مكة حتى وصلْنا إلى آخِرِ حاجزٍ أمنيّ. هناك شعرتُ بالخوف الشديد من الشرطيّ الذي استوقفَنا وسأل عن تراخيصنا. أجابه السائقُ أنه لا يوجد معنا ترخيصٌ، فما كان من الشرطيّ – وعلى غير المتوقَّع – إلّا أن سمحَ لنا بالدخول. فكّرتُ مليّاً في رَدّة فعل الشرطيّ، وما زلتُ لغاية هذه اللحظة لا أدري إن كان هذا الشرطيُّ متعاوناً مع السائق ومتّفِقاً معه على نسبةٍ معيّنةٍ من المبلغ، أم أنها محضُ صُدفةٍ قيّضَت لنا رجلاً طيّبَ القلب ويسّرَت لنا دخولَ مكة لأداءِ فريضة الحجّ. وبعد أن تجاوزْنا آخِرَ حاجزٍ أمنيٍّ تهلّلَت أساريرنا بالفرح وبدأَت ألسنتُنا تلهج بالدعاء للسائق والثناء عليه. التفَتَ إلينا بفخرٍ وفي عينيه لمعانٌ واضحٌ وطلبَ منا أن ندفعَ المبلغَ كاملاً. دفعْنا له الألفَ ريالٍ، ودَعَوْنا له بالخير، وانطلقنا كلٌّ إلى حالِ سبيله في مكة.
لكنّي عرفتُ أن الخطر الأمنيّ ما زال مُحدِقاً بعد أن عدتُ من الحرم إلى السكن. تعرفتُ أنا وصديقي على سكان العمارة من الحجّاج غير النظاميين، وبدأنا الحديثَ عن المداهَمات التي جَرَت في العمارة مِراراً وتَكراراً، وما تخلّلَها من عنفٍ وتكسيرٍ للأبواب وترحيلٍ إلى جدّة. مكثنا في السكن ثلاثةَ أيامٍ ولَم نجرؤ على الخروج مخافةَ أن يقبضَ علينا رجالُ الأمن الذين كانوا يجوبون المكانَ صباحَ مساء. كان يوصي بعضُنا البعضَ بإبقاء الأضواء خافتةً حتى لا نلفتَ الانتباه وكنّا نلجأُ إلى شراءِ طعامِنا خِلسةً أو نستعين بأشخاصٍ مصرَّح لهم بالحج.
بدأ التوترُ والقلقُ يصلُ قمّتَه مع اقتراب موعدِ شعيرةِ الوقوف بعرفةَ التي يجب علينا أداؤها ليصحَّ حجُّنا. كان يتوجب علينا الوقوفُ يومَ التاسع من شهر ذي الحجة على جبل عرفات الذي يبعد عن العزيزية حيث نسكن قرابة العشرين كيلومترا. بدأ جميعُ الحُجّاج غيرُ النظاميين اتصالاتِهم بالشيخ بلال الذي كان من المفترض أن يفيَ بالجزءِ الأهمّ من الاتفاق وهو توفيرُ حافلةٍ مرخَّصةٍ تقلّنا إلى جبل عرفات، وتنقُلُنا بعد النزول من عرفات إلى مزدلفة حيث يجب أن نبيت ليلةً كاملةً، وبعدها رميُ الجمرات في مِنى. ولكن الشيخ بلال لَم يرُدّ على محاولات اتصالنا التي تكرّرَت ساعاتٍ عديدةً دونَ جدوى.
وخوفاً من ضياعِ وقفةِ عرفات منّا، قرّر الجميعُ بعد منتصف الليل الانطلاقَ من العزيزية إلى جبل عرفات مشياً. كان من اللافت رؤيةُ عددٍ من الحُجّاج من كبار السنّ الذين وجدناهم يقطعون الطريقَ نفسَه إلى جبل عرفات بإصرارٍ كبيرٍ، يمشون بهدوءٍ وقد أثقلَهم بُعدُ المسافة وأَنهَك أجسادَهم الضعيفةَ التعبُ والإرهاقُ. كنا جميعاً نمشي وحافلاتُ الحجّاج النظاميين ودورياتُ الشرطة تمُرُّ من جانبنا. وصلنا أطرافَ جبل عرفات مع شروق الشمس، وقد بلغَ منّا التعبُ والإرهاقُ والعطشُ كلَّ مبلَغ. لَم أعلَم ما الذي حلَّ بالمسنِّين الذين تركتُهم ورائي. بدا لي أن رحلةَ المشي هذه لا تنتهي، وأني لَم أعُد قادراً على المواصلة، فافترشتُ الأرضَ آخذاً قسطاً من الراحة. بدأتُ أبحثُ عن مكانٍ ملائمٍ أتّقي به الحرَّ مع ازدياد حرارة الشمس، ولكني تفاجأتُ أن كلَّ الأماكن التي يمكن أن يُستظَلُّ بها على طول الطريق إلى مزدلفة كانت محجوزةً أو مشغولةً بحجّاجٍ آخَرين. مع حرارةٍ تصلُ ستّاً وأربعين درجةً مئويةً ولعلّها تجاوزَت ذلك في الأماكن غيرِ المظلَّلة، وتحت وطأةِ الحَرِّ الشديدِ والإرهاقِ، قرّرتُ البقاءَ في الشارع الذي يمرُّ من أمام مسجد نَمِرَة. وكان هذا الشارع واسعاً ومزوّداً على جنباته برشاشاتِ المياه التي كانت تنزلُ على رؤوس الحجّاج برداً وسلاماً، وتخفّفُ عنهم حَرَّ الشمس الحارقة.
ومع انتصاف النهار وتلاشي الظّلِّ وارتفاع درجة الحرارة أصبحَ المكانُ أكثرَ قسوةً على الحُجّاج الذين لَجؤوا إليه. كانت هذه الفترةُ من أصعب اللحظات التي عايشتُها في حياتي، فقد تظافرَت الظروفُ لتزيدَ من وضعي البائس. فقد كنتُ مصاباً بارتفاع ضغط الدم ولَم أحمل دوائي معي، وصادفَ أنْ كنتُ مصاباً حينَها أيضاً بالرشح والإنفلونزا. وكنتُ عطشاناً وجائعاً، إذْ لَم أتناول الطعامَ قبلَها بليلةٍ خوفاً من أنْ أُضطَرَّ لدخول الحمّام، الذي أصبح الوصولُ إليه هدفاً صعبَ المنال وسطَ هذه الحشود المليونية.
بدأَتْ قِوايَ تخورُ والعرقُ يتصبّبُ من جبيني ويملأُ عيوني، والنُعاسُ الشديدُ يُحكِمُ قبضتَه. وبدأتُ أغطُّ في نومٍ متقطّعٍ، ولم يكن يوقظُني إلا صرخاتُ الذين يخرّون مُغمىً عليهم، أو ضرباتُ أرجُلِ الحجيج غيرُ المتعمّدةِ التي كانت تصطدم برأسي وهم يحاولون تخطّي أجسادِنا بحثاً عن مكانٍ يأوون إليه من حَرِّ الشمس.
لم ينقذني من الموتِ وأنا في هذه الحالة إلا سيّدةٌ مصريةٌ كريمةٌ تقاطعَ دَربُها مع دَربي صدفةً. فبينما كنتُ في وضعي المُزري على الطريق، إذا بسيدةٍ تصرخ وقد أصيبت بهلعٍ شديدٍ وبدأَت ترتجف أطرافُها. هُرِعَ إليها نسوةٌ مِن حولِها يمسحن وجهَها ورأسَها بالماء، فاستفاقت من حالة الإغماء وهي في حالة خوفٍ شديدٍ. أجلَسوها بجانبي، وكانت تُتَمْتِمُ بكلامٍ غيرِ مفهومٍ ثم سكتَت. وبينما هي على هذه الحال، سمعتُ جاريَ الباكستانيَ يتساءلُ منتقِداً انعدامَ البِنى التحتية والمَرافق الخاصة بالحجّاج في جبل عرفات: "ما يضيرهم لو بَنوا مظلّاتٍ ضخمةً في هذا المكان الحيويّ كتلك الموجودةِ بساحاتِ المسجدِ النبويِّ في المدينة المنوّرة". رددتُ عليه ساخراً بلغةٍ إنجليزيةٍ ثقيلةٍ: "يبدو لي أن لديهم أولوياتٍ أكثرَ أهميةً من حجّاجِ بيتِ الله، كمشروعِ نيوم وغيرِه". عندما سمعَت السيدةُ حوارَنا عرفَت مِن لغتي الإنجليزيةِ المكسّرةِ أنّني عربيٌّ مثلُها. فسألَتْني بعضَ الأسئلةِ التي كانت تبوح فيها بتجربتها القاسية وغير المتوقعة من الألم والمعاناة. وبعد ذلك أخبرَتني معلومةً أنقذَت حياتي من الموت المحدِق، إذ أخبرَتني أن مسجدَ نَمِرَة، وهو المسجد الرئيسي في عرفات، فُتِحَ أمامَ المصلّين. ونصحَتني بالإسراع فوراً لدخول المسجد، حتى ولو كان ذلك عنوةً، حتى أنجوَ بنفسي من حرّ الشمس. وهو ما فعلْتُه، حيثُ شكرتُ اللهَ وحمدتُه الذي ساقَ لي هذه السيدةَ لتهديني إلى هذا الحلّ الذي نقلني فجأةً من جحيم الحَرّ إلى نعيمِ المكيّفات الهوائية.
سرعانَ ما ساءَت أُموري مجدّداً مع غروبِ شمس يوم عرفة وانتقالِ الحجّاج منها إلى مزدلفة التي تبعد عنها خمسة كيلومترات للمبيت فيها. فالمبيتُ في مزدلفة أحدُ واجبات الحجّ وأنا اقتربتُ من إكمالِ أربعٍ وعشرين ساعةً مشياً تحت شمسٍ حارقةٍ بلا ماءٍ ولا غذاء. في الطريق مشياً إلى مزدلفة تراءى لي منظرُ الحجّاج الذين افترَشوا الطرقات واستظَلّوا بأجساد بعضِهم اتقاءَ ضربات الشمس. عندما وصلْنا إلى مزدلفة قرّرنا أن نمضيَ فيها الساعاتِ الأُولى من الليل حتى نحقّقَ المبيتَ فيها، ثم نعودَ بعدَها لسكنِنا في العزيزية.
ومِثلَ كلِّ شيءٍ آخَرَ في هذه الرحلة، كان الموتُ يلاحقُني في طريق العودة من مزدلفة للعزيزية. بدأتُ بعدَ منتصف الليل البحثَ عن سيارةِ أُجرةٍ تقلّني إلى سكني في حيّ العزيزية. أرشدَني أحدُ أفراد الشرطة إلى أحدِ الجُسور البعيدة، أو "الكباري" كما يطلَق عليها في السعودية. واصلتُ المشيَ حتى وصلتُ إلى الجسر، وهناك رجوتُ أحدَ أفراد الشرطة أن يطلبَ من أحد سائقِي الحافلات المغادِرة أن يحملَني معه في طريق عودته من مزدلفة إلى أقرب مكانٍ فيه سيارةُ أجرةٍ تقلُّني إلى سكني. استجاب الشرطيُّ وأجبرَ أحدَ سائقي الحافلات على التوقّف ليحملَني معه. وأنا في الحافلة، شاهدتُ عبرَ النافذةِ مئاتَ الآلاف مِن البشرِ من جميع الأجناس والأعراق يفترشون الأرضَ في مزدلفة، يقضون ليلتَهم في هدوءٍ تامٍّ في الساحات وتحت الجُسور وفي الخيام. كان منظراً مهيباً لَم أَرَ في حياتي مثلَه قطّ.
بدا سائقُ الحافلة غاضباً منّي لأن وجهتَه بعيدةٌ تماماً عن المكان الذي أنوي الذهابَ إليه، فاضطّرَني للنزول في مكانٍ مظلمٍ وموحشٍ بين جبالٍ سوداءَ شاهقةٍ. وهنا شعرتُ أن الخناق بدأ يضيق عليَّ، حيث بلغَ الإنهاكُ ذروتَه ولم يعُد بإمكاني التحرّك أو المشيُ أكثرَ، ولأوّل مرّةٍ شعرتُ بالخوف أو التهديد بالموت فقد خارت قِوايَ تماماً بسبب جوعي وعطشي ومرضي. إذ مشيتُ على قدمي حتى تورّمَتا، من حيّ العزيزية بمكة إلى جبل عرفات نحو عشرين كيلومتراً. ومكثتُ في عرفات ساعاتٍ طوالاً في الشمس الحارقة. ثم واصلتُ المشيَ إلى مزدلفة التي تبعد خمسة كيلومتراتٍ أُخرى. ثم مشيتُ في مزدلفة أكثرَ من عشرة كيلومتراتٍ إضافيةٍ بحثاً عن سيارةِ أجرةٍ تقلُّني إلى سكني. استجمعتُ ما بقيَ من قوّتي وواصلتُ المشيَ حتى وصلتُ إلى مخيّمِ مجموعةٍ من الحجّاج النظاميين الذين وجدتُهم ينامون على فِراشٍ فاخرٍ. كان حظّي كبيراً هذه المرّةَ إذ وجدتُ سجادةً شبهَ فارغةٍ من الناس، فتسللتُ إليها خِلسةً لأنامَ عليها حتى الصباح ظنّاً منّي ألّا أحدَ يراني. في عتمةِ الليل، كنتُ أَجمعُ بقايا المياه في العبوات المستخدَمة لأشربَها وأَرويَ ظَمَئي. بعد أن ارتويتُ وشعرتُ بالطمأنينة، نِمتُ مستلقياً على السجادة. إذا بشابٍّ سعوديٍّ يلبس ثيابَ الإحرام يغطّيني مخافةَ انكشافِ عورتي ويوعِزُ لعاملٍ معه بإحضارِ وسادتَين لي.
شجَّعَني سلوكُ هذا الشابِ النبيلِ أن أشكوَ إليه تعبي ومشكلتي، وأن أطلبَ منه مساعدتي في العثور على سيارةِ أُجرةٍ تقلّني إلى مكانِ سكني. عرفتُ مِن حديثي معه أنه شهمٌ وكريمٌ مثل غالبية رجال الأمن الذين قابلتُهم. أشارَ إليَّ بكلماتٍ قليلةٍ جدّاً أن أمكثَ معهم حتى الصباح، وسيأخذُني إلى أيّ مكانٍ أريدُه. حملني الشابُ صباحاً في سيارته النقل "البيك آب" وأوصلَني إلى مكة وأرشدَني إلى الطريق الصحيح حتى أصلَ مقصدي. ودّعْتُه وأنا أشعرُ بالامتنان الشديد لهذا الرجل الذي ساعدَني بصمتٍ ودون أن ينتظر منّي كلمةَ شكرٍ واحدة.
استكملتُ مناسكَ الحجّ ورميتُ الجمراتِ بعد هذه الحادثة. وفي الطريق إلى رمي الجمرات في مِنى، شاهدتُ حجّاجاً لقوا حتفَهم أو كانوا يلفظون أنفاسَهم الأخيرةَ ممدَّدين على أرصفة الطرقات وسط أكوامٍ من عُبواتِ المياه الفارغة دون أن يثيرَ المشهدُ فزعَ أحد. كانت هذه لحظاتٍ صادمةً وقاسيةً ومرعبةً جعلَتني أتساءل عن الغاية من الحجّ إذا كانت تنتهي بمآسٍ كهذه لبعض العائلات. وعن ما إذا كان ما فعلناه من الحجّ بهذه الطريقة المحفوفة بالمَخاطر أمراً صحيحاً، أو أنّ هذا كلّه ناجمٌ عن سوءِ التخطيط والتنظيم.
وكان عمرُ ورفاقُه يعيشون بهدوءٍ وطمأنينةٍ تامّةٍ في الأيام الأولى من إقامتهم في الحيّ حتى بدأَت مداهَماتُ قوّاتٍ يسمّيها مَن حولي "الشرطة السرّية" – ولا أعرفُ اسمَها الرسميَّ – والتي كانت أكثرَ قسوةً في التعامل مِن بقيّةِ أفراد الأجهزة الأَمنيّة الأُخرى. وذاتَ مرّةٍ، بعد أن تلقّوا إنذاراً بوجود مداهَمةٍ، هربَ عمرُ إلى الشارع ولَم يُسعِفْه الوقتُ لانتعال حذائه، لأن عدداً من أفراد الأمن دخلوا السكنَ وأحاطوا به. غيرَ أنّ عمرَ تمكّنَ من الإفلاتِ منهم والهربِ إلى الشوارع المحيطة حافياً، ومنها إلى تلّةٍ مجاورةٍ، حيث اختبأَ هناك ساعاتٍ حتى زالَ الخطرُ. وعندما عادَ رَوى لنا مبتسماً معاناتِه من وخزاتِ الشوكِ أثناء فِراره على التلّة، والحروقِ التي لحقَت برِجلَيه من حرِّ الشوارع، واصفاً هذا النوعَ من الألمِ بأنه من النوع "اللذيذ" الذي سيتحدث عنه لسنواتٍ قادمة.
وبعد أن أكملتُ الرحلةَ وعُدْتُ إلى مكان عملي، بدأتْ في اليوم التالي التقاريرُ الإعلاميةُ في كُبرَيات الصحف العالمية، ومنها صُحفُ الغارديان ونيويورك تايمز وغيرُها، تتحدث عن وفاةِ عددٍ كبيرٍ من الحجّاج أغلبُهم من غيرِ النظاميين. وبحسب وكالة الأنباء السعودية، نقلاً عن وزير الصحة فهد الجلاجل، فإن المنظومة الصحّية تعاملَت مع أعدادٍ كبيرةٍ من المتأثّرين بالإجهاد الحراري في موسم الحجّ هذا العام، وما زال بعضُهم يتلقّى الرعايةَ. وقالت الوكالة إن 1301 شخصاً توفّوا، 83 بالمئة منهم مِن غيرِ المصرَّحِ لهم بالحجِّ ممَّن ساروا تحت أشعّةِ الشمس بِلا مأوىً، وبينهم مُسِنّون ومُصابون بأمراضٍ مزمِنة. وأخذَت القضيةُ تتفاعلُ على أعلى المستويات مع ورودِ أنباءٍ بتشكيل لجانِ تحقيقٍ في ظروفِ القضيةِ وملابساتِها وإحالة أفرادٍ وشركاتٍ إلى القضاء بتُهمِ الاتّجارِ بالبشر في الأردن.
وتحت إلحاح هذه التساؤلات، دخلت في نقاشات عديدة، واستمعت لآراء تفاوتت ما بين ناقدة لسلوك حكومات ووزراء معينين، وأخرى ناقمة على تصرف هؤلاء الحجاج الذين وصفهم البعض بالسذاجة والتهور، حتى ذهب البعض إلى نعتهم بـ"المتطفلين" الذين "يتسولون" اللجوء على أعتاب خيام بعثات الحج النظامية. ولكن في خضم هذه الآراء المتضاربة، كان شيءٌ واحدٌ قد بدا جلياً وظاهراً للعيان: وهو ضعف ثقافة احترام سيادة القانون في الدول المعنية كمسبب رئيسي لهذه الكارثة.
إن أشخاصاً كـ" الشيخ" بلال وأمثاله من سماسرة الدين وتجار البشر، الذين مازالوا يتمتعون بحريتهم التامة حتى هذه اللحظة، لم يكونوا ليتجرؤوا على التلاعب بأرواح العباد، دون رقيب أو حسيب، لو أنه استقر في وعيهم أنهم يعيشون في بلدان يسود فيها القانون، ويتم تطبيقه على الجميع دون استثناء. كما أن الشيء نفسه ينطبق على الحجاج غير النظاميين الذين سيفكرون ألف مرة قبل الإقدام على مثل هذه الرحلة لو أنهم نشأوا في بلدان تعلي من مبدأ احترام سيادة القانون. وختاماً، كنا نتمنى على حكوماتنا لو تتوقف عن النظر إلى هذه الفئة من الحجاج على أنها فئة "خارجة على القانون" وأن تتعامل معهم بعيداً عن الاعتبارات المادية، خاصة في مثل هذه المواقف الإنسانية الصعبة، التي تتمايز فيها الحكومات التي تعلي من قيمة النفس البشرية، من تلك التي تعتبرهم مجرد أرقام.