هنا غزة: يوميات شاعر فلسطيني من قلب الحرب

ينقل الشاعر طلعت قديح معاناته في غزّة بيومياتٍ كتبها منذ بداية الحرب وحتَّى نهاية شهر مايو

Share
هنا غزة: يوميات شاعر فلسطيني من قلب الحرب
(تصميم حاتم عرفة / الفِراتْس)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

لماذا علينا أن نقدِّم روايةً لما حدث ويحدثُ بعد السابع من أكتوبر 2023، وأن نوثّقَ الفواجعَ النازلةَ علينا زخّاتٍ من صواريخَ وقنابلَ وقذائفَ ورصاصٍ؛ زخّاتٍ قتلَت الطفولةَ والبراءةَ وشوّهَتهما ومزّقَتهما. وكيف أَسكبُ الحِبرَ من بين رُكامِ الأشلاء وأنهار الدم. فبعدَ الحدث الأكبر في السابع من أكتوبر، شُلَّ العالَمُ وهو يُشاهِدُ غزّةَ تُدمَّرُ وتُذبَحُ ثمّ استَرَقَ نظرةً خاطفةً ليراها تُشوى على نارٍ مُستعِرة.

أمَّا من عَلِقَ في فُوَّهةِ البركان، نَحْنُ، فتَهاوى عالَمُ كُلٍّ منّا أمامَ عينيْهِ. ويَنقُر ضجيجُ الأسئلةِ المُوجِعُ جُدرانَ العقل ويقودُنا إلى الهاوية: الأمنُ، الأمان، الأحلامُ، وأسئلةٌ تَفتِكُ بالرّوحِ والجسدِ لَم تعْتَدْها عقولُنا في الحروبِ السّابقة. انصَبَّ التّفكيرُ في سؤالٍ جوهريٍّ وُجُودِيٍّ: أينَ نذهبُ، وكيف ننجو من هذا الدّمار، وإلى أيِّ هاويةٍ رَحبةٍ نُصْعِدُ. أيقنتُ ساعةَ استِعارِ الحرب أنه لن ينجوَ منها إلا مَن كُتِبَ له طولُ البَقاء.

لَم يَعلَمْ أحدٌ في صباح السابع من أكتوبر ما يحدثُ. سمعتُ صوتَ الصّواريخِ والقذائفِ منطلِقةً مِن غزَّةَ. تصفّحتُ الإنترنت استخباراً، فإذا بمَركَباتٍ من نوع "جيب" تطوفُ المستوطَناتِ الإسرائيليةَ المحيطةَ بغزَّة، وثمّةَ مجموعاتُ سيطرةٍ أُخرى على أسطحِ منازلِ المستوطَنات الإسرائيلية ذاتِ السُطوح القرميدية. ماذا يحدث، وكيف حدث، هل ما نراهُ هو مِن صُنع الذّكاءِ الاصطناعيّ، تساءَلتُ كثيراً، فلَم أَتخيّل يوماً أن تتهالَك منظومةٌ أمنيّةٌ تُفاخِرُ أمامَ العالَمِ بامتلاكها صفوةَ التقنيينَ وأنظمة المراقَبة. إذن، لا يَعلم الحقيقةَ غيرُ مَن هَجَم.

اتّصَلَ صديقي الكاتبُ ناصر عطا الله، الزّائرُ سوريا وقتَذاك، يسألُ عن هذا الحدثِ المُباغِتِ. أَجبتُه بما سمعتُ من وسائلِ الإعلام صباحَ الحادثِ أنّه اغتيل قائدٌ من الفصائل الفلسطينية وأنّ ما يحدث رَدٌّ عليه. أتَحدَّثُ هنا عن إطلاقِ صواريخٍ مَهُولٍ. نَشَرَ موقعُ أخبارٍ عبريٌّ: "الجهادُ الإسلاميُّ جُنَّ جُنونُهُ"، وهذا يعني أنهم لا يدرون ماذا يحدث، إذْ توقّعوا أن تكون حركةُ الجهاد الإسلامي هي من أَطلَق الصواريخَ، لا حركةُ حماس.


اختَرتُ ألّا أغادِرَ بيتي خوفاً من تصعيدٍ خطيرٍ. نِمْنا في البيت نَترقّبُ. إذن هي الحربُ، حربٌ لا كالحُروب. عددُ القتلى من الفريق الآخَر فاقَ عددَ القتلى في حروبِ إسرائيل كلِّها، ناهيكَ عن مئاتِ الأَسرى. شيءٌ لا يصدِّقُهُ عقلٌ. ولا يُدْرَى متى سنَعلمَ كيف حدث وماذا حدث.

سَرْعانَ ما أَصبَح البقاءُ في بيتي القريبِ من الحُدود شرقَ مدينة خان يونس إلقاءً بالنَّفْسِ إلى التهلُكة، فآثَرْنا النُزوحَ. لَم يكُن غريباً أن يكونَ أوَّلُ مأوىً للعائلةِ مكتبة الصّديق الكاتب ناصر عطا الله، المُسارِع إلى عَرْضِ المُكوث في طابقٍ أرضيٍّ مستقلٍّ في بيته.

نزوحٌ في مكتبةٍ يعني لي شيئاً من الرّفاهية، فتسلَّلَ إليَّ نَهَمُ القراءة والاطّلاع على الكتب. وجدتُ جلَّ أعمال كتّابٍ أعرفُهم وأقرأُ لهم، كالكاتب الفلسطيني أحمد زكارنة الراقمِ عن وعيِ الهزيمة. هل عَلِمَ أنَّ حربا ًآزِفةً فاستبَقَها مُؤطِّرًا لفكرةِ "ماذا علينا أن نَفعل حين يحدث ما يحدث؟"

انقضَت ثلاثةُ أيّامٍ منَ الاستقرار المكانيّ إلى أن جاءَنا اتصالٌ تحذيريٌّ من قوَّات الاحتلال بإخلاءِ المكان. وأوّلُ ما خطر ببالي مدارسُ وكالةِ الغَوْث. لكنّ قاعدةَ "فَرِّقُوا بين المنايا" تَقضي ألّا يَجتمِعَ أهلُ بيتٍ في المكانِ نفسِه، فارتأيتُ تفريقَ أُسرتي بينَ مدينةِ خان يونس جنوبَ القطاع وبلدةِ بني سهيلا شرقَها. دامَ الأمرُ شهراً وأكثرَ بينَ الاجتماع العائليّ اللحظيّ والافتراق الدائم. شطرٌ في مدرسة في البلدة وآخَرُ في المدينة.


هل ينفصلُ الكاتبُ عن الحياةِ العصيبةِ وقتَ الحروب؟ سؤالٌ جالَ في عقلي حينَ سألني مديرُ إحدى مدارسِ وكالة الغَوْث: "كم أفراد العائلة؟" هُم أقلُّ الآنَ بسبب تَفَرُّقِنا. هل أقولُ له العددَ الجديدَ القليلَ أَم القديمَ الكثيرَ، فهناك في التّموينِ اليوميّ القليلِ فرقٌ، هل نسيتُ أن أقولَ لكم إننا الآن أصبحنا نعتمد على تسلّم وجباتِ غذاءٍ يومية؟

كلّما تقدّمَت أيامُ الحربِ الآثِمةُ تَسَرْبَلَت الأيامُ بالألم، وتَعَمَّقَ العيشُ الشَظِفُ. وهناكَ جمرةٌ لا تنطفئُ تُسمَّى جمرةَ الـ"كَيف"، ومنها تَئِنُّ الرّوحُ وتُكوَى بِألحاظِ من حولك: "متى؟ كيف وصلنا إلى هنا؟ وأين المُنتهى؟" حينَ أخرجُ من المدرسةِ المَأْوَى أُحِسُّ بقَهْرَيْنِ: قهرِ غريزة البَقاءِ المحوِّلَةِ النّاسَ إلى وحوشِ رَغبتِهم. يُبدِلون فيها جُلودَهم بتأثيثٍ مهشَّمٍ لحاجيّاتهم اليوميّة في شعائرَ تقتلُ الرّوحَ. ثمّ قهْر آخَر يتملّكُ النّفسَ شُغلاً بمآلِ الأمور، ليَبزُغَ وجهُ الـ"متى" تارةً أُخرى في دَوِيٍّ حارقٍ لدمعِ ما حدث ويحدث.

عجاجٌ من مؤلِماتِ الأمورِ يتصيَّدُ تلافيفَ الفكر، مِثْلَ أنَّ الناسَ تحترفُ الطمعَ، وإنْ مَلَكَت ما مَلَكَت. تَصَلَّبَت عُروقُ كثيرينَ مِن حَمْلِهِم أكياسَ المساعَدات وصناديقَها بِلا شَبَعٍ. الطَّمَعُ لا يميزُ بين الحرب والسلم.

تَموجُ بنا رِمالُ الأخبارِ المتحرّكةِ ما بينَ بَلِّ رَمْقٍ لخَبَرِ هُدنةٍ أو تهدِئةٍ، وصَبِّ جامِ غضبِ المحتلّ المواصِل غَرْزَ حِرابِهِ في لَحْمِنا حتّى بِتْنا لا نريدُ خبراً مُمَوّهاً، وصِرنا نلفظُ كلَّ خبرٍ لا يحمل عنوانَ: "وقف إطلاق النّار". ما نَصنعُ بالأخبارِ إن لَم يكُن عندَ جهينةَ الخبرُ اليَقِينُ؟

ستنتهي الحربُ يومًا ما، لتبدأَ حربٌ جديدةٌ من نوعٍ آخَرَ. نوعٌ شرسٌ، أوّلُهُ تَرقُّبُ ما قبلَ العودةِ إلى منازلنا والطريق إليها. الطريق التي فيها ستتفجَّرُ آلافُ الأسئلةِ المرعِبة عمّا حدث فيها وكيف أصبحَت. ثمَّ سيبدأ كلٌّ منّا بتلمُّسِ حياةٍ قادمةٍ ستُلقي أمامَنا أسئلةً أُخرى: كيف، متى، أين، لماذا، ماذا لو، ولن تقفَ هذهِ الأسئلةُ، بل ستشكِّلُ أبجديةَ ما كان، بل، وما سيكونُ.


إنَّ فلسطين قضيةٌ فلسطينيّةٌ وعربيةٌ وإسلاميةٌ، وهي أيضاً قضيّةٌ وجوديّةٌ إنسانيّةٌ يا سادةَ القهرِ والدّمار. قضيَّةٌ كونيّةٌ بينَ الطّغيانِ والحرية، بين الغاصب والمقاوِم.

سيكتبُ التّاريخُ ما حدثَ بكلِّ جوانبِهِ المضيئةِ والقاتمةِ، وسيحتاجُ زمناً حتّى يكتشفَ كيف "وُلِدَ" السّابعُ من أكتوبر. ولا تَحسبوا أنَّهُ يومٌ لَم تكنْ له مَثالِبُ سواءً في إرهاصاتهِ أو مقدّماتهِ أو تداعياتهِ، إلا أنَّهُ يومٌ سيُغيِّرُ وجهَ الصّراع.


لا تسألوا أحداً من غزّةَ كيفَ الوضع.

حربٌ شَعْواءُ. مَنْ سيَبقَى حَيّاً لن يكونَ كما كانَ قبل الطُّوفان، فلا ناجِيَ مِن هذه الحرب الملعونةِ، أكانَ حيّاً أم ميتاً. فإنْ رَحَلْنا، فقد رأينا أيامَ الله بأَعْيُنِنا. وإن استُبقِينَا لأيامٍ أُخَرَ، فسَنَحْيَا كما يُريدُ اللهُ. وإذا سُئِلْنَا: مَن أنتُم؟ نحنُ من بلدِ الطُوفان، غزّة. فيا أيُّها الشتاءُ لا تلتفت إلَينا. أَخْبِر السّماءَ أنَّ أهلَ غزة ما بَرِحَ التوقيتُ الصيفيُّ على جلودِهم.


ما زِلتُ أكتبُ. إذن ما زِلتُ حيًّا.

نَلُوكُ أيّامَنا العَشْرَةَ منَ الحربِ كالحنظلِ. باتَ الوقتُ كالصّخرةَ يتجمّدُ صَلْباً فوقَ قلوبنا، كأنّها عَشْرُ سنين، لا أيّام. والطُوفانُ يَسحبُنا في دوّاماته وسَيَلانهِ، ولا يسألُ العيونَ عن مَدِّها ولا الوُجوهَ عن وِجهَتِها.

بدأَت حفلةُ الغارات والقذائف الليليةَ مبكراً هذا المساء. قصفٌ بعدَ المغربِ مباشرةً على المنازل وكلّيةِ الأقصى في خان يونس. تُقصَفُ المنازلُ فوقَ رؤوسِ ساكنِيها. وصوتُ سيارات الإسعاف لا يهدأ ولا يستريح. سُرعتُها مخيفةٌ. خوفٌ يتناسبُ مع عدد الشهداءِ والجرحى، ولا يتقاربُ أبداً مع عُمقِ الألمِ النّازف من أرواحنا. النزوحُ للجنوبِ ما زال مستمراً، حتّى طَلَبَ مِنّي رقمٌ على الجوّال أجهلُهُ شقّةً لخمسةِ أشخاصٍ في الوقتِ الّذي امتلأت فيهِ المدارسُ، بَلْهَ الشقَق، وإنّما يتعلّقُ الغريقُ بِقَشَّة.

أتقلّبُ في الفِراشِ كالتائه على ألسنةِ اللّهب. هَجرَني النَّوْمُ مُذْ بدايةِ هذا الرُّعب. صوتُ الانفجارات والمَوْت يدوّي ويفضُّ سكونَ السّماء والأرض. وأنينُ الناس وتمتماتهم المرعوبة والمستمرّة لا تمنحُكَ هُنَيْهةً تغتالُ الوَسَنَ بغَفْوَةٍ لتَهْزِمَ تعبَ الرُوح والجسد، ولَو قليلاً.

تصحو مفزوعاً فجراً إذا ما نجحَ هلاكُكَ باصطيادِ النوم، فتُسارِعُ بالاتّصال لتفقُّدِ العائلة. منهم مَنْ يُجيبُ ومنهم من لا يُجيب، إمّا لانقطاعِ شبكة الاتصالات أو نومه أو فراغ بطارية جوّالهِ.

خرجتُ صباحاً. المنظرُ اليوميُّ على حالهِ. صفوفٌ مكتَظّةٌ. صفُّ المخابز الّتي بالكادِ تسُدُّ حاجةً. صفُّ الحَمّام. صفُّ شحن الجوّالاتِ حتى مجيءِ رائحةِ الكهرباء. صفُّ السيارات المتزاحمة. وأعظمُها صفُّ الانتظار الّذي لا ينتهي؛ صفُّ الأيَّام. تفكيرٌ ينهشُ جدرانَ الرّوحِ في جملةِ "قد تستغرقُ الحربُ أسابيعَ". ثم هناك السؤالُ أينَ ستؤولُ بنا الحالُ.

كلٌّ منّا يفكرُ في شيئين لا غير؛ سلامةِ أهله وسلامةِ بيته، لأنَّ موتَ أيٍّ منهما يعني نكبةً ومعاناةً أبدَ الدهرِ.

لا ندري ما نفعلُ غيرَ الانتظار. بالأمسِ وَزّعُوا "حْرامات" خفيفة (بطانيات)، كتلك الّتي تُشتهَرُ بها وكالةُ الغَوْث، "الحْرَام الرّصاصيّ". بِتْنا لا نريدُ معرفةَ ما يحدث، فقط نريدُ هدنةً لننامَ، لنتفقّدَ، لنفكِّرَ في شيءٍ آخَرَ غيرِ النّظرِ إلى السّماءِ خوفًا من قصفٍ مُباغِت. وَدَدْنا لو ننامُ غائبِين لا يَقِظِين.


لَم يَزُرْنِي الكَرَى ولو ضيفاً خفيفَ الظّلِّ اللّيلةَ الفائتةَ. فصوتُ الانفجارات عَرْبَدَ في أرجاءِ المكان والزّمان. والطائراتُ المجنونةُ تَصُبُّ حِمَمَها كأنَّ السّماءَ تُمطِرُ لهباً. وسياراتُ الإسعافِ تَنهشُ أديمَ الأرضِ بعَجَلاتها الهائجةِ منبِّهةً إلى حلول الكوارث طيلةَ اللّيلِ.

مَشاهدُ دّمارٍ وأصواتُ قصفٍ وطائراتٌ حربيّة. وأحاديثُ وصراخٌ واستغاثاتٌ ومحاولاتٌ لإدخال مساعَداتٍ إنسانيّة مقابلَ طائراتٍ حربيةٍ ترقصُ فوق جُثَثِنا وعطشِنا وجوعِنا وقهرِنا وآدَمِيَّتِنا.


يومُ الغزّاويِّ الثّقيلُ على رُزنامةٍ إنسانيةٍ شائهةٍ.

يبدأُ يومُ الغزّاويِّ بالطابورِ الصباحيّ لرَغيفِ خُبزٍ أصبحَ همّاً وعِبئاً ثقيلاً لإشباعِ طفلٍ في الحرب. والطابورُ لا يأبَهُ بالوقت. وهل بقيَ للوقتِ قيمةٌ وقد صَادَرَهُ الطّغاةُ مع الممنوعات الإنسانيّة والحقِّ في الحرّيةِ والحياة. لا يهمُّ أن يضيعَ نصفُ يومِكَ لتفوز بنصف "ربطةِ خبزٍ" مقابلَ نصْفِ يومٍ إضافيٍّ في الحياة. عزيزةٌ هي الحياة. قاهرٌ هو الموت. 

لَم أعُدْ أُبالي بالأَكْلِ. فحينَ يفقدُ الإنسانُ طعمَ الحياةِ، لا يُخيفُهُ طَعْمُ الموت. فلُقَيْماتٌ مع شُربةٍ ليس مهمّاً أن تكون قهوةً أو شاياً أو دون ذلك كلِّه، تُسكِتُ الجوعَ. والشيءُ بالشيءِ يُذكَرُ، فلَسْتُ مُغرَماً بالقهوة. فمنذ رحيلِ أمّي سنةَ 2012 لَمْ أَطْعَمْ أيَّ نوعٍ منها.

أعيشُ حياةً قَشِفَةً. أدرّبُ نفسي على الصّومِ والمشي. مسافاتٌ طويلةٌ أَمْشيها متأمِّلاً حالَ غزَّةَ.


أستغربُ ممّن لا يزالون يبتسمونَ في هذه الحرب. وأتساءلُ: هل هُم في ابتسامِهم يدرِّبون ملامحَهم على فعلٍ لنْ يُتقِنوهُ لاحقاً، أم أنهم يتحايلونَ على الواقع ويراوِغونَهُ ليتكيّفوا مع مستقبلٍ أقتمَ وأسودَ ممّا نعيشُه.


فوزُكَ بنصفِ ربطةِ خُبزٍ في أربعِ ساعاتٍ عملٌ بطوليٌّ يستوجب منكَ المُثولَ بلا كسلٍ أو مللٍ فجراً في الطابور. إنْ نَجوْنَا من هذهِ الحربِ سنصبحُ غير مبالين بالتوقيت ولا بسَطوةِ الانتظار، فما عادَ للخسارات معنىً ولا قيمةٌ، ولا للانتصارات حفاوةٌ للغزّاويِّ، إلّا إن كانت الحياةَ والمأوى.

قَسَمَتْنا حربُ 2023 نصفَيْنِ؛ ما قبلَ وما بعدَ. واختلفَت موازينُ الربحِ والخسارة، والغلاء والرُّخص، بميزان الحرب. فالأشياءُ تَستمِدُّ قيمتَها ومعناها بقَدْرِ حاجتِنَا إليهَا، ولا حاجةَ في خِضَمِّ هذه الحربِ الضَّروس كالحياةِ والمَأمَن. 


بعدَ أن تفتحَ عينيكَ وتفرُكَهُما محاوِلاً مسحَ القَذى عنهما، لا تتمغّط كثيراً، فقد يصيبُك شدُّ عَضَلٍ فتدخُلَ في حيص بيص.

يمكنُكَ أنْ تذهبَ للحَمّام لقضاءِ الحاجةِ. وإنْ غرفتَ الماءَ من سطلٍ، فلا بأس أنْ تمسحَ على شَعرِك بشيءٍ منه، ولا تسألْ عنه أَصِحِّيٌّ أَمْ لا. حاوِل أن تُمرّنَ وجهَكَ بيدِك كي لا يَبقى جامداً وتهجُمَ عليك التّجاعيدُ. ألا يكفي أنَّ القلبَ أصابتهُ تجاعيدُ الحرب.


مِن "الممرّ الآمِن" لعبور أهل الشّمال ومدينة غزَّة للجنوب، يمشي النّاسُ في أَرتالٍ. يُشاهدُهم الجنودُ، وبمكبِّرات الصّوتِ ينادُون: وَقِّفْ، اِمْشِي، تَعَالْ، رُوحْ. فجأةً سُمِعَ صوتٌ ينادي: "اِنتَ أبو الجاكيت البنّي. نزّل الشنطة عن كتفك، يلّا". دارت الدنيا بالمنادَى. كيف يَتركُ حقيبتَهُ وفيها تعبُهَ وشقاءُ عُمرِه. خمسونَ ألفَ دولارٍ وذَهَبُ زوجتهِ وبناتِه وأوراقُه الثُّبوتيةُ. لكن لا مجالَ للرّفضِ. إمّا الحقيبةَ وإمّا الموتَ. لم يكُن هناكَ مجالٌ للتّفكيرِ. أنزَلَ حقيبتَه. تَرَكَ عشراتِ السنينَ على الأرض. لَم يَلتفِت وراءَهُ. التفتَت دُموعُهُ وآهاتُه وقهرُ زوجتِه التي تأَوَّهَتْ بصوتٍ مكتوم. مضى وخَلَّفَ مِن ورائِه كُلَّ شيءٍ. لَوْ عَلِمَ الأَسرى في سجون الاحتلال ما سيَحُلُّ بغزَّةَ من دمارٍ لتحريرِهم لاختاروا الأَسْرَ.


بعدَ عودتِنا إلى البيت سبعةَ أيّامٍ في الهدنة التي بدأت في الرابع والعشرين نوفمبر، أرجَعْنا إليه الأغراضَ كلَّها الّتي أخذناها أوّلَ الحرب. وعندَ انتهاء أيامِ الهدنة، لم نأخذ إلا اليسيرَ جدّاً، على أملِ أنْ تُحَلَّ العُقدةُ يوماً أو يومين.

الآن بعدَ القصف المكثّفِ اللّيلَ كلَّه والانفجاراتِ الّتي لم تتوقف، لا أعلَمُ أَنَعُوزُ تلكَ الأمتعةَ أم لا. أعلمُ أنَّ البيتَ غالٍ لأهِلِه. وأدري أنَّ البيوتَ تسكُنُنا كما نسكُنُها. ولبيتي قصّةٌ خاصّةٌ. ربّيتُهُ تربيَتي ابناً. فمنذ 2011 حتّى مطلع 2023 ترعرعَ بينَ يديَّ، وأصبحَ شاباً يافعاً، مؤنّقاً بسحرِ اللّمساتِ وصوتِ الذّكريات الضّاحكة والباكية في كلِّ زاويةٍ فيه. فللبيوتِ حكاياتها وعطرُها. حتىّ الكتب التي أحضرتُها، أرجعتُها لحُضْنِ أُمِّها؛ مكتبتِها. لم آخُذ معي إلّا الملابس وبعض الأواني الضّرورية للحياةِ قَدْرَ المستطاع.


صباحَ اليومِ قرّرتُ الذّهابَ إلى البيتِ مَهْما كلَّفَني ذلك. لَم أتردد؛ فلا طحينَ ولا غازَ ولا شيءَ يساعِدَ على تحمُّلِ معاناةِ المدارس. توكّلتُ على اللهِ. ومع قصفٍ مزلزِلةٌ أصواتُه، اخترتُ أن أمشيَ في الأماكنِ العاليةِ من غيرِ أن أركبَ الدّرّاجةَ، فهناك آثارُ قصفٍ من زجاجٍ وأحجار. وحينَ أصِلُ لمنخفضٍ إسفَلْتيٍّ أستقلُّ درّاجةً.

كنتُ أرى عشراتِ المواطنينَ على جانِبَي الطريقِ، حاملِينَ أمتعتَهم، خوفاً من عَجْزِهم عن العودةِ في الأيامِ القادمة، بعد تهديدِ غالانت باجتياحِ جنوبِ غزّةَ. المهِمُّ أني وصلتُ خزاعةَ قطعةً واحداً لا أشلاءَ. البلدةُ باتَتْ مهجورةً شاحبةً مهمَّشةً. لَم أشاهِد غير أربعةٍ يَحمِلونَ أمتعَتَهم. واصلتُ المسيرَ وفي القلبِ حسرةٌ، وفي العينِ ألفُ دمعةٍ، حتّى وصلتُ البيتَ.


بَيْتِي، نعم. بيتي، أما زلتَ حيًّا؟

تنفّستُ الصّعداءَ حينَ رأيتُه شامخاً عزيزاً سالماً. احتضنتُه وقبّلتُهُ كأني أقبِّلُ وجهَ حفيدتي. وعلى عَجَلٍ لَملَمتُ ما استطعتُ من الحِملِ الثّقيلِ، بعدَ أنْ كافأتُ جسديَ المنهَكَ بحَمّامٍ ساخنٍ لئلّا يخذلَني ويستسلمَ في طريقِ العودةِ. غادرتُ مهروِلاً بعدَ سماعِ أصواتِ صفيرِ الإطلاقات مُدرِكاً أنّ الأمرَ يستوجبُ القُفول.

مَشَيْتُ خمسةَ أكيالٍ تقريباً وأصواتُ الانفجاراتِ ترافقُني. اخترتُ طريقاً رمليّاً لعودتي، وفيه شاهدتُ أُناساً يحزِمونَ أمتعتَهم، وآخَرين آثَروا المُكْثَ في بيوتهم. لَمَحْتُ صنبورَ مياهٍ، اتّجهتُ نحوَهُ فوراً، وشرِبتُ حتّى ارتويتُ. واصلتُ المسيرَ إلى أن وصلتُ بلدةَ بني سهيلا مَشْياً. اطمأننتُ قليلاً، وإذْ بآثار قصفٍ جديدٍ. عرفتُ أنَّ قصفاً دَكَّ هذه البقعةَ قبل ربعِ ساعةٍ. لمحتُ دكّاناً تفتحُ بابَها. طلبتُ قنّينةَ ماءٍ، فشرِبتُ وارتويتُ. تعبٌ وإرهاقٌ من الحِمل الجسديّ والرّوحيّ. لكنَّ المهمّةَ يجبُ أنْ تُنجَزَ سريعاً خشيةَ أيِّ طارئٍ، فلا مكانَ آمِنَ في غزَّةَ.

ما إن وصلتُ مدينةَ خان يونس حتّى انهالت الأسئلة: "تبيع الطحين؟" وأجبتُ نفياً، وسِرْتُ إلى مكاني. ألقيتُ حِملي الظّاهرَ وأخفيتُ الباطنَ. زفرتُ أحشائي وقلتُ: "أوووف، يلعن أبو أبوكي يا الحرب شو عملتِ فينا". قد يكونُ هذا الفعلُ جُنونيّاً، ويكلّفكَ حياتكَ، لكن أَيَخافُ المَوتى مِن الموتِ. فكانَ القرارُ. المسافة تسعةُ أكيالٍ تقريباً.


أمشي في طريقٍ مُكتظّةٍ بالبائسين. أرى نِسوةً ينتحِبنَ، يبكينَ شهداءَهنّ وحيواتهنّ وأمومتَهنّ التي أعدَمَتها دباباتُ الحربِ، وهنَّ محمولات على عربةٍ يجرّهَا حمارٌ باتَ يرأَفُ بحالِنا أكثرَ مِن البشر. ما عاد الدّمعُ فيّاضاً بغزارة. أُصيبَ بالبُكمِ لكثرةِ الأحزان وويلاتِ الحربِ وضيقِ الصّدر العاجز عن التقاط أنفاسِهِ. مُسِخْنا، شُتِّتْنا، نَهَشَ القهرُ والدّمعُ أفئدتَنا، تشوَّهَت دواخِلُنا، وكأنّنا فَقَدْنا جُزءاً منّا سنقضي ما تبقّى لنا مِن عُمُرٍ – إنْ عِشْنَاهُ – نبحثُ عنهُ.

تِيهٌ عميقٌ يسحبُنا إلى عُمقِ السّوادِ. وضبابٌ كثيفٌ يلتفُّ حولَنا. يتقاذفُنا الموتُ من كلّ حدبٍ وصَوبِ. وبوادرُ أملٍ تذبُلُ في أرضٍ لم يَعُدْ فيها شيءٌ صالحٌ للحياةِ. أَلَمَّا تَرْتَوِ هذه الأرضُ بما سُفِكَ من دماءٍ. أَلَمَّا يُشبِعْها كلُّ هذا الدمارِ. إلى متى هذا الظُلْمُ. لَم نَعُد نَفْقَهُ شيئاً. ما هذا الذي يحدثُ، أحقيقةٌ أَمْ سرابٌ، أَكابوسٌ أَمْ عقابٌ. لَم نَعُدْ نَعْلَمُ شيئاً. فقدنا الأملَ في كلِّ شيءٍ. لم يَعُدْ هناك شيءٌ يستحقُّ الحياةَ على أرضٍ لا يروي عطشَها إلّا دمُ الأبرياء، وكلّما اشتهى الموتُ قبضَ الأرواحَ فَعَلَ. ينسلُّ كلُّ ما فيكَ للتِّيهِ. يجرحُكَ السّؤالُ ويخونُكَ الجوابُ: متى الخلاصُ من هذا الكابوس، متى الخلاص.


تُرى أَيَتَكافَأُ المَخْرَزُ واللّحمُ في المواجَهة مَجازاً وحقيقةً؟ بدأ فصلٌ آخَرُ من الموت، مِن معاناة الحرب المسعورة على غزّة، مِن هذا الكيان المحتلّ الإسرائيلي الغاصِب. فجأةً سُمِعَ صوتُ مُسَيَّرَةِ "الكابتر" في أنحاءِ منطقةِ المدارس. وسُمِعَ هتافٌ: "مَنْ يَسْمَعُ النِّداءَ الآنَ، فَلْيَخْرُجْ مِن المَكانِ فوراً. سيُحطَّمُ المكانُ تحطيماً كُلِّيّاً".

عَلَت الوجوهَ علاماتُ الصّدمةِ والرّعبِ. انتفضت الأجسامُ، وارتعشَت الأرواح واغرورقت الأعين. وسؤالٌ بَدَهِيٌّ وُجُودِيٌّ خالَجَ كلَّ مَن سَمِعَ هذا التهديدَ بالموت: أين نذهب يا الله، لمن الملجأُ يا ربَّ العِباد، وقد ضاقت بنا الأرضُ وتخلَّت عنّا السّماءُ.

هَرجاً ومَرجاً خَلَّفَ هذا النّداءُ في الأرجاءِ كلِّها، في مدارسِ الأونروا والمدارسِ الحكومية، وفي دواخِلِنا المهشَّمة مِن وحشيّة هذا العدوان، وكأنَّ القيامةَ قرعَت. تعالت هتافاتُ الآباء والأُمّهات، ليحملَ كلٌّ منّا ما استطاعَ، ليعينَنا قليلاً على البقاءِ، ويمنحَنا وقتاً في مواجَهة الشتات والجوع وكلِّ هذا العذاب الساري في عُروقنا كالدماء. تدافع النّاسُ للخروج كأنهم في يوم الحَشْر، فزعاً ورعباً. اكتظّ الطريقُ، وتدفَّقَ آلافُ النازحين هرباً من جحيم المكان، وسَيْلِ الموت الذي سيَجرِفُنا إن لم نَفِرَّ منه مع ما تبقّى لنا من عُمُرٍ أو موتٍ مؤجَّل. ولم يكن هناك بُدٌّ مِن التّزاحُمِ عند ثلاثةِ حواجزَ عسكريةٍ للخروج إلى منطقة المواصي غربَ خان يونس التي يُزعَمُ أنها آمِنةٌ. كان أصعبَها أَوَّلُ حاجزٍ، فكلّما اقترَبتُ منه أحسستُ أن موسمَ الحجِّ نُقلَ إلى هذا الشارع المزدحِم. مَمَرُّ الحاجز بين دبابتَيْن بعَرْضِ أربعةِ أمتارٍ. صراخُ الأطفال يدوي، وصرخاتُ النساء تستغيثُ مِن هَوْل الموقف. والجنودُ المدجَّجونَ بالسّلاح يحاولون التهكُّمَ وتنظيمَ السَّيْر، لكنّهم في الحقيقة يَضغطون النازحين نفسياً، ضغطاً هائلاً منظَّماً، إرهاقاً وتنكيلا.

وما إن يعبر أحدُنا المكانَ حتى يتنفسَ الصُعَداءَ، ويُلَمْلِمَ ما تساقَط مِن روحهِ وحاجيّاته؛ أغطية قليلة يحملُها لتَقِيه بَرْدَ الشتاء والخُذلان. حاجزان ومعاناتان بعدُ لنَصِلَ المواصي. وهنا تبدأ رحلةُ معاناةٍ أُخرى؛ البحث عن خيمةٍ أو ما يشبهُها لسَتْرِ الأجساد.


في الحرب يصبح الضوءُ ترفاً ورفاهيةً، فنكتفي بالماءِ إذن، ولَمْ يَعُدْ يُهِمُّ أمالحةٌ أم عذبةٌ. فماءٌ شحيحٌ شحَّ العدلِ والإنسانيةِ يكفينا، سواءً لِبَلِّ الرِيقِ أو لِمَآرِبَ أُخرَى كالغسيل أو الوضوء. ولكن للحصول على الماءِ، ولو القليل منه، كان لا بدّ لك من احتمالين: فإمّا أن تنصبَ خيمتَكَ في مكانٍ قريبٍ من مصدر ماءٍ، وهو في الغالب بئرٌ مياهُه مالحةٌ، ليست نقيّةً تماماً. وإمّا أن يكون حظُّكَ عاثراً، فيَنْأَى مكانُك. وهنا تبدأُ معاناة أخرى قاسية. نقلُ الماءِ في سطلٍ أو دَلْوٍ، مستشعِراً أنّكَ كنتَ في نعمةٍ لم تكن تَعِي قيمتَها.

بعد نصبِ الخيمة تحدِّثُك نفسُك بإنشاءِ حمّامٍ بدائيٍّ؛ حفرةٍ وأعوادِ خشبِ وبعضِ القماشِ للستْر. وسيكلّفُكَ ذلكَ، لأن الأسعار مجنونةٌ، تَغْلَى كلَّ يومٍ بلا رحمةٍ أو حياءٍ أو شفقةٍ لحالِنا في هذه الحرب الطّاحنة، الّتي تطحنُ أولاً المواطنَ البسيطَ "الغَلْبان".

حين يفكّرُ كلٌّ منّا فيما وصلَ إليه مِن سوءِ حالٍ ومعاناةٍ وأنّهُ يُعايِشُ كارثةً لا شأنَ لهُ في حُدوثها، لا سبيلَ لهُ إلّا التّأقلُمُ والمقاومةُ وتسويةُ أموره اليسيرةِ حتى بأصعبِ السُّبُل على أملِ النّجاة والبقاء. إن التّفكيرَ في تدبير أمرِ البقاء حيّاً تجرِبةٌ قاسِيةٌ، شيءٌ لَم يَعهَدْهُ العقلُ. تنقلب الدنيا بغتةً لحالٍ جديدٍ غيرِ محدَّد الوجه ولا المَلامح. حالٌ هُلامِيٌّ ، زِئبقِيٌّ، لا يمكن أن يماثِلَه مكانٌ في الكون قسوةً وفوضويةً.


"أريدُ مساعَدةً"

هاتِ هُويّتَكَ وبطاقةَ المُؤَنِ (بطاقة التموين).

صورةٌ لحوارٍ مع موظّف وكالة الغَوْث للاجئِين. مِن غيرِ أن تتحدَّثَ أو تَستفهِمَ، تَستسلِمُ للأمرِ وتُناوِلُه الهُويّةَ والبطاقةَ، وتَنتظِر.

"أريدُ مساعَدةً"

هاتِ هُويَّتَكَ.

هذا يعني أنه ليس موظَّفاً في وكالة الأونروا. يبدو أن هناك من يطلب ذلك. لن يعنيك من هو، فإنما بُغْيَتُكَ الغَوْثُ ... وهكذا ... وتَنتظِرُ. 

ليس أمامَك سوى الانتظارُ، ربّما أياماً قد تطول. فإنْ حالَفَكَ الحظُّ، فإن الانتظار يأتي بثمرةٍ، وإنْ عُدتَ بخُفَّيْ حنين، وذهبَ انتظارُك أدراجَ الريحِ، وهو الأصلُ، فيَكفيكَ شرفُ المحاوَلة، وهكذا دواليك. تبدأُ مُرغَماً دَوْرَ انتظارٍ آخَرَ، وهكذا، وتَنتظِرُ.

منذ أشهُرٍ مربِكةٍ والشعب الفلسطيني في غزّة يعيش حالةَ نزوحٍ اضطراريةً ومستمرّةً من مكانٍ إلى مكان. المعيِّنُ للأمكنة صفحةُ المنسِّق الحكوميّ (الإسرائيلي) على صفحة الفيسبوك، والمنشوراتُ الورقيةُ الإرشاديةُ المُلقاةُ من الطائرات الإسرائيلية، وهي لا تكون إلا إنذاراً بمصيبةٍ قادمة. فإمّا أن يكون أمراً بإخلاءِ منطقةٍ ما والانتقالِ إلى أُخرى، وإمّا توصيفاً لحالةٍ استفزازيةٍ يُرادُ منها التّدميرُ النفسيُّ والجسديُّ لنا بالمنشورات الورقية النّازلة كالمَصائبِ فوقَ رؤوسِنا وأرواحِنا.

عاش الشعبُ الفلسطيني في غزة في هذه الأشهُرِ الجهنميّةِ وَيْلاتَ الحربِ الحارقةِ الأخضرَ واليابسَ. فتدميرُ البِنيةِ التحتيةِ، والحصارُ الاقتصاديُّ، والقتلُ، والإمعانُ في قصف البيوت على ساكِنِيها، واستهدافُ مراكز الخِدْمات جميعِها الثقافية والنفسية والصحية من مستشفياتٍ وعياداتٍ، كان مُهَوِّلاً ولم يَسْلَم من هذا الدمار المعهدُ الفرنسيُّ، الذي لا ناقةَ له ولا جَمَلَ في هذه الحرب، لكنّها الحربُ الفاتكةُ بكُلِّ شيءٍ في غزّة؛ البَشَرِ والحَجَر.

أَربكَتْنا هذه الحربُ إرباكاً عظيماً، حتى غدا الأمْرُ كالقولِ الشائع "نفسي، نفسي". فخَفَتَ التعاضُدُ وَطَفَتْ على السطح عاداتٌ غريبةٌ عن شعبنا، كان مؤدّاها "نفسي، نفسي". نعم، فالحرب شَوّهَتْ كلَّ شيءٍ حتى دواخلَنا، فبِتْنا نصارِعُ أنفُسَنا والآخَرينَ للبقاء.

أصبحَت الحياةُ مُنصَبَّةً على تحصيل المساعَدات لإطعام الجياع. ونحن في جنوب غزّة أفضلُ حالاً، أو لِنَقُلْ أَقَلُّ سُوءاً، لا كَأَهْلِنا في الشمال؛ إذ لا يَسمحُ الاحتلالُ الصهيونيُّ بدُخول المساعَدات الإنسانية إليهم، حتى بدأَ الإنزالُ الجويُّ للطائرات الأردنية، وكان بادئَ الأمرِ مضحِكاً، فتُنزَلُ المساعَدات جوّاً، لكنها تَسقُط في البحر، أو في أماكنَ بعيدةٍ أو حتى داخلَ الأراضي المحتلّة. والقليلُ منها يحصلُ عليه الناسُ بعد تنازُع.

هل لك تَخيُّلُ مليون إنسانٍ جائع.

بات الناس يحسُدون من استُشهِد يومَ الثامن من أكتوبر، لجهلِهم ما حدث مِن قتلٍ ودمارٍ في غزة بكلِّ مناطقِها، فلَمْ تَعُدْ غزّةُ هي غزّةُ التي نعرفُها.

بين الجسدِ والرّوح حاجزُ مُراوَغة. يقالُ أن الجسد يَهْرَمُ والروحُ لا تَهْرَم. وسواءٌ اتّفَقنا أو اختلَفنا مع هذا القول، إلّا أنّ المؤكَّد أنّ شغفَنا في الحياة هَمْدٌ. لم يعد هناك بريقُ أملٍ يجعلُنا نُكابِر ونصرخ في وجه الموت قائلِين سنعيشُ على رَغْمِ كلِّ شيءٍ. يساوِرُني شعورٌ بأنَّ من يعيش في غزة بعد انتهاء الحرب يجب أن يَتخفّفَ من جوانبَ كثيرةٍ من حياته السالفة. من الاختلاف، من القُرْب، من العلاقات المتشعبة، من الأمل، من إتخام الذّاكرة بالْتِباسات الأمكنة والأزمنة. وهذا ليس انتقاصاً داخلياً للكينونة "الغزّاوية" بل لأننا لا نريد أن نفقد ما سَبَقَ في حربٍ قادمةٍ لا نعلمُ متى ستكون وكيف وأين.

علينا أن نؤسِّس لذاكرةٍ معلومةِ السقفِ، ليس فيها إدمانُ شيءٍ أو معاناةُ فقدانِ شغفٍ مُزمِنٍ. يقول الفيلسوف الفرنسيّ غاستون باشلار: "نصبح أشجاراً حينما لا نُنهِكُ الأرضَ بأسفارنا". وقد يكون هذا الأمرُ صحيحاً في روحٍ أو مكانٍ آخَرَ، فإني أحبِّذُ أن أُنهِكَ الأرضَ بأسفاري لأَغرِسَ في كلِّ مكانٍ نبتةً، لا أن تحترقَ الأشجارُ ويَضيعَ عمرُها هباءً منثوراً.

وإني إنْ عِشْتُ، سأكتبُ كثيراً ممَّا حَدَثَ وما يحدث. وهو مسارٌ واحدٌ من مَساراتِ التخفُّف الذي عزمْتُ عليه. ولن ألومَ نفسي إن قلتُ الحقيقةَ كما رأيتُها بلا تجميلٍ أو مفاخَرةٍ بمساحة ذاكرة الحال. يقول الروائي الفرنسي أندريه مالرو: "كلُّ إنسانٍ يُشبِهُ أَلَمَهُ".

أنا متوجّعٌ الآنَ. أحسُّ بضُمور الذّاكرة، بتعكُّر تلافيفِ الشُّعور، باستقبال المُخِّ صعقاتٍ كهربائيةً. لا وصفَ لذهنٍ مُعذَّب. أحسُّ بتهاطُل الخريف في سنوات العُمُر، التي اقتربَت أكثرَ فأكثرَ. هناك ضِيقٌ في رؤية مستقبَلٍ، أيِّ مستقبَلٍ. ينتقل ألمُ المَحبَرة الخاوية حيثُ يتأوّهُ الفِكرُ، كقول محمود درويش: "لا شيءَ يُعجِبُني". يُشعِرُني هذا بالأُلْفةِ حين أَستحضرُ ما حدث لنا ويحدث وسيحدث.

لماذا عليّ أن أحاول التنفس برِئَتَيَّ، ووطني باتَ بلا أكسجين، فقد نَهَبَهُ لُصوصُ الحُروبِ.

كأنّي أتابِع فيلماً يُعرَضُ ليلاً، فلا يُسمَحُ لي بالنوم في الظّلام حتى انتهاء العَرْض، ويمكنُ أن أَخرُجَ من السينما نفسِها، وأعودَ إلى الموقف نفسه، لا نومَ، والمشهدُ الهزليّ هُوَ هُوَ، لا نَومَ في الظّلام والفيلمُ هُوَ هُوَ. أكتبُ وحروفي تتموجُ من تقرُّحٍ مضغوطٍ في جسدٍ يتقلّبُ على الجمر، أينما وطأ، نالَ اللّهبَ وجحيمَه، وإنْ حاولنا التّذاكي بحركة "شقلبة " سيكون التّذمُّرُ سخيفاً حين نقعُ على جمرٍ آخَرَ.

أُحِسُّ بوَرمٍ خَفِيٍّ في ذاكرة ظهري، وآخَرَ "ينتفش" في عَيْنِيَ المبصِرةِ ما أخجلُ من الإفصاح عنه الآن. ربما سأقترحُ عليَّ يوماً ما أن أَنزع صاعقَ الألمِ لأقولَ ما لا يُقال، ربما. وإلى أن يحينَ ذلك الزّمنُ، إن عِشْتُ، سأظلُّ أُدَلِّكُ طَرَفَ الذاكرة، كفانوسٍ يغسلُ العتمةَ ويُبقي قشرةً لصوتٍ أخرستهُ قذيفةٌ، وسَعَلَ حتى انقشَعَ غبارُ البارودِ، ليعاوِدَ شيئاً مِن حياة.


ما زِلنا نتنفسُ الموتَ كلَّ يومِ من أيام الحرب المسعورة. بالأمس أحسسْنا بأنها تعود إلى أيامها الأُولى. الانفجاراتُ الضخمة والطائراتُ تَهدرُ بلا مَلَلٍ، والسفن الحربية تطلق نيرانها صباحَ مساءَ. ثقيلةٌ هذه الأيام. بِتْنا مُثقَلِينَ بها. مُثقَلِينَ بالتراب الذي يحيط بنا. مُثقَلِينَ بالذباب الذي صار رفيقاً في كلّ مكان. مُثقَلِينَ بالدمع المسكوب فينا ما إنْ نسمع عن فَقْدِ عزيزٍ أو شاهَدْنا مأساةً جديدةً. مُثقَلِينَ بالوجع الذي لَم يكُن أكثرُ المتشائمين يَتخيَّلُه.

انصبّ الاهتمامُ على توفير الاحتياجات اليومية من مياهٍ مالحةٍ، ومياهٍ صالحةٍ للشُرب. وكلمةُ "صالحة" لا تعني النقاءَ، إنما هي ليست مالحة. وغيرُها من مستلزَمات الحياة، أَوّلُها الطحينُ الذي غَلَتْ أسعارُه بما لا يُتَخَيَّلُ، ثم الخضراواتِ المتقلِّبةُ أسعارُها بين الصُعود والثبات على صُعودٍ معيَّن.

لا أُحِبُّ الذهابَ لشارعٍ يسمى "السوق". يصيبني اكتئابٌ يكوِّم درجاتِه في نفسي. هل نحن هنا. هل نحن في حالة حربٍ حقاً، أو هو كابوسٌ لم يَنْتَهِ بعد. كثيرون كثيرون ما زالوا غيرَ مصدِّقِين أنّ ما يحدث هو فعلاً واقعٌ وحقيقة.

أُغلِقَ معبرُ أبو سالم جرّاءَ اشتباكاتٍ مسلَّحةٍ بالقربِ منه. هذا المَنْفَذُ الوحيدُ للمساعَدات المُدْخَلة من الأراضي المصرية. وهي ليست مجانيةً، بل تُباعُ بغلاءٍ فاحشٍ. فُتِحَتْ رِئَةُ الضفّةِ الغربيةِ لإدخال بضائعَ تجاريةٍ بلا ضرائب. انخفضت الأسعارُ كثيراً، ولكن بلا قدرةٍ شرائيةٍ من الناس، ثمانيةَ أَشْهُرٍ بلا دَخْلٍ، واعتمادِهم على المساعَدات من وكالة الغَوْث الدولية.

كلُّ شيءٍ يبدو رمادياً. أصبحَت المعلَّباتُ تُباعُ بكثرةٍ، حتى الأواني المنزلية. الناس لم يعودوا قادرين على العيش بلا تضحيةٍ بممتلَكاتِهم السالِمة من الدمار ليُسكِتوا أفواهَ أبنائهم الصغار. حتّى وصل الأمرُ بعرضِ كِلْيَة أحدِهم للبيعِ للهروب من الجحيم قبل إغلاق معبر رفح. بالأمس توهَّجَت السماءُ بضوءٍ أحمرَ، يشبه لهبَ تنّور الخبز، كأنّه حلقةٌ طافَتْ بالمخيّم. لم يكن احتفالاً كرنفالياً، بل كان إعلانَ سقوطِ صاروخٍ.

في المنطقة الآمِنة غرب مدينة رفح "البركسات" المعلَن عنها من جيش الاحتلال الإسرائيلي، خِيامٌ منتشِرةٌ تغطّي مساحاتٍ كبيرةً، وفي ساعات النوم أَطلقَت طائراتُ سلاحِ الجوّ الصهيوني أكثرَ من ثمانيةِ صواريخَ على خِيامِ اللاجئِين. صواريخُ تسقط على اللّحم فقط. وكانت نتيجةُ ذلك مقتلَ عشرات اللاجئِين، من حِمَمِ الصواريخ المباشرة والشظايا.

تُهْرَعُ سياراتُ الإسعاف لنقل الجثث والمصابين في العالَم كلِّه، أمَّا في غزة فالجثث متفحّمة ووسائلُ النقل متوقّفة، فلا وَقودَ ولا شوارعَ ممهّدة. في غزة يرجع الزمنُ إلى الوراء. الموتُ في غزة حاضرٌ بقُوّةٍ بعدَ ثمانيةِ أشهُرٍ من حربٍ لا تَرحم.

بدأ الصيفُ يُطِلُّ برأسه بقوّة. فنحن في أواخر شهر مايو. لا كهرباء تخفِّفُ هذا الجحيم. والخِيام نسيجُ خيوطٍ خفيفٌ يَلُفُّ الخُشُبَ. كلمةُ خيمةٍ في غزة لا تعني تلك الخيامَ المجهَّزةَ التي نَراها في عُروض البَيْع. خِيامُ غزّة لا تَقِي حَرّاً، فهي تتحوّل إلى جحيمٍ في هذا الطقس، وكانت في الشتاءِ ثلاجةً ليس إلّا.

يُبحَث في كلِّ يومٍ عن طفلٍ مفقودٍ في الطرقات الترابية، أو طفلةٍ تائهةٍ، يُنَادَى اسمُها علَّها تُهْرَعُ للخروج من مكانِ لَعبِها أو اختبائها.

طفلةٌ اسمُها وردة، تلبسُ ثوباً زهرياً، شقراءُ، يدُها محروقةٌ، إثرَ سَهْوِها وهي تُقلِّبُ البطاطا بالزيت على النار، وهي تفكّر في وعدِ والدها أن يأتي لها بلُعبتِها من بيتِهم المهدَّم، فكان ما كان، ووالدتُها تغسلُ ملابسَهم المتّسخةَ الرثَّة.

الناس هنا محرومون من كلِّ شيءٍ. حتى أحلامُهم وآمالُهم ماتت. لا أحدَ يفكّر في شيءٍ مستقبليٍّ. كيف وهُم لا يَملكون الحاضرَ. الأملُ الوحيدُ هو أن تنتهي الحربُ. لا يهمُّهم غيرُ أن تَنتهيَ، ويَنتهيَ كلُّ هذا العبثِ.

هنا غزّةُ يا سادة.

اشترك في نشرتنا البريدية