من نهر البارد إلى واشنطن: فلسطين وقضيّتها في رواية شخصية

في هذه السيرة الفكرية والسياسية، يأخذنا حازم صاغية في رحلة طويلة يحكي فيها تشكّل علاقته الفكرية بالقضية الفلسطينية

Share
من نهر البارد إلى واشنطن: فلسطين وقضيّتها في رواية شخصية
مسلحون فوق دبابة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في ديسمبر 1975 (تصوير كيستون / خدمة غيتي للصور)

الشِعر هو السبب الأوّل في مَعْرِفتي فلسطينَ، فخالي القريبُ مِن حزب البعث كان يُنْشِدُني دوماً أبياتاً عن "الأرض السليبة" ويردّد بطريقةٍ خطابيّةٍ أبياتَ عُمَر أبو ريشة في قصيدةٍ رثى فيها الزعيمَ السوريَ إبّان فترة الانتداب الفرنسي سعد الله الجابري:

إيْ فلسطينُ ما العروبةُ إلاّ … قَبَسٌ من سَنَا النبوّة هادِ
كيف لا نَمشقُ النجومَ ذِياداً … عن حِمى السيِّد المسيحِ الفادي
إنّ تاجاً يلفُّه حلمُ صهيونَ … نضيداً على جبين الفسادِ
أقسمتْ أن تفضّه خرزاتٍ … وتوشّي به سروجَ الجيادِ
فعلى الحادثات أن تتوالى … وعلينا الوقوفُ بالمرصادِ

ومن غير أن يَلتقط أنفاسَه، يتغنّى بأبياتٍ أُخرى من قصيدةِ الأخطل الصغير بشارة الخوري، تقول:

إنّ جُرحاً سالَ من جبهتها … لثمتْه بخشوعٍ شفتانا
يا فلسطينُ التي كِدنا لما … كابَدْتِه من أسىً ننسى أسَانا
نحن يا أختُ على العهد الذي … قد رضعناهُ من المهدِ كِلانا
يثربٌ والقدسٌ منذ احتلما … كَعبتانا وهوى العُرب هوانا

ومَرّةً بعد مرّة، كان يسألني: "أيُّ الأبيات أجمل؟" تارةً أقول هذه، وأُخرى تلك، مُعوّلاً على نسيانه. وأَذكر أنّ أبي، الأصوليّ في اللغة ودقّة معانيها، الراغب في توكيد تفوّقه في منافسةٍ تقليديّةٍ بين الأب والخال، كان يعترض على بيت الأخطل الصغير الأوّل، "إنّ جُرحاً سالَ..."، لأنّ الجُرح لا يسيل. ويقترح بدلاً منه:

"دمُ جُرحٍ سالَ من جبهتها..."

وظلّت تلك الأبيات ومثيلاتُها تُحرِّكُ فِيَّ شعوراً غامضاً يجمع الألمَ والفَقد، ويجمع الغضبَ وقداسةَ ذاتِ إلهٍ مجهولٍ، وإن سدّدت، على طريقة التوازنات اللبنانيّة، دَينَها لمَصادر القداسة المعهودة. ذاك أنّ بعضها كان يأتي من يثرب و"سنا النبوّة الهادي"، وبعضها من القدس و"السيّد المسيح الفادي". 

في هذا التدفّق الشعريّ لفلسطين وعنها كنتُ على يقينٍ - وإنْ طفولياً - أنّ الأمر شعريٌّ محض. ولمّا كنتُ أسمعُ ممّن هُم أسنُّ منّي كلماتٍ مِثلَ: "نَرضع العروبةَ وفلسطينَ مع حليب أمّهاتنا"، وفلسطين "في دَمِنا"، بدا لي الشِعرُ وفلسطينُ والدّمُ والحليبُ أجزاءَ آلةٍ مُسنَّنةٍ واحدة. واجتماعُ الدّم والحليب يوحي ببدءِ الحياة المطلَق والشامل الذي مِن دونِه العدم.

كان يدهشني، من غير أن أَمْلك جواباً، أنّ الغضب في أشعار فلسطين يُخلي مكانَه للاحتفال في أشعار لبنان الوطنيّة. فمع "النشيد الوطنيّ" ونشيد "نحن الشباب" وسواهما ممّا لم أُعِرْهُ اهتماماً، لم يكن أحدٌ يغضب، ونادراً ما لاح شبحٌ للدم والحليب. فإذا ظَهَرَ "لبنانويٌّ" مُتحمّسٌ يتسوّل القداسةَ لقوله، بَدَت قداستُه أشبهَ بمحاكاةٍ هزيلةٍ إن لم تكن هزليّةً، لشيءٍ مختلفٍ يُفتَرض احتكارُه المقدَّسَ وحدَه.

لكنّ شِعراً آخَرَ ما لبث أن هبّ عليَّ فأخْضعَ تلك الأحاسيسَ الأَوّليّةَ لتسييسٍ طفيف. فمع قراءتي قصيدة "الشاعر القرويّ" رشيد سليم الخوري، عن وعد بلفور أدركتُ أنّ في الأمر بَيْعاً وشِراءً ومُخادعاتٍ وألاعيبَ، وأنّ فيه "استعماراً" سوف يرافقني طويلاً في الأطوار اللاحقة. ذاك أنّ الوزير الإنجليزيّ اللعين:

يَهِبُ الوعودَ ويقتضي إنجازُها … مُهجَ العباد... خسئتَ يا مستعمرُ

وأَمْرُ فلسطين في شِعر القرويّ يتّصل بتاريخٍ يثير الحماسةَ ويَحُضّ على الاستعادة، وعلى ضفافه ينتشر بقَدْرٍ من الملحميّة كثيرون من الأخيار الملهَمين ومن الأشرار الكريهين. إذا تباهتْ بريطانيا "سيّدةُ البِحار" بعدد سفنها، "عند ربّك أكثرُ" من تلك السفن. أمّا الصليبيّون وهم مصنع الشرّ وجَدُّه الأعلى فيقول عنهم:

يدعوك شعبُكَ يا صلاحَ الدينِ قُمْ … تأبى المروءةُ أن تنامَ ويسهروا
نسيَ الصليبيّون ما علّمتَهم … قبل الرحيل فعُدْ إليهم يذكروا

ولم تخلُ قصيدة الشاعر القرويّ من سخريةٍ تُحْكِم لصقَها بالذاكرات الطريّة، إذ يَشتِم الشاعرُ بلفورَ بقوله:

لو كنتَ من أهل المكارم لم تكن … من جَيب غيرك مُحسناً يا بَلْفَرُ

والحال أنّ ذاك العالَم الشِعريّ الملتهب عاش صِنْواً لعواطفَ كارهةٍ لبريطانيا التي "سلّمت فلسطينَ لليهود". وتردّدت في بيت جدّي عبارةٌ لم أعرف قائلَها الأوّل، مفادُها أنّ العالَم لن يحظى بالأمن والهناء إلاّ بعد إغراق تلك "الجزيرة اللعينة"، أي بريطانيا، في البحر. ولم تكن صورةُ فرنسا أبهى، فهي التي سبق أن انتُدبت علينا وفتكت بالجزائريّين وحالفت الإسرائيليّين والبريطانيّين في حربهم على مصر. وما دامت المواقف تُصاغ عندنا شِعراً، فقد صاغ موقفَنا بيتان للشاعر "بدوي الجبل" محمّد سليمان الأحمد، كثيراً ما ردّدهما خالي. البيتان شامِتَان بفرنسا حين غزاها النازيّون:

"سمعتُ باريس تشكو زهوَ فاتِحها … هلاّ تذكّرتِ يا باريسُ شكوانا؟
عشرون عاماً شربنا الكأسَ مُترعَةً … من الهوانِ فذوقي طعمَها الآنا"

والحقّ أنّ العدّة الشِعريّة المتّصلة بفلسطين كانت تسدّد خُطانا في أحكامنا القاطعة على العالَم مرموزاً إليه بالسياسيّين "الخونة"، وغالباً ما فكّت القصائدُ عقدةَ اللسان عن الضوابط والمعايير الموصوفة بالتهذيب. فلئن لبسَ الرئيسُ السوريُّ تاج الدين الحسني عمامةَ الشيخ، فإنّه "لفَّ بالدسّ والنِّفاق قفاها"، كما نُقّلْنا عن شفيق جبري. أمّا السياسيّ جميل مردم فهو مَن علَّمَنا عُمَرُ أبو ريشة أنّ "أرحام السبايا" لم تلد مثلَه، متسائلاً: "كيف تبني أمّةٌ عزّتها" ما دام في عِدادِها كائنٌ كهذا؟

وشملت عدّتي الفلسطينيّة الأولى بضعَ أغانٍ كنتُ أَسمعُها، وكانت تُسمَع في بيت جدّي الذي لم يكن متلهّفاً لسماع الأغاني. وأكثرُ ما أذكُرُه أغنيتان، أُولاهُما قصيدة "أخي جاوَزَ الظالمون المَدى" لعلي محمود طه التي غنّاها محمّد عبد الوهاب قبل انقلاب يوليو 1952، والثانيةُ "وطني حبيبي الوطن الأكبر" التي لحّنها محمّد عبد الوهاب وغنّاها بعضُ أبرزِ المغنّين والمغنّيات في مصر والعالم العربيّ، احتفالاً منهم بذكرى وحدة 1958 بين مصر وسوريا. ولعبد الحليم حافظ تُرِكَت خاتمةُ ذلك الأوبريت التي تعرّج على قضايا التحرّر العربيّ، وفق تأويلها الناصريّ، قضيّةً قضيّةً، فكان يُنشد:

وطني يا زاحفْ لانتصاراتَكْ … ياللي حياةِ المجدِ حياتَكْ
بفْلسطينْ وجَنوبْنا الثائرْ … حنكمّلّك حُرّيّاتكْ

وكان التأثّر الذي تتركه فلسطين، بوصفها وعداً وتتويجاً، يَصرف الانتباهَ عن "جنوبنا الثائر" في اليمن الذي لم أكن على بيّنةٍ منه ، ولا كان همّي أن أعرف ذلك. ففلسطين بدت أشبهَ بذاك الابن المفضَّل الذي نُسب إلى أمٍّ عربيّةٍ مُؤسْطِرَةً وَصْفَها له بأنه "صغيرُهم حتّى يَكْبُرَ ومريضُهم حتّى يُشفى وغائبُهم حتّى يعودَ". 

في تلك الأيام بدأت تتردّد في البيت قصصٌ غيرُ شِعريّةٍ ولا غنائيّةٍ عن معاناة الفلسطينيّين في مخيّمٍ غيرِ بعيدٍ عنّا، هو مخيّمُ نهرِ البارد. هناك، على ما كانت تتناقل الألسنةُ، كان يَدخل أفرادٌ من سِلك الدَّرَك اللبنانيّ فيعتقلون ويُهينون. كذلك رُويَت قصصٌ أغلبُها صحيحٌ عن حالاتِ استباحةٍ واغتصابٍ طالت نساءً لا لشيءٍ إلا كونهنّ فلسطينياتٍ يُقِمْن في المخيَّم. أمّا لماذا كان يحصل ما يحصل، فكان الجوابُ التلقائيُّ المُجمَع عليه في أوساطنا: لأنّ كميل شمعون، الرئيس اللبنانيّ يومَذاك، يمنعهم من تحرير فلسطين.

وشيئاً فشيئاً رحتُ أدركُ أنّ تحرير فلسطين مسألةٌ صعبةٌ وشائكةٌ، وأنّه لا بدّ لفهم ألغازها مِن مساءلة أمّها، العروبة، ومِن استنطاقها.


اليومَ، في نظرةٍ تستعيد الماضي، يتراءى لي أنّ هناك عُروبتَيْن قد تتقاطعان، وكثيراً ما تَفعلان، إلاّ أنّهما متمايزتان، وتحريرُ فلسطين أبرزُ المحطّات التي تتمايزان فيها. فهناك العُروبة السوريّة التي تَعُدُّ فلسطينَ أختاً كبرى لميسلون وللواء إسكندرون "السليب" هو الآخر، يُناطُ تحريرُها بحزب البعث وبأكرم الحوراني. ولئن ظلّ جمال عبد الناصر حتّى خلافه مع البعث أواخر الخمسينيات أبرزَ الأوصياء على فلسطين المؤتَمَنين على تحريرها، فقد سُحبَت منه الوصايةُ حينذاك، وبات بعضُ زوّار بيتِنا يردّدون أنّه "باع فلسطين" وقَبِلَ بالبوليس الدوليّ فاصلاً بينه ومواجهة إسرائيل. العُروبة الأُخرى التي ظلّت تحظى بالجماهيريّة هي العُروبةُ المصريّةُ التي دان بها فلسطينيّو نهر البارد والأكثريّة الساحقة من أبناء طرابلس الغاضبة عموماً، والغاضبة خصوصاً لفلسطين. وفي أغلب الظنّ كانت غزّةُ والغزيّون أقوى حضوراً في هذه العروبة المصريّة الفلسطينيّة، ممّا في منافِستها السوريّة الفلسطينيّة التي وصلتنا عبر أسماءٍ من مؤسّسي حزب البعث في الضفّة الغربيّة ككمال ناصر وبهجت أبو غربيّة. وأرجّح أيضاً أنّ العُروبة الثانية انطوت، في مقابل بعثيّة الأولى، على شيءٍ من الهوى يصلُها بحركة القوميّين العرب التي لم أكن قد سمعتُ باسمها، لكنّ المؤكَّدَ أنّ تحرير فلسطين، وفق هذه المدرسة، ظلّ لواؤه معقوداً لعبد الناصر.

يجوز القول إنّ فلسطين في العروبة الأولى عاشت محجوبةً بسوريا، لكنّها حضرت بقوّةٍ أكبر في العروبة الأخرى لأنّ مصر لم تكن معها في موضعٍ تنافسيٍّ ولو ضِمناً، بينما صُيِّرَ شخصُ عبد الناصر فوقَ منافسات الشعوب والبلدان. ربّما لهذا السبب كانت العروبة السوريّة أكثرَ إيراداً للأسماء، تُوازِنُ بها شخصَ الزعيم المصريّ. ففيها تَأْلَفُ اسمَ عزّ الدين القسّام، وهو سوريٌّ من مدينة جبلة، واسمَ اللبنانيّ فوزي القاوقجي ابن طرابلس، وتتعرّفُ إلى أنّ الحوراني وبضعةَ بعثيّين تطوّعوا للقتال هناك في 1948، بعدما سبق أن تطوّعوا للقتال في العراق قبل سنواتٍ سبعٍ. ولئن تشاركت المدرستان في اسم عبد القادر الحسيني، فقد تشاركتا أيضاً في تجاهل الحاج أمين الحسيني، وفي تجهيل منافِسِه على الزعامة، راغب النشاشيبي، الذي اتُّهم بممالأة الإنجليز. ولم تخلُ المدرسة الثانية من الإلماح إلى الشِعر والشعراء، غير أنّ معظم مَن تَباهت بهم كانوا فلسطينيّين، كهارون هاشم الرشيد وأبي سلمى الكرمي، وبدرجةٍ أقلّ إبراهيم طوقان. فالأخير، وإن بقي أشهرَهم، ربّما أساء إليه - في زمن التزاوج القوميّ الاشتراكيّ - انتماؤه إلى عائلة أعيانٍ، وعملُه موظّفاً في الإذاعة البريطانيّة، فانحصر ذكرُه في قصيدة "الشهيد" الذي "روحُه فوق راحته".

بدلَ أسماء الأشخاص، ضجّت العروبة الفلسطينيّة المصريّة بأسماء المعارك والأمكنة. فمن دير ياسين إلى قِبْيَة، راحت إذاعةُ "صوت العرب" تَحفر تلك الأسماءَ في رؤوسنا، ومعها مدنٌ وبلداتٌ كاللدّ والرملة وحيفا ويافا وخان يونس، وبالطبع القدس التي كانت تُذكر بصفاتٍ كثيرةٍ لا يختصرها المسجد الأقصى. وربّما بسبب غرابة الكلمة حينذاك، احتفظَت ذاكرتي بكلمة "بِطاح" التي كثيراً ما وردت أسماءُ الأماكن مسبوقةً بها. فهناك دائماً "بطاح يافا" و"بطاح اللدّ" وسائر البطاح التي انتابني أنّ علينا ذات يوم أن نتدبّر أمرَ تحريرها.

ومن خارج العُروبتين ولغتيهما، غنّت فيروز منذ 1956 أغنيتها الشهيرة "سنرجع يوماً" التي ردّها بعضهم إلى هاشم الرشيد ونسبها آخرون إلى الأخوين الرحباني. وكائناً مَن كان شاعرها فإنّ فلسطينها لم تشبه الفلسطينات التي كانت سائدةً في أوساطنا العروبيّة. فتلك القصيدةُ الأغنيةُ بدت لي أقرب إلى دعايةٍ لرحلةٍ جبليّةٍ يُكتشف فيها جمالُ الطبيعة ويُسمع شدو العصافير، مغنّاةً بصوتٍ يحوّل المَعاركَ الموعودة إلى مباراةٍ في الغناء على مقربةٍ من ينابيع عذبةِ الماء.


على أنّ "ثورة 1958" حركة مسلّحة مناوئة لحكم شمعون، إلا أنها أَكسبَت فلسطينَنا أنياباً أنشبناها في قريتنا التي حكمتها تلك "الثورة". فالويل ثمّ الويل لمن أُشيع عنه أنّه يسمع إذاعة إسرائيل، فقد أعدّت له "المقاومة الشعبيّة" عقوبةً تَفُوقُ التي كانت تُنزِلُها بمن يسمع "بي بي سي" البريطانيّة. فأنا ومعي شلّةٌ من رفاقي كنّا نتوجّه فوراً إلى قائد المقاومة التي تأسّست بعد انسحاب جهاز الدرك من القرية فنُخبره، نحن الوشاة الصغار، أنّ فلاناً يُنصِت إلى إذاعة إسرائيل. بعدها كان القائد يُسمِع المُتَّهَم "كلمتين نْضَاف" ويهدّده بجرّه إلى المخفر إن كرّر جريمته.

وأظنّ أنّ الأذن غيرَ المجرّبة أوحت لنا أنّ الفارق هزيلٌ بين إسرائيل وعزرائيل. وقد عزّز هذا الانطباعَ تدخّلُ العين أيضاً؛ فقد نشرت إحدى الصحف صورةً لديفيد بن غوريون أكّدَت لي، وربّما لسواي، أنّ صاحب الشَعر الأبيض المشطور إلى طرَفين متعادلين تتوسّطهما جلدةُ رأسٍ مُحمرّةٌ هو بالتأكيد من نسلٍ شيطانيّ. وكانت قبّتا قميصه المرتدّتان على سترته، لا المنضويتان تحتها كما جرت العادةُ، مصدرَ اشتباهٍ مؤكِّداً.

أكثرُ مَن دفع كلفةَ إسرائيل كان قريبنا المُسنّ إلياس م وزوجته كوكب. فهُما، وكانا من ذوي الإيمان الراسخ، درجا في أحاديثهما داخل البيوت التي يزورانها على الإكثار من ذكر "بني إسرائيل" والاستشهاد بأنبياء التوراة، وكان مصدرُهما، في أغلب الظنّ، العهد المسيحيّ الجديد. بيد أنّ شلّتنا التي ضمّت سبعةً أو ثمانيةً أسنُّهم ناظم س، ابن الثانية عشرة، وكنتُ مِن أصغرِهم، آثرتْ أن تردّ على هذا الاختراق، أو الغزو الثقافيّ بلغةِ اليوم. فكنا نهاجِم بيتَ إلياس وكوكب مرّةً أو مرّتين في الأسبوع. وكنّا نقتحمه، مسعورين هائجين، يسبقنا هتافنا "يا صهيوني يا صهيوني"، فنتعمّد تلويث مدخله بأحذيةٍ غطّسناها بالوحل، وكنّا متى رأينا كيس لبنةٍ معلّقاً نزعناه ورميناه بعيداً، وقد نكسر عنق وردة في الجنينة الصغيرة أو نسحق بأقدامنا أعناق بنفسج اعتنى بها "الصهيونيّان" المُسنّان. وهو سلوكٌ لم يتسبّب لأيّ منّا، نحن الأشرار الموصوفون بالبراءة، بعقوبةٍ ولا بتوبيخ، مع أنّ الأهل كانوا يقولون أحياناً "حرام" و"ما بيستاهلو"، يعنون أنّ الياس وكوكب "أوادم" و"ختياريّة"، لكنّهم لا يلبثون أن يمضوا لشأنهم.

لم تكن كلمة "صهيونيّ" التي تبرّر كلّ فعلٍ نفعله تعني لي أو لرفاقي في الغزو، أيّ شيء يتعدّى إسرائيل التي هي عدوّنا ومصدر الخطر علينا، كما علّمتنا القصائدُ وكلامُ البعثيّين وخطبُ عبد الناصر وما تبثّه إذاعة "صوت العرب". أمّا كلمة "يهود" فتراءى لنا أنّنا أكثر تمكّناً منها، إذ كانت الإحالة إليهم توحي بشناعةٍ لا توفّرها كلمة "إسرائيل". ولربّما عاد هذا إلى أنّ ادّعاءنا الخبرة في الأديان فاق ادّعاءنا الخبرة في الدول، سيّما وأنّ بعض مؤمني القرية كانوا موقنين من أنّهم هم مَن صَلَبَ المسيحَ.

وأظنّ اليومَ أنّ هذا التبكير في المواقف وفي التعصّب لها لم ينفصل عن موقع أقليّةٍ كنّا نحتلّه في القرية نفسها قياساً بالعائلة التي نخاصمها، وهي الأكبر عدداً والأوسع نفوذاً. فالأكثريّة الملتفّة حول تلك العائلة مضت تستمتع بحياتها العاديّة دون أن ينغّصها بؤسُ أحوال العرب أو احتلال الصهاينة فلسطين. وهي في التنافسِ على القلوبِ الدائرِ حينذاك بين عبد الناصر وشمعون اختارت الثاني، وظهر في عِدادها مَن انتسب إلى حزب الكتائب وإلى الحزب السوريّ القوميّ إبّان التحاقه بشمعون. وفي هذا بدت أكثريّةُ القرية منسجمةً مع المزاج العامّ السائد بين مسيحيّي لبنان، تاركةً لنا الحلم الكبير ببِطاحٍ تمتدّ من مأرب إلى خان يونس، ومنها إلى تطوان التي عرّفَنا بوجودها بيتُ شِعرٍ شهيرٌ.


في الستينيات تكاثرتْ في حياتي الأحداثُ التي تتذرّع بفلسطين. ففي مَطالع العقد المذكور حصل الانفصال السوريّ عن دولة الوحدة، ما أصابنا بِحِيرةٍ عارضةٍ لم تدم طويلاً مردُّها تأييدُ القائدَيْن البعثيَّيْن الحوراني وصلاح الدين البيطار الانفصالَ. وإذ عاد إلينا رُشدُنا الوحدويّ سريعاً، لا سيّما بعدما سحب البيطارُ تأييدَه فيما تنصّل البعثُ من موقف الزعيم الحمويّ الحوارني، عفَونا عن عبد الناصر الذي استعدناه زعيماً وساحراً. وطوالَ أشهُرٍ من عام 1961 سمعتُ كثيراً عن تصدّي شبّانٍ فلسطينيّين في سوريا للعهد الانفصاليّ الموصوف بالعمالة، فكان ذلك إضافةً نوعيّةً إلى فلسطين والفلسطينيّة وإنقاصاً آخر من رصيد الانفصال. 

وراح الأعلمُ والأسنُّ بيننا يتحدّثون عن تلازمٍ لا مناص عنه بين الوحدة العربيّة وتحرير فلسطين، وعن أنّهما متلازمان مكمّلان بعضهما. لكنّ الشعارَيْن العزيزَيْن هذين ابتلَعَهما سريعاً الصراعُ المتجدّدُ بين الزعيم المصريّ وسلطةِ البعث في دمشق، ولبضعة أشهُرٍ في بغداد. لذا لم يَبْقَ من فلسطين في اهتمامنا سوى البرهنةُ على أنّ البعث، لا عبد الناصر، هو من سيحرّرها.

حينذاك، في نصف الستينيات الأوّل، كنت أدرس في "ثانويّة الروضة" في بيروت التي أسّسها أستاذان فلسطينيّان لبنانيّان هما أحمد جرّار وقيصر حدّاد، شقيق وديع حدّاد الذي اشتُهر لاحقاً بخطف الطائرات. وهناك أحسستُ مرّةً أُخرى، من أساتذة وتلامذة، أنّ فلسطين المتداولَةَ غيرُ فلسطينِي المَشوبةِ بسوريا وبالبعث. فهي، على العموم، أكثرُ فلسطينيّةً وأكثرُ إسلاماً وفي الآن ذاته أكثرُ ناصريّةً، وبدت البعثيّةُ سلعةً مطرودةً من سُوقها. وبالفعل آلت محاولتي تزويدَ أحدِ رفاقي بكتابٍ أظنّه لميشيل عفلق إلى طردي من المدرسة.

على أنّ فلسطينيّتي بسبب جذرها السوريّ، بقي إفصاحُها عن العداء للبنان أشدَّ من إفصاح الفلسطينيّة الأخرى غير المهتمة به. فمع الأخيرة تلوح فلسطين إلى القداسة أقربَ، بحيث ينبغي عدم تلويثها بما يتبدّى مجرّدَ واقعٍ صغيرٍ تؤلّفه البلدانُ والشعوبُ وأشياءُ الحياة. وكان ما يشدّد هذا التجاهلَ تحالفُ العهد الشهابيّ مع عبد الناصر وما يستدعيه التحالفُ من تبادلِ المجاملات. 

لكنْ في تلك الأيام، وكنت منضوياً في فرقةٍ كشفيّةٍ لم أُطِل البقاءَ فيها، وُزّعت علينا قسيمةُ أسئلةٍ في "المعلومات العامّة" وكان أحدُ الأسئلة: "ما هي عاصمة إسرائيل؟" 

وبيننا، أنا وبضعة زملاء، رقصَ الجنونُ رقصتَه المسعورةَ، خصوصاً وقد ظهر من يُفهِمنا أنّ مؤسّس الكشّافة في العالم السيّد بادن باول كان ضابطاً أرستقراطيّاً في الجيش الإنجليزيّ، وأنّ فكرة إنشاء الكشّافة لم تخطر له إلاّ إبّان مشاركته في حرب البوير في الجنوب الإفريقيّ، وذلك بقصد أن يُعِينه الكشّافون في حربه. ولأنّ المؤامرة مُحكَمةٌ بالضرورة، وليست هناك صُدَفٌ بريئةٌ كما كنّا نقول، قدتُ بمشاركةِ وليد نويهض، الصديقِ منذ ذلك الحين، تظاهرةً صغيرةَ العددِ من صِغار السنّ، سارت بنا إلى "منظّمة التحرير الفلسطينيّة" في كورنيش المزرعة حيث هتفنا ضدّ إسرائيل وضدّ المؤامرة التي يحوكُها الاستعمارُ والانعزاليّةُ على لبنان والقضيّة الفلسطينيّة. وحين استقبلَنا الراحل شفيق الحوت، ممثّل المنظّمة، أكبرَ فينا، بفصاحةٍ خطابيّةٍ مميّزة، وطنيّتَنا وتفانينا في سبيل فلسطين، وردّد كلاماً من صنفِ أنّنا رجالُ الغد وأنّ أمّةً تنجب أمثالَنا لن تموت. وبعد أن طيّب الحوتُ خاطرَنا عُدنا، راضين مَرضيّين، من حيث انطلقنا. 

وأنا لم أكن على بيّنةٍ من أنّ ما حصل مجرّدُ تمرينٍ على عداواتٍ تفُوق طاقتي سوف أتورط فيها. فعندما زار رئيسُ تونس الحبيب بورقيبة بيروتَ، وكان الغضب عليه في أَشُدِّه لخطابه في أريحا حين دعا العربَ إلى إعادة النظر في رفضهم تقسيمَ فلسطين، استعدّ بعض الأصدقاء للمواجهة وكان منهم من حملوا أكياساً مُلِئت بَيْضاً ليرموا به جبهة "المجاهد الأكبر" العريضة المتباهية. وظلّ اسمُ الرئيس التونسيّ يرادف أسوأَ النعوت التي أنجبها قاموسُ شتائمنا السياسيّ سنتين أو أكثرَ قليلاً.

إلاّ أنّ التوافق العريض على بورقيبة أو على بادن باول لم يُعفِني ممّا واجهني مجدَّداً مع انتقالي إلى مدرسةٍ في عاليه كانت تؤوي كثيرين طُرِدوا مثلي من مدارسهم. فالمزاج العامّ هناك مقسومٌ بين جنبلاطيّين وقوميّين سوريّين، والطرفان يتلقّيان فلسطين من وسائطَ كثيرةٍ تُخفِّف وطأتَها العروبيّةُ. فهي، عند الجنبلاطيّين، تمرّ بقناة التحالف بين زعيمهم وكلٍّ من فؤاد شهاب وعبد الناصر، فلا يبقى منها كثيرٌ في آخر المطاف. أمّا الآخرون فأكثر ما يعنيهم هو البرهنة على خطر اليهود ومصّهم دماء المجتمعات التي يستحيل اندماجهم فيها، كما كانوا يقولون. وكثيراً ما افتخر القوميّون بأنّ زعيمهم أنطون سعادة كان أوّل من اكتشف تلك الحقائقَ بعيدةَ النظر، وما هي إلاّ ترّهاتٌ لا ساميّةٌ تُلتقط بأطراف الأصابع. 

أمّا في بيئتي العائليّة، فكان السائدُ أنّ الشهابيّة ليست سوى امتدادٍ للنفوذ الناصريّ المعادي. لذا حَرصنا على وصفِها هي الأخرى بالانعزاليّة، وكانت الناصريّةُ وأنصارُها قد أعفوها من تلك التهمة وحصروها بشمعون وفريقه. كذلك رُحنا نتناقل أخباراً عن تعرّض مناضلين فلسطينيّين للسجن والتعذيب على أيدي الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، غامزين مِن الشهابيّة ومِن ورائها الناصريّة. والرواية هذه إنّما عثرت على بطلها في 1966، حين اعتقلت السلطة اللبنانيّة عنصراً فلسطينيّاً في حركة "فتح" اسمه جلال كعوش قيل إنّه كان يحاول التسلّل عبر الحدود اللبنانيّة لتنفيذ عمليّةٍ فدائيّةٍ في إسرائيل. وتمضي الرواية التي حظيت باهتمام البعثيّين وبتغطيةٍ واسعةٍ من صحيفتهم "الأحرار" مُسجّلةً أنّ كعوش قضى تحت التعذيب في السجون اللبنانيّة. وكعوش ربّما كان بعثيّاً، خصوصاً أنّ "فتح" استقطبت بعثيّين كثيرين كفاروق القدّومي وكمال ناصر وسواهما، لكنّ ما فاق بعثيّتَه أهميّةً أنّ الإعلام الموالي للقاهرة صمتَ عنه وعن "فتح" ونشاطِها جملةً وتفصيلاً، بسبب التحالف إيّاه الذي جمع الناصريّة والشهابيّة. وهذا أتاح للبعثيّين احتكار هذا "الشهيد" لا ينازعهم عليه منازع. والسبب نفسه الذي أسكتَ الناصريّين عن مسألة كعوش أسكتَ باقي "الوطنيّين والتقدّميّين"، فلَم يُسمَع صوتٌ لجنبلاط والشلل الناصريّة الصغرى فيما كانت هموم الحزب الشيوعيّ تتوزّع بين حروب الرفاق في جنوب شرق آسيا ومكاسبهم في كوبا والنضالات النقابيّة في كفرشيما أو النبطيّة.

بعد أسابيع على مقتل كعوش انشطر البيت البعثيّ نفسه بين "قوميّين" يوالون عفلق وقُطْريّين عسكريّين، إذ انقلب الأخيرون على الأوّلين. ومثلما دار النقاش القديم عن أيّهما سيحرّر فلسطين، عبد الناصر أو البعثيّون، عدنا إلى المسألة إيّاها، ولو على نطاقٍ أضيقَ: من الذي سيحرّرها: القوميّون أو القُطريّون؟ لكنّ القُطْريّين ما لبثوا أن خسروا الجولان بعد سنةٍ وأشهُر، وذلك على نحوٍ مُهينٍ حفّت به الأقاويل، ولم يطُل الزمنُ الذي تبيّن معه أنّ القوميّين ليسوا أفضل حالاً. فعندما انفجر النزاع الدمويّ بين سلطة الملك حسين والفصائل الفلسطينيّة المسلّحة في الأردن عام 1970 وكان القوميّون قد استولوا مجدّداً على الحكم في بغداد، تولّت قوّاتهم العراقيّة فتح الطريق أمام الجنود الأردنيّين كي يقتصّوا من المقاتلين الفلسطينيّين.

وأكبر منّا ومن هؤلاء جميعاً كانت هزيمة 1967، فقد تجمّعنا، في صباح ذاك الاثنين اللعين في باحة المدرسة، يجمعنا شعورٌ غامضٌ بالانتصار بثّته فينا إذاعةُ صوت العرب وما "أسقطته" من طائرات إسرائيليّة، وسِرْنا في تظاهرةٍ إلى سرايا عاليه. هناك، ألقيتُ وغيري خطبةً حماسيّةً هاجمتُ فيها "السلطة العميلة والجبانة في بيروت" التي تتجنّب الدخول في معركةٍ مجيدةٍ وحربٍ منتصرة. يومَها اقترب منّا ضابطٌ لبنانيّ قال ما معناه إنّ العرب يخسرون الحرب ومن الأفضل إبعادُ هذه الكأس عن لبنان، طالباً بأبويّةٍ معهودةٍ أن نعود إلى دروسنا. وكان ردُّنا عليه حادّاً، جازماً ومشكّكاً بأقواله، بل مُهيناً له شخصيّاً. لكنْ بعد عشرين سنةً أتاحت لي صدفةٌ بحتةٌ أن ألتقي هذا الضابط المتقاعد في بيت الصديق الراحل سمير فرنجيّة، وكنّا في زيارته دون أن نميّز بعضنا. ولسببٍ ما، جرّه الكلامُ إلى استعادة أيّامه في الجيش، فروى أنّه كان يخدم في عاليه إبّان حرب 1967 حين واجه تظاهرةً ضمّت أولاداً مُضلَّلين ومغرورين كان "ولدٌ رأسه مثل الحجر" يخطب فيهم و"يهيّجهم".

وكنت آنذاك "أخاً" في التنظيم الطليعيّ الناصريّ فزلزلَتْنا هزيمةُ عبد الناصر ثمّ استقالتُه وصِرنا نَدور ضائعين داخل نفوسنا الفارغة. وفي أواخر حزيران ذاك، قادتني وفاةُ أحد الأقارب إلى دخول الكنيسة في قريتي، وكانت من المرّات الأولى التي أدخلها. وبعد أن قلّدتُ ما يفعله المصلّون، لم أُطِق تقليدَ صَمتِهم حين ذكرَ الكاهنُ "بني إسرائيل" في الصلاة، فتمتمتُ كلماتٍ عبّرت عن غضبي، وكانت جمرةُ الهزيمة لا تزال حارقةً موجِعة. هكذا زجرني الكاهن وأمرني بجلافةٍ تفوق جلافتي بمغادرة الكنيسة، وهو ما فعلتُه سعيداً. 


شيئاً فشيئاً بدأت كلماتٌ جديدةٌ مثل "محو آثار العدوان" و"استعادة الأراضي المحتلّة" وما يشبههما من تعبيراتٍ تحلُّ محلَّ مُفردتَيْ فلسطين وتحريرها. ومع أنّ التحرير ظلّ مضمَراً في المصطلحات الجديدة، لاحت الأخيرةُ أشدَّ اقتصاداً وأقلَّ إشعالاً للمخيّلة. وحتّى حين تبنّت قمّةُ الخرطوم الشهيرة "اللاءات الثلاث"، بدا كأنّ بعض "النَعَمْ" الخجولةِ تقيمُ في اللاءات، لا سيّما وقد شهدت القمّةُ مصالَحاتٍ عربيّةً يَمُجُّها المزاجُ الراديكاليُّ.

فمَن الذي سيحرّرها إذاً؟ هذا كان السؤال الذي تَردّد بقوّةٍ في بعض الأوساط باحثاً عن جوابٍ. وما لبث الجوابُ أن هطل علينا: إنّه "أبو عمّار" الذي عُرف بـ"الناطق بلسان حركة فتح" قبل أن يُعرف باسمه ياسر عرفات.

ومع انضواءِ بعض البعثيِّين في "فتح"، وامتعاضِ الناصريِّين من عرفات وحَذَرِهم من إخوانيّته وضلوعِه في خططٍ عربيّةٍ مناهِضةٍ للقاهرة، إلا أنه لم يكن من الصعب التنبّه إلى أنّ أبا عمّار هذا آتٍ من خارج البيئتين الناصريّة والبعثيّة. لا أذكر متى شاعت صورته الفوتوغرافيّة، إلاّ أنّها حين شاعت زادت الغرابةَ غرابةً، فهو لا يشبه القادة الذين كانوا مَراجع تقليدنا، ولا يلبس الزيّ المدنيّ الذي لبسه الحوراني وعفلق ثمّ عبد الناصر بعد سنوات قليلة من انقلابه، ولا يعتمد الزيَّ العسكريَّ الذي ظهر عليه قبل انقلابه وبُعيده كما فعل كثيرون من الضبّاط السوريّين والعراقيّين من أبناء البيئة القوميّة. ولئن بدت لحيته غريبةً إذ هي تهمّ بالصيرورة ولا تصير، بدت عيناه الصغيرتان وعنقُه القصيرة كأنّها أشياء سبق أن صارت وها هي تباشِرُ الانسحابَ ممّا صارتْه. أمّا "الفتح المُبين"، وقلب اسم الصحابيّ عمّار بن ياسر ليغدو ياسر أبو عمّار، وباقي العدّة الكلاميّة لفتح فوفدت إليّ من غموضٍ لَم أتعرّف إليه قبلُ، وقبع إسلامُها بما لم يعهده البعث ولا حتّى الناصريّة. 

وكانت بين عرفات واللبنانيّة ولبنان هوّةٌ عبّرت عن بعض أوجهها حوادثُ طريفةٌ في التكاذُب شاعت يومَها وتناقلَتها الألسنةُ. وقد قُيّض للحوادث تلك أن تسهم في افتتاح تاريخٍ للبنانيّين وللفلسطينيّين ما لبثت أن صَبَغَته دماءٌ كثيرةٌ، تاريخٍ تَجاوَرَ فيه النضالُ والإيمانُ والقيمُ المافيويّة تَجاوُرَ التضحيات الفعليّة والدجلِ المحترف.

لكنّني في الأشرفيّة، مُقامِ أهلي، واجهتُ للمرّة الأولى ما كنت ألمسُه من غير تجربةٍ شخصيّةٍ، عن العلاقات الفلسطينيّة المسيحيّة. حصل ذلك حين قصدتُ البريدَ لإرسال رسالةٍ كنتُ ألصقتُ عليها واحداً من الطوابع التي أصدرَتها "فتح" ترويجاً للقضيّة الفلسطينيّة، وكانت الطوابع تلك مجّانيّةً يمكن لصقها إلى جانب الطوابع اللبنانيّة الرسميّة. وإذ مددتُ يدي بالرسالة نحو الموظّف بادَرني برعونةٍ وشيءٍ من القرف: "ما هذا؟"، وقبل أن أقول شيئاً أضاف: "بلا فتح بلا غلق، بدّك تشيل الطابع وإلاّ ما بيروح مكتوبك". وبعد عباراتٍ قليلةٍ لم تخلُ من الحدّة تبادلناها، وجدتُني محاطاً بخمسة شبّانٍ أو ستّةٍ كان واضحاً أنّهم ينوون شرّاً ما، فسحبتُ رسالتي وانسحبتُ معها.

في تلك الأيام، ومع تحوّلي إلى الحزب القوميّ السوريّ خيبةً من هزيمة حزيران والناصريّة، كانت فلسطين المسيحيّة، إذا جاز القول، تتقدّم في بعض البيئات التي أعرفها وأتعرّف إليها. فعلى عادتهم، كان القوميّون السوريّون المتحوّلون حينذاك إلى يسارٍ من جنسٍ عجيبٍ، يؤلّفون قصصاً توحي أنّ حركة "فتح" من صنع أيديهم. أمّا براهينهم فأهمّها أنّ أحد قادتها لقبُه الحركيّ "أبو الزعيم" الذي تبيّن لاحقاً أنّه الأفسدُ بين قادة الحركة الفاسدين. وكانوا يذكرون أنّ المقاوِم السوريّ سعيد العاص الذي قُتل عام 1936 في فلسطين واحدٌ منهم. وكانوا يعقدون مقارناتٍ ويقيمون روابطَ بين أشياء غريبةٍ كي يستخلصوا نتائجَ أغرب. فالأَخَوان الرحباني وفيروز قوميّون لأنّ الأخيرة تقول في إحدى أغانيها عن فلسطين: "زوبِعْ بهالضماير"، والزوبعةُ عَلَمُ القوميّين وشارتُهم. وقد قوِيَت هذه الحججُ حينما مُنعَت عامَ 1969 مسرحيّةُ "مجدلون" من العرض لتُعرَض في مقهى "هورس شو" بالحمرا. فالمسرحيّة تلك، التي موضوعها العمل الفدائيّ الفلسطينيّ وهو اسمه حينذاك كَتَبَها قوميٌّ سوريٌّ اسمُه هنري حاماتي، ومَثّلَها روجيه عسّاف ونضال الأشقر، ابنة أحد أقطاب الحزب القوميّ أسد الأشقر.

وفي توكيدهم على الولاء لمسألة فلسطين، كان القوميّون شديدِي التشدّق بتلك العبارة الذائعة لزعيمهم: "كلّنا مسلمون لربّ العالمين، منّا من أسلم لله بالقرآن ومنّا من أسلم لله بالإنجيل ومنّا من أسلم لله بالحكمة. وليس لنا من عدوٍّ يقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقّنا إلاّ اليهود". لكنّ بؤس العبارة لا يلغي وظيفيّةً ما، مؤدّاها جرُّ المسلمين إلى مواقع اللاساميّة المسيحيّة ورشوَتِهم ذِمّيّاً بـ"كلّنا مسلمون". فبدل أن تكون المشكلةُ تنازعاً على أرضٍ وحقوق، تغدو موصولةً أيضاً بـ "ديننا". والحال أنّ السنوات التي تلت هزيمة حزيران مباشرةً شهدت، مع مخاوف جمهرةٍ مسيحيّةٍ عريضةٍ من السلاح الفلسطينيّ، تعبيراتٍ متفاوتةً يميل أصحابها إلى التوافق مع المسلمين مقابل التشهير باليهود. ومن هذا القبيل غنّت فيروز "جسر العودة"، حيث تقول القصيدة إنّ "المأساة... بلغت حدّ الصلب"، لتضيف في استعادةٍ حَرفيّةٍ لإحدى صور اللاساميّة الأوروبيّة: 

من صلبوا كلّ نبيٍّ ... صلبوا الليلة شعبي

وغير بعيدٍ من ذلك، كانت بيئاتٌ أرثوذكسيّةٌ، قد يكون أبرزُ ممثّلِيها المطرانُ جورج خضر تُشيعُ صورةَ "المسيح الفلسطينيّ" و"المسيح الفدائيّ"، متوتّرةً دائماً في نظرتها إلى الغرب وفي إعلان براءتها، بسببٍ وبلا سبب، من الصليبيّين وحملاتهم. 

وبِدَوْري كتبتُ آنذاك عدداً من القصائد الموزونة المقفّاة عن فلسطين و"الفدائيّ" الذي تحبّ أمّتُه "العمْلَقةَ":

في الليل الحالك، في العتمهْ … تتعملق في صمت أمّهْ
وتحلّ ببردة أبطالٍ … الغضبة فيهم والنقمهْ
أسدٌ يتربّص في وادٍ … نِسرٌ يتطلّع من قمّه
ستُعاد الدارُ وأهل الدار … وترجع للشفة البسمه

وفي مناخ الحماسة الذي استثارته معركة الكرامة وأعمالٌ فدائيّةٌ متفرّقةٌ على الحدود الأردنيّة الإسرائيليّة واللبنانيّة الإسرائيليّة، بدأنا نتعرّف على ظاهرةٍ ثقافيّةٍ أشدّ كثافةً ومطابقةً للواقع؛ إنّها "شعراء الأرض المحتلّة". فظهرت أسماء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وفدوى طوقان وسالم جبران وشاعت قصائدهم بيننا. وأذكر أنّني حصلتُ حينذاك على ديوانٍ لدرويش حمل عنوان "آخر الليل نهار"، وهو عنوانٌ يُطمئن إلى نهايةٍ سعيدة، وهذا قبل أن أقرأ كتاباً صدر في القاهرة للناقد المصريّ رجاء النقّاش عنوانه "محمود درويش شاعر الأرض المحتلّة". وأعترفُ أنّ تلك القصائد يصعب أن تُبهِر مَن عرف الشِعرَ القوميَّ الأقدمَ عهداً، وكنت أجد فيها ظِلالاً قويّة لشعراء كثيرين تمتدّ رقعتهم العريضة من نزار قبّاني إلى بدر شاكر السيّاب. مع هذا قرّبتني تلك القصائدُ من عيش المأساة التي عاناها الفلسطينيّون، ومن الألم والمعاناة المخترِقَيْن حياتَهم. ولربّما أضافت، لا سيّما منها أشعارُ درويش، الصورةَ واللون إلى ما نعرفه عن تجربة العذاب الفلسطينيّ. وعكسَ مزاعمِ القوميّين السوريّين، واختراعِ مسيحٍ ما وانتظارِه، بدا واضحاً أنّ المناخ الثقافيّ الفلسطينيّ الأقوى شيءٌ آخَرُ. فمعظم أولئك الشعراء، إن لم يكن كلّهم، شيوعيّون. وكان لتوفيق زيّاد، أكثرهم شيوعيّةً، قصائدُ عن "عمّال موسكو" وعن رفاقه في "كوبا الأبيّة"، وهو ربّما كَتَبَ شِعراً لم نعرفه في الكولخوزات والسوفخوزات.

بيد أنّ شيوعيّة الشعراء التي بدّدت حيرةً أثارت حيرةً أُخرى. فمنذ وقتٍ مبكرٍ يعود إلى 1968 وُجّهت اتّهاماتٌ إلى درويش والقاسم بأنّهما شاركا، من ضمن وفدٍ إسرائيليٍّ، في مؤتمرٍ للشبيبة عُقد في صوفيا ببلغاريا، وأنّهما سارا وراء العلم الإسرائيليّ وطالَبا بالانسحاب من الأراضي المحتلّة، لكنّهما لم يطالِبا بإزالة دولة إسرائيل. وكان التزامُهما بعموم الموقف الشيوعيّ والسوفييتيّ حينذاك، وبحدوده التي اعتبرناها ضيّقةً وقاصرة، يثير امتعاضاً واسعاً كنتُ ممّن شاركوا فيه. فأن يكون السوفييت حلفاءً فهذا مكسبٌ ثمين، أمّا أن يكون عربٌ، خصوصاً أنّهم فلسطينيّون، حلفاءً، فهذه خسارةٌ تُنقِص انتماءَهم إلينا، وانتماءَنا إليهم، بحسب ما اعتقدنا يومذاك.


لكن هذه بقياس الحدث الساخن الذي كانت تعيشه بيروت تبقى "هموم مثقّفين" سمّاها البعض "عناوين جرائد". ففي أواخر 1968 وجّه الإسرائيليّون ضربتهم الشهيرة إلى مطارها الدوليّ، ردّاً على استهداف أفرادٍ من "الجبهة الشعبيّة" طائرةَ "عال" إسرائيليّة. أمّا الذي قاد الكوماندوس الإسرائيليّ ضدّ "الفدائيّين" الذين انطلقوا من مطارنا لتنفيذ عمليّتهم فلم يكن سوى رافائيل إيتان الذي عُيّن بعد عشر سنوات رئيساً لأركان جيشه. نتج عن تلك العمليّة تدميرُ ثماني طائراتٍ تملكها "شركة طيران الشرق الأوسط" اللبنانيّة وخمسِ طائراتٍ أخرى.

لقد كانت مصيبةً مهولةً، أدّت لشعورٍ بالإهانة العميقة انقسم اللبنانيّون في تأويلها. ففي البيئة المسيحيّة حُمّلت المسؤوليّة على الخاطفين الفلسطينيّين، وطغى على البيئة الإسلاميّة والأحزاب السياسيّة الدائرة في فلكها الطعنُ في النظام اللبناني والجيش ووُصِفا بالتآمر والتفريط.

يومها كان من الهتافات التي ردّدتها تظاهرة الاحتجاج على عمليّة المطار:

"يا للعارْ يا للعارْ
شربوا ويسكي ع المطارْ"

ولم تُسعفنا النباهةُ حينذاك كي ننتبه لعمقٍ أخلاقيٍ وتقليديٍّ مُقلِقٍ في حركة احتجاجنا دلَّ إليه "العار" و"شرب الويسكي". علماً أنّ الرواية التي أشاعها الجنود الإسرائيليّون يومذاك، ربّما في محاولة منهم لأسْطَرة قائدهم إيتان، هي أنّه فعلاً شرب فنجان قهوة في مطعم المطار ودفع ثمنه بالشيكل الإسرائيليّ. 

مع هذا بدا بعضُ المتظاهرين الشبّان والشابّات كأنّهم يكسرون الأبرشيّة الضيّقة والمُضجرة في لبنان القديم. فبعدما كانت الحياة السياسيّة تدور حول بضعة أسماء لسياسيّين محلّيّين صغار، ولُخّصَت الحياةُ الثقافيّة ببضعة رموزٍ لبنانيّةٍ تُضفى عليها، كالعادة، صفاتُ النبوغ والعبقريّة، طرح خرّيجو المدارس الأجنبيّة المتأثّرون بالأجواء الطلاّبيّة الأوروبيّة لأواخر الستينيات، والمتعاطفون مع قضيّة الفلسطينيّين، أسماءً جديدةً وقضايا مختلفة في ساحات التداول العامّ. وإذ نشطت دورُ النشر في إصدار كتبٍ جديدةٍ وترجمات، أغلبُها ماركسيّ وبعضها وجوديّ، حضنت التظاهراتُ وحضورُ الطالبات فيها علاقاتٍ جديدةً وجريئةً تستفزّ القيمَ الأبويّة القديمة وألوانَها المُعتمة. لكنْ ما لبث أن برهنت الأحداث اللاحقة أنّ هذا كلَّه شكليٌّ مؤسَّس على صلصال، لن يلبث إلا أن ينكمش ويضمُر مع استكمال الطوائف جاهزيّتَها للقتال. وهي تصنع ذلك إمّا باسم فلسطين وتحريرها انطلاقاً من لبنان، أو باسم الردّ على فلسطين وعلى تحريرها انطلاقاً منه.

وبالشمع الأحمر خُتم عصرُ البراءة. فالجَدّ راح يطرد اللعب بإيقاعٍ متسارع، فيما بدأ الدم يزيح الحكايات والخرافات والأساطير والقصائد، ممهِّداً للشؤم إطلالاتِه الكثيرةَ المُقبلةَ من أمكنةٍ عدّة. فقبل أسابيعَ قليلةٍ على "حادثة المطار" تحوّل تصويرُ فيلمٍ سينمائيّ حمل عنوان "كلّنا فدائيّون" إلى مأساةٍ فعليّة. ذاك أنّ المتفجّرات التي يُفترض أن تفجّر "بار أستير" في تلّ أبيب كانت متفجّراتٍ حقيقيّة. هكذا قُتل إبّان التصوير عشرون شخصاً منهم منتج الفيلم ومخرجه وبعض ممثّليه.

وجعل السيّئُ يستدعي الأسوأَ في حركةٍ لولبيّةٍ من التداعي الحرّ. فتظاهرة الثالث والعشرين من نيسان 1969 تضامناً مع "الفدائيّين" الذين اصطدم بهم الجيش اللبنانيّ في بنت جبيل، شكّلت خطوةً كبرى على الطريق الآيل إلى الحرب الأهليّة الإقليميّة. ونتيجةً لإطلاق النار على المتظاهرين، وهو ما نتج عنه سقوطُ قتلى وجرحى وانفجارُ أزمة حكوميّة مفتوحة، وُقّع "اتّفاق القاهرة" الشهير. وفي غمرة الحماسة لم نلحظ يومها، أنا وكثيرون مثلي، أمرَيْن تُرِك للسنوات اللاحقة تبيانُ دلالاتهما. فمنظّمة الصاعقة، التي أنشأتها دمشق وملأتها ببعثيّين فلسطينيّين موالين لها، كانت أكثرَ التنظيمات المسلّحة تسبّباً بالمصادمات مع الجيش اللبنانيّ. أمّا اتّفاق القاهرة فكسر الدولة وجزّأ السيادة ممّا لا يزال اللبنانيّون يعانون حتّى اليوم آثارَه الفظيعة. 

ولِمَن هم بيننا أكثرُ إنصاتاً لحركة الواقع، ظهر أنّ التوفيق بين الوطنيّةِ اللبنانيّة ودخولِ لبنان في حربٍ مفتوحةٍ توفيقٌ مُشكَلٌ على الأقلّ، بحيث شرعت التحفّظات القلِقة تحاصِرُ اليقين المطمَئِنّ. لكنّ مَن هم مثلي لم يروا هذا التناقض لسببٍ بسيطٍ هو أنّ الوطنيّة اللبنانيّة لَم تَعْنِ لهم سوى لزومِ ما لا يَلزم. وذهب بعضهم  من غير أن يقولوا ذلك دائماً إلى أنّه لو حصل دمار لبنان فهو أقلّ جدارةً بأن يُحسَب قياساً بتحرير فلسطين. والحقّ يقال أن هذا منطقٌ ينسجم مع عدّ بلدنا مصطَنَعاً وتافهاً، أو مع الأخذ بتعريفٍ للوطنيّة لا يعرّفها بذاتها، بل بكونها مناهَضَةً للعدوّ "الإمبرياليّ والصهيونيّ"، بحيث يعانق الانتماء فكرةً من الأفكار، لا شعباً ومكاناً بعينهما.

التدمير الذي تمخّضت عنه مواجهاتٌ عسكريّةٌ تلاحقت في السنوات التالية لتنفجر انفجارَها الكبير في 1975، كانت تشي به مبكراً هتافاتُ المظاهرات إيّاها، مثلما تشي بالتفتّت المقيم تحت قشرة الوحدة المعلنة. فبينما كان معظم الهتافات التي تردّدها أحزاب اليسار اللبنانيّ تتراوح بين المَطْلَبيّ الذي يؤكّد الفوارقَ في الأوضاع الاقتصاديّة وشروط العمل والتعليم، والسخريةَ من فساد الحياة السياسيّة اللبنانيّة، كانت هتافاتُ أبناء المخيّمات الفلسطينيّة أشدَّ تعبيراً عن شظف الحياة التي يعيشونها وعن الغضب الذي جعله الاحتكاك بالتنظيمات المسلّحة احتفالاً فظّاً بالعنف. فسلاح "الكلاشينكوف" وفق هتاف شائع "بيخلّي الدمّ شلاّل"، و"الدكتريوف بيغطّي انسحابنا". وقبل عقدين على ما أشاعه "حزب الله" ناسباً إيّاه إلى الحسين بن علي من أنّ "الموت لنا عادة" كان بعض متظاهرينا يزغردون: "شرب الدمّ من عادات رجالنا" أو يستعجلون لحظة الالتحام المباشر لأنّهم طالعون لملاقاة العدوّ "من كلّ حيّ وحارة وشارع".

والحقّ أنّ "الكلاشنيكوف" الذي سُمّي تيمّناً بمخترعه الروسيّ ميخائيل كلاشنيكوف، واستسهلت الألسنةُ عندنا قلبَه إلى "كلاشينكوف"، ثمّ لخّصته باسم "كلاشن"، بدأ يصبح من مُقتنيات البيت مع جرعة حبٍّ لا تحظى بها سائر المقتنيات والأعضاء التي تُسمّى بأسمائها ولا تُغنَّج. 

في موازاة ذلك، وكنتُ مع مجموعة صغيرة تغادر القوميّةَ السوريّةَ إلى رحاب الماركسيّة اللينينيّة، باتت موضوعاتُ فلسطين وإسرائيل والصهيونيّة بين أكثر ما نقرأ ونتابع.

فابتداءً بكرّاس ماركس الشهير عن المسألة اليهوديّة، قُرئت أعمالٌ ماركسيّة عن اليهوديّة والصهيونيّة، وأعمالٌ عربيّةٌ بالقديم منها، ككتاب قسطنطين زريق "معنى النكبة"، أو الجديد، ككتاب صادق جلال العظم "النقد الذاتيّ بعد الهزيمة". ولئن كان الصديق الحبيب جوزيف سماحة أكثرَنا متابَعةً لهذا الصنف من الكتب وأغزرَنا تنويهاً بسمينها وغثّها، بقي أنّ القراءة يومذاك بدت مثل بحثٍ عن كنز: ذلك أنّ تطوير المعرفة بذاتها أو شحذ الوعي النقديّ ظلّا همّاً ثانويّاً بقياس الهمّ المستولي علينا وهو اكتشاف الطريق الذي يؤدّي بنا إلى الردّ على هزيمة حزيران الجارحة ومن ثمّ إلى تحرير فلسطين. وفي حدود ما أعلمُ كان الصديق الراحل صادق جلال العظم أوّلَ الذين استنطقوا التحرير وحاولوا إغناء مضمونه. فهو سأل عن خطّةٍ لما بعده: هل ستُعاد مثلاً المُلكيّات الزراعيّة الكبرى لمالكيها قبل 1948، وكيف سيكون التعاطي مع يهود فلسطين ومع أقلّيّاتها؟

لكنّنا في بحثنا عن كنزٍ لم نكن معنيّين إلاّ باستئناف ما سبق أن امتهنَتْه أجيالٌ من الآباء والأجداد أرادت معرفةَ الجواب عن سؤالٍ شهيرٍ صاغَه شكيب أرسلان: "لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرُهم؟". وكنّا في حيّز الأفكار نستعجل الفرز كي نحدّد بلغةٍ لينينيّةٍ من "أصدقاء الشعب" ومن "أعداؤه"، هنا وفي كلّ مكان، وفي المعتقدات وفي الوقائع. هكذا راجَ، بين ما راجَ، عتبٌ شديدٌ على جون بول سارتر الذي لم يدعمنا في فلسطين كما دعمنا في الجزائر، وطال العتبُ آخرين في العالم ممّن أعلنّا رسوبهم المدرسيّ بينما نال سواهم شهاداتنا في حسن السلوك.


على أنّ الاستعجال هذا كان يبطّئه حدثٌ صادمٌ لا تبدّد القراءةُ المستعجلةُ صدمتَه: فإذا أمكن التغاضي عن موافقة عبد الناصر على القرار 242، فإنّ الموافقة على مشروع الوزير الأمريكيّ وليم روجرز بدت عسيرةً على الهضم. ولئن شكّلت استقالةُ الزعيم المصريّ وعودتُه عنها عاملاً عاطفيّاً يعود عليه بأسباب تخفيفيّة، فإنّ وهج المقاومة الفلسطينيّة "الثوريّ" راح يكسف "حرب الاستنزاف" "الإصلاحيّة" التي يخوضها الجيش المصريّ حول قناة السويس.

وبالتدريج بدأت تتردّد عباراتٍ تذكّر بالعبارات البعثيّة في هجاء عبد الناصر أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات: فهو مُفرّط بفلسطين، متآمر على تحريرها، استقدم البوليس الدوليّ في 1956 لئلا يحرّرها، وحكم قطاع غزّة حتّى 1967 بأدوات البطش والتجبّر البيروقراطيّ. وفجأة مات عبد الناصر فيما كان نقّاده الراديكاليّون في الأردن، حصنِ المقاومة الفلسطينيّة حتّى ذاك الحين، يسيّرون مظاهرات التخوين الداعية إلى موته السياسيّ.

وفي لندن التي انتقلتُ إليها صيف 1970 كانت الحرب الأهليّة في الأردن محرّك التظاهرات المؤيّدة لفلسطين و"فلسطين الحرّة". وقد ضمّ الجوّ الذي أتاح لي الاحتكاك به الصديق العراقيّ الراحل فالح عبد الرحمن المقيم حينها في كامبريدج أفراداً من مجموعة "ماتزبن" الإسرائيليّة المناهضة للصهيونيّة ومن حركتَيْ فتح والجبهة الديمقراطيّة الناشئة للتوّ. كذلك بدأتُ أتعرّض لنقاشاتٍ غير معهودةٍ في أطواري القوميّة السابقة، بعضُها عن النكبة واللاساميّة والمحرقة، وبعضها عن رابطٍ اشتراكيٍّ شرق أوسطيّ يحضن اليهود والعرب، وفي طليعتهم الفلسطينيّون، ويطمئنهم سواءً بسواء.

ولسنواتٍ استمرّ معي هذا التفضيل لفتح والجبهة الديمقراطيّة معاً، إذ الأُولى "حركة الشعب الفلسطينيّ" التي يقيم فيها سون يات سين العربيّ، فيما الثانيةُ طليعةُ ذاك الشعب البروليتاريّةُ التي قد ينبثق منها ماو تسي تونغ. لكنّي لم استسغ الجبهة الشعبيّة، فقد بدت لي ذاتَ ثقافةٍ ملفّقةٍ تخلط عناوين عامّة، مهجّنة ورخيصة الانتقاء، ماركسيّة ولينينيّة وغيفاريّة، بقوميّةٍ عربيّةٍ لم تبارحها، وهي بيّاعةُ انفعالٍ وغضبٍ يستران ما تنطوي عليه من خواءٍ عميق. أمّا خطف الطائرات الذي لم أُطقه مرّةً، فلم يكن اعتراضي عليه ضعفُ مردوده السياسيّ وحلولُه محلَّ العمل الجماهيريّ، كما كان بعض الأصدقاء المنتقِدين يقولون، بل كونُه خطفاً لطائراتٍ يستقلّها مدنيّون لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل. وكان هذا النقد يوصَم بالطوباويّة والبورجوازيّة وسواهما من "الانحرافات" التي أبدعت اللينينيّة ومتفرّعاتها في اختراعها. فعندما حصلت لاحقاً في 1972 عمليّة ميونيخ وكان منفّذوها فتحاويّين من "أيلول الأسود" انتابني نفورٌ فظيعٌ من سلوكٍ يجتمع فيه الإجرام بحقّ رياضيّين والجهل المحض الذي حمل المسلّحين على تنفيذ فعلتهم في ألمانيا تحديداً، وهي التي أرادت لأولمبياد 1972 في ميونيخ أن يغسل آثام أولمبياد 1936 سيّء السمعة في برلين. أمّا أن يحقّ للمضطهَد والمقاوِم ما لا يحقّ لغيرهما على ما علّم سارتر وفانون فلم أتصالح مرّةً معه مثله في ذلك مثل القاموس الأقدم عهداً الذي حفّ بفلسطين "المغتَصبة" مثل "العار" و"الشرف" و"العهر" وسواها من مصطلحاتٍ قبَليّةٍ وذكوريّة.

ومع هذه التحفّظات، حالَ ضعفُ الجرأة على الإجماعات الثوريّة دون الإفصاح عنها، بقيتُ واحداً من كثيرين آمَنوا بتنزيه القضيّة الفلسطينيّة عمّا قد يحفّ بها من شوائب. ذاك أنّ البؤس والظلم والاقتلاع ممّا نزل بالفلسطينيّين ظلّ يحضّ على تساهل مع تلك القضيّة المُحقّة تُحرَم منه القضايا الأخرى. مع هذا أزعم الآن أنّ ذاك التنزيه، الذي بات أشبه بتديينٍ مُعَلْمَنٍ شبيهٍ بتديين المؤمنين مقدّساتِهم، كان ممّا أسّس لنزع السياسة عن القضيّة المذكورة جاعلاً حلّها مستحيلاً. وكما يكثّر المؤمن اللعنات التي يصبّها على إبليس، كان دارجاً تكثيرُ النعوت التي تُلصَق بإسرائيل. فهي إضافةً إلى ما هو مألوف عنها وعن عدوانيّتها وعنصريّتها، مكانٌ تُصرّف فيه فوائض ذنب وفوائض سكّان وفوائض رساميل، ومثلما هي ابنةٌ مدلّلةٌ للإمبرياليّة تؤدي دور المخفر المتقدّم ومخلب القطّ، فإنّها أختٌ شقيقةٌ للرجعيّة العربيّة تشارِكها سعيَها منعَ العربِ من التقدّم الذي يركضون لبلوغه. وبينما كان مصنع الإبداع في تأليف الأوصاف يعمل بكامل طاقته كانت تترسّخ الفكرة القائلة أنه ما مِن حلٍّ سياسيٍّ لمشكلةٍ عديدة الرؤوس تشبه التنّين الخرافيّ. وكانت الأنظمة العسكريّة والأمنيّة، "الوطنيّة والتقدّميّة"، التي تفتقر إلى كلّ شرعيّة فتستعيض عنها بشرعيّة قتال إسرائيل، أكثرَ من يَطربُ لإبداعات اليسار هذه التي تعلّق التاريخ وتصبغ كلّ حلّ بالاستحالة.

في ذاك الوقت كانت تنمو لديّ حساسيّة فائقة حيال اللاساميّة الأوروبيّة وحيال امتداداتها في الثقافة السياسيّة العربيّة. وإذ بِتُّ أعرف أكثرَ عن الحاج أمين الحسيني الذي كان عندنا مجرّد رجعيٍّ من الرجعيّين ومتخلّفٍ من المتخلّفين صارت صورته لاساميّاً وعنصريّاً تحالفَ مع النازيّين أقوى من صورته القديمة. وبتّ أشدَّ تنبّهاً إلى ما كان يفوتني ممّا كنت أتذوّقه، وبعضه يسكن القصائد والأغاني الأولى التي لازمَت طفولتي. ففي كلّ قصيدة منها كان يُستغنى عن بيتٍ أو بيتين فلا يَصلاني ولا أحفظهما، ولربّما كانت تلك المحذوفات من جنس التفاصيل التي يقيم فيها الشيطان.

فعمر أبو ريشة يقول أيضاً:

إنّها سُنّة الوجود فشعبٌ … لبقاءٍ وأخرٌ لنفادِ

أمّا "الأخطل الصغير"، بشارة الخوري، فأعلن متباهياً:

قرعَ الدوتشيْ لكم ظَهْرَ العصا … وتحدّاكم حساماً ولسانا

وذهب الشاعر القرويّ أبعدَ من زميليه، شاتماً شايلوك، الشخصيةَ اليهوديةَ في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير و"يوضاس اللعين وآلَه". 

وفقدت أغاني الزمن الأوّل نضارتها. فعبارة عبد الوهاب "صبرنا على ظلمهم قادرين" باتت موضوعاً للتندّر، فيما غدت أغنية عبد الحليم حافظ "المسيح"، التالية على هزيمة حزيران ولم يختر لتدشينها إلاّ مدينة لندن، وداعاً قليلَ الدراميّة لِوَلَعي القديم بأغانيه القوميّة. ومع أنّ المسيح لم يُصلَب في الرواية الإسلاميّة، أصرّ شاعر الأغنية عبد الرحمن الأبنودي على أنّ:

تاجْ الشوكْ فوقْ جبينو وفوقْ كتفو الصليبْ
خانوه ... خانوه نفس اليهودْ
ابنِكْ يا قدسْ زيّ المسيح لازم يعودْ


في سنة 1975 اندلعت الحرب اللبنانيّة الكبرى. يومذاك كنت في عكّار مكلّفاً من الأصدقاء في "منظّمة العمل الشيوعيّ" بأن أستأنف نشاطاً سياسيّاً بدأه خالي الذي كان قد اغتيل قبل عام. وكان المُراد أن أستخدم هذه الشبكة من العلاقات التقليديّة التي أحاطت به كي أكتشف العناصر الأكثر تقدّماً وذكاءً ممّن يمكن ترشيحهم للمنظّمة رفاقاً محتملين.

وما إن حلّت مقتلة البوسطة يوم الثالث عشر من نيسان 1975 حتّى توجّهنا أنا وبضعة شبّان من قريتي إلى مخيّم نهر البارد أقرب المخيّمات إلينا بقصد تقديم العزاء وإبداء التضامن. وغيرُ مستغرَبٍ أن نقصد "الأخ سميح" الذي كان مسؤول فتح، لا لأنّني التقيته قبلاً وعرفته قليلاً، بل لأنّه هو الذي مَنّ علينا بعددٍ من "الكلاشنات" والمسدّسات التي كانت شرطاً شارطاً لدخول تلك السياسة.

وفعلاً استقبلَنا الأخُ سميح الذي تقبّل تعازينا، وإن بدا عليه أنّه أقلّ قلَقاً وتأثّراً منّا. وحين هممنا بالمغادرة بعد تناول الشاي سألتُه: "هل هناك ما يمكن أن نفعله خدمةً للثورة؟" وهو سؤالٌ كان يمليه شعورٌ عارمٌ بالتضامن، ورغبةُ المُناصِر اللبنانيّ للقضيّة الفلسطينيّة في أن يكفّر عن ذنبٍ اقترفه لبنانيّون لا يناصرونها. أجابني الأخ سميح سائلاً: "هل هناك مسؤولٌ كتائبيٌّ في بلدتكم؟" فحين قلت: "نعم" أكمَل من دون أدنى تردّد: "اقتلوه".

"نقتله؟!" قلت له أنا ابن الأربعة والعشرين يومذاك مُفاجَأً مذعوراً. فالقتل كنت أعرفه في الكتب التي تمجّد العنف الثوريّ أو في أخبارٍ منسوبة إلى أناسٍ بعيدين أمّا في الحقيقة فأتردّد في قتل بعوضة تتلذّذ بدمي.

والأخ قال: "نعم، إذا أردتم أن تخدموا الثورة فاقتلوه" ثمّ أضاف ما معناه أنّ الصحف ستكتب في اليوم التالي أنّ الجماهير في عكّار أَرْدَت أحدَ العملاء المسؤولين عن مقتلة البوسطة وأكّدت على التفافها حول فلسطين. وحين حاولت أن أشرح له أكثرَ علِّي أُعفَى من سلوك الدرب الشائك، قاطَعني وكان مُحِقّاً: "أنت من سأل عمّا يمكن فعله، وأنا أجبت عن ذلك".

وكان ما حاولت شرحه أنّ ذاك المسؤول الكتائبيّ، وعمرُه يومذاك يفوق الستين، كتائبيّ تقليديّ كالأعيان المسيحيّين الديمقراطيّين في جنوب أوروبا، يحبّ لبنان بطريقته الساذجة ويتباهى بتعليق أَرْزَةٍ كتائبيّةٍ صغرى على سترته، وهو ما إن يتسنم كتائبيٌّ منصباً وزاريّاً حتّى يبادر إلى توظيف عكاريّين في الوزارة وفي الوظائف التي تتفرّع عنها، أكانوا مسلمين أم مسيحيّين. وكنت أريد أن أقول للأخ سميح إنّ هذا المسؤول الكتائبيّ رجل بسيط ومحبوب من سكّان المنطقة، وهم جميعاً يحترمونه، فهو لم يُعرَف بتدريب أحد على القتال أو توزيع أسلحة أو الحضّ على الكراهية الطائفيّة وما يقرب من ذلك.

إلاّ أنّ الأخ الذي قاطعني، أوقعني في حيرةٍ فعليّةٍ مصدرها نظام القيم الثوريّ السائد: فأنا إن لم أَقتُل المسؤولَ الكتائبيّ اعتُبِرتُ جباناً وانتهازيّاً ومطعوناً في ولائي الثوريّ. وبعد كلّ حساب، فأنا مَن بادره بالسؤال عمّا نستطيع أن نفعله خدمةً للثورة؟ لكنّني إن قتلتُه فهذا، يا للهول، ما لا أستطيع تخيّله، فكيف فِعله؟!

وحين عدنا إلى قريتنا سألت الشبّان الذين رافقوني أن يتوجّهوا بعد منتصف الليل ومعهم رشّاشات "الكلاشن" التي زوّدَنا بها الأخ سميح نحو بيت المسؤول الكتائبيّ وأن يطلقوا النار باتّجاه سطح البيت ونوافذه لتكتب الصحف في الصباح أنّ جماهير عكّار غاضبة ممّا فعلته الكتائب وأنّها مُلتفّة حول المقاومة. ولحسن الحظّ أنّ بيت المسؤول الكتائبيّ كان منخفض الارتفاع: فهو بنى طابقاً واحداً لا يعلو إلاّ قليلاً عن مستوى الطريق على أن يُكمل البناء لاحقاً. غير أنّ ظروفه الماديّة على ما يبدو لم تسعفه كي يبني طابقاً آخر يجعل بيته ندّاً لبيوت باقي السكّان في قرية غنيّة.

وفي اليوم التالي علمت أنّ ذاك المسؤول الكتائبيّ الذي لم يتزوّج وعاش مع أختٍه المُسنّةٍ التي لم تتزوّج هي الأخرى قضيا ليلتهما المشؤومة مختبئَيْن تحت الأسِرّة. وفي الصباح التالي حين يُفترض أن الصحف تعلن التفاف الجماهير حول الثورة كانا يغادران إلى بكفيّا ليعيشا هناك سنواتٍ لم تَطُلْ بهما من غير أن يرجعا بعد ذاك إلى عكّار.

واستأنفتُ خلال عملي في صحيفة "السفير" كتاباتي الناريّة عن "الانعزاليّين" حلفاء الإمبرياليّة والصهيونيّة، وكنت واحداً ممّن يردّون على الصور العنصريّة التي رسمها للفلسطينيّين مسيحيّون متعصّبون، وهو ما لا أزال مستعدّاً لتكراره اليوم، وإرفاقه بالردّ على الصور المماثلة المضادّة التي طالت المسيحيّين جاعلةً استعدادهم لقبول تدمير بلدهم معيار التمييز بين "الوطنيّ" منهم و"العميل". 

يومها كان "زميلنا" الكبير ياسين الحافظ الآتي من جحيم السجن السوريّ الكبير الصوتَ الوحيد العاقل الذي يصرخ في البرّيّة، ينبّه من الشطط والتطرّف ويحذّر من أنّ تدمير لبنان تدميرٌ لآخر معاقل الحرّيّة في المنطقة. وجاءت الأحداث المُرّة مصداقاً لتحذيراته. فما بين نهاية حرب السنتين وتوطّد قبضة الجيش السوريّ والتنظيمات المسلّحة الفلسطينيّة واللبنانيّة، وجميعُهم يطلبون رأس كامب ديفيد والسادات، راحت تتلاحق البشاعات والمرارات. وأنا كنت منذ 1977 قد كتبت في السفير، وفي إحدى حماقاتي الكثيرة دعوت إلى قتل السادات بعد إعلانه عن "مبادرته" الشهيرة. ومع تحوّلي اللاحق لم أقع في عشق الرئيس المصريّ ولم أصبح من معجَبيه. لكنّه، مع هذا، بدأ يرتسم لي بوصفه السياسيّ الذي يوجّه ضربةً قاصمةً لنظامٍ في المشرق العربيّ يقف على رأسه حافظ الأسد ويهبط نزولاً إلى ميليشياتٍ مسلّحةٍ تعيث بالمنطقة فساداً وتخريباً.

وفعلاً تحوّلت بيروت مدينةً غيرَ قابلةٍ للحياة تقتلها الحروب شبهُ اليوميّة بين فصائل المسلّحين بلبنانيّيهم وفلسطينيّيهم ممّن يؤكّدون كلّهم إصرارهم على تحرير فلسطين، فيما يتولّى الأمن السوريّ تنظيم علاقات المكايد بينهم، دون أن يقلّ عنهم إصراراً على التحرير ذاته.

وأتيح لي في مرّات عابرة حينذاك وبصحبة عدد من الأصدقاء أن ألتقي قيادات فلسطينيّة بارزة منهم "أبو جهاد" و"أبو إياد"، فبدا لي الأوّل شخصاً شديد الجدّيّة ينصت أكثر ممّا يتكلّم، لكنّ شخصه لا يشي بما هو مميّز أو خاصّ ممّا يُتَوقّع غالباً في القائد. أمّا الثاني فشابَهَ كثيرين ممّن لا يملكون من الصفات إلاّ الكلام، وكثيراً ما أتى كلامهُ الجانحُ إلى التبجّح تهديداً مبطناً يلجأ إلى كبحه كي لا يبدو تهديداً مباشراً. أمّا "أبو عمّار" الذي لم يصدف أن رأيتُه عن قربٍ فظننت دائماً أنّ الشعب الفلسطينيّ يستحقّ قائداً أفضل منه. ذاك أنّ ذكره في مجالس مؤيّديه والمأخوذين به كان لا يقترن إلاّ بأخبار عن التهريج والمهارة في المخادعة التي ربّما عبّرت عن طريقته في التحايل على توازن قوىً غير ملائم. وعلى العموم ليس من المبالغة القول إنّ الكاريزما التي صُنعت لياسر عرفات لم تكن إلاّ مجموع العناصر المضادّة لكلّ كاريزما.

وذات مرّة، وكنت أعمل لمجلّة "الاقتصاد العربيّ" الصادرة في لندن، طلبتُ موعداً صحافيّاً لإجراء مقابلة مع "الرفيق" نايف حواتمة فطُلب أن أكتب الأسئلة له على أن يزوّدني بالإجابات مكتوبةً، على ما كان يفعل قادةٌ كوبيّون ويمنيّون جنوبيّون. وصلتني الإجابات بعد أيّامٍ قليلةٍ لكنّ حجمها كان يفيض عن عددٍ كاملٍ من المجلّة. وفضلاً عن الإطالة الاستثنائيّة وعن بَلادة التكرار ممّا يشي بجهل حواتمة بالصحافة وينمّ عن تعاملٍ كسولٍ مع الوقت جاء معظم الكلام خشناً يابساً ممهوراً بتعريفات أوّليّة للإنتاج والطبقات والتحالفات الطبقيّة وأطوار التحرّر وما إلى ذلك من استمناءٍ لينينيٍّ مُضجر.

وباتت أخبار البذخ والفساد والمرافِقين والسيّارات تحتلّ رقعةً أكبرَ فأكبرَ في الحديث عن قادة "الحركة الوطنيّة" اللبنانيّة، الملتحقة بالمقاومة الفلسطينيّة، ووصف حياتهم. وبدأتْ تُسمَع همسات بعض الحزبيّين في عرض مآخذهم على قادتهم الموصوفين بالتبرجُز والاستهلاكيّة والترهّل النضاليّ. وبكلمةٍ، بدأ يشيع الكلام عن الثورة الفلسطينيّة في لبنان بوصفها "أغنى الثورات" دلالةً على دخولنا عصر الميليشيات المموَّلة، التي فيها النضالُ مهنةٌ وامتياز. وبدورها لم تعد الميليشيا الغنيّة مضادّةً للدولة فحسب بل باتت مضادّةً للمجتمع أيضاً، ولا هي أضحت قامعةً للبنانيّين وحدَهم، بل غدت قامعةً للمدنيّين الفلسطينيّين كذلك. وبات الاستقواء بالكفاح تلخيصاً للكفاح المسلّح الذي قُصدت به السلطة الأمنيّة الفلسطينيّة يلازم النزاعات الصغرى التي تشهدها المخيّمات ويحسمها الكفاح لمصلحة الأقوى والأشدّ نفوذاً. وإذا صحّ أنّ منظّمة التحرير أسّست بسلوكها الحالة الميليشيويّة التي امتهنها لاحقاً حزب الله وبرع فيها، صحّ أيضاً أنّ المنظّمة هندست ذاك الزواجَ الرديءَ بين المقدَّس والمدنَّس، أي بين علوِّ القضيّة المفترَض وسفالةِ واقعٍ ميليشيويٍّ رثّ.

وأردأُ من ذلك أنّ وحدتنا المزعومة حول القضيّة المركزيّة كانت تتكشّف عن طردٍ متعاظِمٍ للجماعات التي يُفترض أنّها موحّدة وراء القضيّة. فبعدما وقف المسيحيّون في مواجهة المسلّحين الفلسطينيّين وحلفائهم وحملوا السلاح لهذا الغرض، تفاقم التذمّر الشيعيّ في الجنوب من إطلاق أولئك المسلّحين صواريخَهم من داخل قرى الجنوبيّين وبين بيوتهم، مما كان يستمطر ردوداً إسرائيليّة مدمِّرة ويستجرّ تهجير أعدادٍ من سكّانٍ بائسين. أمّا سُنّةُ المدن فعبّروا أيضاً عن سخطهم من تحكّم المسلّحين ببيروت وطرابلس وصيدا، ومن تهميشهم زعماءهم التقليديّين وخنق الحالة الحربيّة والفوضى الميليشيويّة الحياة التجاريّة التي نهضت عليها تلك المدن. 

وللبنانيّين قصّة قديمة مع طريقة في التلفيق تُلصِق ما تلهج به الألسنة من "قوميّة" و"وحدة" بالحياتيّ الذي يقيم مختبئاً في القلوب أو في الغرف المغلقة. ففي عام 1948، وعشيّة قيام دولة إسرائيل، استقبلت مدينة طرابلس ابنها وزائرها فوزي القاوقجي، الذي كان قائد "جيش الإنقاذ" في فلسطين، فتنافست على تكريمه عائلتان متنازعتان على النفوذ، هما كرامي والمقدّم، واشتبك مسلّحو العائلتين فسقط ثمانية عشر قتيلاً فيما جُرح ثمانُ وأربعون.


على أنّ الدعوة إلى اكتساب القوّة ونبذ الانقسام هبّت هذه المرّة من إيران. فثورة الخميني في عام 1979 لم تَكْتَف بدعوتنا إلى الوحدة حول فلسطين، بل بشّرتنا بوحدة إسلاميّة عابرة للمذاهب قبل أن تنفجر تلك المذاهب إيّاها انفجارَها المجنونَ في الحرب العراقيّة الإيرانيّة. هكذا بات الكثيرون على وشك اتّهام الإمبرياليّة والصهيونيّة بإثارة النزاع بين الخلفاء الراشدين ثمّ فيما بين ذرّيّتهم. وكانت المفارقة أنّ الثورة التي انتصرت، فيما القاهرة تستكمل معاهدة كامب ديفيد، ثمّ طردت الإسرائيليّين وأحلّت محلّهم منظّمةَ التحرير، صغّرت فلسطينَ عبر احتوائها في نظامها وهمومه. ولئن سَرَّنا أنّ ياسر عرفات الذي همس في أذن الخميني حين زاره في طهران نجح في انتزاع إحدى البسمات النادرة من شفتيه فقد بدا الحكم الإيرانيّ في الحقيقة مشروعَ إسلامٍ في بلدٍ واحدٍ تيمّناً باشتراكيّة ستالين في بلد واحد، وتراءى، وهو ما صادقت عليه السنوات التالية، أنّ المطلوب تحويل فلسطين إلى تكتيكٍ في الإستراتيجيّة الإيرانيّة أو نوطةٍ في سيمفونيّتها.

على أنّه مقابل الحماسة التي استقبلتُ بها الثورة الإيرانيّة، أحسستُ بالفتور والبرودة حيال الأحداث التي امتدّت بين الاجتياح الإسرائيليّ وانتخاب بشير الجميّل ثمّ مقتله. فالمشهد هذه المرّة غدا واقعاً داخليّاً مُعاشاً تراءى لي معه أنّ صرخات المقاومة والصمود المتكاثرة حولنا لا تُحمَل محملَ الجدّ. ذاك أنّ الأهمّ والأعمق كان ألمَ الحشود التي رأيتُها إبّان الاجتياح تغادِرُ بيروت مذعورةً عازفةً عن كلّ مقاومةٍ أو صمود.

وما لبثت أن هاجمتنا معاناةٌ أُخرى مصدرُها هجرة أصدقاء وزملاء، فلسطينيّين وعرب، من بيروت التي غزاها الإسرائيليّون. هكذا تُركنا وحدَنا نتهيّأ لعالَمٍ جديدٍ غامض، لكنّ بشاعته سريعاً ما راحت تتكشّف. فمِن مصرع بشير الجميّل ومذبحة صبرا وشاتيلا إلى اندلاع حرب الجبل، كان يتّضح أنّ بناء دولةٍ في لبنان، كائنةً ما كانت، بات أقربَ إلى الاستحالة. وإذا فسد الملح فبماذا يُملَّح؟

وكان يوم السادس من شباط 1984 مفصليّاً، فطُردت الدولة من بيروت بذريعة إسقاط اتّفاق السابع عشر من أيّار 1983، ونُشرت قناعةٌ مفادها أنّ المليشيات تَحرّرٌ من الدول، فيما الالتحاق بسوريا الأسد يُنقِذ المضلَّل من ضلاله القوميّ.

وفي سنة 1985 حصل انسحابٌ إسرائيليّ من مدينة صيدا، فانفجر الخزّان الانتصاريّ الشهير لدينا صادحاً بالتحرير. وفي جريدة السفير وكانت انقضت سنواتٌ على خلافي مع توجّهاتها العامّة، علّقتُ على ذاك الحدث بما معناه أنّ للتحرير وجهاً سلبيّاً هو انسحاب المحتلّ، ووجهاً إيجابيّاً يستكمله ويتوّجه، ويتمثّل في إعادة ربط الرقعة المحرّرة بالسلطة المركزيّة، سياسيّاً وإداريّاً وعلى باقي الأصعدة. فإن لم يحصل هذا الربط، وهو ما لم يحصل، أُعفي العدوّ من مسؤوليّاته عن المنطقة التي كان يحتلّها، وتولّت ميليشيات الطوائف وحروبها الدائمة سدّ الفراغ الناشئ عن انسحابه، وهذا ما حصل. وبالطبع حامت الشكوك المعهودة حول هذا الكلام، في السفير وبين مثقّفي اليسار و"الحركة الوطنيّة"، وجاء ذلك على طريقة "يا للعار" و"يا عيب الشوم".

وكان حزب الله قد حلّ محلّ المقاتلين الفلسطينيّين وحلفائهم في تصديع لبنان، لكنّ الوراثة لم تكن سهلة حتى مع التوافق اللفظيّ بين الوارث والموروث على فلسطين. فآنذاك نشبت حروب كثيرة بين حلفاء الأمس منها "حربَ المخيّمات" على الفلسطينيّين، التي كانت من أشرس حروب الحرب اللبنانيّة، إن لم تكن الأشرس. وكان المدهش أنّ الكارثة هذه لم تُعدّ من نُصُب الألم الفلسطينيّ في لبنان، مثل حربَيْ تلّ الزعتر وصبرا وشاتيلا، لأنّ الخصوم هذه المرّة "إخوة ورفاق" ينسبون أنفسهم، فيما هم يَقتلون فلسطينيّين، إلى فلسطين. 

وبالفعل ذُبح في تلك السنوات فلسطينيّون ولبنانيّون كثيرٌ، واستولت إيران الخمينيّة وسوريا الأسديّة على قضيّة الفلسطينيّين المفترضة، وهذا بعدما دُمّرت أجزاء واسعة من مدينة طرابلس، ثانية مدن لبنان، وانهار التعايش المسيحيّ الدرزيّ في جبل لبنان، العمود الفقريّ للوطنيّة اللبنانيّة حتّى ذاك الحين، ونشأت دويلة "حزب الله" في ضاحية بيروت الجنوبيّة التي كان يُخطف فيها وإليها الرعايا الأجانب.

وعلى مدى تلك الثمانينيات اللعينة، راح يتضاعف إحساسي بالغربة في جريدة السفير، أمّا في النطاق البيروتيّ الأعرض فزيّنَت الكلامَ تعابيرُ ببغائيّةٌ من نوع المحفوظات التي تفرضها الأيديولوجيّات المُلزمة على الشعوب التي تُبتلى بها. فكلماتٌ مثلَ "الشقيقة سوريّا" و"عروبة لبنان" و"العدوّ الصهيونيّ" صارت مثل اللازمة في لغةٍ سياسيّةٍ يحرّكها التداعي الحرّ وتزداد انتشاراً كلّما ازدادت فقراً.

لكنْ لاحقاً حين غزا صدّام حسين الكويتَ وكان لبنان يُجهّز كي يكون "خاصرة" حافظ الأسد الاستراتيجيّة، ارتُكِبَت جريمتان أخلاقيّتان وسياسيّتان باسم فلسطين؛ واحدةٌ نُفّذت بيدٍ فلسطينيّة أيّدت صدّامَ كي تنجو من وطأة الأسد، والأُخرى نُفِّذت بيد الأسد الذي يَحرم الفلسطينيّين حقَّهم في النطق باسم فلسطين. وفي الحالات كافّة، وبطريقتين مختلفتين، ذُبح بلدان عربيّان صغيران وأُخضعا، وظهر على أبلغ ما يكون الظهور كيف أنّ تسمياتٍ مثل "حركات تحرّر وطنيّ" و"قوى مناهضة للإمبرياليّة والصهيونيّة" ومرادفاتها لا تعني، أقلّه في المشرق العربيّ، سوى إلحاق البلدان والشعوب الأصغر بالأنظمة الأمنيّة والعسكريّة للبلدان الأكبر.

ولم يلتفت إلاّ قليلون إلى أوضاع الفلسطينيّين في لبنان. فإبّان الوصاية السورية وبتواطؤ لبنانيّين كُثرٍ رفعوا حجّةَ "مكافحة التوطين" وُطِّد حرمانُ الفلسطينيّين من حقوق كثيرة في العمل والإقامة والتنقّل، وبات الكلام اللبنانيّ العنصريّ عن الفلسطينيّين ينافِس الكلامَ الحماسيَّ عن تحرير فلسطين، وكثيراً ما كان يصدر هذا من فمٍ واحد. ذاك أنّ طرح مسألة أوضاع الفلسطينيّين في لبنان لا يشكّل مادّةً نضاليّةً قابلةً للتوظيف في مواجهة "الإمبرياليّة والصهيونيّة" مثلما يفعل شعار "تحرير فلسطين" الملتهب، ولهذا فهو ممّا يُستحسن تفاديه وإغفاله. وأذكر أنّني في أوائل التسعينيات كتبت في جريدة الحياة عموداً يدين التهويل بالتوطين كما يدين نفاقَ التفريق بين الفلسطينيّين الذين يَخضعون لتمييزٍ مسكوتٍ عنه وقضيّة فلسطين التي يعلن الجميع انضواءه فيها. وذهبت يومذاك، على ما أذكر، إلى المطالبة بسياسة جديدة تجمع بين تجنيس مَن تتوفّر فيهم الشروط القانونيّة لذلك ووضع خطّة للعلمنة تطمئن اللبنانيّين من غير المسلمين السُنّة ممّن يخيفهم انقلاب التوازن الديموغرافيّ لصالح السُنّة.


ومع أوسلو في 1993 طرأ حدثٌ نوعيٌّ في حياتي نفسها: ففي لندن وبمبادرةٍ من معهد وودرو ويلسون الأميركيّ بدأت جلسات حوار دامت نحواً من ثلاث سنوات ضمّتني وبضعة أصدقاء عرب إلى بضعة إسرائيليّين من "معسكر السلام". وهؤلاء، على عكس جماعة "ماتزبن" المناهضة للصهيونيّة ممّن التقيتهم قبل عقودٍ قليلة، ليسوا مطابقين لنا ولا متنصّلين من أنفسهم. فنحن معهم نكون فعلاً حيال الآخر، لا حيال صدىً لصوتنا يؤكّد لنا ما نحن عليه. وعلى مدى سنواتٍ وفي مدنٍ عدّةٍ ناقشنا مع أولئك المدافعين عن السلام وحلّ الدولتين قضايا تمتدّ من اللاساميّة إلى النكبة، ومن الهولوكوست إلى "انتفاضة الحجارة". وكان لتلك التجربة الغنيّة أن أنتجت صداقاتٍ مع أشخاصٍ مسؤولين هم في الآنِ ذاتِه مثقّفون وأكاديميّون وكتّاب بارزون، وأتاحت لي ولغيري من المساهمين العرب فرصة التعرّف إلى تجربة هذا الآخر كما ترويها وجوه مَرئيّة وأصوات فرديّة. وكان من ثمار التجربة دعوة بعضهم إلى الكتابة في جريدة "الحياة" التي كنت أحرّر إحدى صفحات الرأي فيها. وبالفعل نُشرت لهم مقالات لم تعترض عليها رئاسة التحرير التي كان يتولاّها الزميل جهاد الخازن، إلاّ أنّ موافقته جاءت مثقَلةً بالشروط والتحفّظات قبل أن يقضي، وكانت تجربة أوسلو تترنّح، بوقفها نهائيّاً. غير أنّ ما يلاحظه واحدنا في السلوك الشخصيّ الإسرائيليّ، إذا جاز التعميم، قدر من الجلافة لا يخفى. فهذا ما يتبدّى في عدم الاكتراث بالملبس، ولكنْ خصوصاً في المخاطبة المباشرة والجافّة التي لا تحفل باللياقات. ومن خلال كتاب يارون إزراحي "الرصاص المطّاطيّ"، ويارون فيلسوف راحل كان يشارك في لقاءاتنا، فهمتُ كيف تضافر الكيبوتز والجيش والاحتلال على صنع السلوك هذا.

لقد تحكّم بنا هاجس الجمع بين السلام والدولة الفلسطينيّة وتفادي الموت. وكانت القناعة راسخة بأهميّة التطلّع إلى المستقبل وتركيز كلّ نقاش حول هذا المستقبل وتطويره وتذليل ظلاماته بالتدريج في موازاة تعارُف واسترخاء أعصاب متبادل. فلئن نشأت إسرائيل بالقوّة والتهجير وتطهير الفلسطينيّين عِرقيّاً، فقد وُلدت فيها أجيالٌ لا تعرف لها بلداً آخر، وهذا فضلاً عن اليهود الشرقيّين والعرب ممن عاشوا فيها قبل 1948 أو نزحوا إليها بعدها، وعن العرب المسلمين والمسيحيّين الذين غدوا يشكّلون أقلّيّة كبرى فيها.

بيد أنّ أوسلو احتضرت، لا بسبب النواقص التي انطوت عليها، وهي انطوت بالتأكيد على نواقص، لكنْ بسبب الهجمتين الضاريتين اللتين هبّتا من موقعين نقيضين؛ واحدة شنّها اليمين الإسرائيليّ المتطرّف بقتله إسحق رابين، والثانية رعاها النظامان الإيرانيّ والسوريّ، من خلال حركتَيْ حماس والجهاد الإسلاميّ، بزرع العبوات القاتلة وتصديع معسكر السلام.

وكانت لي حينَها تجربةٌ مؤلمةٌ حين زرتُ أكسفورد والتقيت صديقاً دمثاً ورقيقاً هو أحمد خليفة. أحمد، الذي رحل قبل سنواتٍ، انفجر بي متوتّراً غاضباً بما لا يشبه سلوكَه، اعتراضاً على مقالاتٍ نقديّة كنت أكتبها عن "المقاومين". وكنت ولا أزال ممّن يظنّون أنّ العلاقة الشخصيّة أهمّ من الموافقة السياسيّة وأرقى، خصوصاً حين تستعير الأخيرةُ قوانينَ قرابة النسب. وإذ انقطعت علاقتي بأحمد، بات انعكاس الخلاف السياسيّ على العلاقات الشخصيّة من مُسلّمات حياتنا في ظلّ ثقافة يعوّض فيها التسييسُ المطلق الذي يسعّره الموت والقتل والاضطهاد، عن السياسة المعدومة.

لكنْ في جريدة الحياة نفسها كان لا بدّ من مقاومة ذاك التقليد الرديء والرخيص، الذي يقضي باستهلال أيّ نقد للسياسات الفلسطينيّة والسوريّة بهجاء إسرائيل. فلسبب أو لا سبب، كان ينبغي على أحدنا أن يعتذر عن نقده بالبرهنة على أنّه بريء ومُبرّأ من الإسرائيليّة. وهي مَكَّارْثِيَّةٌ آثرتُ أن أرفضها وأسخر منها، حتّى أنّ ثلاثة زملاء أعزّاء نشروا في عددٍ واحدٍ من الجريدة مقالات تأخذ عليَّ "التواطؤ" أو "الممالأة". 

ولاحقاً، في المنعطفات الكبرى، أصاب التعفّنُ أجزاء أساسيّة منّا، فلسطينيّين وعرباً، بحيث أُطلقت نيران كثيرة في المخيّمات ابتهاجاً بضربة بن لادن في الحادي عشر من أيلول، الذي أيضاً كان يجد حُجّتَه العميقة في فلسطين وتحريرها. وبعد احتلال العراق، وهو احتلال وتحرير في وقت واحد، حظي تعبير "المقاومة" بشيوعٍ واسعٍ وكان قبلُ حكراً على الفلسطينيّين واللبنانيّين، فإذا بالتنازع السنّيّ الشيعيّ على أشياء كثيرة في عِدادها فلسطين يحتلّ حقلاً جديداً. ولم يَطُلْ بنا الزمنُ حتّى رأينا بعض الذين اضطهدوا فلسطينيّي العراق بتهمة أنّهم صدّاميّون وبعثيّون، ينقلبون هم أنفسهم مجاهدين لا يرضون بأقلّ من تحرير فلسطين. 

وإذ قُتل في 2005 رفيق الحريري وعدد من سياسيّي لبنان وكتّابه وصحّافيّيه، وقفتْ عواطف الداعين إلى تحرير فلسطين مع القاتل ضدّ القتيل. وفي العام ذاته أصدر الصديق والزميل بلال الحسن كتاباً، لم يحالفه التوفيق، سمّاه "ثقافة الاستسلام" عيّنَني فيه واحداً من خمسة أو ستّة كتّابٍ عرب يُشِيعون هذه "الثقافة".

والعواطف إيّاها عادت لتصطفّ إلى جانب "حزب الله" في 2006 بذريعة أنّه يقاتل إسرائيل، علماً بأنّه لم يتوسّل ذاك القتالَ إلاّ لتعزيز سيطرته علينا وعلى لبنان مكلّلةً بنفوذ إيران. وهي وجهةٌ تصاعدت مع الثورة السوريّة ثمّ انتكاستِها إلى حرب أهليّة: فهناك قاتَلَ "حزب الله" دفاعاً عن نظام الأسد، كما فعلت أطرافٌ كثيرة غير سوريّة هي في غالبها طائفيّة، لكنّها أيضاً أكّدت تشبّثها بتحرير فلسطين. وإذ صفّى النظامُ المتوحّش فلسطينيّين كُثراً في مخيّم اليرموك وسواه، لم يُستخدَم قتلُ الفلسطينيّين حجّةً ضدّه، فبدا أنّ طبيعة القاتل هي ما يقرّر نوع التضامن مع المقتول.

أبعد من هذا أن الثورات العربيّة التي التفتت إلى الهموم الفعليّة لشعوبها صُوّرت نقيضاً للقضيّة الفلسطينيّة، تحرف الانتباه عنها وتُموّه التركيز على مركزيّتها. وذهب بعض شتّامي الثورات أبعد، فنَسَبوها إلى مؤامرات أمريكيّة وإسرائيليّة تستهدف القضيّة إيّاها. هكذا بدا أن التضحية بالحرّيّة والرضى بالطغيان، بعد رفع العيش الكفاف إلى مثال، مثل فيتنام آنذاك وكوبا آنذاك واليوم، هو شرط الدخول الآمن إلى جنّة القضيّة. وعكس الوعود المألوفة بالجنّة على الأرض، جُعلَت طريقَنا، عملاً بالاستراتيجيّة هذه، أطول من ذلك. فهي لا تعدنا إلاّ بجهنّم، على أمل أن يصل الناجون من حريقها إلى الجنّة. 


والحال أنّني لم أكن مناضلاً يوماً. لا أفتخر بذلك ولا أخجل أو أندم. لكنّني، مثل كثيرين، أملكُ قصّةً عن فلسطين اصطبغت بأساطير وخرافات وأشعار، فضلاً عن عاداتٍ عُمْريّة وأمزجةٍ تدلّ على زمنها. إلاّ أنّ هذه القصّة، مع التقلّبات الكثيرة، زادتني يقيناً بأمرين: أنّ هناك حقّاً فلسطينيّاً يعود أوّلُه إلى نكبة 1948 وما رافقها من طردٍ وتهجيرٍ ومحوٍ للهويّة الوطنيّة لم يكفّ عن التصاعد، وأنّ هذا الحقّ سيبقى مستحيلَ التحقّق إن لم تحصل تغيّراتٌ كبرى فينا أوّلاً وفي العالَم ثانياً. 

وربّما جاز لنا أن نقيم شيئاً من التوازي بين القضيّة الفلسطينيّة والمأساة الإغريقيّة كما شرحها أرسطو. فالأخيرة تنهض على بطلٍ مركزيّ يحمل بعض مواصفات التفوّق المؤكّدة، كرفعة الأخلاق أو نبالة المحتد. بَيْد أنّ عيوباً إنسانيّة كالغرور أو المكابرة أو سواهما تقوده إلى ارتكاب خطأٍ كبيرٍ يصعب الرجوع عنه أو العودة إلى ما قبله، بحيث تحلّ المأساة.

أمّا التغيّرات التي قد تعطّل مفاعيل المأساة لدينا فكثيرةٌ من غير شكّ، لكنّ أهمّها أن ينجح الفلسطينيّون في جعل قضيّتهم أكثر رأفة بهم وأكثر رأفة بغيرهم. فهم يستحقّون أن يتولّوا أمرهم بأنفسهم، فلا ينجح سواهم أيًّا كان في مصادرته وزجّهم في موتٍ لا يرحم، ويستحقّ هذا الآخَر أن تكون له قضيّته. ففلسطين ينبغي ألّا تسحق لبنان، ولا أن تُصاب بالغيرة من نضال الكُرد طلباً للتحرّر، أو من ثورة السوريّين سعياً وراء الحرّيّة والكرامة.

هكذا لا تكون القضيّة بخيلة وأنانيّة، ولا يفرض علينا الأوصياء عليها طريقتهم في التضامن معها، التي لا يفعلونها هم أنفسهم. ونحن، في المقابل، باتت التجارب ونتائجها المُرّة تدعونا إلى النظر من مَوقعَين معاً، موقع الإنسان المجرَّد الذي لا يملك إلاّ أقصى التعاطف مع الألم والحقّ الفلسطينيّين، وموقع الإنسان المحدَّد المشروط بمكانٍ وزمانٍ معيّنَيْن، حيث لا بدّ من التفكير في بلدٍ بعينه وفي احتمالات العنف وفُرص التطرّف الدينيّ وأوضاع النساء وحرّيّاتهنّ، وتالياً بقيام المزاوجة بين الحقّ الفلسطينيّ والحقوق هذه. 

أمّا فلسطيني فليست فقط مسألةَ ظلمٍ ومعاناةٍ بدّدت الكثيرَ منها تفاهاتٌ وصغائرُ ومصالحُ شرّيرةٌ للأقربِين والأبعدِين. إنّها، مع ذلك، أصدقاءٌ ووجوهٌ ولهجةٌ ومآكلُ وأغانٍ وقصصٌ وذاكراتٌ وذكرياتٌ وشعائرُ احتفاليّة نرى بعضَ ظِلالها في العالَم الدرويشيّ. وحين نفكّر في هذا جميعاً نراه يَحضر فينا مصحوباً بألمٍ يعصر القلب، لكنّه أيضاً ألمٌ يحفّز العقلَ على ضرورة الوصول إلى حلٍّ تُختتم به الآلامُ، فلا يبقى العجزُ عن بلوغ ذاك الحلِّ مصدرَ تقديسٍ مُراوِغٍ يموت لأجله كثيرٌ وهُم مكذوبٌ عليهم.

اشترك في نشرتنا البريدية