استمع لهذه القصة
كان دُنُوّ أجل أبي مؤثراً في فتح عوالم حكاياته عن فرنسا. فقد كشف لنا حينَها عن وجهٍ آخر لحياة المهاجرين البائسة هناك، تلك التي لم نعرف عنها إلا ما قرأناه في الكتب ورأيناه من صورٍ في الأفلام والبطاقات البريدية ممّا يشي بحياةٍ رغيدةٍ لا غير. عاش أبي في حي بيلفيل شرق باريس شطراً من هجرته، لذا كان حاضراً في ثنايا حكاياته حيّاً يحجّ إليه المهاجرون التونسيون من أجل "شحن البطاريات" أي لإشباع الحنين إلى البلاد.
بدأتْ صِلةُ عائلتنا بهذا الحيّ مُذْ هاجر إليه جدّي واستقرّ فيه بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تجذّرت بعد عشرين سنة حينَ سلكَ أبي طريقَ والده مرتحِلاً. عرقلت القوانين الفرنسية حينَها لمَّ الشمل فلَم تكن الهجراتُ العائليةُ شائعة، فعاش أبي عقوداً مهاجراً عن أهله. وكأنّي بالجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول أعادت علاقاتها مع مستعمراتها القديمة طمعاً بآلاف العمّال لبناء البلد بعد الحرب العالمية الثانية.
حكاية بيلفيل ليست عائليةً فحسب بل حكاية أجيالٍ متعاقبةٍ من المهاجرين التونسيين المسلمين واليهود ومن غير التونسيين ممّن التجؤوا إليه. كان الحيّ مكتظّاً بالتنوع العرقي والثقافي منذ مطلع القرن العشرين، ولم يكن حكراً على المهاجرين. فقد ضم فرنسيين بيضاً من فنانين وشباب، ولذا كان تاريخه أكثر تعقيداً من أي منطقة أخرى في باريس. يبدو الحي هامشياً للمركز الباريسي، لكنه مركزٌ للتونسي المهاجر بل بوصلةٌ يحدد به الاتجاهات داخل العاصمة الفرنسية، منه ينطلق وإليه يعود. مرّ تاريخ الحي بتحوّلاتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ غيّرت وجهَه، وجعلتني مشدوهاً أمام هذه الأسطورة التونسية الباريسية ومندفعاً لفكّ طلاسمها.
تعني بيلفيل بالعربية "المدينة الجميلة" ولعلّ الحي سمّي بذلك من باب السخرية؛ لأنه قبل أن يصبح حيّاً باريسياً كان بلدةً صغيرةً يسكنها الفقراء والمشردون والفلاحون من عاصري النبيذ، لكن لا بأس فالتونسيّون يرونه جميلاً. حدّثتني زوجتي خديجة عن الحيّ وذكرياتها معه قائلة: "كنت طفلةً أشم رائحته في الهدايا التي يحملها إلينا والدي عندما يعود إلى تونس في إجازته السنوية. أتخيله دائماً وأحاول رسم خريطةٍ له بحكايات والدي. لَم أعش فيه حينها لكنني كنت هناك بطريقةٍ ما، وعندما جئتُه أصبحتُ أرى في معالمِه صورةَ والدي." ثم اتفقنا أن بيلفيل مكانٌ يجد فيه المهاجرون التونسيون جميعاً رائحة تونس وصورتها وصوتها وفوضاها وصخبها ودفئها ووهجها. يبدو لي بيلفيل الآن كما كان لجدّي ووالدي من قَبْلي؛ تونسَ الصغيرةَ في قلب باريس أو "وطناً صغيراً مؤقتّاً" كما يصفه صديقي طاهر المعارض التونسي الذي مكث في المنفى الفرنسي عشرين عاماً قبل ثورة 2011.
أصبحت بلدة بيلفيل الصغيرة حياً باريسياً عام 1860 أثناء إعادة بناء باريس بقيادة البارون جورج هوسمان في عهد إمبراطور فرنسا نابليون الثالث. قسّم هوسمان بيلفيل بين الدائرة التاسعة عشرة والدائرة العشرين وفصل بين القسمين بجادّة واسعة سمّاها بيلفيل. إلا أن تاريخ الحيّ الباريسي الجديد بدأ بعد عقدٍ من ضمّه إلى العاصمة الفرنسية.
كان بيلفيل أحد أعتى ساحات انتفاضة كومونة باريس عام 1871 لِما فيه من عمال وفقراء ضاقوا ذرعاً بالحكم الإمبراطوري بسبب تدهور أوضاعهم الاجتماعية. شكلت الانتفاضةُ حكومةً لم يتجاوز عمرها اثنان وسبعون يوماً لكنها بقيت مع سقوطها السريع رمزاً قوياً لفكرة حُكم الشّعب. شهد الباريسيون سقوط آخر معاقل ثورتهم القصيرة في بيلفيل حيث وضعَ الثوارُ المدافع على تلٍّ مرتفع، ومنذ تلك اللحظة استقرّت بيلفيل في الذاكرة الجمعية مكاناً رمزياً للمهمَّشين والمتمردين.
أصبح الحيُّ متعددَ الأعراق والثقافات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بسبب المآسي التي تعرضت لها أقليات الإمبراطوريتين العثمانية والروسية القيصرية. فقد وَجد اليهود واليونانيون والأرمن والبولنديون الحيَّ ملاذاً لهم حينها، فأتوه مع حِرَفهم اليدوية الوطنية الأصيلة لا سيما صناعة الجلود ودباغتها. ثم بدأت السمة اليهودية تغلب على الحي خصوصاً بعد نشوء عدد من الشركات الصغيرة لصناعة الجلود يملكها اليهود الأشكنازيون القادمون من أوروبا الشرقية. عززت هذه الصنعة هامشيّةَ الحيّ بما ينتج عنها من التلوث والروائح، فهو لم يحظَ بما حظيَت به أحياء باريس المركزية المزيّنة بالتماثيل والمسارح. ثم استقرّ المهاجرون في بيلفيل بداية الثلاثينيات بعد سيطرة الجبهة الشعبية على السلطة في فرنسا، وهي ائتلافٌ واسعٌ للأحزاب اليسارية والشيوعية.
سعى رؤساء البلديات الشيوعية إلى تطوير هوية الطبقة العاملة المحلية ودمج الأجانب بمنح مساعداتٍ ماليةٍ للسكن ولغير العاملين ولدعم الفعاليات المجتمعية ذات الهدف السياسي. كان الهدفُ خلقَ بيئةٍ ثوريةٍ معاديةٍ للفاشية الصاعدة في إسبانيا وألمانيا حينذاك، ومن هنا أدخل اليساريون اليهودُ السياسةَ إلى بيلفيل. تَميّز ذلك الطورُ من تاريخ الحيّ بالتقارب بين الطبقة العاملة الباريسية والمهاجرين بجامع الأصول الريفية بينهما، والوجود على هامش المركز الباريسي الغني والمسيطرّ، وروح المصير والانتماء المشترَكَيْن.
أطلقت سلطات الاحتلال النازي في الرابع عشر من مايو 1941 حملة "البطاقات الخضراء" لنقل آلاف اليهود إلى معسكرات الاعتقال. لم يسلم بيلفيل أحد معاقل اليهود حينها من الحملة التي استهدفت فيه أربعة آلاف شخص أكثرهم نساء وأطفال. اختفت بعد تلك الحملة المجموعات الأرمنية واليونانية والعائلات اليهودية الأشكنازية شيئاً فشيئاً. ثم حلّ محلهم اليهود السفارديم القادمون من تونس بعد التحرير عام 1944، ومنحوا بيلفيل هويته المعاصرة والفريدة بإعادة إنتاج وطنهم الأم داخل باريس، كما يشير إلى ذلك كل من باتريك سيمون وكلود تابيا في كتابهما "بيلفيل اليهود التونسيين". يبدو لي الأمر وجهاً من صراع الذاكرةِ الجمعية الزَّمِن، أو هاجس بقاءٍ ثقافيٍ لمجموعةٍ عرقيةٍ وجدت نفسها في مدينة ضخمة مثل باريس تبتلع القادمين إليها ثم تهضم ثقافاتهم.
فرضت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية على الإمبراطوريات الاستعمارية واقعاً جديداً تجسّد بإرادة المستعمرات التحررَ. استقلت تونس عن فرنسا في مارس 1956 بعد شدٍّ وجذبٍ طويل بين السلطات الاستعمارية والحركة الوطنية التونسية بقيادة الحبيب بورقيبة وحزب الدستور. واجه مئة وخمسون ألف يهودي تونسي يومها المجهولَ؛ إذ ارتبط أكثرهم بعلاقات اقتصادية ومصالح مع الفرنسيين. وبعد أشهر قليلةٍ من الاستقلال شنّت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل هجوماً عسكرياً على مصر بعد تأميم الرئيس جمال عبد الناصر قناة السويس. فبلغ التوترّ في تونس أقصاه بسبب هذه الأخبار القادمة من الشرق لا سيما أن اليهود والفرنسيين أصبحوا في معسكر واحد ضد العرب. فكان ذلك أحد دوافع هجرة اليهود إلى فرنسا.
خرجت تونس فقيرةً من حقبة استعمارٍ دام سبعة عقود، فلم يكن أمام آلاف الشباب إلا الهجرة إلى مستعمِرهم القديم هرباً من البؤس. كان جدي أحد المهاجرين، فقد رحل من بلدة تطاوين على الدابة وفي عربات قديمة قاطعاً طريقاً طويلاً من مضارب البدو جنوب البلاد حيث ولد وتربى إلى العاصمة تونس، ثم ألقى نفسه في باخرة لنقل البضائع والحيوانات إلى ميناء مرسيليا جنوب فرنسا. اختبأ بعدها في إحدى عربات قطار قديم يحمل البضائع إلى باريس. كتب أحد أقاربه في ورقةٍ صغيرةٍ عنوان صديقٍ يسكن في غرفة بزقاق "دينوي" في الشطر الشرقي من بيلفيل. اختفت تلك الغرفة اليوم بعد تجديدات الحي، لكن الزقاق ما زال موجوداً ومزدحماً بالمقاهي والحانات ورافضي السلطة والرأسمالية من الهيبيين واليساريين والفوضويين، وأصبحت جدرانه معرضاً بديعاً للرسوم. جلستُ في إحدى تلك المقاهي مرّةً وسألتُ صاحبها: "كم مضى من الوقت على وجودك في هذا المكان؟" سحب نفَسَه مُوحياً بطول المدة وأجاب: "أربعون عاماً"، قلت له: "أنا أقدم منك هنا" تعجّب سائلاً عن سني وحين أجبته بأنني دون الأربعين، زاد تعجبه ومضى دون أن يفهمني. قصدتُ بجوابي الامتدادَ الروحي الذي كنتُه هنا قبل سبعين عاماً بجدّي الشابّ الذي جاء إلى الحي قبل أن تولد هذه المقاهي ويزداد صخبها.
يرى الباحثان الاجتماعيان الفرنسيان باتريك سيمون وكلود تابيا أن الحضور اليهودي التونسي الكثيف في الخمسينيات والستينيات مهّد الطريق لمجيء مسلمي تونس إلى الحي، خصوصاً بعد افتتاح اليهود التونسيين مطاعم تونسية ومحلات حلويات وإحضارهم العمّال من تونس. بدأت صالات السينما في الحي تعرض الأفلام العربية لا سيّما المصرية، واستقطبت الملاهي التي يملكها يهودٌ مغنّين عرباً ومغاربة كاليهودي الجزائري سليم الهلالي والسوري فريد الأطرش والجزائري محمد الكامل والتونسية شافية رشدي. لم يمكث جدّي طويلاً في الحيّ، فمع بداية الستينيات أصبح رحّالةً يتنقل من مدينة فرنسية إلى أخرى مع شركة الإنشاءات التي عمل فيها أربعين عاماً حتى تقاعد بداية التسعينيات، لكنه كان يزور الحيَّ كلَّما مرّ بباريس.
حكى لنا أبي مرّةً عن معركة يونيو 1968 التي كانت صدًى لهزيمة إسرائيل العربَ واحتلالها ما تبقى من فلسطين وسيناء المصرية والجولان السوري في حرب 1967. ففي الثاني من يونيو ليلة الأحد اختلف تونسيان يهوديٌ ومسلمٌ بسبب رهانٍ بالورق في مقهى بالحيّ، ويبدو أن الخاسر رَفَضَ دَفْعَ ما عليه للفائز متهماً إياه بالغشّ. شارَك الحاضرون في الخلاف، فاشتعلت شرارةُ المعركة وتحوّل الخلاف إلى أعمال عنفٍ ذات طابعٍ عرقيٍ ودينيٍ في الحيّ كلّه ثلاثةَ أيامٍ حُطِّمَت فيها نوافذ المَحالّ والمنازل، وواجهتها الشرطة الفرنسية بعنفٍ شديد. وصل جدّي إلى بيلفيل بعد أن وضعت المعركة أوزارها. أثّرت أعمال العنف تلك على الحي، فلم يمكث جدي طويلاً هناك بعد ذلك وانتقل إلى حي لافيلات شمال شرق باريس، ككثيرٍ من التونسيين.
اختفى الباكستانيون من بيليفيل قُبيل منتصف السبعينيات واستقروا في أحياء شمال باريس الفقيرة، فقاد التونسيون والجزائريون نشاط جماعة التبليغ مع تصاعد الصحوة الإسلامية في العالم العربي. ازدادت حينها سِماتُ الالتزام الديني في الحيّ، فاختفت الملاهي وصالات السينما شيئاً فشيئاً، وظهرت محالُّ بيع اللحوم الحلال بعد أن كان المسلمون يشترون اللحم المذبوح على الشريعة اليهودية من أصحاب محلات اللحم اليهود دون حرجٍ ديني. امتلكت جماعةُ التبليغ مركزَيْن للنشاط في الحي: مسجد أبي بكر الصديق في جادة بيلفيل الرئيسة، ومسجد عمر بن الخطاب الذي أسسه التونسي محمد الهمامي أحد قيادات الجماعة بتبرعات التجار المسلمين التونسيين في الحيّ. كان الهمامي شخصية دينية محورية في الحي بداية التسعينيات بسبب تهم "التطرف" التي لاحقته، ثم انتهى به المطاف مُرحَّلاً من فرنسا إلى تونس عام 2012 بتهمة الترويج للأفكار الجهادية وإطلاق تصريحات معادية للسامية.
في تلك الحقبة وصل والدي إلى فرنسا مهاجراً كجدّي، فعاصر في بيلفيل أجيالاً من التونسيين مسلمين ويهوداً. شهد أبي بداية الثمانينيات تحوُّلَ بيلفيل من حيٍّ يسكنه المهاجرون فُرادى إلى حيٍّ تسكنه عائلاتٌ مهاجِرة بعد وصول الاشتراكي فرانسوا ميتران إلى السلطة عام 1981، والذي فتح الباب على مصراعيه للمّ الشمل. بَقِيَ أبي حينَها متمسّكّاً بضرورة بقاء عائلته وأطفاله في تونس حيث اللغة العربية والإسلام والثقافة المحافظة، وهذا ما فعله جدّي ومئاتُ المهاجرين التونسيين ظنّاً منهم أن الهجرة ستنتهي يوماً بالعودة إلى البلاد، لكنّ عبورَهم المؤقَّت ذاك امتدَّ أربعين عاماً.
أصبح بيلفيل في الثمانينيات والتسعينيات ملاذ أعضاء الجماعات الإسلامية الهاربين من الملاحقة الأمنية في تونس والجزائر، فترسّخ بذلك وجهُ بيلفيل الإسلامي. وتعزّز في الوقت نفسه الوجود الصيني بالحي بعد أن خَلَفَ المهاجرون الصينيون اليهودَ في إدارة الحيّ اقتصادياً. أما العرب فكانوا هامشيين، عمّالَ نظافة أو عمّالاً بأجورٍ زهيدة. في غمرةِ هذه التحولات ظهرت فئاتٌ جديدةٌ في بيلفيل هامشيّة ومتمردة. حكى لنا والدي كثيراً عن اليهودي التونسي أندريه بلعايش الذي قاد في الثمانينيات "مافيا البوستيش" لسرقة المصارف وأرهق السلطات الأمنية الفرنسية سنوات، وقد سرد قصته في مذكراتٍ صدرت عام 2004 بعنوان "بوستيش: عصابة الثمانينيات". أما في النصف الثاني من الثمانينيات فقد كانت بيلفيل مقرَّ"مافيا الكسكس" التي شكلها وقادها منصف بن علي شقيق رئيس تونس السابق زين العابدين بن عليّ، وكانت تدير شبكةً للمتاجرة بالمخدرات وتبييض الأموال بالتجارة في الحي.
تصطف على أطراف الشوارع الفرعية المكتباتُ العربية ومحلاتُ بيع الملابس العربية التي يشتري منها الآباء ملابسَ عربية لحفلات ختان أطفالهم، ويقصدها شبابٌ مقبلون على الزواج ليشتروا ملابسَ الزواج المطرزة بالطريقة المغاربية. ويتجمع مئات التجار الذين يبيعون كلَّ شيءٍ تقريباً في سوق الحي الأسبوعي صباحَ كلّ ثلاثاء وجمعة. تجد بين "بسطات" الخضار بائع العطور أو رجلاً يبيع أشياء قديمةً. سوقٌ من العجائب قد تعثر فيه على نفائسَ يجهل أصحابُها قيمتَها، مثل الكتب القديمة والساعات العتيقة والصحف الصفراء المهمَلة والأوسمة المذهّبة. أغرقُ في ذلك العالم ولا أصحو إلا عندما تناديني رائحةُ بسطة بائع الشطائر التونسية الحارّة.
يتحوّل الحيُّ مساءً إلى ساحة احتفال كبيرة، وتضفي مساءات الصيف عليه بهجةً عذبةً لا سيما بعد أن صارت المباني القديمة مطاعم ومقاهي وحانات ومحلات بيع مثلجات وشاي أخضر مع النعناع بالطريقة المغاربية. جذب الحيُّ بتاريخه المعقّد والثوري شبابَ اليسار والناقمين على الحياة المادية الاستهلاكية والمتمردين من رافضي السلطة ورسّامي الجداريات وفناني الشوارع وطلبة الجامعات. وأكثر هؤلاء من الفرنسيين البيض الذين يتجمعون على الأرصفة العريضة في الشوارع أو على هضبة بيلفيل وصولاً إلى حديقة "بات شيمون" للشرب والرقص وسماع الموسيقى والرسم، أو للنقاش السياسي عن المناخ والعمّال والحرّيّات. يكتظ الحيّ الآن بالتونسيين وبالأعراق المختلفة من الأفارقة السود والصينيين والهنود والفرنسيين البيض. وعلى جدرانه لوحاتٌ ضخمةٌ لشخصياتٍ ثقافيةٍ مؤثرّة أو فنانين أو كتّاب أو شعارات سياسية. لكن ثمة وجهٌ آخر لمساءات بيلفيل إذ تزدهر مهنةُ البِغاء مع منعها قانونيّاً، فترى عشرات النساء ممن يعملن في البِغاء ينتظرن زبائنهن على الأرصفة ليلاً.
تختصر تناقضاتُ هذا الحيّ تناقضاتِ المهاجرين فيه، واختلافهم عن البيئة الفرنسية تارةً وائتلافهم معها تارةً أخرى. أجد وصفَ أبي زيارتَه الحيَّ بأنها من أجل "شحن البطاريات" عبقريّاً، لأنه وليدُ إحساسه بتمزق الهوية الذي عاشه وأقرانُه من المهاجرين. كان بيلفيل بديلاً للوطن البعيد، فيه يشحذ المهاجِرُ همّتَه ليستأنف رحلة الهجرة الطويلة والقاسية.
على عكس أبي وجدي فلم أشعر بهذا التمزق أبداً، ربما بسبب وعيي أو ثقافتي المزدوجة أو طبقتي الاجتماعية، فأنا كاتب ومترجم ولستُ عاملاً. لم أشعر كما شعروا بحواجز نفسية أو ثقافية تمنعني الاندماجَ في المجتمع الفرنسي أو تُشعرني بالغربة في حَيِّي الذي يسكنه الفرنسيون بكثرة. مع ذلك أحب بيلفيل وأشعر فيه بأُلفةٍ وبهجةٍ لا يمكن شرحُها، وكأنني في بيتنا القروي على مشارف الصحراء. يستطيع المرءُ أن يكون باريسياً ذا مكانةٍ بصلته مع النخب الثقافية أو السياسية أو المالية، وقد نجح عرب وتونسيون كثيرون في ذلك. لكن في بيلفيل يمكن أن تكون باريسياً مغموراً بانغماسك مع تلك الأعراق دون أن تفقد هويتك الأصلية.
يواعدني أصدقائي العرب عندما يأتون إلى باريس في جادة الشانزليزيه أو في ساحة الأوبرا الساحرة، لأنهم لا يعرفون "باريس بيلفيل" التي يبدو لي أن التونسيين، مسلمين ويهوداً، أرادوا أن يحتفظوا بها لأنفسهم جزءاً من تونس. تقول لي ابنتي فيروز إن بيلفيل تعني لها "بائع الحلوى" دون التأويلات الفلسفية التي يضفيها والدها على الحيّ.