أذكر جيداً كيف اتّخذ هيئته تلك سنة 2015 قبل أن يقول: "ستسافرون [يقصدني وشقيقتي الوحيدة وزوجي] إلى المكسيك. منها تستطيعون الدخول خلسةً إلى الولايات المتحدة لوداع والدتك وهي على فراش الموت". جاء حديث والدي هذا بعد أن رفضت أمريكا منحنا تأشيرة دخولٍ قانونية مراراً وتكراراً. ولأن السرطان لا ينتظر، بل كان عصيّاً وعلى عجلةٍ من أمره في حالة الوالدة، لجأنا إلى الطرق غير القانونية. فالمشورة أُعطيَت لكنّها مُلزِمة. ثمّ إن الفكرة راقَتْنا، علَّنا نتحايل على الموت ونودّع أُمَّنا.
لكننا لم نُفلِح.
أُوقِفنا في المكسيك. علموا بما خططنا وقرأوا الخوف في عيوننا، فسَجَنَنا أصحاب القبعات الكبيرة في غرفةٍ كُتبَ على بابها "سجنٌ فدرالي" حتى موعد الطائرة المقبلة إلى فرنسا ومنها إلى بيروت. لم نلمح من المكسيك أبعد من سوقها الحرّة، بحجّة أننا قدّمنا سابقاً عشرات الطلبات لزيارة الولايات المتحدة للقاء الوالدة، فما الذي سيأتي بنا فجأة إلى المكسيك للسياحة.
رحلت أمي ولم نستطع أن نودّعها.
الصدمة تمنعني وشقيقتي أن نردّد كلمة ماتت. نكتبها لكن لا نلفظها. ونحن موحدون دروز في الإيمان الراسخ الذي شربناه منذ الصغر، كما كانت أمّي تدفعنا إلى شرب "البيض بْرِشْت"، أي البيض البلدي النَّيْء، يومياً لأنه مغذٍّ. والموحِّد يؤمن بالتقمص، أي جعل الأجساد أقمصةً للأرواح. فنحن نؤمن أننا لا نموت بل نبدّل قميصاً بآخَر، ننتقل إلى جسدٍ آخَر فحسب. الجسد، والحالة التي يكون عليها، وما يحيط بالإنسان من ظروفٍ حياتيةٍ هو عندنا محضُ قالبٍ لاختبارٍ جديدٍ قبل أن تنتقل النفْسُ إلى قميصٍ جديدٍ - ومِن هنا أتى لفظ التقمص - وتعيش حياةً مختلفة. وفي الانتقال يعود الشخص بجسدٍ آخَر مقترِضاً من حياته السابقة ليوفّي ما كان عليه، ما يُعرف بمبدأ الاقتراض والوفاء. وهنا فقط، بعدما تمرّ هذه النفْسُ بأكثر من ظرفٍ وأكثر من جَسَد، يجوز الحُكم عليها يوم القيامة. إذ كيف يمكن الحُكم على شخصٍ عاش ثريّاً طوال حياته ولَم يُقاسِ صعابَ الفقر؟ وكيف يمكن الحُكم على شخصٍ عاش بصحّةٍ تامّةٍ طوال عمره ولم يُعانِ مرارةَ المرض؟ ولأنه حاشا الله عز وجل أن يظلم أو يخطئ في حكمه، تمرّ النفْسُ باختباراتٍ عدّةٍ، أي تتناوب بالتقمص كما يؤمن الموحدون الذين تشيع بينهم عبارة "انتقل إلى جيله الجديد" أو "تذكّر من كان في جيله الفائت" لأن الانتقال يكون عادةً مع مسحٍ للذاكرة. ومن "يتذكرون" أو "ينطقون"، وهو فعلٌ نستخدمه أيضاً للإشارة إلى التذكّر، هم نسبةٌ قليلةٌ قياساً بمن لا يتذكّرون أبداً.
وفي السياق نفسه، يَسأل من فارقوا عزيزاً من الموحدين "كيف أصبح شكلُه اليوم؟ لا بدّ أنه بدأ يحبو. ها قد نطق كلمته الأولى. هل سيذكر جيله القديم؟ هل يُشير إلى بيتنا فيعود؟". عشنا هذه المراحل جميعها، شقيقتي ووالدي وأنا. ونحن ننتظر أن "تعود" أمّي.
مرّت قرابة تسع سنواتٍ اليوم، ولَم تعُد.
الأملُ يضيق، وقد لا تعود أُمّي يوماً. أمازح شقيقتي، وأقول لها: "لا بدّ أنها تذكّرت أنكِ ابنتها، فقرّرت ألّا تعود أبداً". لكننا على يقين أنها هناك في مكانٍ ما في هذا الفضاء الواسع. لعلّها أصبحت موحِّدةً يابانيةً مثلاً. فالموحدون، وفق معتقداتنا، لا يولدون إلا لدى بعضهم بعضاً. كذلك فإن الذكور يولدون ذكوراً والإناث إناثاً. ثمّ إن أغلب الحالات التي نسمع بها عن موحّدين "تذكّروا" جيلَهم السابق هي لأشخاصٍ ماتوا فجأةً أو تعرّضوا لحوادث مؤلمة. لكن في الجانب الآخَر هناك أيضاً قصصٌ كثيرةٌ لأشخاصٍ "نطقوا"، هكذا نقولها بالعامّية، أي أنهم نطقوا بتفاصيل حياتهم في جيلهم السابق، مع أنهم "انتقلوا" إلى جيلهم الجديد بهدوء.
تناقشتُ قليلاً مع حنين بشأن الرواية. وحين سألتُها عن السبب الذي جعلها مثارَ جدلٍ واسعٍ داخل الطائفة، أرجعَت ذلك إلى أحداثها القريبة جدّاً من الواقع.
تسأل حنين، على لسان بطلة روايتها أمل، والدَها "المتزمّت" إن كان الرجل يتقمص في جسد امرأةٍ أو العكس هو الصحيح، ليجيبها منفعلاً: "ما هذا الكلام؟ هل يعقَل أن مولاي العقل كان امرأة؟". ومولاي العقل هو لقب حمزة بن علي بن أحمد الفارسي الزوزني، والمولود في زوزن في خراسان سنة 985 ميلادية. لُقّب "العقل" لأنه مؤسّس المذهب التوحيدي والمؤلِّف الرئيسُ لنصوص الدرزية، أو ما يُسمى "كتاب الحكمة".
في هذه المسألة، يقول أحد رجال الدين للفِراتْس، نمتنع عن ذكر اسمه نزولاً عند رغبته: "في التوحيد، العقل هو أوّل عنصرٍ وُجِد وكان بمنزلة الذَكر. فيما كانت النفْسُ العنصرَ الثاني، وهي بمنزلة الأنثى. وعليه فإنّ وجود الجنس سَبَقَ إبداعَ النفوس الجزئية التي نحملها. وبذلك فُرِضَ على الأنفس أن تحمل هويّاتٍ مذكّرةً ومؤنّثةً، وذلك قبل خلقِ الزمان والمكان في عالَمٍ يُسمَّى العالَم المعنويّ [أي الكون]". ويضيف: "بالتالي، فقد حافظت الأنفس في تقمصها على تلك الهوية التي طُبعَت بها في ذلك الزمان بعد وجود الكون، وهو ما لا يمكن تغييره. لذا فإن النفْس الذَّكر تبقى ذَكراً والنفسَ الأنثى تبقى أنثىً إلى ما لا نهاية".
ناقشتْ حنين الصايغ في "ميثاق النساء" مسألةَ التقمص من زاويةٍ إنسانيةٍ حين كتبت كيف عادت جدّة البطلة خائبةَ الأمل إلى غرفتها وراحت تبكي بصمتٍ، بعد أن علمت أن ابنتها أنجبت بنتاً ولا صبياً. وبحسب الرواية، فلهفة جدّتها على ولادة صبيٍّ لا علاقة لها بعاداتِ أهل القرى الذين يفضّلون الصبيان على البنات كما جرت العادة، وإنما في مكانٍ عميقٍ بوجدانها. كانت تأمل أن يعود ابنُها عماد، الذي قُتِل في الحرب الأهلية، إلى بيتها متقمصاً جسد المولود الجديد. وبما أن العقيدة الدرزية ترى أن الذَكر لا يتقمص إلّا جسد ذَكر، "كان ميلادي أنا وأخواتي البنات أربعَ نكباتٍ في حياة جدّتي"، بحسب تعبير أمل، بطلة الرواية.
في حديث أمل مع محمود، وهو موظّفٌ في الجامعة الأمريكية ببيروت، تقول له: "تقديسنا للعقل يعني إعطاءَ قيمةٍ للفرد والاعترافَ بحقّه في التفكير وتحكيم العقل، وهذا مناهضٌ للتبعية العمياء للقدماء [قدماء الطائفة] أو رجال الدين". ويسأل محمود: "يعني مثلاً إن أنتِ حكّمتِ عقلَكِ وفكّرتِ ووجدتِ أن التقمص غير منطقيٍّ، ولا يوجد أيّ دليلٍ عليه، هل يسمحون لكِ بذلك؟".
وفقاً لأمل، ازدادت أسئلة محمود صعوبةً وجعلتها أكثر حرجاً. فضَبطَت نفسَها تفكّر بشيءٍ وتحاول أن تقول شيئاً آخَر، بمعنى أن تُصدِّر له صورةً ملمّعةً، مع أنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن الدرزيّ الذي ينكر التقمص يُعدّ كافراً "لأن التقمص ركنٌ من الأركان الأساسية لعقيدة الدروز". لكنها قالت له باقتضابٍ: "فكّرتُ في التقمص كثيراً وأنا مقتنعةٌ به".
أرادت حنين الصايغ أن تنقل بعضاً من الاستجواب الذي يتعرّض له الموحدون عادةً من الأشخاص الراغبين بمعرفة المزيد عن المذهب التوحيدي، وعن التقمص خصوصاً. هذه العملية غير المفهومة، كما ورد في "ميثاق النساء". لذا ركّزت على التحقيق الذي أجراه محمود مع أمل حين واجهها قائلاً: "عشتِ في بيئةٍ درزيةٍ طوال عمركِ، وتمّ تلقينكِ هذه الأفكار منذ طفولتك. ولكن هل فكّرتِ في الأمر بمعزلٍ عمّا قيل لكِ؟". لتبرّر أمل أن حالات التقمص كثيرةٌ في محيطها، وأن هناك أفراداً عادوا إلى عائلاتهم وتعرّفوا إليهم بالأسماء. لكنّ محمود استمرّ يحاججها قائلاً: "لماذا لا يحدث هذا لنا، نحن المسلمين أو المسيحيين؟ لماذا يحدث لكم فقط؟ ألا تظنين أن هذا انحيازكم التأكيديّ، لأنكم تعرفون بالأمر وتحاولون تلقينه لأولادكم؟". مرّةً أُخرى، تجد أمل نفسَها وهي تبرّر قائلةً: "أجد أن فكرةَ التقمص عادلةٌ جدّاً"، وتضيف: "ماذا لو عشتَ حياةً صعبةً ولم تسنح لك الفرصة أن تُحدث تغييراً؟ ماذا لو وُلد أحدهم بإعاقة؟ وماذا عن الأطفال الذين يموتون من غير أن يَختبِروا شيئاً؟ أليس من العدل أن ينال هؤلاء فرصةً أُخرى؟ حتى الإنسان السيّئ والخاطئ، ألّا تظنّ أنه يستحقّ فرصةً أُخرى كي يُحسِّنَ أعمالَه ويجدَ الخيرُ الطريقَ إلى قلبه؟".
أمّا عن مسألة "لماذا لا يتقمص المسلمون والمسيحيون أيضاً؟"، فتجيب أمل: "حسب عقيدتنا، أنتم تتقمصون أيضاً أستاذ محمود. كلّ البشر يتقمصون". فيسأل محمود: "هل يوجد عندكم أطفالٌ يتذكّرون من حيواتهم السابقة أنهم أتوا من عوائل مسيحيةٍ أو مسلمةٍ أو بوذيةٍ، أو من أيّ ديانةٍ أخرى؟" لتردّد أمل بينها وبين نفسها، "علمتُ أن هذا السؤال سيأخذني إلى أماكن في ديني لا أودّ الذهاب إليها، لكنني في وضعٍ حرجٍ وعليّ أن أجيب".
في هذه النقطة بالذات، تُشْبِه أمل جميعَ الموحّدين المُحرَجين عادةً. إمّا لأنهم لا يعلمون إذ نادراً ما يُسمح للموحّد الاطّلاع على ثنايا الدِين ما لم يكن ملتزماً وقد ارتدى زيّ المَشيخة، وإمّا لأنهم يعلمون بحُكم اطّلاعهم ونشأتهم في بيئةٍ ملتزمةٍ لكنّ الدِّين يحتّم عليهم الاستتارَ والاحتفاظَ بالأسرار العميقة لأنفسهم ولمن ينتمون إلى المذهب التوحيديّ فقط لا غير. وعلى أيّ حالٍ، فإن أمل التي نشأت في بيئةٍ موحّدةٍ أجابت محمود: "الدروز يولدون فقط عند الدروز، وباقي الديانات ممكن أن تولد عند بعضها البعض".
تشير حنين في الرواية إلى حادثة أخرى مرتبطةٍ بعمّتها، حين قدّمت المال للمولودة ورفضت الوالدةُ، فأجابتها العمّة: "هذه أمّي قبل أن تكون ابنتَك. ليس لي فضلٌ في هذا". وهو ما يُحيلنا من جديدٍ إلى مبدأ الاقتراض والوفاء في الفراق والخَلق، والذي يؤمن به الموحدون. هذا المبدأ الذي يرِدُ لاحقاً في الرواية على لسان والدة أمل التي تقول لها: "ابنتك هي ابنتك في هذا الجيل، قد تكونين أنت ابنتها في أجيالٍ مُقبلة. الأمومة عملٌ شاقٌّ يا أمل. وفي كلّ مرّةٍ تواجهين فيها الصعاب، تذكّري أن رحمة [ابنتها] لها عندك شيءٌ من جيلٍ سابقٍ [الاقتراض]، ووجودها هنا فرصةٌ كي توفي ما عليكِ [الوفاء]. كوني كريمةً مع ابنتِك وأَعطيها كلّ ما تقدرين عليه، فيوماً ما ستصبحين أنت طفلتها ويكون أمرُكِ بيدها".
ليست العمّةُ سليمة الوحيدةَ التي انتظرت غائباً، أي ميتاً، في مولودٍ جديدٍ. ففي الرواية فعلت جدّة أمل الأمرَ ذاته. كانت أمّ علي تنتظر دائماً، ومع كلّ ولادة، أن يعود ابنُها علي إلى البيت. ومثلها انتظرتْ جدّتي عفيفة، كما سأروي لاحقاً. تكتب حنين في هذا السياق: "تذكّرتُ جدّتي أمّ علي وانتظارها لعودة عمّي عماد من موته طوال تلك السنوات، وكيف كانت تصاب بالخيبة في كلّ مرّةٍ تَلِد فيها أمّي بنتاً، ولا يعود ابنُها إلى البيت. ماتت جدّتي وهي تنتظر عماد، وعاشت عمّتي سليمة بعد ذلك تنتظر عودة جدّتي. لا أعرف لماذا يتناوب النساء على هذا الانتظار المؤلم، وينذرون ما تبقّى من حياتهنّ وما سيأتي من حياة الأطفال الجدد للماضي".
تدقّق الصايغ على لسان بطلة روايتها أمل في الواقع الدرزيّ، وتنقل عباراتٍ قلّما يتشاركها الموحدون مع الخارجين عن الدِّين أو غير الموحدين. منها مثلاً ما تقوله أمّ علي عن ابنها عماد "المُنتظَر": "اليوم أصبح عمره سنةً وقد يكون قد بدأ بأولى خطواته. الآن لا بدّ أنه يخبر أهله عنّي، وفي يومٍ ما سيطلّ من تلك البوابة طفلٌ مع أبويه، وسيأتي إليّ ويعانقني ويقول اشتقتُ لكِ يا أمّي سامحيني".
بدأت القصّة حين زارت هذه العائلة منزل جدّتي رفقةَ الطفل الوليد نزيه، الذي راح يداعب شعر جدّتي ويرفض النزول عن حضنها. ثم في إحدى الزيارات، بدأ نزيه يتكلّم. فنادى جدّتي بِاسمِها عفيفة وأضاف: "أريد تناول القليل من الدبس". فأخبرَته جدّتي بأنه ما من دبسٍ عندها. لكن نزيه هزّ برأسه معارضاً وقال لها: "افتحي النمليّة [خزانة خشبية تُستخدم لتخزين المؤن] وابحثي عن جرّة الفخّار الثالثة لجهة اليمين. هناك نخزّن الدبس ولا بدّ أن لديكِ منه". لاحقاً استفاض الطفل بذكرياته لتتأكد جدّتي وعائلته أن نزيه في الجيل الحالي ليس إلا والدها في الجيل الماضي. أمضى العمّ نزيه، كما نناديه، الكثير من عمره بجانب جدّتي في بيتها الزوجي وبين بناتها الأربعِ، ومن بينهنّ والدتي. وحين ماتت عفيفة، وقف العمّ نزيه يبكي ابنتَه وليس قريبتَه، كما بكى حفيدتَه الصغرى حين ماتت أمّي.
كان للعمّ نزيه دينٌ على ابنته عفيفة. وباعتقاد الموحّدين، فقد عاد إلى دارها لتَفِيَه حقّه من الحبّ والرعاية، وربما تولدُ لاحقاً في داره.
ويرى المعايطة أنَّ عقيدة الدروز التي تقول: "... أو فسخاً [انتقال الروح من الجسد البشري إلى النبات] أو رسخاً [انتقال الجسد البشري إلى جماد]"، تُنكِر المسخَ، أي تصيير جسم الإنسان صورة جسمٍ من غير نوعه، جماداً أو حيواناً، حتى لو كان قاطعاً، وتنفيه نفياً صريحاً. فالموحدون لا يؤمنون بالتناسخ، أي إعادة الميلاد أو التجسّد، بالمعنى التقليدي، كما هو الأمر في الهندوسية، بل استبدلوا بلفظة التناسخ كلمة "التقمص". ويقول المعايطة إن سبب ذلك اعتقادهم بانتقال النفس إلى جسم حيوان هو ظلمٌ لأن العقاب والثواب مبنيّان على قاعدة العدل الإلهي في محاسبة الأرواح بعد مرورها في الدهر الطويل، وليس في مدى حياةٍ واحدةٍ فقط، بخيرها وشرّها وقصرها أو طولها. ويمنحها الدهرُ الطويلُ فرصاً للاكتساب والتطوّر والامتحان والتبدّل لكي تُحاسَب حساباً عادلاً على مجموع ما اكتسبت. فالأرواح ليست كياناتٍ مبهمةً غيرَ واعية.
ويعتقد الدروز بالمسخ المعنوي أو المَجازي. يقول عبد الله النجار في كتابه "مذهب الدروز والتوحيد" المنشور سنة 1965: "المسخ في اللغة هو تحويل الصورة إلى صورةٍ أقبح منها، فيقال: "مسخه اللهُ قرداً". والمقصود هنا التحقير والذمّ والتوبيخ، وهو تعبيرٌ مجازيٌّ وليس حسّياً. إنما تكونُ الحكمةُ في عذابِ رجلٍ يفهم العذاب ويعرف، ليكونَ مأدبةً له وسبباً لتوبته، ويكونَ العذابُ الواقعُ في الإنسان نَقْلَتَهُ من درجةٍ عاليةٍ إلى درجةٍ دونها في الدِين، وفي قلّة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه. هذا المعنى جاء في رسالة "من دون قائم الزمان"، والتي تُنسب إلى حمزة بن علي مؤسّس مذهب الموحّدين، وفيها ما يلي: "أليس قد صحّ عند كلّ ذي عقلٍ ومعرفةٍ بالحقيقة والفضل أن هذه الأشخاص، أعني عالم السواد الأعظم، لم يتناقصوا ولم يتزايدوا، بل هي أشخاصٌ معدودةٌ من أوّل الأدوار إلى انقضاء العالم والرجوع إلى دار القرار… أليس لو ازداد العالم في كلّ ألف سنةٍ شخصاً واحداً لضاقت بهم الأرض. ثمّ إنه لو نقص في كلّ ألف سنةٍ شخصاً واحداً لم يبقَ منهم أحدٌ، فصحّ عند كلّ ذي عقلٍ راجحٍ… أن الأشخاص لم تتناقص ولم تتزايد بل تظهر بظهوراتٍ مختلفات الصور على مقدار اكتسابها من خيرٍ وشرّ".
إحدى تلك القصص بطلُها بسام عبد القادر، الذي يحكي للفِراتْس أنه توفّي بجيله السابق في أكتوبر 1970، وكان اسمه محمود الحلواني من قرية "مرستي" في قضاء الشوف بلبنان، بسبب انقلاب سيارةٍ كان بداخلها ثلاثةٌ آخَرون ذَكَرَهم بالاسم، أحدُهم لا يزال حيّاً يُرزق. كان بسام في الخمسين من عمره حين توفّي. أمّا كيف تذكّر حياتَه السابقةَ، فقد حدث ذلك أوّل مرّةٍ حين كان في سنّ الثالثة.
بدأت القصة حين رافق بسام والدتَه في زيارةٍ إلى قصر المختارة، وهي بلدةٌ لبنانيةٌ يحمل القصرُ اسمَها منذ القرن الثامن عشر حين شيّده آل جنبلاط ـــــ أسلاف مؤسّس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، أحد أبرز زعماء الموحّدين الدروز ــــ على أنقاض إحدى القلاع الرومانية. مرّ الطفل بسام أمام غرفةٍ كان يجلس فيها وقتذاك كمال جنبلاط، وقال لوالدته مُشيراً إلى الزعيم الدرزي: "سبق لي أن أخذتُ بارودةً من هذا الرجل".
توالت الأحداث لاحقاً بما يشير إلى أن بسام يتذكّر جيلَه السابقَ. أبرزُها أنه كان يخبّئ كلّ مقتنيات والدته التي يراها جميلةً من أجل أن يقدّمها إلى ابنته في حياته السابقة. في الخامسة من عمره، وبينما هو مع والده في ساحة قريته مرّ شخصٌ أمامهما لا يعرفه بسام لكنه أشار إليه وناداه باسم بسام. ثم اكتشف الوالد أن الاسم الذي نادى به ابنُه الرجلَ الغريبَ هو بسام. وكَرَّت سبْحةُ الذكريات، فتحدّث عن ممتلكاتٍ وأراضٍ وأسماء أصحابها. وكانت المفاجأة أنه في العام نفسه، حين زاره أستاذٌ من قريته يُجري دراسةً عن التقمص، عدّد الطفلُ بسام أسماءَ أولاده في جيله السابق بالترتيب العمريّ من الصغير إلى الكبير وتحدّث بالتفصيل عن حادثة وفاته.
يروي بسام اليوم أنّه يحمل الكثير من مزايا محمود الحلواني، الرجل الذي كانه في جيله السابق، مؤكّداً للفِراتْس أنه بدأ يزور أفراد عائلته في الحياة السابقة مذ كان في الخامسة من عمره. وقال بأنه تعرّف إلى طريق بيتهم بنفسه، ونَبَشَ البارودةَ التي ذكرها أمام والدته في زيارتهما إلى قصر المختارة، وطلب من أهله حفظَها بالطريقة نفسها التي كان يحفظها في جيله السابق، أي لفّها بالقماش. بسام تعرّف إلى كلّ أولاده في الحياة السابقة، شاركهم أفراحهم واحداً واحداً، وأولادهم يعاملونه اليوم على أنه جدّهم.
يعتقد الموحدون، بحسب الشيخ فضل، أن الروح مِن أمرِ ربّ العالمين وأن فكرة التقمص نابعةٌ من إيمانٍ راسخٍ بخلود الروح واستمرارِ رحلتها بعد موت القميص، أي الجسد. ويعتقدون أيضاً بأن النفس الإنسانية، بانتقالها بعد الموت من قميصٍ إلى آخَر، ستترقّى معرفياً وروحياً، انطلاقاً من قوله تعالى "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ" (سورة الزلزلة، الآيتان السابعة والثامنة). ووفق الشيخ فضل، "فما للإنسان للإنسان، وما لِلّه لِلّه"، أي أنّ على الإنسان الالتزام بالعمل الصالح والطاعة والعبادة، وأن مصير الرّوح لا يدركه إلا خالقُها عزّ وجلّ.
ويتابع الشيخ فضل سليم: "ويكفينا كلام السيّد الجنيد [عَلَم التصوّف البغدادي] الذي قال إن الروح شيءٌ استأثر اللهُ بعلمِه، فلَم يُطلِع عليه أحداً مِن خلقِه، فلا يجوز لعباده البحث عنها بأكثر من الإقرار بأنها موجودة. ثم أورد الآية [من كتاب الحكمة] [فالله تعالى هو خالق الروح ومتصرّفٌ بها في حياتها، وبعد مفارقة بدنها، وفي بعثها ونشورها. وهي راجعةٌ إليه يوم العرض والحساب ليقاضيها على جميع أفعالها خيراً كانت أو شرّاً ، فإما ثواب وإما عقاب]. والكلام فيها بأكثر من هذا لا يعدو كونه اجتهاداتٍ ونظرياتٍ يجب السكوتُ عنها والتزامُ أمر الله تعالى ورسوله فيها. وهي لا تعني إلا أصحابها، فوجب ردّها إلى خالقها ومالكها، فهو المطَّلع على أسرارها".
نقطة الاختلاف الأساسية بين الهندوسية والتوحيد الدرزيّ هي أن الهندوس يعمّمون التناسخ في كلّ شيءٍ، فيقولون إن هناك نسخاً ومسخاً ورسخاً وفسخاً، أي أنّ روح الآدميّ قد تنتقل إلى حيوانٍ أو حشرةٍ أو جمادٍ، أو العكس، بحسب صلاحه وفساده. إذا فسد الأسد مثلاً، فإنه سيموت وتحلّ روحُه في كلب. وإذا فسد الكلب، فإن روحه تحلّ في حصاةٍ أو في حديدةٍ أو غير ذلك. والعكس صحيحٌ، فإذا صار الكلب صالحاً، ترجع روحه إلى الأسد مرّةً أخرى بعد أن يموت، وإذا عاد الأسد صالحاً، ترجع روحه إلى إنسانٍ، وإذا كان الإنسان صالحاً، ترجع روحه إلى إنسانٍ أفضل ثمّ أفضل. يعتقد الهندوس أن الثواب والعقاب هو جزءٌ من التناسخ، وهو ما يُسمّى "الكارما" أي قانون الجزاء الدنيوي. لذلك إن كان الإنسان سيّئاً، تنتقل روحه إلى جسد إنسانٍ مشوّهٍ مثلاً أو مريض. وإذا استمرّ في السوء، تنتقل روحه بعد موته إلى جسد حيوانٍ أو حشرةٍ أو جماد. وبالمقابل، فإن الروح تترقّى في الأجساد الحسنة حتى تندمج في الإله براهما، وهو ما يُسمّى "النيرفانا" أو الانطلاق، أي أن تصبح كوكباً في السماء.
خالف الموحدون الدروزُ الهندوسَ في هذا الاعتقاد. فالموحدون، لا يؤمنون بأن الثواب والعقاب جزءٌ من التقمص، بل بأن النفسَ وَجَبَ أن تمرّ بأكثر من ظرفٍ وباختباراتٍ عدّةٍ قبل أن يجوز الحُكم عليها يوم القيامة. والموحّدين يؤمنون أيضاً أنَّ التقمص يكون فقط بين البشر، وأن روح الآدميّ تنتقل إلى آدميٍّ فقط.
وآخر الشروط اللازمة لتجوال الروح عند الهندوس ألّا تتذكّرَ في عالمها الجديدِ شيئاً عن عالَمها السابق. فكلّ دورةٍ للروح تكون منقطعة تماماً عن سواها من الدورات. وهذا مخالفٌ لمعتقد الدروز الذي يؤمنون فيه بـ"النطق"، أي أن الروح تتذكّر ولها اتصالٌ مع عالَمها الماضي، أي الجيل السابق.
غالباً ما كنّا نمرّ في جبل لبنان ببيوتٍ مشابهةٍ لذاكَ الذي لا يزال يسكنُ حنايا ذاكرتي، لكن منزلي لم يكن من بينها. ومرّةً، منذ نحو عشر سنواتٍ، بينما مررتُ رفقةَ زوجي في الباروك - وهي قريةٌ لبنانيةٌ تقع في أعالي تلال قضاء الشوف - على الطريق العام للقرية، وهي طريقٌ لَم أسلُكْها من قَبلُ، لمحتُ طريقاً فرعيةً أذهلتني لحظات. طلبتُ من زوجي تخفيفَ سرعته والدخولَ من الطريق الفرعية من جهة اليسار. منزلٌ، اثنان، ثلاثةٌ، وها هي الدار، داري، ببهائها أمام عينيّ.
لم أصدّق ما أرى. السور الحديدي على حاله، لكنّه مطليٌّ حديثاً بالأسود، اللون نفسه الذي كان عليه. البِركة الصغيرة تتوسّط الدار والسلالم المؤدّية إلى الطابق الثاني الذي أكاد أجزم أني أعرف تفاصيله. أوقف زوجي السيارةَ مدرِكاً ما يجري، ومكرّراً مراراً "فلنَنزِل، سأرافقكِ". لَم أقوَ على النزول. خيارٌ كان فيه كثير من الجُبن والحسم في آن. عرفتُ لاحقاً أن ذويَّ سألوا عن ساكني الدار، وأن شيخةً كانت تعيش فيه ـــــ كما كنتُ أردّد دائماً ـــــ توفّيَت سنة 1983، العام نفسه الذي وُلدتُ فيه. هذا كلّ ما عرفته، ولم أحرص على معلوماتٍ إضافية. كلّ ما أعرفه أني حتى اليوم، إذا ما مررتُ من تلك المنطقة ــــ على تجّنبي لها ــــ تنتابني الرهبة والهيبة، شعورٌ أكاد أجزم أن كلَّ موحّدٍ مرّ به وهو يتذكّر جيلَه السابق.