غَجَرُ صعيد مصر: أيُّ ذنبٍ جَنَاهُ المُبدعون الحَلَب؟

لم يُوثّق المصريون حياة شاعرِ السيرة الهلالية سيّد الضوّي بسببِ موقفِهم من الأدبِ الشعبي.

Share
غَجَرُ صعيد مصر: أيُّ ذنبٍ جَنَاهُ المُبدعون الحَلَب؟

في التاسعة من عُمري، كنتُ رئيساً ناجحاً لعصابة أطفالٍ تشنُّ هجمات القِنَابل الترابية على أطفالِ الغجر أو "الحَلَب"، كما نُسمّيهم في صعيد مصر. كنّا نشنُّ الغارات ليلاً ونحرقُ بيوتَ الحَلَب مدفوعين بإيماننا أنَّهم أشرارٌ، كما تقولُ جدتي، ويؤكّد أبي. ذات يومٍ فاجأني أبي وطَلبَ منّي أن أُوقِفَ الغارات ليلةً، سألتُه مُستغرباً، فلما جاوبني بأنّ الشيخ سيّد الضُوّي سَيحكي السيرة الهلالية قفزتُ من الفَرح. 

في ليلة السيرة الهلالية يتجلّى الأُنس الشّعبي. أتهيأُ وأرتدي الجلبابَ الأزرق وأسرقُ عِمامةً بيضاء من أبي وأطلبُ من جدتي "الحبُّوبة" رشَّة عِطر. كذلك يفعلُ إخوتي وأطفال القرى على ضفاف النيل. تفرّجتُ من فوق الجسرِ على الشيخ سيِّد الضُوِّي الذي وصل إلى قريتنا. كان يمشى فوق الأرضِ كأنه جبل، فاندلعتْ زغاريدُ النساء وبارود البنادق وحجزتُ أنا دِكَّتي الصغيرة في ديوان العائلة، حيثُ تُنصَبُ السهرة الهلالية.

في السهرة كان العَجَب. حَضَرَ أطفالٌ من الحَلَب في "المَنْدَرَة"، أي المَضْيَفَة، حيث الدكة الخشبية المرتفعة التي يترقبون جلوس الشيخ عليها، فاحتفى بهم الشيخ وحضنهم. لم أصدّق ما رأيتُ، وآمنتُ بوجوبِ طردِ أطفالِ الحَلَب. حَذَّرَني أبي من التهوُّر، فنَزلْتُ من فوق الدكّة واصطففتُ في طابور مع إخوتي وسَلَّمْنا على الشاعر الجبل باليد. كنتُ فرحاً ومُغتاظاً من سيّدِنا الذي مَيَّزَ أطفالَ الحَلَب. 

انتهتْ الليلة الهلالية مطلعَ الفجر. ودَّعَ أبي وأعمامي وأخوالي سيّد الضُوِّي وفرقته الشعبية كما لو أنهم يودعون أبا زيد الهلالي. في الصبح، وكنتُ أتهيأ لغارةٍ مُضاعفة على أطفالِ الحَلَب، سألتُ أبي: "لماذا أخذ سيدُنا الشيخ عِيالَ الحَلَب بالباط ونحن سلَّمْنا عليهِ باليد؟". قال: "لأنَّ سيدنا الضُوِّي مثلهُم من المَسَاليبِ الحَلَب". فاجأتني إجابةُ أبي، الشاعرُ الجبل من المَسَاليبِ الحَلَب؟ الشيخ الضُوِّي الذي يلبسُ الجلباب المَكْوي ويضع عمامات بيضاء فوق رأسه، من الحلب الأشرار؟

سيد الضوي خلال أداء السيرة الهلالية في إحدى قرى قوص

تَغْزوني أسئلةُ الحَلَب مُنذ تلك الليلة. بحثتُ كثيراً عن سيرة سيّد الضُوّي ولم أجدها في مراجع شعبيةٍ وأثريةٍ عربية أو أجنبية ولم أجد جواباً لأسبابِ هذا التجاهل. قررتُ أن أُسجّلها بنفسي فنزلتُ إلى الصعيدِ بحثاً عمّن عرفوه. فتَّشتُ ولم أجد جواباً شافياً لتهميش سيرة الشاعر الشعبي سيّد الضُوّي الذي لم تحظ سيرته باهتمام دائرة الثقافة الرسمية في مصر. عكسَ تقدير جمهور السيرة الهلالية على مدار حياته الفنية، وهو الجمهور الذي تبناهُ، واحتفى به وكان يتفاعلُ مع نصه الأدائي ويشاركه ملكية نص السيرة الهلالية والمحفوظ الشعري. قد يعودُ هذا التجاهل إلى نظرةٍ دونيةٍ لشعراءِ الحَلَب نجدها في بعضِ المراجعِ القديمةِ، فحتى اليوم ما زالت عائلات الصعيدِ من غيرِ الغجرِ تنظرُ بدونيةٍ لرواة السيرة الهلالية، أي الشعراء الساردين سيرةَ أولادِ هلال وهجرتهم من جزيرةِ العرب إلى شمال إفريقيا.


يعتمدُ فنُّ قصّ السيرة الهلالية على شعراء شعبيين يسردون أحداثها غِناءً بمُصاحبة عازفي آلات موسيقية كالرّبابة والدُّف. ويعتمدُ الغناءُ على قدرات الرواة الصوتية والتمثيلية على أداءِ شعر شعبي شفاهي. يجلسُ الشاعر الشعبي وفرقته عادةً فوقَ دكّةٍ خشبيةٍ مرتفعةٍ في مواجهة جمهور المُتلقين الذين لا يدفعون مقابلاً مالياً، إذ يتكفَّلُ الدَّاعونَ إلى السهرة بنفقات الشاعر الشعبي وفرقته الموسيقية. لا يؤدي الشعراءُ السيرةَ الهلالية استناداً إلى نصّ مكتوب، فمعظمهم شعراء أُمِّيون يعتمدون على الحفظِ والاسترجاعِ في لحظة الأداءِ أمامَ جمهورٍ يحفظُ النصَّ الشعبي، ويُذكّرُ الشاعرَ إذا خانتْه الذاكرةُ. 

ولا يزالُ نصُّ السيرة الهلالية حيّاً في صعيد مصر بفضل جمهورِ المُتلقين، وعائلاتِ الشعراء الشعبيين الحَلَب كعائلات الضُوِّي ومِتْقال وشَمَنْدِي والقِنَاوي. وللسيرة الشعبيّة وظائف ترويحية وتربوية في المجتمع كأي نصِّ تراثٍ شعبيٍ آخر. فأداءُ السيرة إعادة إنتاج يوميٍ حيٍّ لتراث شعبي يُربي النَشْء على قيمِ الحربِ والفروسيةِ والأخلاقِ الإنسانية. كانت السيرة إحدى وسائل التسليةِ الشعبيةِ للقرويين في صعيدِ مصرَ قبل انتشار التلفزيونات في البيوت وهجوم الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. 

التحقتُ سنة 2018 بالمعهد العالي للفنون الشعبية، وقررتُ أنْ أُفَرّغَ نفسي سنواتٍ لدراسةِ هذا التراثِ الشعبي، فكانت سيرةُ سيّد الضُوِّي عنوان رسالة الماجستير سنة 2020. اجتاحَ وباءُ كورونا مصر والعالم ذلك العام، ومع ذلك كنتُ نائماً في قطار عائد إلى مسقطِ رأس الشاعر سيِّد الضُوِّي في مُحافظة قِنَا. نزلتُ في محطة قُوص فوجدتُ المُرافقَ ينتظرُني. كنتُ محَّملاً بأسئلةٍ عدةٍ، وقد عزمتُ على زيارةِ بيتِ الشّاعرِ نفسه للحديثِ مع مَن تبقى مِن عائلتِه.

من فوق كَنَبةٍ بسيطةٍ في بيت الشاعر الشعبي سيِّد الضُوِّي ينفي حفيدُهُ رمضان أبو العز أبو الوفا، وهو عازف ربابة في فرقة جدّه، انتساب "الضُوِّي" إلى الحَلَب. قال لي: "لا. جُدودنا فِرسان هلالية [أي عربٌ أقحاحٌ] تفرقوا في محافظات قِنَا وأسوان وسوهاج بعد عودتهم من قتال الزناتي خليفة في تونس. نحن أحفاد سودان ابن عامر ابن يزيد ابن مِرداس ابن زغبة. كُلُّنا أبناء هلال. جدودُنا تَعِبُوا من الحرب وفي رقبتنا وصية إلهية". 

يعتقدُ شعراء السيرة الهلالية أنهم أُلهِموا الشعر بوحي سماوي، يتفقون في اختيار الله لهم لحمل الرسالة وهداية المؤمنين. يعقّد إيمانُ شعراءِ السيرةِ الهلالية بأنَّهم موحى إليهم عمليةَ البحثِ عند كل شاعرٍ عن مصادر روايته ويعطّلُها. فهل جاءته مشافهة أم من الكتب المطبوعة قديماً. فمنهم من يؤكِّدُ أنَّ السيرة نُزِّلت عليه مقسّطة في المنام ليلةً بعد ليلة. هذا ما يوردِهُ الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في كتابه "السيرة الهلالية" المنشور سنة 1988. 

ما يقوله الأبنودي يتطابق مع كلام رمضان أبو الوفا الذي قالي لي: "كان جدي سيد الضُوِّي يحكي أن أباه [علي فرج الضُوِّي] سمع البيتَ كله يهتزّ. يا لطيف. صوت ربابة السيرة يهزُّ البيت؟ كانت الرَّبابة دائرة فوق رأس جدي سيِّد وهو عيِّل صغير نائم. تكرر الأمر على أكثر من ليلة. ساعتُها فهموا أن الوحي الربَّاني يتنزّل". 

سجّلتُ ساعات مع حفيدِ الضُوِّي، ولمّا انتهت ذاكرة الهاتف ودّعْتُهُ، واتفقنا على لقاء ثانٍ قريب، إذ كنتُ في بداية الجمع الميداني. استأجرتُ سيارة خصوصية قديمة، ونزلتُ مكان ميلاد الضوِّي في نَجْعِ أصغر من قرية، اسمه "العُوَيْضَات"، يَقَعُ على أطراف مدينة قُوص التي يعدّها كثيرون موطنَ شعراءِ السيرة الهلاليةِ في صعيد مصر.

كاتب المقال مع الإخباري بركات أبو الوفا حفيد سيد الضوي

تتفقُ الحياةُ الشعبية في مدينة قوص على تمجيد بَرَكاتِ الأولياء والقدّيسين، وعادات الميلاد والزواج والموت والطعام والزي الشعبي. وتنتشرُ فيها حلقاتُ الذكر الصوفي وسهرات السيرة وأغاني العمل. وُلِد سيّد الضُوِّي في البيئة الشعبيَّة لأسرةٍ فقيرةٍ في السادس عشر من فبراير سنة 1934. لم تجد أمهُ القراءة والكتابة، واحترفَ أبوه رواية السيرة الهلالية، وهو شاعر الربابة الشيخ علي فرج الضوي الذي توفي سنة 1976، فكان رفيق درب شاعر السيرة الراحل جابر أبو حسين. لسيّد الضُوِّي شقيق واحد اسمه "نَصَّاري"، وله أكثر من أخ غير شقيق من أبيه، ولم يحترف أحدٌ من كل الإخوة غناء السيرة الهلالية عدا الطفل سيّد الضُوِّي. 

عندما بلغ سيّد الضُوِّي الخامسة أرسله أبوه، ككل أبناءِ القرى، عدّة أشهر إلى كُتّاب القرية لتعلم القرآن والحديث النبوي، لكنه لم يفلح. ولمّا لم يكن الوالد متفرغاً لتربية الابن لانشغاله بأداء السيرة في موالد الصعيد، تكفّلتْ أمُّ سيِّد بتربيته الفنية وتحفيظهِ السيرة التي تحفظُها. تعلّم الطفلُ سيّد عزفَ آلة الرّبابة في السابعة، وهي آلة وترية قديمة تعملُ على إطالة صوتِ الشّاعرِ ومُساندته. ومع أنّ سيّد الضُوِّي كان شاعراً أُميّاً لا يجيدُ القراءة والكتابة، لكنّه كان صاحب محفوظٍ موسيقيٍ عريض ونصٍّ أدائيٍّ خاص. 

مرّ الضوِّي، كأي بطلٍ في سيرة شعبيَّة، بمرحلةِ اعترافٍ صعبة. حتّى شعراء الحقول أو الشُعراء الهُواة يمرون بمراحل اعتراف، وهي مراحل تبدأ من السمَاع والمُلازمة والحِفظ، ثم مرحلة إجازةٍ من شاعر أقدم لهم، أو أمٍّ حافظة للسيرة. بعد ذلك تأتي مرحلة التقديم إلى الجمهور، وهذه مرحلة مِفتاحُها القبول، فقدّمَهُ أبوه الشاعر علي فرج الضوي. وفي سير الشعراء الشعبيين نجد أنّ الشاعر الشّعبي محمد الطبّاخ قَدَّمَ الشاعر جابر أبو حسين الذي أجازَ بدوره سيّد الضوّي شاعراً شعبياً سنة 1955 بعد سنواتٍ من المُلازمة الفنيّة.

ورثَ سيّد الضُوِّي رواية السيرة الهلالية ممن سبقوه بتقاليدِ مدرسة الصعيد الأعلى، وهي تقاليد صارمةٌ تستوجِبُ أن يؤدي الشاعرُ السيرةَ بأسلوب المُربّع الشِعري الذي يُناسبُ لهجات صعيد مصر. أدَّى الشاعر سيّد الضوِّي السيرة بلهجة قِنَاوية. وفي هذه اللهجة تُنطق القافَ جيماً قاهرية، وفي بعض الحالات النادرة تُنطق القاف كافاً مُخففة، فيُنطقُ الفعلُ "قَتَلَ" "كَتَل". والميمُ قد تنطق باءً كما في "مكان" فتُنطق "بَكان"، وتُنطق السين زاياً، فتصبح "سَقَاهُمْ" "زَقَاهُمْ". أثّرَ كل هذا على أداءِ الشاعرِ سيّد الضُوِّي، فلازَمَتهُ اللهجة القناوية، مثل صيغة الجمع بدلاً من المفردِ مع بعض الأفعال مع أنّ القائل مفرد، وكان يستعمل واوَ العطفِ بين الضمير والاسم التالي كأن يقول سيّد الضُوِّي: "أبو زيد وهو وطالِعْ بالفَرَسة" بدلاً عن "وَهُوَّ طَالِعْ بالفَرَسَة". يقول عازف ربابة في فرقة الضُوِّي ثابت القوصي: "سيّدُنا حكاية ربَّانية. فارسُ السيرة الهلالية الأخير. كان الشيخ سيّد يحفظُ القَوْلَ بمعانيه وحركات يديه وجسمه. كان يحفظ المقام ويبني شِعْرَ السيرة في المُربّع".


كان ظهور الشاعر العاميّ المصري عبد الرحمن الأبنودي، وهو من مواليد محافظة قِنا، لحظة تحوّلٍ في حياة سيّد الضوِّي الفنية وشُهرته. فمع تأسيسِ التلفزيون في مصر سنة 1960، وهجرة مُبدعين صعايدة إلى القاهرة قبل ذاك، عرفَ الجمهور في مصر كلها شعراء شعبيين أمثال جابر أبو حسين وعلي فرج الضوّي والرَيّس مِتْقال وشوقي القِنَاوي، وسيّد الضُوِّي والرَيّس جَرَامُون والنادي عُثمان وعز الدين نصر الدين. 

حَكَى لي الأبنودي، قبل وفاتهِ سنة 2015، كيف تَوَطَّدَت علاقته بالشاعر سيِّد الضُوِّي، والتي بدأت منذ الستينيات، حينما كان الأبنودي وزوجته المخرجة التسجيلية عطيّات الأبنودي يجمعان السيرة الهلالية من ألسنة الرواة في صعيد مصر ويُدَوِّنانها. تعرّف الناس حينها أكثر على الشاب سيّد الضوِّي الذي يُلازمُ الأبنودي وزوجته كظلهما، فكان المحفوظُ الموسيقى الشَفَاهي للضُوِّي الذخيرةَ الشعبية لمجلدات السيرة الهلالية الخمسةِ التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي وصدرت في القاهرة سنة 1988. 

نقرأُ في مقدمة هذه المُجلدات ما يُشبه امتنان الأبنودي لدور سيّد الضُوِّي في رحلة جمع السيرة الهلالية. يقول الأبنودي: "ودائماً في غناء الغجر سوف نحمل هذا الحذر الذي يدفعنا إلى التفريق بين نوعين من الرواية نحسَبُهما نوعاً واحداً، فإن شاعراً غجرياً عظيماً مثل سيّد الضوي، أو شاعراً غجرياً رقيقاً مثل والده المرحوم الضوي، سوف يظلان قسماً مستقلاً يعبّر عن نقاء لغة السيرة عند الغجر. وسوف يُكَّوَمُ كل الغجر الآخرون في قسم مستقل، لم يأخذ من السيرة إلا سطحَها، ولم يؤتَ هبة الوعي بالكلمات، وإعادة تركيبها على أساس الموضوع، لتخرج لنا بدناً شعرياً كاملاً قابلاً للتأمل ومثيراً للدهشة الفكرية والفرحة".

قَدَّمَ عبدُ الرحمن الأبنودي الضُوِّيَ في الصحف والتلفزيون منذ بداية الستينيات. من هنا طارت شهرةُ الضُوِّي خارج سماوات قِنَا والقاهرة فأثمرت علاقته بالأبنودي حفلاتٍ خارج مصر، وأرشيفاً غنائياً للسيرة الهلالية في خزائن التلفزيون في القاهرة. ومع أنّ التقديرات تتفاوت عن كمية ما كان يحفظه سيد الضوي، أكان مليون مُربع شِعري أم أكثر، فإنّ الشاعر الشعبي نفسه يقول في كتاب خالد أبو الليل "السيرة الهلالية: دراسة للرَّاوي والرواية" المنشور سنة 2011 إنّ "الحفظ موهبة من عند الله. أنا لا بكتب ولا بَقْرا لكن ربنا علشان أكل العيش بيفتِّح نظرَ الواحد. يعني عز الدين [يقصدُ عز الدين نصر الدين أحد شعراء محافظة سوهاج] بيكتبوا له. بيعرف يكتب ويقرا بس ما يعرفش مليون مربع".

الشاعر عبد الرحمن الأبنودي مع سيد الضوي ويظهر في جانب الصورة المفكر المصري عبد الوهاب المسيري.

كان على سيّد الضُوِّي، وغيره من الشعراء الشعبيين، أن يفهم جمهورَ السيرة الهلالية في الصعيد قبل أن يتعلم تقاليد الحفظ والعزف والأداء. فالجمهور يعتقدُ أنَّه المالك الأول والوحيد للنصّ الشعبي. والأهمّ من هذا كله أنّه جمهور قد يتعارك، لا سيما إذا اجتمع في ليلةٍ هلاليةٍ فريقٌ متحمسٌ لأبي زيد الهلالي وفريقٌ ينحاز إلى الزَنَاتي خليفة، حاكم تونس. يُفسِّرُ ثابت القوصي العازف في فرقة الضوي الأمرَ فيقول: "طريق الشاعر لازم يكون كله مسالك زَيّ سكّة أبي زيد الهلالي. الشاعر يقولُ رسالته ويمشي. الناس عجيبة. الناس ساعات تعمل زي جماهير [فريقيْ] الأهلي والزمالك. الحاج سيّد كان يُراضي الكُلّ، لكن الشيخ [الضوي] كان يحب الهلالي أكتر. سمِّيعة أبي زيد الهلالي أكتر. لكن ما نقدرش نقول دَهْ في العلن". 

وقصَّ ثابت القوصي على مسامعي حكاية طريفة بطلُها شاعر شعبي مجهول ومتلقٍ متعصب للزناتي. الحكاية كما رواها ثابت تقولُ إن شاعراً مجهولاً كان يغني السيرة الهلالية في مولد شعبي في قِنَا وكان يقصّ في اللقاء الأول ما جرى بين الزناتي وأبي زيد الهلالي، فحدث أن مرَّ بالصُدفة رجل من قرية دَنْدَرَة، التي ينحاز جمهورُها للزناتي، وكان عائداً من بيع جاموسته الوحيدة لمروره بضائقة. وفي طريق عودته من السوق عرج على مولد السيد القِنَائي فجلس يستمع إلى الشاعر الشعبي فاكتشف أنَّ الزناتي مهزومٌ في القتال، فهبَّ واقفاً وطلب من الشاعر أن ينصرَ الزناتي، نظير أن يدفع له جنيهاً كلَّما أوْقَفَ الزناتي بعد كلِّ ضربة. حقق الشاعر المجهول رغبة القروي حتى فرغ جيبه من آخر جنيه. ومشى بعدها نصيرُ الزناتي مُتمخطراً بصمود بطله المُفضل غير عابيءٍ بصُراخ الأبناء والزوجة من الجوع.


تعد لحظةُ أداءِ السيرةِ الهلاليةِ حياةً جديدة للمُبدِع الشّعبي، إذ يبعثُ الحياةَ في نفسهِ وفي النصّ الشعبي. فهو ناقل حافظ للسيرة، ومبدعٌ في كلِّ نصٍّ أدائيٍّ حسبَ الوقت والمكان وطبيعة الجمهور وحالة الشاعر لحظة الأداء. كان هذا مفهوماً لسيد الضوِّي الذي عَمدَ إلى توظيف قدراتٍ تمثيليةٍ في نصوصهِ الأدائية. ففي مشاهد الحرب كان يستخدِمُ يديْهِ تارةً وقوسَ الرَّبَابةِ تارةً أخرى كأنّه سيفٌ بتَّار. بعضٌ من هذا الأداء التمثيلي ورثهُ عن أبيه الشاعر علي فرج الضوِّي وشعراء جوَّالة قُدامى.

نجدُ إشارةً إلى هؤلاءِ الشعراءِ الجوّالةِ في موسوعةِ "وصف مصر" التي أعدّها علماء فرنسيون رافقوا حملة نابليون بونابرت على مصر نهايةَ القرنِ الثامن عشر. نقرأ في الموسوعة: "يستخدم مُرتجلو مصر، الذين يُطلق على الواحد منهم اسم شاعر . . . آلة موسيقية لمساندة الصوت وإطالته بينما هم يرتجلون، وهذه الآلة هي الرَبَاب المزود بوتر واحد. أما الفائدة التي تعود عليهم هو ضبط النغم أو المقام الذي يُعنون عليه، وذلك بفعل مد نغمي يؤدونه على النغمة نفسها طيلة وقت الحكي. أما المنشدون، وهم الذين يُسمون في مصر بالمُحَدِّثين، فهم رواة ملاحم حقيقيون، يقصون الأشعار التاريخية أو الروائية أو الخيالية. وبعض هؤلاء يقص هذه الأشعار وهو يقرأ، وهناك آخرون يستظهرونها عن ظهر قلب . . . وأخيراً فإنّ هناك شعراء يتخذون من الهلالية اسماً لهم لأنهم ينشدون أشعارهم على شرف بني هلال". 

تدخّل الضُوّي في النصّ الأدائي، لحظةَ أداء السيرة الهلالية، بتثبيت الاستهلال بقبائل بني هلال. كان يجيءُ دائماً على هذا المِنْوال: "بَعْد المديحِ فى المُكَمَّل أحمد أبو دَرْب سالِك. أَحْكِي في سيرة وأَكَمَّل. عَرَب يُذكروا قبل ذلك سيرة عرب أقدمين. كانوا ناس يُخْشوا المَلَامة. ريِّسْهُم سَبْع ومَتين يُسمى أبوزيد الهلالي سلامة". كان الضُوِّي يُبسِّطُ السيرة للجمهور الذي يسمعهُ أوَّلَ مرّة، فيلجأُ إلى النثر الشارح للشعر بينما تترك له فرقته الموسيقية البَرَاحَ وتؤدي نغمة خفيفة لا تكاد تُسمع للجمهور. واشتمل أداء الشاعر الشعبي أيضاً على عناصر غير لفظية تجسَّدت في الإيماءة والحركة والتكلُّم مع الجمهور في أثناء الأداء. كان الضُوِّي، في غالبية نصوصهِ الأدائية، يستخدمُ عصا الربابة صعوداً وهبوطاً حسب أحداثِ السيرةِ الهلالية أو عندما يسود هَرَجٌ ومَرَجٌ بين الجمهور. 

جَذَبَ النصُّ الأدائي للضُوِّي أنظارَ تجارب مستقلة في المسرح المصري. قَدَّمَ الضوي مسرحَ الحَكَوَاتي المتَّكِئ على تراثٍ شعبي مصري في تجربتين مسرحيتين هما "غَزْلُ الأعْمَار" و"غزيرُ الليل"، وكلتاهما من إخراج حسن الجريتلي. كان العرضُ في "غَزْلُ الأعْمَار" عن مصائر أحفاد أبطال السيرة، وهي مصائر يُجسّدُها "ديوان الأيتام"، وهو الجزء الأخير من السيرة الهلالية. كان الضوِّي في المسرحية الراوي الشعبي الذي يحرِّكُ الأحداث، فتخرجُ شخصيات المسرحية بعفوية من جوقة العازفين إلى دائرة التمثيل المُباشر وفق الحوار المسرحي المكتوب. قُدِّمَتْ المسرحيةُ في بُلدان أوروبية وعربية، وقُدِّمَت في صعيد مصر والقاهرة والإسكندرية. 

أمّا العرض الثاني الذي شارك فيه سيّد الضُوِّي حَكَواتياً فهو "غَزِيرُ الليل"، سنة 1993. كان موضوعُ تلك المسرحية قصةَ الحب الشعبية "حَسَن ونَعيمة"، وهي قصةُ مغنٍ فقيرٍ أحب شابةً من أسرةٍ كبيرةٍ اسمها نعيمة تعشقُ الشاب حسن وتهرب معه، لكن البطل يموتُ نهاية العرض. 


حافظ سيّد الضُوِّي على طقسِ إجازة شعراء سيرةٍ جُدُد. كسابقيه من المشايخِ الشعراء، حَمَّلَ الشاعرُ أمانة السيرة إلى تلاميذ خاضوا مراحل اعتراف كتلك التي خاضها صبياً وشاباً. طوّرَ سيّد الضُوِّي طريقة المُلازمة القديمة، وابتدع مكانها "المُجاورة الفنيَّة" شرطاً للإجازة الفنية. والمُجاورة تعني أن يلبث الشاعرُ الشعبي الهاوي في بيت سيّد الضوي في قوص عشرةَ أيامٍ نهايةَ شهرٍ من شهورِ السنةِ فيُلازمهُ بها في كل وقت، وبعد نهاية الأيام العشرة يختبرهُ سيّد في العَزْفِ والمحفوظ الشِعري والنصّ الأدائي. 

كان شاعرُ السيرة الهلالية زين محمود، ذو الثمانية والخمسين عاماً، أحد تلاميذ الضوِّي. قال: "بمُجرّد أن ينتهي الشاعرُ من المُجاوَرَة الفنيَّة يصير ابناً للشاعر المُجيز. فلا يجوزُ للشاعر المُجاز مهما علا شأنه بين الناس أن ينطقَ اسمَ سيِّد الضُوِّي إلا مصحوباً بلفظة 'أَبُويَا الشيخ'". ويكونُ التقديم للجمهور في المرحلة التالية للمُجاوَرَة الفنيّة. ففي حفل سيرة هلالية في مكتبة الإسكندرية سنة 1996، قدَّمَ الضوِّي الشاب زين محمود للجمهور. يحكي الشاعرُ وقد مرّت سنوات طويلة: "كنتُ مخلوعاً [خائفاً] من المسئولية. أنا أقولُ السيرةَ وأبُويَا الشيخ حاضر؟ لمّا صفق الجمهور سألني أبُويَا الضُوِّي وهو يضحكْ: 'قتلتَ الخفاجي عامر [حاكم العراقِ في زمنِ السيرةِ الهلالية]؟'".


ومع كُلِّ هذه السيرة الحافلة، عاش سيّد الضُوِّي حياةً صعبةً في سنواته الأخيرة. لم يحظَ بمَعَاشٍ مالي أو دعمٍ معنوي قَطّ من وزارة الثقافة المصرية أو أي جهة مستقلة تُعنَى بالفنون الشعبية، مع أنَّه شاعرٌ غجريٌ صاحبُ طريقة أدائيّة وتقاليد فنيّة. ظلّ الضُوّي حتّى آخر أشهرٍ من حياته، يمشي على قدميه مُقاوماً أمراضَ الشيخوخة وَوَهَنَ الذاكرة، يخرجُ من البيت لأداء السيرة الهلالية في سهرات الصعيد والقاهرة غير عَابِئٍ بتحذيراتِ الأطباء. يُصفّقُ الجُمهورُ دائماً بحرارةٍ لِلَحَظَاتِ أداءِ سيّد الضُوِّي لكنَّ لحظات حياة الشاعر الغجري نفسَها لم تحظْ في أي وقتٍ باهتمام جمهور السيرة، الذين لا يهتمون بحياة الشاعر اهتمامهم بنصّه.    

تَسْمَحُ العائلات في صعيد مصر لأبنائها بحفظِ مُرَبّعٍ أو مُرَبّعَيْن شعريين من السيرة الهلالية للترويح عن النفس فوق جسور النيل، إلا أنّها تمنعُ الأبناءَ من امتهان القِوالة. ذلك أن المجتمع المحيط كله يُصَنِّفُ المضروبَ بالسيرة بالغجري، وهو ما يعني جلب العار للعائلة أو القبيلة. هذه العائلات والقبائل هي الجمهور الذي لا يزالُ يسجنُ الشعراء الشعبيين في رواياتٍ غريبة عن أُصولهم، فيُغجَّرُ بتَعميم صارمٍ كل من يؤدي السيرة الهلالية أو يعزف على آلات موسيقية مُصاحبة لغناء السيرة كالرَّبابة أو الدُّف أو الطَّار. 

لم تعبأ عائلات الشعراء الشعبيين بالنظرات العُنصرية. الأمُّ كانت الجمهورَ الأول والمعلم الأول. حَفّظَتْ أمُّ سيد الضُوِّي ابنَها السيرة الهلالية، وشجعته على الأداء أمامها في صحن البيت كأنّ الأمَ تجسيدٌ لجمهورٍ مُتحمّسٍ في حفلةٍ كبيرةٍ. ولأنّ سيّداً كان طفلاً اعتقد في النبوءة الربَّانيَّة، فقد التزمَ بتقاليدِ سابقيه من الشعراء الشعبيين. فحافَظَ على تقاليد الملبس والهيئة: الجلباب الصعيدي والعِمامة البيضاء والخاتم في اليد اليسرى. الجلباب مثلاً جواز مروره لجمهورٍ يرتدي الملبس نفسه، أمَّا الخاتم الفضي الأزرق أو الأخضر فهو فأل خير في قِوالة السيرة، حسب كلام حفيده رمضان أبو الوفا. 

لا يمكن فهم التحقير الرمزي الذي طالَ شعراء السيرة الهلالية من غير فهم النظرة الأعمّ التي كانت سائدة في مصر عن كل المُشتغلين في الفنّ. ظلّت هذه النظرة حتى خمسينيات القرن العشرين، ولا تزالُ بعضُ رواسبها تلمعُ في صعيد مصر. 

يروي الصحافي والأديب المصري رجاء النقّاش في مقالٍ له في جريدة الأهرام سنة 2003: "وقَفَ موسيقار أمام إحدى المحاكم الشرعية في عام 1950، ليدلي بشهادته في إحدى القضايا، وكان ذلك قبل إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد القضاء بعد ثورة 1952. وحينها رفض القاضي الشرعي أن يأخذ بشهادة الموسيقار قائلاً إن هناك نصاً قديماً من نصوص الفقه الشرعي يقول الزمار والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا يصح الاستماع إلى شهادته". ويُشاع أن الموسيقارُ المقصودُ كان الملحن المصري محمد عبد الوهاب، يقول رجاء النقَّاش: "أُصيب الموسيقار بالدهشة الشديدة من موقف القاضي الذي قال: 'إنني أعمل بالنص الشرعي الذي لا أستطيع مخالفته' فعاد الموسيقار يقول للقاضي: 'إذن لا تأخذُ بشهادة عبدالوهاب وأم كلثوم؟'. ردّ القاضي: 'نعم. المحكمة لا تقبل هذه الشهادة، وأنا معجب بأم كلثوم وأحب أن أسمع غناءها في قصائد [أحمد] شوقي ولكن هذا كله لا يغير النصّ الفقهي'". 

انشغلت الدراسات الشعبية بنَصِّ السيرة الهلالية، بمعزل عن السياقات الثقافية والاجتماعية التي حاوطَتْ الشعراء الشعبيين الحَلَب الذين حافظوا على استمرار تناقُل النص الشعبي. كانت المعلومات نادرةً نُدرةً مُريبةَ عن الشعراء الحَلَب، إذ وجدتُ القليلَ عن شعراء السيَر الجوّالة المجهولين في كتابات المُستشرقين الأوروبيين الذين قَدِموا إلى مصر قبل مئتي سنة. وتعتقدُ أُلْفَتْ الروبي في كتابها "الموقف من القصّ الشعبي في تراثنا النقدي" أنّ النقاد العرب القدماء غيّبوا القصص وهمّشوه، إذ تقول: "وأُحيطتْ عملية القصّ الشَفاهي من قُصّاص وقصص ومُتلقين بالاستهجان، كما وُسِمَت بالتدني. وانسحبتْ هذه النظرة على القَصَص المَكتوب، حيث أُتهمَ بالثبات والجمود كشكل، وَوُسِمَ بالتدني الأخلاقي من جهة الموضوع. كما استهجنَ مُتلقوه أيضاً الذين انحصروا في الصبية والنساء [بوصفهم الأدنى عقلاً] استصغاراً وتقليلاً من قيمته. وأصبحت النظرة الكلية للقصّ –باختصار- نظرة متعالية عليه. . . وجاءت نظرة القدماء مُتساوقة مع وجهة النظر الرسمية السائدة التي تزكِّي الانفصام بين ثقافتين، الثقافة الرسمية [ثقافة الخَوَاص]، والثقافة الشعبية [ثقافة العَوَام]، وبالتالي اندرج القصص الشفاهي تحت ما يمكن أن يُسمى بأدب العَوَام".

يزعم فاروق خورشيد في كتابه "أدب السيرة الشعبية" المنشور سنة 1994 أنَّ سبب عدم اكتراث الدارسين الشعبيين بحياة شعراء السيرة الهلالية هو أنَّ "الرُواة الذين صاغوا هذا الأدب الشعبي، وإن كان المشكوك أنهم مُبدعوه، وإنما هم مجرد مرحلة إبداعية في هذا الأدب الشعبي، ساهموا في نقله من مرحلة البدائية في الرواية والصياغة في الأداء، إلى مرحلة الصّنْعة والتعمُّد في الرواية والصياغة والأداء معاً". أي أنهم مثَّلوا بأسمائهم التي برزت في دنيا العطاء الشعبي الانتقالَ من الموروث الشعبي إلى الأدب الشعبي بتقاليده، وموروثاته الثقافية المنتظمة الهادفة، وبهذا يصبحون خارجينَ من عالم التلقائية إلى عالم الشكل الفني. وقد شكّ الدارسون كثيراً في جدوى بروزِ أسمائهم، وأنكر كثير من الدارسين وجودَهم، و"شكّكَ الكثيرون منهم أيضاً في واقعة وجودهم، وفي أنهم أشخاص حقيقيون، وذهبوا إلى أنهم مجرد أسماءٍ نَسبتْهم إليها الأعمال الشعبية المتوارثة، ولم يكن بهم إلا أدوارٌ محدودةٌ في عملية الخلق الإبداعي، أي أنهم بمعنى آخر مجرد رواة مرحلةٍ من مراحل التناقُل الشعبي لهذا الأدب الشعبي، ملحمياً كان أو غيرَ ملحمي. ومن هنا جاءت هذه الأسماء مغلفة بالشكّ والتساؤل".

وقد يكونُ سببُ تهميشِ شعراء الحَلَب مرتبطاً أيضاً بحداثة تدريس علم الأدب الشعبي في الجامعات المصرية. مع أنّ مصر منذ منتصف الخمسينيات وحتى نكسة يونيو 1967 فتحت الباب أمام تدريس الأدب الشعبي على أنه أحد توجهات ثورة يوليو 1952 التي نَقَلَتْ مصرَ من مَلَكِيّة إلى جمهورية، فزادت شعبيّته بين الجماهير المصرية والعربية. وقد أسستْ الدولة سنة 1955 أولَ قسمٍ للأدب الشعبي في جامعة القاهرة، لكن غالبية الدراسات الشعبية التي خرجت من هذا القسم كانت محاولات فردية وخجولة العدد، واختصّت بجمعِ السير الشعبية وتأصيلها بعيداً عن الرُواة. 

غابت الدراسات الشعبية الميدانية في السبعينيات والثمانينيات في الدوائر الأكاديمية بسبب نمو تيارات مُحافِظة قامت بأعمال مسلحة عمّت مصرَ كلها حتى منتصف التسعينيات الماضية. زَعَمَ أتباعُ التيارات المُحافِظة أنّ الأدبَ الشَفَاهي الموروث والمحفوظ بلغة العامة خطرٌ على الدين ولغة القرآن، وأنّ دراسي هذا النوع من الأدب يُمثّلونَ الخطرَ نفسه الذي مَثّلَهُ مستشرقون أجانب سبقوا الحملات العسكرية الأوروبية على مصر. سبَّبَ هذا المناخ عوائقَ ميدانية كبيرةً أمام الدارسين الشعبيين في مجتمعات البحث، إذ كان يُنظرُ إليهم بريبة خصوصاً في الريف المصري المُحافظ بطبعه. 

سعت الدولة المصرية إلى حفظِ التراث الشفاهِي فأسست معهد الفنون الشعبية سنة 1981. وهو أول معهد يُدَرّسُ الموروث الشعبي، وهو علم يختصّ بتوثيق التراث الشفاهي للشعوب. ومع ذلك فإنّ تلك الفترة الزمنية ليست طويلة بمقاييس البحث العلمي، إذ لم تظهر دراسة واحدة عن سيَرِ الشعراء الشعبيين. فغالبية الدارسين الشعبيين لا يستكملون دراساتهم العلمية لنيل الماجستير أو الدكتوراه إلا إذا كانوا من الطاقم التدريسي في الدائرة الأكاديمية، وإلا فإن الدراس يكتفي بالحصول على الدبلوم. أو أنه يلجأُ إلى اختيار عناوين تعتمدُ في إنجازها على مراجع مكتبية، لا تحتاجُ إلى عناء سفرٍ أو ميزانية في بلد يعاني غالبية باحثيه من هزّات معيشية. 

تَكَشّفَ لي رويداً رويداً أن الأسئلة المُرهقة عن المبدعين الغجر تطرح أسئلة أكثر، فأجدُني بعيداً عن الأجوبة وقريباً من سؤال ختامي: هل أثّرت غجرية الشاعر الشعبي سيّد الضُوّي في اختفاء سيرته الذاتية عن الكتب؟ أشمُّ روائحَ عُنصرية ضد الشعراء الشعبيين الغجر في الحقل الأكاديمي الذي هو مرآة لنظرة مجتمعية أعمّ، فقد مات الشاعر سيّد الضُوِّي فقيراً وحيداً في مستشفى قنا العام في سبتمبر سنة 2016 عن اثنين وثمانين عاماً. رحلَ بعيداً عن الضوء شأنهُ شأن باقي شعراء السيرة الغجر الذين حَفظوا التراث الشعبي بينما نُسيت سيرتهم.  

اشترك في نشرتنا البريدية