عن إسقاط تمثال صدام وتماثيل الأسد: الخبرة العراقية في تحوّلات الجولاني

تجربة العراق كان لها دورٌ أساسيٌّ في تحوّل الجهاديّ "أبو محمد الجولاني" إلى قائدٍ سياسيٍّ بِاسمِه الأصليّ "أحمد الشرع".

Share
عن إسقاط تمثال صدام وتماثيل الأسد: الخبرة العراقية في تحوّلات الجولاني
التأثير العراقي جليٌّ في تحوّلات أحمد الشرع "الجولاني".. تصميم خاص لمجلة الفراتس

يفسح حرّاس "أبو محمد الجولاني" الطريق له، إذ يتسابق الناس إلى مصافحته بينما يدخل مبتسماً ابتسامةَ النصر إلى المسجد الأمويّ، درّة العاصمة دمشق، قادماً من مدينة إدلب المنسيّة في أقصى شمال سوريا يومَ سقوط الرئيس السوريّ المخلوع بشار الأسد. وذلك بعد أكثر من ثلاث عشرة سنةً من اندلاع ثورة 2011 ضدّ نظام الأسد والتي جابهها بوحشيةٍ تسبّبت بملايين النازحين واللاجئين، وتدخلاتٍ إقليميةٍ ومجموعاتٍ متشدّدةٍ. سقط نظام الأسد رسمياً بعد معارك "ردع العدوان" التي شاركت فيها هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام بالتحالف مع فصائل أخرى تحت مظلة "الإدارة العسكرية العامة" التي يقودها "القائد" أبو محمد الجولاني، والتي سيطرت على المدن السورية الواحدة تلو الأخرى في أحد عشر يوماً حتى وصلت دمشق.

تحوّلٌ عاصفٌ جديدٌ في الشرق الأوسط بسقوط نظام الأسد في سوريا بعد أكثر من نصف قرنٍ من الحكم بالدم والحديد والنار. والمشهد في المسجد الأموي التاريخي حين دخله أبو محمد الجولاني، أو أحمد الشرع، اسمه الأصلي الذي صرّح عنه قُبيل سقوط الأسد، ليُتمّ طقس العبور من الجهاديّ المطلوب على لوائح إرهابٍ عالميةٍ إلى "القائد".

الجولاني الذي صنّفَته دولٌ عدّةٌ إرهابيّاً ورُصِدَت لرأسه جائزةٌ بعشرة ملايين دولار، يكاد يكون من القيادات الجهادية القليلة التي نجت من سنوات مكافحة الإرهاب العجاف، والحملة الدولية ضد تنظيم الدولة. عاصر الجولاني زعيمَ تنظيم القاعدة في العراق، الجهاديّ الأردنيّ أبا مصعب الزرقاوي. وشهد حقبة مطاردة العالَم زعيمَ القاعدة أسامة بن لادن وقد تأثر بأسلوب لباسه في سنوات صعوده الجهادي. وهو الذي وافق أبو بكر البغدادي، زعيمُ تنظيم ما يعرف "الدولة الإسلامية"، على خروجه إلى سوريا ليمثلَ التنظيم. وهو الذي بايع خليفةَ بن لادن، الدكتور أيمن الظواهري، ثمَّ تخلّى عن تنظيم القاعدة داخلاً في أعنف صراعٍ بين الجهاديين أنفسهم ضدّ تنظيم الدولة، ومطارِداً رفاقَه الجهاديين إن جنحوا إلى اليمين قليلاً. أغضب الجولانيُّ شيوخَ الجهاد مثل أبي محمد المقدسيّ وأبي قتادة الفلسطينيّ واستطاع من بين كثيرٍ من مجموعات المعارضة السورية المسلّحة أن يؤسّس حكماً محليّاً في مناطق سيطرته، سواءً تجاوَزَ تلك المجموعات، أو وجَّهَها إن لزم الأمر. 

فهمُ شخصيّة الجولاني يُسهِم في فهم بعض النقاط التمهيدية، بطرح أسئلةٍ فرعيةٍ، للتوصّل إلى إجابةٍ عن السؤال الأكبر المطروح اليوم بإلحاحٍ في سوريا، وهو كيف تُبنَى الدولة السورية الجديدة ومَن هُم الحكّام الجُدد. وتجربة أبي محمد الجولاني في العراق، وأيضاً خبرته الجهادية، ساهمتا مع عوامل أخرى في تحوّله إلى "القائد" أحمد الشرع السياسيّ. خاصّةً فيما يتعلق بتبعاتِ سقوط العاصمة العراقية بغداد سنة 2003، أو النهج المتشدّد الذي اتّبعه تنظيم الدولة بعد سيطرته على الموصل سنة 2014. وبين مشهد سقوط بغداد وتدمير تماثيل صدام حسين ومشهد سقوط الأسد وتدمير تماثيله وأبيه، يتبدّى كيف بنى المشهدان جسراً بين الماضي والحاضر بانت معالمُه في تحوّلات أحمد الشرع من الجولاني إلى "القائد".


نكأ خروجُ السوريين للاحتفالات، وإسقاطُهم تماثيلَ الأسدَيْن وإطلاقُ النار ابتهاجاً ذكرياتِ احتفال العراقيين في ساحة الفردوس ببغداد في أبريل سنة 2003، مع احتلال القوات الأمريكية، بإسقاط تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين. حضرت قوّات احتلالٍ أجنبيةٌ في مشهد بغداد، وغابت عن مشهد دمشق. لكن سؤال بناء الدولة العراقية، ومشاهد النهب التي سمّيَت "الحواسم"، وانتشار الفوضى التي لم يضبطها الاحتلال الأمريكي منذ البداية، صارت وبالاً فيما بعدُ على المنطقة.  

مَثَلَ درسُ المشهد العراقي في فعلِ الشرع بدمشق. إذ شدّد على تطبيق القوانين ضدّ النهب الذي بدا على شاشات التلفاز مع تجوّل الكاميرات في قصور الأسد، وإطلاق النار العشوائي. وأبقى على حكومة النظامِ الحالية حكومةً تسيّر الأعمال مع حكومة الإنقاذ والأمن العام حتى الأول من مارس، وأكّد أنَّ المؤسسات الخدمية ستستمرّ، متفادياً ولو إلى حينٍ، قصة "اجتثاث البعث" الذي كلّف العراقَ غالياً. 

دخل أحمدُ العراقَ بعد سقوط بغداد شابّاً يافعاً في مطلع العشرين من العمر. إذ وُلد سنة 1982 في العاصمة السعودية الرياض حيث كان يعمل والدُه المتخصّص في الاقتصاد النفطي، والمؤمن بالفكر العروبي القومي الناصري، كما يكشف الباحثان حسام جزماتي وحمزة المصطفى، بمقالٍ عنه في موقع "ميدل إيست لاين". ولعلّ خروجَ أصغر أبنائه من الذكور عن إيمان والده تجسيدٌ لبحث الابن عن سبيله الخاصّة، التي وجدها ربّما في الجهادية، فتبنّاها لتُلبِسَه الثوبَ الثوري أو التمرّدي. يقول جزماتي والمصطفى: "وبالرغم من أن أصول والده تعود لبيئةٍ فلاحيةٍ، إلّا أن الجولاني وُلد لأسرةٍ مدينيةٍ تنتمي للطبقة الوسطى، حيث أمضى سنوات طفولته الأولى ويفاعته وصولاً إلى سنّ المراهقة في أحد أحياء دمشق الراقية، وهناك لم يسبق له أن تعرض للسجن أو التعذيب من قِبَل النظام السوري... [وعاشت الأسرة في حالةٍ اقتصاديةٍ جيّدة]... غير أن المشكلة الوحيدة التي اعترضت طفولتَه الوادعةَ كانت صفة 'نازح' التي التصقت بأسرته حيثما حلّت أو ارتحلَت، فبقيت تذكّره بأصوله التي تعود للجولان".

تُحيلُ بعضُ التفسيرات السطحية أسبابَ انضمام الشباب للمجموعات الجهادية عموماً إلى الفقر. صحيحٌ أنّ للفقر دوراً أساسياً في بعض الحالات، لكن كثيراً من الجهاديين جاؤوا من خلفياتٍ ثريةٍ، ولعلّ أشهرَهم زعيما تنظيم القاعدة بن لادن والظواهري، وداعية الجهاد باللغة الإنجليزية اليمني الأميركي أنور العولقي، وكذلك النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب الذي حاول تفجير طائرةٍ أمريكيةٍ سنة 2009، وغيرهم. وأمّا الشعور بالاغتراب والتهميش فدوره أساسيٌّ، لا سيّما أن كثيراً من الجهاديين انحدروا من مدينياتٍ مشوّهةٍ، فرفضُ مدينيّي دمشق "النازحَ"، أدّى دوراً أساسياً في بحث أحمد الشرع، عن هويةٍ، ولكن يبدو أن الظرف التاريخيّ آنذاك أسهَمَ في تحوّله إلى جهاديّ.

خلّف مشهدُ سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي شباباً غاضبين في سوريا وكثيرٍ من الدول العربية. فاندفعت أفواج المتطوعين إلى هناك، وصار منفذُ البوكمال الحدوديّ مع القائم العراقيّ مدخلاً رئيساً للجهاديين الملتحقين بأبي مصعب الزرقاوي، الذي أصبح زعيم تنظيم القاعدة في العراق، وأكبر المطلوبين للاحتلال الأمريكي، وللحكام الجدد في العراق، ومهندس الحرب الطائفية في البلاد. حينها تجلّى أكثرُ وجوه المجموعات الجهادية دمويّةً، التي كان تعبيرها الأبرز تنظيم القاعدة المترنّح تحت وطأة "الحرب العالمية على الإرهاب"، كما وصفت أمريكا ردّه على هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنةَ 2001. كانت هذه الأجواء التي مهّدت إلى تحوّل اسم الشرع إلى الجولاني، ولو بعد حين.

في العراق، انضمّ الشرع إلى الجهاديين. وبحكم صغر سنّه وقلّة خبرته، لم يُمضِ وقتاً طويلاً حتى اعتُقِل سنواتٍ في معتقَل بوكا الأمريكي في البصرة، الذي سمّي لاحقاً "أكاديمية الجهاد"، لأنه ضمّ معظم القيادات التي شكّلت تنظيم الدولة لاحقاً. وقد أشار الروائي العراقي شاكر نوري، في كتابه "مجانين بوكا"، إلى أنَّ المهاجع المفصولة بقماش الخيم، كان أقواها مهجعُ الجهاديين تنظيماً واستقلاليةً، إن قورنوا بالسياسيين الآخَرين أو المجرمين الجنائيين في المهاجع الأخرى.

ويؤكّد مصدرٌ أمنيٌّ عراقيٌّ لمجلّة الفِراتْس أن أحمد الشرع رافق قادة الجهاديين في معتقل بوكا حتى إغلاقه سنة 2009، أي حينما كانت العشائر السنّية العراقية، ممثّلةً بمجالس "الصحوات"، قد بدأت حربها على الجهاديين الذين كانوا في أسوأ سنواتهم في العراق وفقدوا قياداتهم وتراجعوا إلى الصحراء، ثم عادوا لترتيب أمورهم بعد سنوات.

في أثناء ذلك خرجت مظاهراتٌ سوريّةٌ مطالبةً برحيل بشار الأسد وإسقاط نظامه، في خضمّ موجة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة. حينئذٍ طلب أحمد الشرع، حسب بعض الروايات، من أبي بكر البغدادي قائد تنظيم الدولة في العراق والمرتبط آنذاك، ولو على مضضٍ بتنظيم القاعدة، أن يرسلَه إلى بلده الأصليّ سوريا. كان هذا الابتعاثُ ميلادَ الجهاديّ "أبو محمد الجولاني"، بهذا النسب الجديد. فهو ابن عائلة الشرع، إحدى عائلات لواء حوران المعروفة، فلِمَ لا ينتسب إلى الجولان مستدعياً رمزيّتها العالية في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي للهضبة. 

مهما يكُن من أمرٍ، فمن المؤكّد أن وعيَ الجولاني الجهاديَّ تشكّل مع مشهد سقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، شأنَ كثيرين في المنطقة. لكنه الآن هو الذي يُسقِط تماثيلَ الأسدَيْن الأب والابن في دمشق ومدنٍ أُخرى، مستبدلاً بزيِّه الجهاديِّ البدلةَ الحديثة.


انخراطُ الجولانيّ له أثرٌ بالغٌ في النقاشات الجهادية والإسلامية. وهو عاملٌ أغفل كثيرون قيمتَه في تحوّلات الجولانيّ. وهي نقاشاتٌ مسكونةٌ بثنائياتٍ طفت على السطح بأشكال مختلفة: العالمية والمحلية، والفرق بين الشرعية والموارد، والتمكين في مواجهة طليعةٍ مقاتلةٍ، والسيطرة على الأرض وتشكيل الدولة في مقابل "تهيئة الأمة ابتداءً". ومِن هنا برز العامل العراقيّ مرّةً أُخرى، إذ كان ساحةً للصراع بين تلك الثنائيات، ومن ثمّ استورِدَت إلى سوريا.

استدعت مشاهدُ زحف المعارضة إلى المدن السورية داخلةً دمشق تجربةً عراقيةً أخرى. فبعد حادثة الفردوس بإحدى عشرة سنةً تقريباً، سقطت الموصل سنة 2014 على يد تنظيم الدولة. دخل جهاديّو التنظيم إلى المدينة ليسيطروا عليها من غير مقاومةٍ تُذكَر وهرب الجيشُ العراقي. كان الترحيب بحالة تنظيم الدولة جليّاً في البداية، كالترحيب بقوّات المعارضة السورية، مع ما بين المجموعتين من فَرْق. فهذه فئةٌ معارِضةٌ لنظامٍ استبداديٍّ، وإن حمل بعضُها نهجاً إسلامياً، وتلك فئةٌ غازيةٌ، لكنها كانت تستجيب لأزمة مجتمع السنّة في العراق، وهو من تجلّيات العطب في بناء الدولة العراقية. وبالتالي فإن سؤال بناء الدولة الجديدة طُرِح بقوّةٍ في الحالة السورية، مع استدعاء تلك المشاهد.

اطَّلَعَ الجولاني على نقاشات الجهاديين وصراعاتهم، وكان جزءاً منها  فتشكّلت منهما معالمُ تحوّله، وسياسته التي اتّبعها في تقدّم المعارضة لإسقاط نظام الأسد. لا سيّما أنه تحدّى شيخَه البغدادي، واختار القاعدةَ بديلاً عنه. بل دخل في مواجهاتٍ مباشرةٍ مع التنظيم. ومع أن البغدادي قُتِل في مناطق نفوذ الجولاني، ممّا يعني أنه قد لجأ إليها بعد هزيمته في الموصل، إلّا أنه ليس مؤكّداً إن كان الجولاني يعلم بوجوده أصلاً. في سنة 2016 خلع بيعتَه للقاعدة، ولم يدّخر جهداً في مواجهة أيّ نزعاتٍ يمينيةٍ في مناطق نفوذه، حتى لو كان من مجموعاتٍ مقرّبةٍ منه مثل مجموعة "حرّاس الدِّين"، التي كانت تحاول، أو تتمنّى، إعادةَ ربط "هيئة تحرير الشام" بتنظيم القاعدة.

نسج الجولاني علاقاتِ مساومةٍ مع الغرب مستخدماً مثل تلك المجموعات، كما فعل مع مقاتلين شيشانيين كانوا يقاتلون في سوريا، وقد اعتَقَل بعضَهم، لكنَّه ضَمِنَ خروجَهم من سجونه لتيسير ذهابهم إلى أوكرانيا، وهُم هناك حاليّاً يقاتلون روسيا الراعية الرسمية لنظام الأسد، قبل أن تتخلّى عنه رئيساً وتستضيفَه لاجئاً. وتمثّلت أيضاً في رسائل تطمين رعايا روسيا وغيرها، ورسالةٍ لاستعداده لصفقاتٍ سياسيةٍ، وهو ما ترغب فيه موسكو، فلَم تَحْمِ الأسدَ لشخصِه بل لتضمنَ مدخلَها إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط. 

قبل دخول دمشق أبدى الجولاني تحوّلاً كبيراً في إدارة إدلب، أبرز معاقل المعارضة السورية. إذ تشكّلت هناك حكومةً سمّاها "حكومة الإنقاذ" سنةَ 2017، وتديرُ مؤسساتُها الحياةَ اليوميةَ، لكن بقبضة هيئتِه الأمنيّة على المنطقة. لم تَسلَم الحكومة من نقدٍ، بدءاً من قيامها على المحاصصة وليس انتهاءً بممارساتها في الحكم. إذ أشارت تقارير دوليةٌ عدّةٌ إلى تورّط "هيئة تحرير الشام" في انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، وقمع المعارضين. وقُبَيل نصره بإسقاط النظام، كان كثيرون ينتقدون الجولاني لقمعِه احتجاجاتٍ سلميةً خرجت في إدلب ضدّ حكم الهيئة. 

لكنَّ حقبة حكم إدلب، وبعد قطع العلاقة مع القاعدة، كانت البداية لانتقال الجولاني من منطق العالمية في الجهاد إلى المحلية ومن منطق الجماعة المسلحة إلى منطق إدارة الدولة، تحولاً فكرياً لم يتّضح بعدُ مدى نجاحه، كما يخشى كثيرون حالياً. يُحاجُّ بعضُ الباحثين السوريين بأن التأثير العراقي في الجهاديين السوريين كان جليّاً. فردّاً على دمويّة تنظيم الدولة وسلوكه، بدأوا البحث عن نماذج أخرى. ومع أن هذا لا ينطبق على كثيرٍ من الحالات، كالجهاديين السوريين، إلّا أنّ الفكرة تكرّرت لاحقاً في نموذج "الجولاني الشرع" الجديد، مع تقدّم قوّات المعارضة في المدن السورية مستفيدةً من ظرفٍ إقليميٍّ مُواتٍ. فطَرَحَ شعاراً يلقى قبولاً سورياً ودولياً "فتحاً لا ثأراً"، وسارع إلى تطمين الأقلّيات، لا سيّما المسيحيين، وهُم ممّن كان تنظيم الدولة قد بثّ الرعبَ في قلوبهم.

أدرك الجولانيُّ قوّةَ فكرة الدولة، أي السيطرة على مساحاتٍ جغرافيةٍ، ووجود التعريف الحديث للدولة الوطنية مستمدّاً ذلك من نجاحات تنظيم الدولة، لكنّه أدرك أيضاً ومن تجربة تنظيم الدولة ذاته أهمّيةَ توافقِ تلك الدولة التي يسعى إليها مع النظام الدولي. وقد انعكس هذا على ما سبق من سياساتٍ، وفي خَلق نوعٍ من العلاقة الندّية مع تركيا الجار الأهمّ، لإدراكه أهمّيةَ منطقة نفوذِه لتركيا، وإدراك تركيا أهمّيةَ هيئته لسياساتها، وإنْ صنّفَتها إرهابيّة.  


ظهور الشرع في المسجد الأموي يذكّر بظهور أبي بكر البغدادي في المسجد النوري في الموصل، ليلقي خطبة الجمعة "خليفةً للمسلمين" سنة 2014. لكن على النقيض من البغدادي الذي كان يؤكّد شرعيّةَ خلافته بلباسه الأسود واعتلاء المنبر وقبول البيعة، فإن أحمد الشرع لم يعتلِ المنبرَ، بل خاطَبَ الناسَ زائراً بلباسِه العسكريّ مشِيداً بالنصر ومستذكراً اليتامى ممّن ضَحَّوا للثورة السوريّة، قائلاً إنَّ سوريا في عهد الأسد أصبحَت "مزرعةً له، وهو الذي جلب الإيرانيين، ونشر الطائفية في البلاد وجعلها مصنعاً للكبتاغون". وحين ردّ المصلّون بتكبيراتٍ، أخذ مكبّرَ الصوت ودعاهم إلى الصلاة في هدوءٍ، فهو لم يدخل المسجدَ منذ أكثر من عشرين عاماً. فشرعيّته في هذا الموقف ليست شرعية دينية، بل شرعيةً حَداثيّةً ترتبط بإسقاط الأسد. 

يبدو أنَّ أحمد الشرع، بشكله الجديد، تصرّف بمنطق الدروس المستفادة من العراق المجاور. إذ تشكّل وعيُه الجهادي والسياسي من تلك التجربة التي عايشَها شابّاً يافعاً، وهذه رسمت معالمَ سلوكِه السياسي المرتبط بالدولة. وقد منحَه هذا السلوكُ، وما أعقبَه من نجاحٍ بإسقاط نظامٍ كان عصيّاً على الانهيار، شرعيةً وشعبيةً كبيرةً ونَصّبَه قائداً أساسياً لهذه الثورة. قد يكون أحمد من الجهاديين النادرين الذين تحوّلوا إلى منطقٍ وطنيٍّ غير منفصلٍ عن قناعاتهم الدينية، ومستجيبٍ لواقعهم المحلّي. فتجارب الخارجين عن التيارات الجهادية تروي حكايةً مغايرةً لما آلَ إليه الشرع. فأولئك إمّا تركوا النهج الجهادي، بل أحياناً حتى الإيمانَ المرتبطَ به، وإمّا باتوا أكثر تشدّداً في تبنّي الأفكار الجهادية. فقد قال أحدُ المنظّرين الجهاديّين لكاتب السطور، شرط عدم ذكر اسمه، خوفاً من تداعياتٍ أمنيةٍ إن أعطى لقاءاتٍ صحفيةً: "أبناء التيارات الجهادية في كلّ تغييرٍ يتّجهون يميناً أكثر".

وأما الشرع فيقدّم نموذجاً جديداً، لكن فردانيّته أيضاً تثير مخاوف كثيرٍ من السوريين، كما يثير ماضيه الجهاديُّ مخاوف في الغرب. لكن الأُولى أَولى بالالتفات، بالنظر إلى التحوّلات التي مرّ بها. هذا الظهور الفرديّ وتسيُّد المشهد يُدعَم أيضاً من القنوات المحلّية السورية التي باتت تَصِفُه "القائد العام"، بلا إضافةٍ إلى "إدارة عمليات المعارضة". مثلُ هذا الإعلام اعتاد التمجيدَ للقائد الفرد، ممّا يعزّز النزعة الفردية وصناعة الصورة. وبالتالي تثار أسئلةٌ من قَبيل كيف ستتعامل معه أطياف المعارضة الأخرى، وإن كانت أضعفَ منه. وكيف سيتعامل مع مطالب الأكراد في الشمال في هذه الحقبة الجديدة، أو المجموعات المسلّحة القويّة في درعا في الجنوب. وغيرها من التحديات المحلية والإقليمية والدولية تستدعي خطاباً توحيدياً لكلّ هذه التشظّيات. وكلّ ذلك يتطلّب صيغاً جماعيةً، ربّما لن تضعه على رأس المشهد. فهل يَقبَل ذلك، خاصّةً أنه واقعياً، وبتحوّلاته، حقَّق ما عجز عنه الآخَرون، وقد يعدّه حقّاً حصرياً له.

اشترك في نشرتنا البريدية