كلماتٌ قليلةٌ دَندنَتْ على وتر الصحفية داخلي، فبحثتُ فوراً عن محمود عبد العزيز، وعلمتُ أنه مطربٌ سودانيٌّ توفّي في السابع عشر من يناير سنة 2013 عن خمسةٍ وأربعين عاماً. وبحسب تقريرٍ لصحيفة ذا غارديان البريطانية، نُشر في فبراير 2019 مع مرور ستّ سنواتٍ على وفاته، فإن لمحمود عبد العزيز فضلٌ في إلهام الشباب السوداني للانتفاض على نظام عمر البشير، دون أن يوضِّحَ التقريرُ أسبابَ إلهامه ذاك. وأوردت تقاريرُ أخرى نَشَرَها موقع الجزيرة نت أنباءَ اضطهادِ محبّيه في مجموعة "أقمار الضواحي"، وهي صفحةٌ خاصةٌ بهم على فيسبوك، إبّان الثورة السودانية سنة 2019، وما طالهم من اعتقالٍ وقتلٍ وسط صفوف الثوّار.
مرَّ عامٌ بعد ذلك لم أسمع فيه سوى أغنية "شايل جراح"، التي سمعتُها أوّل مرّةٍ في منزل صديقتي. وفي كلّ مرّةٍ أسمعها أتخيّلُ –مع صوت محمود– حنيناً أَلَمَّ بقلبِ سودانيٍّ نازحٍ من مدينة أمّ درمان أو ود مدني، بينما انكبَّ على وجهه في صالة مطار القاهرة أو نصبَ خيمةً أسفل شجرةٍ في الجيزة أو شعرَ بتسبّبه في أزمة سكنٍ لأحدهم في ظلّ ارتفاع الإيجارات نتيجة الطلب المتزايد عليها.
عددُ اللاجئين السودانيين المسجّلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر تضاعَف خمس مرّاتٍ منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 وحتى أبريل 2024. سجّلت المفوّضية ثلاثمئة ألف سودانيٍّ بينما ينتظر مئتان وخمسون ألفاً دورهم، وسط توقّعاتٍ بتزايد طلبات التسجيل في الأشهر المقبلة مع غياب الأمل في تضييق دائرة الاشتباك الأهلي بين القوات المسلّحة السودانية ومليشيا قوات الدعم السريع.
في البحث عن اسم محمود عبد العزيز، المُلقَّب "الحوت"، برزت رواياتٌ عن اغتياله جسدياً واغتياله معنوياً وهو ميت. واختلفت الروايات فيما إن كان قُتل عمداً أم توفّي إهمالاً وكمداً، ولم تتّضح أسباب اضطهاده وهوية مضطهديه، وسبب الانشقاق بين صفوف محبّيه (المُلقبّين "الحواتة") بعد وفاته. يختلف محبّو محمود عن النمط التقليدي لجمهور أيّ مطربٍ تقليديٍّ، فهم يُحْيون ذكراه سنوياً في أكبر ملاعب السودان، ويؤمنون بقدرته –إن ظلَّ حيّاً– على جمع قلوب الدعم السريع والقوات المسلّحة. ومع ذلك، تربكك مُشاهدة حفلاته في المدارس ومراكز الشباب وسط جمهورٍ تغصّ بهم خشبة المسرح، والقانع فيهم فقط يُسند رأسه إلى حافّة المسرح حيث تقف قوّات الشرطة ناسيةً مهمّتها ومتأمّلةً محموداً.
إن كانت أمامي حقائق أكيدةٌ فهي أن محمود عبد العزيز صاحبُ صوتٍ فريد دفعني لحبّ صاحبه، وأنه توفّي دون أن تُتاح لي فرصة مقابلته وسؤاله عن دوافع قراراته التي تبدو متناقضة. ولأني كفرتُ بالأَسْطَرة، إن مُثِّلَتْ شرّاً محضاً أو خيراً نقيّاً، قرّرتُ أن أتقفّى أثرَ محمود الحقيقيّ والمتخيَّل. بحثتُ عن أرشيف أخبار "الحوت" في حياته وأرشيف محبّيه عنه بعد وفاته، وسعيتُ للحديث مع كلّ من عرفه يوماً باختلاف تصوّراتهم عنه واختلاف توجّهاتهم السياسية للوقوف على معالم الشخصية الحقيقية لمحمود عبد العزيز وأهدافها، قبل البحث في أسباب وَلَهِ جموعٍ غفيرةٍ من السودانيين به.
وبينما أبحث علمتُ بوصول عائلة محمود إلى القاهرة بالتزامن مع الحرب في السودان فكانت فرصةً مثاليةً للحديث إليهم، لا سيّما أنها رافقته في أيامه الأخيرة. كان التحقيق في ظروف وفاة "الحوت" هدفاً آخَر لبحثي. لم يصل من سبقني إلى نتيجةٍ مؤكّدةٍ، وأملتُ الوصول إلى أبعد مما حقّقوا وإن خالجني شكٌّ في معرفة ما جرى داخل غرفة محمود في مستشفى رويال كير، بعد خروج المستشفى عن الخدمة في أبريل 2023، إثر هجومٍ بالأسلحة الثقيلة.
حينئذٍ استمعتُ إلى تسجيلاتٍ قصيرةٍ من حفلات محمود عبد العزيز يهتف في إحداها مع الحضور: "نموت هنا، نموت سوا، سودان هنا"، ويردّد فرحاً في تسجيلٍ آخَر أغنيتَه "جوبا"، التي أصبحت عاصمةَ جنوب السودان لاحقاً: "نلعبوا سوا ونوسوا سوا"، التي غنّاها لحثّ جنوب السودان على رفض الانفصال عن شماله. وقرأتُ عن تجوّل محمود في الشوارع بسيارته "البكسي"، وهي سيارة نقلٍ صغيرةٍ، أَحبّها جمهورُه لبساطتها وعابَها منتقدوه للسبب ذاته. قرأتُ أيضاً كيف أُقيمَ على الراحل حدُّ الجَلد علناً في مدينة الفاشر سنة 2009 وانتشرت صوره مصلوباً في عهد البشير قبل أن ينتشر تسجيلٌ مصوّرٌ له بعد عامٍ وهو يغنّي لعمر البشير في حملته الانتخابية ويراقصه. والموقفان المتناقضان يتجنّب الحواتة ذكرهما.
وَقَعْتُ على سلسلة مقالاتٍ بعنوان "مساء من الحب والتمرّد لمحمود عبد العزيز" كَتَبَها ياسر عرمان، أحد أَعنَف المعارضين السياسيّين لحُكم البشير، والشماليُّ المنضمُّ إلى "الحركة الشعبية لتحرير السودان" التي أسَّسها جون قرنق، نائب البشير الأول قبل انفصال السودان ورئيس حكومة جنوب السودان حتى مصرعه سنة 2005. شَبَّهَ عرمانُ محموداً بفرقة "البيتلز"، وبوب مارلي، وأخيراً رودريجز بطل فيلم "سيرشينج فور شوغر مان" (وثائقيٌّ عن مطربٍ أمريكيٍّ تسبَّب بثورةٍ في جنوب إفريقيا بسبب أغنياته). نَعَى عرمانُ محموداً بعد ثلاثة أشهرٍ من وفاته، ورَوَى قصةَ انضمامه إلى الحركة الشعبية في بداية الألفيّة، وسعيَه إلى لقاء خصوم حُكام الخرطوم من دون أن يحدّد هوياتهم. ورَوَى عرمان إنفاقَ محمودٍ مالَه الخاصّ لاستقبال زعيم الجنوبيين جون قرنق في الخرطوم في يوليو 2005، بعد غيابه عنها عشرين عاماً، ثمّ وقوفَه مع المطرب محمد وردي خلف عرمان في حملته الانتخابية الرئاسية ضدّ البشير سنة 2010 قُبيل الاستفتاء على انفصال جنوب السودان.
يقول والي إن عفوية محمود مثّلت الشخصيةَ السودانيةَ الأصيلةَ التي شعر كثيرون أنهم فقدوا عناصرها. وقد بُنِيَت شعبيّته على أساس أغنياتٍ قديمةٍ لمطربين كبارٍ، أعاد إحياءَها ومَنَحَها روحاً جديدةً جمعت بين الأصالة السودانية والقالب الحداثي. وأشار والي إلى أن صِدقَ محمودٍ الفطريّ ومأساتَه الإنسانيةَ الشخصية وبسمتَه النادرة التي آنَسَت السودانيين في وحشة حزنهم الدفين، كلها عناصر مثّلت دوراً في شعبيّته. وأضاف: "لذلك أقولها، نعم، أسهَمَ محمود عبد العزيز في بناء وعي الشباب السوداني وغير السوداني، وعرّفهم إلى الهوية السودانية الأصيلة الكامنة بداخلهم، وعبّر بلسان كلّ سودانيٍّ أحَبَّه عن عمقِ وجدانه ومشاعره التي فشل هو نفسه (أي السوداني) في التعبير عنها، وبات كلُّ مستمع مؤمناً بأن محمود يغنّي ويعبّر عنه وحده".
وعمّا إذا كان الفنّ السوداني قد نجح قبل محمود في تشكيلِ وعيٍ حقيقيٍ، قال والي أحمد الكردي إن السودان بلدٌ إفريقيٌ تخطّت الفنونُ فيه دوافعَ التسلية، وقد اعتَمدَت كلُّ الحركات الثورية التحرّرية فيه على القصيدة المغنّاة لمخاطبة الجماهير وإلهاب حماستها وحثّها على التغيير وإنهاء الظلم مقابل إرساء العدالة الاجتماعية. وفقاً لوالي، فإن القصيدة المغنّاة تحديداً حقّقت أهدافها حينما قاوم السودانيون الاحتلالَ البريطانيَّ واستمرّ دورُها إلى يومنا هذا، وإن تحلّت رمزياً بثوب الأغنية العاطفية، محقّقةً نجاحاً "يضاهي أثره ما حققته مؤلفات فولتير وروسو في الثورة الفرنسية" حسب تعبيره. يرى والي أيضاً أن الجمهور متيقّنٌ من حقيقةِ أنّ "لا ناقةَ ولا جملَ لمحمود في السياسة"، ومِن حقيقةِ غِناه عن الحظوة السياسية، لكن الساسة استخدموه أداةَ جذبٍ جماهيريٍّ، في حين يعدّهم محمود مواطنين سودانيّين وليسوا أشخاصاً ذوي سلطةٍ بما فيهم البشير وغيره.
لجأتُ بعد ذلك إلى الروائي السوداني حمُّور زيادة لمساعدتي على التمييز بين الحقيقة والأسطورة، ولتفسير حالة الهوس "بالحوت" بوقائع موضوعية. قال حمّور إن محموداً هو بوب مارلي سودانيٌّ، ويصعب وسط هذه المحبّة فصلُ الحقيقة عن الأسطورة، "من أَحبَّ محمود، أَحبَّ فيه الصفات التي تجعل منه إنساناً، إلى أن صار مُلهِماً لأجيالٍ لم تعاصر سنواتِ كسرِه طوقَ الفنّ الأصولي الذي فرضه الإسلاميون، ورغم ذلك اعتبروه أسطورةً للتمرّد". رَوى حمّور حكاية فنانين سودانيين ظلمتهم السلطة المتحفظة، وعلى رأسهم محمود، الذي بحسب حمّور ظهرَ في التسعينيات رفقةَ مغنّين شبابٍ جدّدوا الفنّ السوداني بعد سنواتٍ من مضايقة الإسلاميين. فأعادوا إنتاج أغنياتٍ سودانيةٍ قديمةٍ، من دون أن يُنتِجوا أغنياتٍ خاصّةً في أغلب الأحيان، "إلّا أن نشاطهم شكّل ضربةً لمشروع الحركة الإسلامية القائم على طمس كلّ ما كان قبل الثورة الإسلامية وانقلاب 1989" الذي قاده عمر البشير وتولّى في أعقابه السلطة ثلاثين عاماً حتى أطيح به 2019.
وسألتُه عن حادثتَي اغتيال المطرب خوجلي عثمان والصحفي محمد طه محمد وجَلد فنانين وسجنهم بدعوى شرب الخمر، وفيما إذا استغلّت السلطة هفوات الفنانين لعقابهم أم أنّ حدّ الجَلد يُطبّق على جميع المخالفين، فأجاب حمّور بأن الاحتمالين قائمان. فالاستهداف والكراهية لمحمود كانا موجودَين، وتطبيق القانون الذي يجلد شاربَ الخمر موجودٌ أيضاً. يقول الروائي السوداني إن "الحوت" رفض الغناء في مهرجانٍ لدعم الجهود الحربية، بعنوان "سباق النغم"، في حين شارك زملاؤه من دون مقابلٍ ماديٍّ ما جلب على محمود سخطاً حكومياً. أضيف إلى ذلك سلوكياتٌ غير قانونيةٍ سَلَكها محمود فوُضِعَ على "القائمة السوداء"، وتشكّلت بينه وبين السلطة عداوةٌ طويلةٌ تخلّلها حبسُه مرّاتٍ ومحاربته مرّاتٍ أُخرى، حتى تبدّل حال محمود "لأسبابٍ لا يعلمها غيره" ووافق على الغناء في مهرجانٍ حكوميٍّ بعد سنواتٍ طويلةٍ من الاستهداف. صعد محمود وقتئذٍ إلى خشبة المسرح مخموراً فاعتقلته قوات الشرطة وصدر عليه حكمٌ بالجَلد، وانتشرت صور لحظة تطبيق الحكم عليه.
حصرتُ عدد المرّات التي سمعتُ فيها جَزماً من محبّي محمود بأن حال السودان كان سيختلف لو كان محمود حاضراً بيننا اليوم، وسقتُ تلك الافتراضات إلى حمّور زيادة ليؤكّد انتشار تلك الفرضية بين شباب الثورة السودانية. فوفقاً للروائي السوداني، يؤمن الشباب بقدرة الفنّ وكرة القدم على إقناع المتحاربين بترك السلاح، ومنهم من يؤمن بقدرة الفنّانَيْن محمود عبد العزيز ومحمد وردي على جمع وجدان السودانيين. لكن مع ذلك، لا يمكن التحقّق من تلك الفرضيات بخلاف حقيقة أن محمود كان نجماً في وقتٍ استعَرَتْ فيه حرب جنوب السودان، ثم حرب دارفور.
أشار حمّور إلى أن سبب اقتران الفن بالسياسة عائد إلى أن غالبية جيل الثورة ترعرع تحت مظلة الحركة الإسلامية "القائمة على الحرام والقمع ونفي الآخَر"، وحينما ظهر فنانون حقيقيون صار الفنّ بوابة السودانيين إلى عالَمٍ محظورٍ ورافداً مهماً لثقافة الاختلاف والحقّ في الحلم بين جيل الثورة. ويختم حمّور زيادة حديثَه بالتأكيد أن محمود مثَّل الجانب الأكثر شعبيةً وشعبويةً في الحركة الفنية إلى جانب فرقة "عقد الجلاد" الغنائية وروايات بركة ساكن وشعراءٍ أمثال محمد الحسن سالم ومحمد طه القدال وأزهري محمد وعاطف خيري.
في سبتمبر 2009 كتب حيدر إبراهيم عالِمُ الاجتماع السودانيّ ومؤسّس مركز الدراسات السودانية في القاهرة مقالاً بعنوان "محمود عبد العزيز ونظرية الهدر الإنساني"، عدّ فيه محموداً إنساناً اجتمعت فيه وقائع الدولة الشمولية المتحكّمة في كلّ أوجُه الحياة. يرى حيدر أن محموداً "ريحانة شباب السودان" عند جمهورٍ متعصّب خشيَ النظامُ ثورتَه فأقدَم على جَلد "الحوت" علناً، رغبةً في هدر قيمته وقهره وكسر صورته واستباحة حرمة حياته الخاصّة، ليتحوّل بعد ذلك إلى "طينة بؤسٍ استغلّها النظام الجهاديّ للتقرب من الكتل البشرية التي غمرت محمود بحبّها"، فغدا الشابُّ يتلقّى صيحات المعجبين وقبلاتهم في حفلاته الفنّية، ثمّ يعود مُهاناً من احتفالية الجَلد العلنيّ قبل أن نراه يغنّي في المؤتمر الوطني دعماً لترشح البشير للرئاسة، ومن ثمّ واقفاً إلى جانب ياسر عرمان لمساندة الحركة الشعبية، "ليسهل وصفه بالجنون وعدم الاتزان".
في صبيحة اليوم التالي، بُثّت الموسيقى العسكرية من استديوهات محطة الإرسال التلفزيوني ونوّهَ مذيع الأخبار بإذاعة بيانٍ مهم بعد قليل. تعطّلت الإذاعة وتأخر البيان لأن التسجيل الأول أُفسد، لكن عمر البشير أعاد تسجيل الخطاب الأول للانقلاب على حكومة الصادق المهدي، معلناً أهداف "ثورة الإنقاذ الوطني ضدّ الفساد والفوضى واليأس، من أجل وطنٍ موحّدٍ حرٍّ كريم".
لم تكن هويّة الانقلاب الجديد ولا توجهات قادته واضحةً في بادئ الأمر. فقد اعتقلت الحكومة الجديدة عدداً ممّن ساعدوا البشير على انقلابه، على رأسهم حسن الترابي، زعيم الحركة الإسلامية ومؤسّس "الجبهة الإسلامية القومية". كشفت الحكومة عن هويّتها الإسلامية بعد ذلك بتصريحات قادتها عن انتمائهم لتيّار الإسلام السياسي السوداني، ثمّ إطلاق سراح الترابي وتقلّده مناصبَ رسميةً وأمانةَ الحزب الحاكم.
اختلف الترابي مع البشير لاحقاً، فعُزلَ من مناصبه الرسمية. وفي حواره مع الصحفي أحمد إمبابي، في كتابه "جنوب السودان.. شاهد على ميلاد الدولة"، أجاب الترابي عن تساؤل إمبابي إن كانت محاولة تطبيق الشريعة الإسلامية أبرز أخطاء النظام السوداني قائلاً بأن "حكومة الخرطوم لم تطبّق الشريعة... العسكريون المسيطرون على الحكم يرون البلد تابعاً لهم مثل الجيش، فالجميع يجب أن يتبع المشير عمر البشير".
يقول السرّ السيّد، الناقد ومدير الإنتاجٍ السابق بالتلفزيون السوداني، إن "حكومة الإنقاذ" اتخذت موقفاً من مطربين معيّنين لأسبابٍ سياسيةٍ، مثل محمد وردي ومصطفى السيد أحمد لتوجّههما اليساريّ الذي استشعرته السلطة. وفي حديثٍ مع الفِراتْس، قال السرّ إن الحكومة اتخذت موقفاً آخَر من مطربين افتقروا –وفق الرؤية العامة للسلطة– إلى المعايير الأخلاقية في الأداء، وهي المظلة التي اندرج محمود عبد العزيز وزميله نادر خضر تحتها، إلى جانب فرقة "البلابل" التي حُظرت لعدم ارتداء مغنّياتها الحجاب، وعثمان حسين الذي صنّفوا أغنياته بأنها "شِرْكيّة" حين غنّى "لا وحبّك"، وغيرها من الأغنيات التي جاءت على ذكر الجسد والقُبلة والكأس.
لكنّ أعنف قرارات الحكومة تمثّلت في حظر تسجيل الأغنية العاطفية بين سنتي 1989 و 1996. فهاجرَ محمد وردي، الذي تُشبَّه مكانته في السودان بمكانة أمّ كلثوم في مصر، وغاب عن الساحة الفنّية ثلاثة عشر عاماً، حسب تصريحٍ له في موقع "الجزيرة نت"، بينما بقيَ محمود عبد العزيز يغنّي في النوادي والأعراس وحفلات المدارس، وسجَّل هواةٌ حفلاتِه ليسهل تداولها. يُشير السرّ السيّد إلى أنه لم يعلم ما إذا كان المسؤولون الحكوميون وقتئذٍ "مستنيرين" أم "محنّكين"، لكنهم اضطرّوا إلى تغيير الوضع بعد النجاح الجماهيري الذي لاقاه محمود ونادر خضر في حفلات الأعراس، وتشكيل الطرب سلطةً خاصةً بعيداً عن السلطة الإعلامية. فتخلّت الحكومة عن موقفها "بعد إدراكها ضرورة تحرير الفنّ إذا ما أرادت الاستمرار في حكم السودان".
تودّدت الحكومة إلى المطربين الشباب، بل "توسلت وخضعت" وأعادت توطينَهم في الإذاعة والتلفزيون، يذكر السر يوم سماعه حواراً مع الطيب محمد خير الذي تنقّل بين مناصب وزاريةٍ عدّةٍ، حين طلب الاستماع إلى أغنيةٍ لمحمد وردي. يخبرنا السرُّ أنه شعر حينها بقرب أوان عودة الفنانين المنفيّين عن وطنهم وعن الشاشة، باستثناء "البلابل" اللواتي لم يظهرن إلا بعد انتفاضة 2019.
قرأتُ مقالةً بعنوان "المشروع الحضاري والإسلاميون في جنوب السودان: بين الاستيعاب والإقصاء"، كتبتها ويلو بريدج أستاذة التاريخ في جامعة نيوكاسل والمتخصصة بالإسلام السياسيّ في الوطن العربي. وصفت بيريدج "المشروع الحضاري" بمشروع دولةٍ تتفوق فيها الهوية الإسلامية على الخصوصيات الإقليمية والعرقية، إذ حاول النظام الحاكم منذ سنة 1989 أسلمةَ جنوب السودان متعدّد الهوية وتعريبَه بدلاً من المساواة الاجتماعية الكاملة بين الشمال والجنوب. ثبّتت السلطةُ قواعدَ مشروعها الحضاري بعنفٍ طال الجنوبيين الذين نزحوا إلى الخرطوم وتقبّلوا التعريبَ والأسلمةَ، ثمّ أدركوا تشابهاً بين سياسة حكومة الشمال وأدوات الاستعمار الثقافي ممثّلةً في التمييز العرقي الذي طال أحدَ بناة الحركة الإسلامية داود بولاد المنحدر من إقليم دارفور، بعد انشقاقِه عن الحركة الإسلامية لشعوره بعنصرية الحركة وتغليبها رابطةِ العِرقِ على أواصرِ الدِّين. فانضمّ إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان ثمّ قُتل سنة 1992.
توقّف صدور الصحف السودانية الورقية مع بداية سنة 2024 وعقب تدهور الوضع الإنساني في الخرطوم التي انطلقت منها سابقاً غالبيةُ الصحف. وانقطعت حساباتٌ صحفيةٌ إلكترونيةٌ عن تحديث أخبارها، بعد قتل عددٍ من الصحفيين ونزوحهم وانقطاع خدمة الإنترنت. في الحين نفسه عرضت صحيفة "الوطن" و"شبكة ديارنا" موقعيهما للبيع، وغابت صحيفة "الأهرام" السودانية عن محركات البحث. فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وموقع "راكوبة" وسيلتَي السودانيين الوحيدتين لمعرفة آخِر الأخبار، ووسيلتِي للبحث عن أرشيف صحفٍ سودانيةٍ اختفت.
لم يتأخر سراج النعيم عن مساعدتي. تحقّقتُ منه أولاً عن صحّة المعلومات الواردة في حواراتٍ منسوبةٍ له مع "الحوت"، قبل اطّلاعي على محتويات مدوّنته "شبكة أوتار الأصيل الإخبارية" التي جمعت معظم كتاباته الصحفية.
طلبتُ منه أولاً تفسيراً للتناقض الواضح في مواقف محمود عبد العزيز السياسية، وكيف دعم ياسر عرمان والبشير في الانتخابات ذاتها. يؤكّد سراج أن محموداً انضمّ إلى الحركة الشعبية بعدما استقطبه عرمان لكسب ودّ جمهوره العريض. وفي مكالمةٍ هاتفيةٍ بين محمود وجون قرنق، استمع سراج إليها، أوضح "الحوت" أن انضمامه للحركة ناتجٌ عن اهتمام برنامجها بالثقافة والفنون، وعن تأكيد قرنق أنها (أي الحركة المسلحة) ستتحوّل إلى حزب. وحين لم تفِ بوعودها لَم يتردّد محمود في الانفصال عنها مشيراً في حديثٍ مع سراج النعيم إلى أن الحركة حادت عن طريقها القاصد وحدةَ السودانيين، وأنه (أي محمود) حلم طويلاً بتوحيد شطرَي السودان. لم يكتفِ "الحوت" بالحلم، بل حثّ الشعراء الذين تعاون معهم على تأليف أغنياتٍ تُشجّع أهل الجنوب على التمسّك بوحدة السودان، فكانت أغنية "جوبا" و"يا جونقلي". ورفض تكرار تجربة الانتماء السياسي ما قاد الأخوة الجنوبيين لاختيار الانفصال عن الشمال.
أما مشاركته في حملة البشير الانتخابية سنة 2010 وغنائه له، يقول سراج إن محموداً شارك في حفلاتٍ وطنيةٍ عدّةٍ وربطته صداقةٌ بقادة الدولة، من دون أن يمنعه ذلك من التمّرد على القوانين المكبِّلة للإبداع ما أدّى إلى سَجنه وجَلده مشيراً إلى أنّ كلّ ذلك ليس سوى محاولاتٍ فعليةٍ منه دافعُها الوحيد البحثُ عن سياسيٍّ صادق.
تولّى سراج النعيم مهمّة نقل أخبار الحالة الصحية لمحمود عبد العزيز في أيامه الأخيرة، وحقّق في أسباب وفاته. وحين سألتُه عن نتيجة التحقيق الذي أجراه، أكّد سراج أنه تابَع تطوّرات محمود الصحّية مع جمال العارضة الطبيب الذي أشرف على حالة "الحوت" داخل مستشفى ابن الهيثم في الأردن. أفصح العارضة عن وفاة محمود دماغياً منذ وصوله المشفى، وأنّ تأخُّر إعلان الوفاة رسمياً لم يكن سببُه إلا إجراءاتٍ شكليةً وجب إتمامها. وهذا ما أشار إليه أيضاً أطباء ابن الهيثم، الذين أكّدوا لسراج أن محموداً كان في حالةِ موتٍ سريريٍّ حين أُسعف إلى المستشفى.
يرى السراج أن الروايات المشكّكة في كونِ وفاةِ محمود طبيعيةً ما زالت قائمةً، لكن الحقيقة لا يعلمها سوى الأطباء في مستشفَيَي "ابن الهيثم" الأردنيّ و"رويال كير" السودانيّ. ورجّح سراج وقوع خطأٍ طبّيٍّ في "رويال كير" استدعى نقله إلى الأردن من أجل إعلان الوفاة، تجنباً لتدمير جمهوره مستشفى "رويال كير". وقد اتضح ذلك من التكتم الشديد على حالة "الحوت" الصحية، ومرافقة مساعد مدير الأمن السوداني لمحمود إلى الأردن في الطائرة، وقد ذكر سراج أن عائلة محمود لم تتقدّم ببلاغٍ للتحقيق في وفاته حتى اليوم.
يقول إبراهيم إن مشروع محمود الفنّي محاولةٌ ناجحةٌ لربط الأجيال الجديدة بالقديمة من باب المسؤولية، لتشكيل مزاجٍ سودانيٍّ واحدٍ يضمّ هويّات السودان جميعها. وقال بأن محموداً وقف بفنّه حائطَ صدٍّ بوَجْهِ الأغنيات المصرية والأجنبية الوافدة إلى السودان في سنوات الخواء الفنّي، فتزامن اعتلاء محمود المسرح مطرباً مع اعتلاء قادة "ثورة الإنقاذ" السلطة. فمع ميول القادة الجهادية وحربهم في الجنوب، وتأسيسهم "المشروع الحضاري" الذي حظر الأغنية العاطفية، وقف محمود "هذا الأسمر النحيل" وتمرّد على مشروعهم الحضاريّ مغرّداً للحبّ والجمال والمرأة والطفل والوطن. ولأجل ذلك قضى محمود لياليَ في السجون واستُبيحت حياته الخاصة، وتفاخر قضاةٌ وشرطيون بإذلاله، لكنه مع ذلك أَبَى الهجرةَ في وقتٍ هاجر فيه معظم الفنانين الذين تعرّضوا لضغوطاتٍ بسيطةٍ. وأضاف إبراهيم: "كان يكون جاعد (قاعد) في بيته جَعدة (قعدة) زيّ دي، فيسوقوه لمجرّد التشفّي به في سبيل أن يكره الغناء ويكره البلد. كانت حياته كلّها بلاغات".
وعزا إبراهيمُ كثرة حوادث الشغب في حفلات "الحوت" إلى كثافة جمهوره وحبّهم له، واستغلال متعهّدي الحفلات اسمَه وتجنّبهم إلغاء حفلاتٍ اعتذر عنها، فيحضر الجمهور ولا يجده "وتهتز البلد كلّها لغياب محمود عن الحفل".
صافح إبراهيمُ محموداً أوّل مرّةٍ في مسرح حديقة بلدية كوستي العامّة سنة 1997 قبل أن يَصدر بعد الحفل قرار منع إقامة حفلاتٍ في الحديقة. فانطلقت مظاهراتٌ وأعمالُ شغبٍ بعد أن حاول أحدُ عناصر قوات حفظ النظام السيطرةَ على الجمهور بطريقةٍ رَأَوا أنها تمنعهم من الاستمتاع بغناء مطربهم المفضّل، فخرجوا إلى الشوارع يحطّمون كلّ ما يقف أمامهم.
يقول إبراهيم إن جمهور محمود حطّم مسارحَ رفضاً لوجود مطربٍ آخَر في حفل محمود، وحطّم لافتات الحفل فيما لو جاورَت صورةَ محمود صورةُ مطربٍ آخَر، ووضعوا المطرب الآخَر على قائمتهم السوداء. وهذا يوضّح لماذا لا يجرؤ أيُّ مطربٍ على الغناء والظهور في حفلات الذكرى السنوية لوفاة محمود، التي تعزف فيها الفرقة الموسيقية ويتولّى الجمهور مهمّة الغناء.
سألتُ إبراهيم عن شعور محمود يوم انفصال جنوب السودان عن السودان سنة 2011، فأشار إلى زيارةِ أعضاء لجنة الاحتفال بدولة جنوب السودان محموداً ودعوتِه لإحياء حفل رفع علم البلاد. فطلب محمود مبلغاً تعجيزياً تخطّى سقفَ ميزانية اللجنة، وراهن على عدم موافقة الجهات العليا على المبلغ، لكنهم وافقوا. "لكن القصة وين؟ محمود ما شارك بالاحتفال وما سافر لتفاصيل وحاجات يعرفها هو. آخِر حفلين لمحمود خارج السودان كانا في لبنان وإثيوبيا. وفي إثيوبيا، حضر سفير دولة جنوب السودان في أديس أبابا الحفل، كاسراً البروتوكول، وقال إن محمود عبد العزيز الزول (الشخص) الوحيد اللي كان بإمكانه وقف انفصال السودان". عقّبت الحاجّة فايزة على كلام إبراهيم: "قال لي جون قرنق: أنا متمرّد في الخارج، ومحمود متمرّد في الداخل. محمود وطن داخل وطن".
"رحل الغمام" و"سكت الرباب"، عنوانا أغنيتَيْن لمحمود عبد العزيز تردّدا في وصف يومِ 17 يناير 2013، أيْ يومِ رحيله. وصل محمود عبد العزيز مستشفى "رويال كير" في الخرطوم لمعاناته آلاماً في المعدة فارتأى الأطباءُ ضرورةَ حجزه وإخضاعه لعمليةٍ جراحيةٍ بعد أشهرٍ من عمليةٍ جراحيةٍ سابقةٍ في المستشفى ذاته نتيجةَ إصابته بقرحةٍ في المعدة. ساءت حالةُ محمود الصحّيةُ سريعاً وفقد وعيَه وكثيراً من دمِه وعانى صعوبةً في التنفس، فقرّرت أسرته نقلَه في طائرةٍ خاصةٍ إلى مستشفى ابن الهيثم في الأردن، ثم أعلن المستشفى وفاتَه بعد أيامٍ قليلةٍ متأثراً بنزيفٍ في الرأس أدّى إلى تلف الدماغ.
خرج آلاف المشيّعين في وداع عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، لكن وداع محمود عبد العزيز وحده اقترن بمظاهراتٍ واشتباكاتٍ بين المشيّعين والأجهزة الأمنية خلّفت مئات الجرحى. قمعت الشرطةُ الحزانى بالغاز المسيّل للدموع والهراوات في شارع مطار الخرطوم، في حين اقتحم المشيِّعون طائرتَين لظنهّم أن جثمان محمود مخبّأٌ فيها، وتوقّفَت الرحلات الجوّية. قال إبراهيم هُمام: "استرجعوا أذى الشرطة له. جيش الحواتة ما عنده سلاح، لكن محمود مات خلاص". وأكّدت الحاجّة فايزة: "لفّت الطائرة بنا ساعة في سماء السودان قبل أن تهبط".
استقلّ نائب مدير جهاز المخابرات العامّة طائرةً من الخرطوم إلى عَمَّان لنقل جثمان محمود وأسرته، حسبما أكّد سراج النعيم. في حين اجتمع إبراهيم همام ووالدة التوأم طفلَيْ محمود مع لجنةٍ رئاسيةٍ من أربعين مسؤولاً بينهم وزراء وشرطة مرورٍ وجهاز أمنٍ بقيادة عمر البشير لامتصاص غضب الجماهير، وخشيةَ استغلال فئةٍ مسلّحةٍ حالةَ الانفلات الأمنيّ بعد إعلان الخبر ما قد يؤدّي إلى سقوط النظام. يقول إبراهيم إن اللجنة رأت أن "ما ينفع محمود ده يجي المطار". فقد أرادت اللجنة تأجيل دفن محمود حتى صباح الجمعة (وقد توفّي يومَ الأحد) لأن مبرّراتها أن أحداث نهبٍ وسرقةٍ ستتمّ ليلاً، "لكننا رفضنا، فاقترحتْ خط سير الجثمان من المطار طوالي [مباشرةً] إلى مقابر الصبابى. رفضنا عدم مرور جثمانه في منطقة المزاد بحري التي قضى فيها عمره، فقالت اللجنة: إذا الجثمان دخل المزاد ما هيطلع تاني".
تسرّبت تفاصيل هذا الاجتماع إلى العلن فخرج الجمهور ينتظر محمود عبد العزيز في المطار، وهبطت الطائرة في غير المدرج المتّفق عليه قبل أن تتوقف الرحلات، ثم خرج الجثمان من صالة الحجّ والعمرة. لاحقاً عينت الشرطةُ دوريةً لحراسة قبر محمود مدّة شهر، وقد أرتني الحاجّة فايزة صورةً لشجرة قطنٍ تظلّل قبر ابنها، وقالت إنها لا تعلم من أين دخلت بذرتُها داخل تابوته.
عرفتُ أثناء الحديث أنَّ محبّي محمود اختلفوا في طريقة إحياء ذكراه. سألتُ إبراهيم عن ذلك فأوضح أنَّ مجموعةً ارتأت أن تكون الذكرى السنوية في الشارع، فيما تمسّكت مجموعة "محمود في القلب" بإقامة ذكراه في ملعب الخرطوم. يقول إبراهيم: "لا نريد استغلال اسم محمود. الشيء الثابت أن يوم 17 يناير هو يوم خاص بالحواتة. ما وُجد كيانٌ سودانيٌ اتفَقَ حوله الناس إلا محمود، أشكال وسحنات ولغات. حرّاس نحنا لمحمود عبد العزيز حياً وميتاً".
قبل لقائي بأسرة الحوت قرأتُ خبراً يُشير إلى أن البشير عرض التكفّل بنفقات علاج محمود عبد العزيز. سألتُ مأمون (شقيق الراحل) عن صحّة الخبر، فنفاه. لكنّ إبراهيم عارضه مؤكّداً أن البشير عرض ذلك لمحمود نفسه بعد عمليته الأولى، لكن محموداً رفض. يقول مأمون عن حالة أخيه الصحية قبيل الوفاة إنّه عانى من قرحةٍ في المعدة، وخضع لجراحةٍ في مستشفى "رويال كير" بالخرطوم سنة 2012، لكن محموداً لم يتّبع إرشادات الطبيب فمرض ثانيةً بعد ستّة أشهر. يشير مأمون إلى أن محموداً زار طبيباً في لبنان بعد ذلك، فقال له إن "العملية دي ما مظبوطة". ثم يُضيف: "لكنه دخل المستشفى برجلينه، ما تعبان، كان عنده آلام بس. عملوله عملية تانية في رويال كير، ونقلوه غرفته، لكنه دخل في غيبوبة بسرعة".
علّق إبراهيم هُمام: "بالنسبة لي، من هنا يبدأ الاستفهام. كيف يعني؟ أنا شخصياً بانتمي لمحمود، لكن ده سؤال. أكيد في وجفة هنا"! فردّ مأمون: "دي حاجة حلّلتها أنا. بنية محمود الجسدية ضعيفة، مع أن بطنه انفتحت بلبنان، وسار بكرعينه" (الكراعين هي السيقان).
"بنيته الجسدية دي حاجة نقيّمها أنا وأنت، لكن الطب يعرف محاليل وجلوكوز"، يجيبه إبراهيم مشيراً إلى أن نتائج فحوصات محمود كانت سليمة، "المشكلة الوحيدة قالولنا عنها في الأردن: جلطة صغيرة. كيف راح من زول [شخص] متحرّك لزول راجد [راقد] في السرير؟"
سألتُ إبراهيم عن تفسيره، فأجاب: "حرص مستشفى رويال كير الشديد على محمود. لم يخيطوا جرحه، كي لا يتكرر ما وقع، ثم أخضعوه للتنويم المغناطيسي". عقّبتُ بعدم وجود دليلٍ علميٍّ على فعالية التنويم المغناطيسي في العلاج الطبّي، في حين أضاف مأمون: "تواصلتُ مع دكتور حافظ، وهو جرّاح، قال إن الخيط المُستخدم في العملية ما كان المفترض يتخيَّط بيه". فعلّق إبراهيم: "محمود من المشيَة الأولى للمشيَة الثانية [أي بعد العملية الأولى وقبل العملية الثانية] حوالي ستة شهور ودخل في غيبوبة ورجعلنا في تابوت. لا أفترض سوء النيّة، لكن وقع خطأ طبّي من دون شكّ".
انسحب مأمون وإبراهيم من المقابلة، فالتفتُّ إلى الحاجّة فايزة وعبّرتُ عن احترامي لقرار العائلة التحفظَ على تقارير حالة محمود الصحّية. وسألتُها عن سبب اقتحامها حفلَ توقيع كتاب "سارق الضوء" للصحفي السوداني محمد فرح وهبي، فضحكَت وقالت إنها صادرت الكتاب لأن الكاتب لم يوثّق فنَّ محمود وعملَه الخيريّ، بل كتب عن حياته الخاصة. رَوَتْ لي الحاجّة فايزة شراءَ محمود بيتاً لإحدى بائعات الشاي بعدما طردها صاحب البيت الذي كانت تستأجره، وقد كفلَ محمود أيتاماً ومجهولي نَسَبٍ ومرضى وأسراً كاملة". لم يُطلِع محمود أحداً على صَدَقاته السرّية، عدا مأمون، ولم يُذِع سرَّه إلّا يوم وفاته حين توافدت بائعات الشاي واليتامى والعجزة على سرادق العزاء. أَرهق فضلُ محمود والدتَه، فقد أبت الحاجّة فايزة أن ينقطع عملُ ابنِها الخيريّ، ولكنها فوجئت بتعدُّد أبواب الخير التي طرقها ابنُها، فيما شبّهته بوزارةٍ نشطةٍ للتكافل الاجتماعي.
بارَكَ محمود عبد العزيز تأسيسَ محبّيه مجموعاتٍ خيريةً وثقافيةً عدّةً، أشهرُها "محمود في القلب" و"أقمار الضواحي". تكرّر اسمُ "أقمار الضواحي" إبّان الثورة السودانية سنة 2019 وأعقابها، لقرار المجموعةِ المشارَكةَ في الاحتجاج الشعبيّ على أزمة الخبز يوم ذكرى محمود في الخرطوم بحري، مسقطِ رأسِ الراحل. تعدّدت بيانات "أقمار الضواحي" المذيَّلة بوصايا محمود، مثل: "السودان أوّلاً.. أبقوا الصمود.. وطن واسع، وطن شاسع، لا محزون، ولا مهموم، ولا مسجون"، داعين إلى مواصلة التظاهر حتى إسقاط النظام ومتبرّئين من حفلٍ أقامته مجموعة "محمود في القلب" بدعمٍ حكومي.
اعتقلَت السلطاتُ الأمنيّةُ محمد بابكر، رئيسَ مجموعة "أقمار الضواحي" قُبيل خروج الحواتة إلى الشارع في أوّل أيّام سنة 2019، واستُشهِد "حواتي" مرتدياً قميصاً طبع عليه صورة محمود، واستُشهِد آخَرُ قد رَفَع صورته. وافق بابكر على الحديث معي، لكنه عاد لاحقاً وتعلّل بسوء خدمة الإنترنت وظروف الحياة الصعبة في السودان، وانقطع تواصلنا بعدها. مات أشرف حوتة، عضوُ المكتب التنفيذي لمجموعة "أقمار الضواحي" قبل أيامٍ من انتهاء إعداد هذا التقرير، برصاصةٍ استقرّت في رأسه. وطلب مني محمود سليمان، وهو عضوٌ نشطٌ في "أقمار الضواحي"، الانتظارَ حتى يخفّ ألم المجموعة. لم تمرّ أيامٌ إلّا وماتت ابنةُ عمّة بابكر في حادثٍ أليمٍ على طريق العقبة – بورتسودان، قبل وصولها إلى بيتٍ آمِنٍ نسبياً كانت عائلة بابكر احتمت به. ثم انتشرت صورٌ لرجالٍ اتّشحوا بالبياض أمامهم جثامين شهداءِ مجزرةِ "ود النورة"، التي راح ضحيّتَها مئةٌ وعشرون شخصاً على الأقلّ، بينهم خمسةٌ وثلاثون طفلاً.
استمَع الفاتح إلى محمود مصادفةً من شريط "كاسيت" مسجَّلٍ لحفلٍ أُقيم في مركز شباب الخرطوم بحري سنة 1990 فأُعجِبَ به. التقاه لاحقاً في حفل زفافٍ، فاكتشف أن الصوت العريض ينبع من جسدٍ ضئيل. وحين علم بقرب مسكنَيْهما في ودّ مدني، دعاه محمود إلى منزله. كان الفاتح أستاذاً في كلية الموسيقى والدراما في ذلك الوقت عندما أرسلَته الكلّية في بعثةٍ للدراسة في أكاديمية روسيا الموسيقية نهاية سنة 1994، وهناك قرّر تلحين ثاني ألبومات محمود عبد العزيز "سكت الرباب". كتب الإعلامي وأستاذ السينما وجدي كامل بعضَ أشعار الألبوم ولحّنها الفاتح، الذي أكّد للفِراتْس: "كنت بلحَّن بالحسّ بتاع محمود. تقمّصتُ شخصيته". يرى الفاتح أن محموداً أعاد التطريب لآذان السودانيين، فمدى صوته واسعٌ وقادرٌ على التغنّي بأغلظ النغمات وأحدّها في جملةٍ موسيقيةٍ واحدةٍ، وقد طوّع الألحان لصوته، وجميعها مميزاتٌ نادرةٌ.
تأسّست في ذلك الوقت أُولى شركات الإنتاج الموسيقي في السودان "الحصاد"، التي أنتجت أعمالاً لكبار المطربين السودانيين، وأقنع الفاتحُ مديرَها بضرورة التسجيل لمحمود عبد العزيز في موسكو. سافر محمود إلى موسكو نهاية 1994، وانبهر بصوته مهندسو الصوت، على جهلهم باللغة العربية، ووصفوه بالموزون كالآلة الموسيقية.
انتهى التسجيل وصدر "الألبوم" الذي صار الأنجح في السودان من إنتاج شركة "البدوي"، فطلب موزّعٌ روسيٌّ من الفاتح العودةَ بمحمود إلى موسكو، وبصحبته عشرون أغنيةً مكتوبةً ليلحّنها بنفسه ويوزّعها في السوق الأوروبي، مع تكفّل الموزِّع بكلّ تكاليف مشروعٍ شبّهه بمشروع الشاب خالد الذي لمع نجمه في الغرب أوّلاً.
ارتفع نجم محمود عالياً بعد ألبوم "سكت الرباب"، فاحتكرَته شركةُ "البدوي" بعقد عملٍ لسبع سنواتٍ، وأنتجت له أربعة ألبوماتٍ في العام، ملأها محمود بجميع ألوان الغناء السوداني، وانهالت عليه عروض الحفلات حتى بات مكلّفاً بالغناء يومياً، فأعاقته التزاماته عن العودة إلى موسكو.
باغَتَني الفاتح بقوله "محمود ربنا اصطفاه، ولو كان حيّاً بيننا اليوم، لغيَّر أشياء كتيرة في الغناء السوداني"، وأشار إلى أن الراحل أدّى أغنياتٍ كثيرةً لمطربين أحياء وأمواتٍ لم يسمع بهم السودانيون إلّا بعد أن غنّى لهم محمود.
بين منتصف الثمانينيات والتسعينيات ارتبط محمود بفرقة "البعد الخامس" ثم فرقة "النورس". الفرقتان تألّفتا من عازفين سودانيين مجدّدين، استحدثوا أغنياتٍ تراثيةً من أطراف السودان وقُراه، لكن قرار منع بثّ الأغنيات العاطفية في الإذاعة والتلفزيون منتصف التسعينيات قطع صلةَ المستمع السوداني بالملحّن والشاعر. وجب على كلّ من أراد الغناء على الشاشة التقدّمُ بطلبٍ لإجازة صوته في الإذاعة أوّلاً، والتغنّي بالوطن والجهاد وحدَهما، فما كان أمام محمود إلّا الغناء في الأعراس أوّلاً. وحين أَحَبَّه الجمهور، تكرّر ظهوره في حفلات مراكز الشباب والمدارس، ولم يظهر على شاشة التلفزيون إلّا في سنوات حياته الأخيرة.
تكرر اسم محمود عبدالعزيز في لحظات فارقة من الثورة السودانية سنة 2019، ويرى عبده مختار أستاذُ العلوم السياسية في جامعة أم درمان الإسلامية أن سببَ ذلك عائد لخصائص الشخصية السودانية العاطفية التي تحبّ المبالغة والتضخيم. فشعبية محمود سببُها الفشلُ السياسيّ منذ سنة 1989، والخواء الفكريّ والتوهان النفسيّ اللذَيْن لفّا عقولَ الشباب، ودفعا بعضَهم للانضمام إلى جماعات متطرفة إلى أن وجد الشبابُ ضالّتَهم في محمود، مع أنّه لم يشارك في ندوةٍ أو تعبئةٍ وليس له خطابٌ سياسيّ. حاججتُ عبده بأن الفنّ قوّةٌ ناعمةٌ، والوعي لا يتشكّل على المنابر، فقال: "شعار الحواتة أن يرفعوا إيديهم مقص. لا أفهم مغزى الشعار، ولا أفهم سبب جنانهم بمحمود رغم أن إنتاجه الفني الخاص ليس كبيراً، وأغنياته بسيطة. ومع ذلك له شعبية نتجت عن بحث الشباب لمن يعبّر عنهم . . . لم يتكلم محمود كثيراً، وإن كان لفنانٍ دورٌ في الثورة، فمحمد وردي كان معارضاً صريحاً، والشاعر محجوب شريف أيضاً".
خالف الدكتور حسن قاسم الأستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الجزيرة السودانية عبده مختار في سبب ارتباط الشباب السوداني بمحمود عبد العزيز.
فقد وَجَدَ قاسم أن إلهامَ محمود الشبابَ بعد وفاته نابعاً من سيرة محمود نفسه. فقد واجه محمود في نهاية الثمانينيات مدارسَ حَكَمَت الفنّ السودانيّ والنمط الثقافيّ المحافظ عقوداً وعانى طويلاً لإثبات جدارته الفنية، حتى مدّ له صلاح بن البادية، وهو فنّانٌ محافظٌ وقامةٌ فنّيةٌ سودانيةٌ، يدَ العون في أُولى خطواته. لمع نجمُ محمود بالتزامن مع وصول نظامٍ جديدٍ للحكم، نظامٍ منشغلٍ بالحرب وأكثر تحفّظاً، ورافضٍ للّون الفنّي المتفرّد لمحمود، لكنّه تحدّى الواقع إلى أن أثبت وجودَه.
"كيف لا يُلهِم الشبابَ وهو الذي قال "من أجل تحقيق الوصول نركب مراكب المستحيل"؟ محمود ملهِمٌ ومكافِحٌ، ونَجَحَ في تجاوز عقباتٍ نَصَبَها له الآباءُ المؤسّسون للمشهد الثقافيّ المحافِظ إلى أن صار ملكَ الساحة الفنّية في التسعينيات".
أضاف قاسم: "السودان بلد متعدد الثقافات. وواحدة من الأشياء التي حبّبت السودان في محمود كانت غناءه لتلك الشعوب المتنوعة. فصار نجمَ جنوب السودان الأوّلَ بعد ارتدائه زيَّهم في فيديو أغنية 'جوبا'. ونظر جيلي ومَن يَصغُرني إليه باعتباره قائداً لنا بمختلف ألوان وأطياف الشباب. لكنه لم يطرح نفسه يوماً باعتباره سياسياً أو ثورياً، بل أيقونة كفاح".
سألتُ كاجودا عن سبب عدم حديثه عن محمود أمامي من قبل، مع أن معرفتنا تمتدّ لأكثر من عشر سنوات. ردّ قائلاً: "عندي شكّ إنه يروق لذائقتك الفنية". لم أقتنع، واتّهمتُه ممازحةً بالأنانية، فأشار إلى أن "الإيقاع الخماسي بعيد عن ودن المصريين". وهذا ما قاله الملحّن المصريّ حلمي بكر في حديثٍ مع مذيعٍ سودانيٍّ على هامش "مهرجان الموسيقى العربية" سنة 2022. وفقاً لكاجودا، قال بكر: "نحن لا نعتبر السلّم [الموسيقي] الخماسي إيقاعاً عربياً"، ثمّ أضاف صديقي: "كلّنا في النوبة اتَّرْيَقْنا [سخرنا] على التصريح ده".
التصريح صحيحٌ، وهناك مقابلةٌ قديمةٌ مع محمد وردي قال فيها: "المشكلة أنّ سلّمنا خماسي. بيقولوا كلامنا ما مفهوم، الكلام هيتفهم لو الموسيقى مقبولة، لكن في رأيي عدم الفهم ناتج من عدم القبول".
سألتُ كاجودا إن أرَّقه شعوره بعزلة النوبيّ مصريّ الجنسية ولكن سودانيّ الهوى، فقال إنه قد يجمعه بالمصريين حبُّ فنانّين عدّةٍ، لكنه يعيش في مسارٍ موازٍ يشاركه فيه أناسٌ آخَرون. ويقول: "قبل وفاة محمود بيومين، كان فيه حادثة انقلاب قطار البدرشين. مات خمسة عشر مجنّداً مصرياً، والناس زعلانة عليهم، وأنا زعلان عشان المجنّدين، وكمان زعلان عشان محمود. لكن مقدرش أبصّ للّي جنبي أقولّه الله يرحم محمود كان كويس، لإن محدش هنا يعرفه. حتى لما محمود عمل حفلة في بيروت، هتلاقي كل الجمهور من إثيوبيا ونيجيريا وجنوب السودان. دايماً بحسّ باغتراب، بس الإحساس ده بينهار لو حسّيت اللي قدامي عارف ثقافتي وفاهم فني زي ما فاجئتيني بإنك عارفة محمود. عشان كده نفسي في مصر نشوف الجانب التاني للاجئين السودانيين، قوّتهم الناعمة. نفهم جانب حلو من الصورة، عشان نقبل الجانب الصعب. الفنّ بيخلينا نشوف الآخر في قالب إنساني".