غنَّى الشباب في العُرس أغنيةً نوبيةً بدت مبهجةً بإيقاعها السريع وابتسامات الشباب وهم يتطلعون إلى السماء أثناء الرقص ويرددون الأغنية متحمسين. تردد جدتي كلمات الأغنية مع الشباب، ولكن بإيقاع هادئ وحزين بعض الشيء. لاحظت جدتي فضولي، فبادرت بترجمة كلمات الأغنية التي تحكي معاناة التهجير في حوارٍ بين رجلٍ سافر إلى القاهرة بحثاً عن لقمة العيش وزوجته التي بقيت في النوبة تنتظره. أغنية "مهاجر" للفنان النوبي حسن الجزولي، الذي شهد التهجير القسري وهو شابٌ في أواخر العشرينيات من عمره.
هذه مجرد قصة من بين مجموعة كبيرة من القصص التي تحفل بها حياة أمثالي من الجيل الثالث من النوبيين المهجرين من مناطقهم التاريخية جنوب مصر سنة 1963 والذين عاشوا وترعرعوا في مدنها الشمالية وعلاقتهم بالتهجير. فهذا الجيل وجد نفسه يحمل ثقل ثقافتين ولغتين ومُلزم أن يُحقق ذاته في كلتيهما، وتربط الجدات أبناء هذا الجيل بأرضهم الأم النوبة.
وبعد ثورة سنة 1952 اعتقد النوبيون أن معاناة التهجير انتهت بعهدٍ قوميٍّ جديد طردَ المستعمرَ وأتباعه. ولكن الحكومة بدأت سنة 1954 التخطيط لبناء السد العالي لتوفير فائض من المياه والكهرباء. في يناير 1960 خاطبَ الرئيس جمال عبد الناصر الشعب النوبي في أسوان وصفاً قرار بناء السد العالي أنه حلٌ لعدة أزمات للنوبة، أبرزها العزلة التي يشكي منها النوبيّون و"التفرقة" بين الأُسر النوبية وأبنائها ممن يضطرون للهجرة للعمل شمال مصر. وأوضح عبد الناصر أن التهجير فرصة لإدماج النوبيين في النهضة الصناعية، والسد العالي مركزها، مشدداً على أنهم سينتقلون إلى أماكن يعيشون فيها حياة "رخاء وسعادة".
هُجّر النوبيون بين سنتيّ 1963 و 1964 وطُرد خمسون ألفاً من أراضيهم ومنازلهم، وغُمرت أكثر من خمس وأربعين قرية نزحَ سكانها إلى منطقة صحراوية تبعد ستين كيلومتراً شمال أسوان. وصمدت بعض القرى، مثل غرب سهيل التي تجذب الآلاف من السياح المصريين والأجانب كل عام بمنازلها النوبية القديمة الملونة.
روت لي جدتي أن الأهالي جمعوا كل ما يقدرون عليه من منازلهم وما يمكن نقله في العَبَّارة. أخذتْ جدتي بعضاً من حبوب أرضها وأوانٍ فخارية وبعض المواشي، وجلس الأهالي على شطّ النيل في انتظار العَبَّارة ومُنِعُوا العودةَ إلى البيوت. بعضهم انتظر لأيام، ومنهم من انتظر أسبوعاً كاملاً على الشط، أما الحيوانات فقد نُقِلَت فرادى إلى كوم أمبو ووُضعت في بيوتٍ غير صالحة فمات الكثير منها.
وفي صحراء كوم أمبو وعند مدينة نصر النوبة، التي تبعد خمساً وأربعين كيلومتراً تقريباً من مدينة أسوان، رأى النوبيون قرى التهجير المواكِبة للحضارة كما وعدهم عبد الناصر، فوجدوها بيوتاً من الطوب وسط الصحراء بلا خدمات ولا مرافق ووجدوا داخل كل بيت صورةً لعبد الناصر. قال لي أحد أقاربي، وكان في العاشرة من عمره حينها، أن عدداً كبيراً ممن وُلدوا سنة 1964 ماتوا بسبب سوء ظروف الحياة في القرى، وكلما توفي طفلٌ في أحد البيوت أُزيلت صورة عبد الناصر حتى اختفت صوره من جميع البيوت. وهكذا غُمِرَتْ خمسٌ وأربعون قرية تحت "بحيرة ناصر"، إحدى أكبر البحيرات الاصطناعية في العالم التي تكوّنت من تجمُّع المياه خلف السد العالي. وسُمّيت باسم ناصر تيمناً بالرئيس جمال عبد الناصر، بدلاً من تسميتها بحيرة النوبة، وهو اسم المنطقة المعروف منذ آلاف السنين.
تمزقت الأُسر النوبية وزاد تشتتها بعد التهجير في الصحراء والمدن الكبرى، ولم يلتمّ شملهم كما وعدهم عبد الناصر عند بناء السد العالي والانتقال إلى القرى الجديدة، بل زادَ انفراط عقد المجتمع النوبي وعزلته عن باقي مصر.
عاشَ والدي في فترة حكم السادات وأحبَّ تلك الفترة، والنوبيون عموماً رأوا أن السادات نوبيٌّ مثلهم لأن أصوله من مدينة دنقله في السودان. وقد بذلت الدولة في عهد السادات مجهودات بسيطة لتعويض النوبيين مادياً عن الأراضي التي فقدوها، وكان هناك حديث عن إعادة توطين النوبيين في أراضيهم القديمة خلف السد العالي، ولكن ذلك لم يحصل.
مرّت النوبة في عهد الرئيس حسني مبارك بواحدة من أصعب مراحلها، إذ أُعلن عن مشاريع سكنيّة لإعادة توطين النوبيين بُنيت فيها بيوت متواضعة ونُفذت دون تخطيط عمراني مسبق وفي مناطق بعيدة عن أماكن عمل النوبيين المزارعين فرفض بعضهم الانتقال إليها. استمرت مشكلة النوبيين في عهد مبارك الذي استمرّ على السياسة السابقة بمنع النوبيين من العودة إلى أرضهم، ولم تُنفذ وعودهُ ومشاريعه الكبيرة لإعادة توطين النوبيين حول بحيرة ناصر.
تبنى نظام مبارك سياسة أمنية صارمة مع المطالب النوبية مبرراً ذلك بأنها محاولات انفصالية، ورفض الاستجابة لمطالب النوبيين بالعودة إلى أراضيهم الأصلية أو تعويضهم بعدل. واعتبر مبارك أيَّ تحرك لتحقيق هذه المطالب قد يكون خطوة نحو تكوين دولة نوبية مستقلة في الجنوب، في سياسةٍ قمعيةٍ فاقمت مشاعر الظلم والاستياء والغضب وفقدان ثقة النوبيين بالنظام الحاكم.
فُتح الباب للنوبيين للمطالبة بحقوقهم مع اندلاع ثورة يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس مبارك. قال لي بعض أقاربي إن النوبيين اعتصموا أيام ثورة يناير أمام ديوان محافظة أسوان لا للمطالبة بإسقاط النظام بل للمطالبة بالعودة إلى أراضيهم. "كل حد فينا له ثورته.. بتوع القاهرة ضد مبارك، والنوبيين ضد إنكار حقهم من سنة 1902 والتهجير الأول"، هكذا أجابني أحد أقاربي عندما سألته بحماس عن رأيه في ثورة يناير. استمرت المطالبات وعُقدت اجتماعات وزارية لتطوير القرى المهجورة والعمل على عودة النوبيين لكن الأحداث السياسية في القاهرة طغت على عمل هذه اللجان والوزارات حتى سنة 2014. وقد فُتحت بعد سقوط نظام مبارك ملفات فساد مشاريع الإسكان الحكومية وتوزيع الأراضي على مقرّبين من النظام، ولكنها أغلقت جميعاً بعد 2013 فساهم ذلك في تهميش النوبيين أكثر.
أكبرُ إنجاز للنوبيين بعد ثورة يناير كان تضمين مادة في دستور سنة 2014 تعترف بحق عودة النوبيين وتلزم الدولة بتنفيذه في فترة زمنية معينة. تنصّ المادة 236 على: "تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها فى مشروعات التنمية وفى أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلي، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون. وتعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلي مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون".
على الأرض لم يرَ النوبيون أي خطواتٍ لتنفيذ المادة 236، التي هي مهمّة السلطات التنفيذية. نظَّم النوبيون مظاهرات في العديد من المحافظات احتجاجاً على إهمال الدولة وإهدارها حقوقَهم. وبعد تولي عبد الفتاح السيسي السلطةَ رسمياً بعد انتخابات مارس 2014، ومع زيادة نفوذ الجيش وسيطرته تدريجيًا أُغلق المجال العام والمساحات أمام المشاركة المجتمعية والسياسية. وامتد نفوذ الجيش إلى قرى النوبة التي يرغب النوبيون في العودة إليها، فأصدر الرئيس المرسوم الرئاسي رقم 444 في نوفمبر 2014 معرّفاً هذه المنطقة بأنها منطقة عسكرية خصصت لوحدات الجيش.
عدّ العديد من النوبيين في البداية هذه تضحياتٍ يجب عليهم تقديمها لمصر ولاستقلالها الاقتصادي والسياسي. وشجعت الخطاباتُ الناصرية ذلك، ولكن تأثيرها تلاشى عندما وجد النوبيون أنهم مواطنون من درجة ثانية وممنوعون من حقوق المواطنة البسيطة التي يتمتع بها كل مواطن مصري، مثل الحقِّ في الوجود والعيش والحفاظ على الهوية واللغة.
تربيت من صغري أن أُعرّف نفسي أني نوبي أولاً، قبل ذكر المنطقة التي أسكن فيها في القاهرة. فالأولوية دائماً للتعريف النوبي، وكان هذا يسبب لي مشاكل في المدرسة إذ يظن الأساتذة أني من السودان. كانت المسافة بيني وبين أهل القاهرة غير النوبيين تتسع بسبب تعريفي لنفسي الذي تلقيته من والدتي وجدتي. كانت جدتي تحذرني من التعرف على القاهريين، أو "الجورباتيين" وجوربتي كلمة نوبية تعني الشخص الغريب عنا أو الأجنبي. تجلت تلك التفرقة بين المصري والنوبي بسبب التهميش الذي تعرض له النوبيون. عندما أُجبر النوبي على النزوح وفقد أراضيه الزراعية، مثلما حصل مع جدي، وجدَ نفسه في صحراء وادي كوم أمبو فاضطر للسفر إلى القاهرة بحثاً عن عمل.
عندما هاجر النوبيون من الجنوب إلى الشمال كانوا يسكنون سوياً في نفس المنزل أو البناية، وخفف هذا من وطأة الغربة بعض الشيء. سكن جدي مع عمي وبعض الأقارب في نفس البناية في القاهرة، حيث اضطر النوبيّون أن يتكتّلوا معاً في نفس الأحياء السكنية لمواجهة التهديد الوجودي، ولم تتحقق خطة عبدالناصر بإدماج النوبيين في المجتمع.
حتى اليوم تمنع بعضُ العائلات النوبيّة أبناءها الزواجَ من غير النوبيات، وعندما سألت أحد كبار قريتي عن سبب ذلك، قال "انت اتربيت في القاهرة ولا تعرف تتكلم نوبي وبتحاول تتعلم عاداتنا.. تخيل لو اتجوز النوبيين من مصريين. ساعتها هيكون الأجيال الجاية مصريين بس والنوبيين هينتهوا".
الخوف من اندثار اللغة النوبية، والنوبيين عموماً، أصبح شعوراً مُلازماً لنا ومتوارثاً بين الأجيال. فجيل التهجير الأول أنشأ جمعيات نوبية في القاهرة والإسكندرية في محاولة للحفاظ على لُحمة المجتمع النوبي، وزودوا تلك الجمعيات بأنشطة ثقافية وفنية مرتبطة بالنوبة. وتنظم الجمعيات النوبية في مختلف القرى أنشطة رياضية وتقيم المسابقات فيما بينها، وأذكر أن والدي كان حريصاً دائماً على ربطي بجمعية قرية جرشة.
في بحث عنوانه "التهجير الداخلي في مصر: حالة النوبة المصرية"، يذكر شريف محيي الدين كيف دفعَ هذا التمزق النوبيينَ إلى تأسيس جمعيات مدنية بنفس أسماء القرى والعائلات في القرى المهجرة. أكثر من ثمانين جمعية نوبية في القاهرة والإسكندرية ساهمت منذ ذلك الحين في التواصل والتنسيق والتضامن الاجتماعي بين القرى والعائلات النوبية خارجها.
وأصبحت الجمعياتُ نقطةَ وصل بين النوبيين في القاهرة والإسكندرية والنوبيين في قرى التهجير، وربطت النوبيين من الجيل الثاني والثالث بقراهم، وهم الذين تربوا وعاشوا في ثقافة مهيمنة ومغايرة بعيداً عن النوبة.
أضحت الجمعيات النوبية في القاهرة والإسكندرية حاضنةً للنوبيين تخفف شعور الغربة وتزيد الانتماء والترابط، ولذا سعت الأجهزة الأمنية لمراقبتها والسيطرة عليها. فجهاز أمن الدولة يراجع انتخابات الجمعية وأعضاءها، ربما لأن الدولة تُدرك خطر التهميش وسلب الحقوق الأساسية للمواطنين. هذه الرقابة حدّت من جهود الجمعيات سياسياً وقللت فعاليتها في المطالبة بحقوق النوبيين، بل اقتصرعملُها على بعض الخدمات الاجتماعية.
مثّلت الجمعيات النوبية لي لغزاً في الصغر، إذ كنتُ الوحيدَ في المدرسة الذي يذهب في المناسبات المختلفة لجمعيةٍ ويلتقي أهل قريته، ولكن في القاهرة. فأصدقاء المدرسة غير النوبيين أصولهم من مدن مختلف في مصر، ولم تكن لهم جمعيات تحمل اسم مدنهم وقراهم التي جاؤوا منها.
بعد التهجير، خرج نوبيّون من مصر بحثاً عن العمل، وأسس بعضهم جمعيات في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لوصل النوبيين وجمع المساعدات لإعمار قرى التهجير وبناء المرافق لجعلها صالحة للحياة. فمثلاً هناك العديد من المباني والمرافق والمساجد في قَرْيَتي، جرشة، بُنيت بمساعداتٍ من النوبيين في الخارج.
في نوفمبر 2021 تعرَّضت محافظة أسوان والقرى المحيطة بها لكارثة سيول وعواصف، ففي أقل من نصف ساعة سقطت الأشجار وتكسّرت النوافذ وغمرت الأمطارُ المنازلَ، وتهدمت مقابر في منطقة الشلال جنوب مدينة أسوان. انجرفت الكثير من العقارب السامة من الجبال إلى المدينة والقرى في أسوان، وتعرَّض العديد من سكان المنطقة للدغات العقارب، حتى وصل عدد الإصابات إلى 450 إصابة توفي منهم ثلاثة.
واستمراراً للعلاقة الغريبة بين النوبيين والدولة، تطلب الأمر أن يتصل أحمد عبد العظيم، رئيس رابطة النوبيين في بريطانيا، بوزارة الخارجية المصرية ووزارة الهجرة طالباً من الدولة التدخّل لنجدة سكان القرى. ورداً على طلبه، تحرّكت الوزارة فزارت أسوانَ وزيرةُ الدولة للهجرة نبيلة مكرم عبد الشهيد ومعها اللواء أشرف عطية واجتمعوا بمحافظ أسوان لتقديم الدعم لأهل النوبة وأسوان المتضررين من السيول.
هذا حدثٌ كاشف يوضح تعامل الدولة مع النوبيين واعتبارهم مهاجرين، ما يستلزم وجود وسيط خارجي لدعم احتياجاتهم، وجعل "وزيرة الهجرة" تقدم المساعدات وتزور المصابين مع أنهم مواطنون مصريون، إلا أن علاقتهم مع الدولة غامضة وتتطلب وسطاء داخل مصر وخارجها.
وزارة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج هي السلطةُ المختصة بإدارة شؤون المصريين المقيمين خارج الحدود الجغرافية للدولة المصرية بالتنسيق والتعاون مع الوزارات والجهات والمؤسسات تحت رعاية مجلس الوزراء. لكن ما فعلته الحكومة في حادث أسوان يشي بأن الدولة ترى النوبيين إمّا مواطنين خارج مصر أو مهاجرين بلا جنسية داخل مصر، ولذا يحتاجون إلى توصيات أو مطالب من أطراف خارجية مثل رابطة النوبيين في المملكة المتحدة.
كذلك يتعامل النوبيون على أنهم ليسوا مصريين، وفي اعتقادي أنّ السد العالي أصبح حاجزاً حدودياً في وعي النوبيين يُبعدهم عن أرضهم ويبني خيالاً لأرضٍ نوبية مفقودة، هناك خلف السد.
في مقالٍ لمنة آغا منشورة سنة 2019 وعنوانه "النوبة لا تزال موجودة" تتحدث عن حنين النوبة القديمة، وعلاقتها بتصورات الأجيال الحالية عن النوبة والقضية النوبية، توضح أن النوبة موجودةٌ في خيال النوبيين بالحكي والأدبيات عن النوبة القديمة المفقودة وأنها "جغرافية لم تعد موجودة"، جغرافية انتهت. منة آغا من الجيل الثالث من التهجير، تربت وعاشت بعيداً عن النوبة، وكان مصدرُها الأساسي لمعرفة النوبة حكاياتِ جدتها وأقاربها الكبار في السن ممن شهدوا التهجير. هذه الحكايات هي السبيل لتمرير الهوية النوبية.
مع ذلك، يتناقل النوبيون من جيل إلى آخر شعور الانتماء للنوبة، ففعل التهجير القسري ولّد شعوراً بالاغتراب وفقدان حق المواطنة. إجبار الدولة النوبيين على العيش في الصحراء غيَّرت طبيعة الإنسان النوبي من مواطن مصري له حقوق المواطنة إلى شخص مطرود من أرضه ويعيش في منطقة صحراوية تحيجه لمساعدات إنسانية. فتحول النوبيون من كيان سياسي واجتماعي وظّفته الدولة في العهد الناصري واستخدمت أرضه لمشروع وطني شعاره "التنمية"، إلى مواطنين درجة ثانية على هامش الدولة. جعل هذا التهميشُ النوبيين أقلية تحتاج إلى دعم مادي وجمعيات أهلية في القاهرة تُقلل من شعور الغربة.
كثيرون من أبناء الجيل الأول لا يتحدثون اللغة العربية بسهولة، فاللغة النوبية هي لغتهم الأم والأساسية، ولذا لم يساعدوا أبناءهم من الجيل الثاني على تعلّم العربية في البيت، فعانى الأبناء في المدارس. يقول صبحي: "أنا اضطريت ما علمش عيالي اللغة النوبي عشان يتعلموا كويس في المدرسة، ويكونوا أحسن مني ومايعانوش نفس المعاناة في التعليم".
الجيل الثاني أكثر عمليّةً في التعامل مع ظروفه، فالحديث عن النوبة والاهتمام باللغة النوبية كان مجرد رفاهية مع الخطر الوجودي اقتصادياً. فعلى سبيل المثال كان والدي شديد الحرص أن نحصّل أعلى درجات التعليم الممكنة لأن والده بعد الهجرة من النوبة إلى القاهرة عجزَ مادياً عن تعليمه وإخوانه، وهنا كانت جدتي الشخص الوحيد الذي كان يربطني بالنوبة وحياتها القديمة.
فالجيل الثالث من التهجير صنعته جدتي وبنات جيلها، حافظن على عالم النوبة القديمة ولغته والمطبخ النوبي وأكلاته بأسمائها المختلفة عن الأسماء المتعارف عليها في القاهرة. قلّلت جداتُنا الفجوةَ التي أحدثها التهجير لنا نحن أبناء الجيل الثالث الذي تربى في القاهرة ولم يرَ النوبة القديمة ولم يتعلم عنها في المدرسة. فالجدات للجيل الثالث هم مصدر الحكايات التي كنت أعتقد أنها قصص متخيّلة وخاصة بجدتي فقط، قصصها عن ناسٍ يعيشون في قاع النيل ولهم عادات مثلنا، ويُلقي أهل القرى النوبية الطعام في النهر لهم. في زيارة العام الماضي في قرية غرب سهيل وجدت كباراً في السن يسبحون في النيل ومعهم طعام مثل ما كانت تحكي لي جدتي، فهؤلاء الناس يعتقدون بوجود "ناس البحر"، وهم كائناتٌ أسطورية تسكن مياه النيل والبحيرات المحيطة به، وتروي الأساطير أنهم ذوو قدرات خارقة ويؤثّرون في حياة البشر سلباً وإيجاباً، ويُصوّرون على أنهم حراس للمياه وثرواتها، وبعض المرويات تصوّرهم كائنات يجب الحذر منها. هذه الأساطير جزءٌ مهم من التراث الثقافي النوبي وتعكس العلاقة الوثيقة بينهم وبين نهر النيل، شريان حياتهم.