ذكريات فلسطيني في الكويت ورحلة العودة للوطن 

كانت الكويت يوماً وطناً لكثيرٍ من الفلسطينيين، ثم تحوّلت بعد حرب الخليج لذكرى وحنين.

Share
ذكريات فلسطيني في الكويت ورحلة العودة للوطن 
تصميم خاص لمجلة الفراتس

   وطني الكويتَ سَلِمْتَ للمجدِ ... وعلى جبينِك طـالعُ السَـــعْدِ

     وطني الكويت، وطني الكويت ... وطني الكويتَ سَلِمْتَ للمجدِ 

كنتُ أقف صباح كلّ يوم مع أقراني في ساحة مدرسة الجميل الخاصّة في العاصمة الكويتية نحيّي العَلمَ بينما يُعزف النشيد الوطنيّ الكويتيّ، كنا نقف رافعين أيدينا بالتحية الكشفية التي تشبه التحية العسكرية. كنتُ أتساءل في نفسي هل ثمّة علاقةٌ بين كلمة السعد في النشيد ووليّ عهد الكويت الشيخ سعد العبدالله الصباح. تفكيري الساذج أخذني لهذا التأمل ولَم أعِ المعنى إلّا متأخّراً. 

كانت مرحلة الطفولة والصبا في الكويت لأبناء الجاليات العربية تتمحور حول مكانين اثنين، المدرسة والبيت. غالباً ما يذهب أبناء الجاليات إلى المدارس الخاصّة أو الأهلية، فقلّةٌ منهم كانوا يُقبلون في مدارس حكومية. والبيت لمعظم هؤلاء شقّةٌ في عمارةٍ يختلف ارتفاعها حسب المنطقة السكنية. وجلّ هذه الجاليات كانت في منطقة النُقْرة بمحافظة حَوَلِّي، والتي سمّاها الكويتيّون فلسطين الصغرى. كانت الكويت وقتها وجهاً نابضاً للقومية العربية، ما جعلها ملاذاً للجالية الفلسطينية الأكثر حضوراً، وفيها نَمَت بذرةُ فكرة حركة التحرير الفلسطيني "فتح"، كبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وبهذا الاحتضان الرسمي والشعبي، صارت العلاقةُ بكلّ جوانبها مرفأً للفلسطينيين في الكويت، ممّا أسهمَ في دخول الجالية الفلسطينية، والتي بلغ عددها سنة 1990 نحو أربعمئة ألفٍ إلّا قليلاً، في شتّى مناحي الحياة في هذا البلد، فكان الوجودُ الفلسطينيُّ عمودَ بناءٍ وإعمار في الكويت.

انقلَبَت حياتُنا رأساً على عقب جرّاء الغزو العراقيّ للكويت صبيحةَ 2 أغسطس 1990. فجأةً وجدنا أنفسنا في مهبّ الريح، وأيقنّا أن تجربة الحياة في الكويت قد انتهت، وانتهت معها الذكريات إذ خسر من كانت الكويت وطناً لهم من الفلسطينيين كل شيء. واليوم وبعد سنواتٍ طوالٍ من الإقامة في غزّة، ناهزَتْ ثلاثين عاماً ونيّفاً، ما زال اسم الكويت يثير الشجون في مسمعي، ويستحضر ذكرياتٍ خصبة. وها أنا أطرقُ باب الخمسين عاماً من العمر وما زالت ذكريات عهدٍ مضى ماثلةً أمامي. ولهذا أعود فأزور هذه الذكريات لعلّي أجد شيئاً من السلوى، أو بَلْ قُل الهروب من جحيم الحرب الحاليّة على غزّة.


كان أوّلُ حضورٍ للفلسطينيين في الكويت سنة 1936، حينما وصل فريقٌ تربويٌّ فلسطينيٌّ من أربعة مدرّسين دعاهم مجلس التعليم الكويتي، فوضعوا أساس النظام التربويّ الكويتيّ. وما بين نكبة 1948 ومنتصف الخمسينيات توافد على الكويت المئاتُ من الفلسطينيين المتعلّمين وأصحاب الكفاءات، من الأطباء والمهندسين والمعلمين، للمساهمة في نهضة البلد بعد بدء تصدير النفط. أمّا موجة الهجرة الثانية إلى الكويت فقد بدأت في منتصف الخمسينيات، وتألّفت في معظمها من الفلّاحين الذين دخل الكثيرُ منهم الكويتَ تهريباً من الحدود العراقية أو عبر البحر بسبب رفض السلطات البريطانية منحَهم تصاريح دخول النظامية. فَقَدَ العشرات من الفلسطينيين القادمين إلى الكويت حياتهم بسبب الحَرّ الشديد أو الغرق في مياه البحر. ولنا في رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" مَثَلٌ عن حال هؤلاء الذين قضوا في لهب الصحراء محاولين الدخول لهذا القطر العربي، مختبئين في صهاريج المياه أو النفط على الحدود بين العراق والكويت، كما وثّقت الرواية. وبعد استقلال الكويت سنة 1961 انتظم دخول الفلسطينيين إليها. وصاروا تدريجياً الجاليةَ الأكبرَ في البلاد، خصوصاً بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، حينما مَنَحَت الدولةُ الكويتيةُ الفلسطينيين الحقَّ بجلبِ عائلاتهم. بلغ عددُ الفلسطينيين قُبيل الغزو العراقي للكويت سنة 1990 نحو ثلاثمئة وثمانين ألف نسمة من أصل مليون وسبعمئة ألف يعيشون في الكويت.

أمّا بداية الحكاية معي وعائلتي كانت حين أراد والدي، بعد تخرّجه من المدرسة الدولية ببيروت مطلع الثمانينيات، العملَ في دولةٍ عربيةٍ في مجال تخصّصه الهندسي، فكان نصيبُه العمل في الكويت التي شهدَت بدايةَ نهضةٍ عمرانيةٍ في السبعينيات. بينما استقرّ حالُ أبي في عمله بالكويت، كنت مع بقية العائلة في فلسطين تحديداً في غزة التي رزحت حينئذٍ تحت احتلالٍ عسكريٍّ إسرائيليٍّ مباشر. ضاق الحال بالوالد وبنا بسبب فرقتنا وشعرنا بضرورة جمع شمل العائلة، فقررنا الاستقرار في الكويت. كان التعايش مع الوضع الاقتصاديّ في غزّة حينها ممكناً فالشريحة الأكبر كانت من العمّال، والطريق إلى حدود الثمانية وأربعين، أو ما يُعرف بإسرائيل، كان سهلاً نسبياً. فالعامل كان يحتاج الهويّة الشخصيّة فقط لدخول إسرائيل وتبادل البضائع كان متاحاً بين غزة وباقي الأراضي المحتلة دون عوائق كبيرة، لكنّ الأمر لم يخلُ من بعض المناوشات بين الفلسطينيين والإسرائيليين خصوصاً مع بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر سنة 1987.

الطريق من غزّة إلى الكويت سنة 1980 لزم تأشيرة دخولٍ للأراضي الكويتية ومن ثم إلحاق العائلة بإقامة الوالد، أي كفالته. بدايةً تطلّبت مغادرةُ فلسطين تقديمَ طلبٍ للحصول على تصريح الجسر وهو جسر أللّينبي كما يطلق عليه الاحتلال، بين الضفة الغربية والأردن. حصلنا على تصريحٍ أزرق اللون من متعهد التصاريح آنذاك في غزّة والذي يسمّى "تصريح الشَّوَّا"، وهو ما أتاحَ لنا المغادرة من غزة إلى الضفة الغربية عبر الأراضي المحتلّة سنة 1948، وصولاً للجسر على الحدود الأردنية. مكثنا بضعة أيامٍ عند خالي المقيم في الأردن، والذي يملك جوازاً أردنياً مؤقتاً، حتى موعد السفر بالطائرة على متن الخطوط الجوية الأردنية، وكانت تلك أوّل مرّةٍ أسافر فيها جوّاً.

كان دخول الكويت ميسّراً، على عكس الخروج من غزّة. وصلنا إلى شقّةٍ صغيرةٍ جدّاً، تضمّ عائلتين، نحن وعائلة عمّي. لم نمكث فيها أسبوعاً حتى انتقلنا مع والدي إلى ملحقٍ لذوي الدخل المحدود، وهو عبارةٌ عن ديوانية (أي مَضافة) وغرفٍ صغيرةٍ، مع ملحقاته المعيشية. وهناك كان ما يسمّى "حوش" (أي فناء) نلهو فيه ونقلّل من ازدحام الغرف. وبسبب درجة الحرارة العالية، كان البحر سبيلاً متاحاً عند انقطاع الكهرباء. 


كانت الكويت شعلةً متّقدةً بالقومية العربية تذخر بالشخصيات الفلسطينية المعتبرة على الصعيد المحلّي والعربيّ. ومن هؤلاء عبد المحسن القطَّان، وهو من أبرز رجال الاقتصاد الفلسطينيين. وناظم الغبرا، طبيب القلب الفلسطيني الشهير، وابنه أستاذ العلوم السياسية شفيق الغبرا، اللذَيْن مُنحا جنسية الكويت وتوفّيا فيها. وخليل شحيبر، ابن غزّة وأحد مؤسّسي الشرطة الكويتية، والذي أصبح ابنُه سهيل شحيبر لاحقاً من أبرز السفراء الكويتيين إلى دولٍ عدّةٍ كاليابان وسويسرا. أصبحت الجالية الفلسطينية الأكثر حضوراً في الكويت، حتى باتت محافظةُ حَوَلِّي، قرب العاصمة الكويت، والتي ضمّت بجُلّها الجاليةَ الفلسطينيةَ، تُعرف باسم فلسطين الصغرى.

تمتّعت التيّارات والحركات السياسية الفلسطينية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها بهامشٍ مريحٍ للتحرك والنشاط في الكويت من دون تدخلٍ حكوميٍ، إلّا في ما يمسّ أمنَ الدولة واستقرارَها. وفي قلب هذه البيئة الحاضنة رسمياً وشعبياً، نَمَت بذرةُ الفكرة لنشوء حركة التحرير الفلسطيني "فتح"، كبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. حينئذٍ، وصل ياسر عرفات ومعه خليل الوزير (أبو جهاد) إلى الكويت عام 1958 وأسسوا مجلّة "فلسطيننا" بعد وصولهما بعامٍ واحد. فكانت المجلّة إحدى اللَبِنات الفعلية في بناء حركة فتح، بعد وضع الأسس الأولى للحركة في الكويت عام 1957، كما يقول صلاح خلف (أبو إياد). انطلقت فتح رسمياً عام 1965، ولم تَعترف غالبيةُ الدول العربية رسمياً بها إلا بعد حرب 1967. كانت فتح تتمتّع بعلاقاتٍ مميّزةٍ مع الأسرة الحاكمة الكويتية. وعلى أنّ الجالية الفلسطينية بلغت مئات الآلاف، إلّا أن الكويت منعت تجنيسَ الفلسطينيين باتّفاقٍ مع منظمة التحرير، رفضاً لفكرة التوطين.

وممّا يُذكر أيضاً حضور الاتجاه الإسلامي الفلسطيني بعد انطلاق الانتفاضة الأولى سنة 1987 وتأسيس حركة حماس رسمياً بالتزامن مع انطلاقها. وهو الاتجاه الذي احتضنه التيّار الإسلامي الكويتي آنذاك، لا سيّما جمعية الإصلاح الاجتماعي. ودُعم هذا الاتجاه على المنابر الدعائية، خاصّةً المساجد، وعبر أصواتٍ كويتيةٍ فاعلةٍ شعبياً، أمثال الشيخ أحمد القطَّان. كان ثمّة شيءٌ من التفريخ التنظيمي من خلال حلقات المساجد، والقيام بأنشطةٍ مختلفةٍ من التأسيس الثقافي والفكري، وصولاً إلى الرياضي والترفيهي. ومما يُوضح الثقلَ الإسلاميّ تأسيسُ الاتحاد العامّ للطلبة الفلسطينيين في جامعة الكويت، الذي رأسه في وقتٍ ما خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس سابقاً. وكان مشعل، الذي عاش معظم طفولته وشبابه في الكويت، قاد التيار الإسلامي الفلسطيني في جامعة الكويت، حيث أسّس كتلة الحقّ الإسلامية لتنافس حركة فتح على قيادة الاتحاد العامّ لطلبة فلسطين. 


وفي خضمّ الواقع السياسيّ المحتضن للقضية الفلسطينية في الكويت، شكّل الحضور الفلسطيني الجماهيري رونقاً خاصّاً للبيئة الكويتية. فخلافاً للجاليات الوافدة الأخرى، كان غالبية الفلسطينيين ينفقون دخلَهم بسخاءٍ في السوق المحلّي، ما يعني إسهامَهم في دفع العجلة الاقتصادية الداخلية للدولة. السبب يعود لأن معظمهم كانوا يقيمون مع عوائلهم وينفقون مداخيلَهم الشهرية عليها. رَبَطَهم هذا اقتصاديّاً بالبلد فنمَّى شعورَهم بالانتماء والاستقرار. 

يقول الكاتب الفلسطيني محسن صالح في مقالةٍ بعنوان "فلسطينيو الكويت بعد ربع قرن من الاجتياح" إن حالة الاستقرار الاجتماعي ووجود الموظفين مع عائلاتهم قلّلت كثيراً من المشاكل التي ترافق عادةً العمالة الوافدة من العازبين. وعامّةً كان الفلسطينيون من أقلّ فئات الوافدين إخلالاً بالأمن أو وقوعاً في التجاوزات. كانت العائلة الفلسطينية في الكويت عائلةً منتجةً بالمعنى المتكامل، خصوصاً في المجال التعليمي. وما يُذكي ذلك التجاوبُ الرسميُّ والشعبيُّ مع هذا التواجد. أذكر مرّةً أنني ذهبتُ لسحب مبلغٍ من المال من البنك التجاريّ الكويتيّ عن طريق رقم حساب الوالد، فإذا بالموظف يسألني "شنو جنسيتك؟" فقلت: فلسطينيّ. ردَّ سريعاً "والنِعْم، والثلاث تنعام"، بلهجةٍ مادحة.

لَم أشعُرْ بالاغتراب في الكويت. فالطفل تهمُّه العائلة أولاً وأخيراً، وأن يكون له أصحاب. كان غالبية أصدقائي من جيران العمارة، أو على النطاق الأوسع "الحارة" التي تجمع عدّة عماراتٍ في منطقة النُقْرة في محافظة حَوَلِّي، وكنّا نشير إلى المنطقتين بِاسمٍ واحد. في محيطنا كانت هناك حاراتٌ عدّةٌ كوّنت الأساس لواقعنا الاجتماعي أطفالاً ومراهقين، ومنها حارة القرع وحارة الباطنية وحارة النّور وحارة اليهود، فكانت مجتمعاتٍ مصغّرةً تضمّ إلى جانب الجالية الفلسطينية الأكبر عدداً من الجاليات العربية وبعضَ الكُرْد.

يومنا كان انعكاساً لمدى اندماجنا واستقرارنا في هذا القُطر العربيّ. رتيباً ويحيق به قَدْرٌ كبيرٌ من الهدوء وقليلٌ من المفاجآت. يبدأ اليوم في السادسة صباحاً بالاستيقاظ على المنبّه المزعِج. يتبعه صوتُ حركةٍ في أرجاء البيت ونداءاتٌ من والدتي رحمها الله لنا بأنه حان وقتُ الاستيقاظ. كانت تُجهّز لنا الشطائر التي تحوي بالغالب الزيتَ والزعتر. وبالنسبة لنا ولها، وربما بشكلٍ غيرِ واعٍ، فهذه المكوّنات الغذائية كانت تمثيلاً رمزياً وممارسةً من فلسطين حملناها معنا إلى الكويت. وفي هذه "العجقة الصباحية" أرتدي اللباسَ المدرسيَّ الذي كانت يختلف من مرحلةٍ لأخرى. في الابتدائية كان غالباً بنطالاً رمادياً وقميصاً أزرق. وبالنسبة للفتيات الصغيرات، فكان "المَرْيول"، أي الزيّ المدرسيّ الأنثويّ، لونه كحليٌّ غامق. ارتدت الفتيات الأكبرُ في المراحل الثانوية قميصاً أبيض مع حمّالةٍ كحلية اللون وجراباتٍ بيضاء. ومثل الغالبية الساحقة من الجاليات العربية، كان الطريق إلى المجال التعليميّ لأبناء الأُسرِ الفلسطينية هو المدارس الخاصّة ذات التكلفة العالية. لكن الفلسطينيين العاملين في الوزارات والمؤسسات الحكومية حصلوا على ميزة دخول أبنائهم المدارس الحكومية مجانيّةِ التعليم. كان منهم ابنُ عمّي نظراً لاشتغال والده في شركة الكهرباء، في حين عمل والدي في شركة مقاولاتٍ خاصّة. كانت المدارس مجتمعاً صغيراً ينقضي مباشرةً بعد ظهر اليوم، فنعود إلى المنزل لنرتاح ونعمل الواجبات المدرسية التي كنت أجدُها مرهِقةً وثقيلة. كان هذا نمطاً يتكرّر يومياً من السبت للأربعاء، ونُعفَى منه في الإجازة الأسبوعية يومَي الخميس والجمعة. وفي أيام الإجازة هذه كان البحرُ أهمَّ وجهةٍ للأسرةِ للترويح والملاذ صيفاً، هرباً من الحرارة العالية التي تَفُوق بمراحل ما اعتدنا عليه في فلسطين، ولا سيّما غزّة ذات المناخ المتوسطيّ المعتدل.

ووسط هذا الحَرّ الشديد، كان دارجاً ومن باب التسلية أن يضع بعضُنا بيضاً في "طوّى"، أي مقلاةٍ، في الخارج تحت الشمس لينضج وحده بلا نار تحته. لم نكن بالعادة نخرج في وقت القيظ. ومن كان في الخارج غالباً هم العمّال من جنوب آسيا من البنغال والهنود والسريلانكيين، نظراً لطبيعة وظائفهم كالبناء والبستنة والعناية بنظافة الشوارع. لم تكن كهرباء الكويت في الثمانينيات ذاتَ استمراريةٍ وثباتٍ. وانقطاعُها في الصيف كان يعني توقّفَ أجهزة التكييف والمراوح، فنهرب من لهيب الحَرّ طمعاً في بعض النسيم على شواطئ الخليج العربي. أمّا في فصل الشتاء، فالذهاب للبحر كان قليلاً بسبب الطقس البارد. فالبيئة الكويتية بيئةٌ صحراويةٌ، وبردُها مما نقول عنه في فلسطين "بينخر في العظم"، أي برداً جافاً تشعر أنه يصل العظام، وليس محفوفاً بشيءٍ من الرطوبة كما هو الحال في غزة الساحلية.  

إلى جانب اعجابي بالواقع الأُسري والاحتضان المجتمعي، فقد وافقَ الجوُّ الثقافيُّ في الكويت ميولي الشخصية. أذكر كيف كان يستهويني وأنا أمرّ بمكتبةٍ أو محلّ بقالةٍ الوقوفُ عند الصحف والمجلات الكويتية ذات الجودة العالية في الورق والتصميم الأنيق. فهذه جريدة الأنباء وهذه جريدة الوطن وتلك القبس وبجانبها السياسة. منشوراتٌ تعبّر بعناوينها عن احترافية الأداء الصحفي. كان الوالد يأتينا كلّ صباحٍ بجريدة الأنباء وأحياناً القبس. حتى أنّ العدد الصباحيّ كان يمكن أن يصدر في وقتٍ من المساء، لا سيّما في ليالي شهر رمضان. كنت أطالع الجريدة من صفحتها الأخيرة، مستمتعاً بالتقسيمة الخفيفة للأبواب ورسوم الكاريكاتير كبيرة المقاس التي تَصَدَّرَها بالعادة رسّامان فلسطينيان هُما ناجي العلي وبهاء الدين البخاري. أما المجلات الأسبوعية أو الشهرية، فكانت مجلة "العربي" بينها الأشهر صيتاً، إذ ضمّت نخبةً من كبار الكتّاب من شتى أنحاء الوطن العربي، وكان معها مجلةٌ أخرى بالتوازي تُعنى باليافعين وهي "العربي الصغير"، ولا أسمّيها مجلّةَ أطفالٍ لأنها كانت ترافق ما قبل مرحلة الشباب. كلّ هذا جعل من بروز الإعلام الكويتي منارةً ثقافيةً وفكريةً لا تقلّ ثقلاً عن أقرانها من الدول العربية.


وسنّةُ الحياة أن لا شيءَ يدوم، وإنْ بدا غيرُ ذلك. انقلب كلُّ شيءٍ رأساً على عقبٍ في ليلةٍ ليلاءَ في الثاني من أغسطس 1990، ولم يعُد بعدَها الحالُ كما كان. كنتُ هناك حين غزا جيش العراق الكويت. تحدّثت الأنباء عن دخول القوات العراقية إلى الأراضي الكويتية منتصف الليل، لكنّنا لم نعرف حينها بذلك إلّا صباحاً. لم تكن أصوات القصف مألوفةً لنا. وزاد الوضعَ ضبابيةً ما يحصل. فتحنا التلفاز لِنعلمَ أن عشرات آلاف الجنود العراقيين دخلوا الكويت من البَرّ والجوّ والبحر. الأحداث المتتابعة جعلت السكان يهرعون إلى الجمعيات التعاونية لشراء الاحتياجات الغذائية ومستلزمات المعيشة، فسادت حالةٌ من الفوضى والقلق. 

ساد جوٌّ من الصمت والفراغ، فبدأت الدموع تنهال من هول الصدمة، ولَم أجرؤ على إخراج صوت البكاء، فالرجال لا يبكون كما يقال. مَثَلَ أمام عيني شريطُ سنواتٍ بحُلوِها البهيّ ومُرِّها الأنيق، فهناك تفاصيلُ صغيرةٌ  لا يعوَّض بروزُها في لوحة العُمر، وكأنها بصمةٌ تجعلنا نألف العلاقة بيننا وبين المكان بهويّتنا وملامحنا، شاهدةً على حياة الضوء في وطنٍ هو الكويت. 

حارت الأفهامُ كثيراً حين اصطفّت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مع العراق. أصبح السؤال الكبير "لماذا؟" تساءلنا ما لياسر عرفات أن لا يقف موقفاً حيادياً كمعظم الدول التي رأت حلَّ الأزمة سياسياً يكون بالتواصل مع الطرفين. إلّا أن الموقف كان محيّراً لنا. لقد مَنَحَت القيادةُ الكويتيةُ قيادةَ منظّمة التحرير الفلسطينية ما تريد من منحٍ ماليّةٍ ومعنويةٍ، ووفّرت لها أرضيةً خصبةً للعمل وسط دعمٍ شعبيٍّ واسعٍ، لإيمانها بأن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمّتين العربية والإسلامية، وكانت هذه الرواية والانطباعات التي تناقلها الفلسطينيون في الكويت. اختُصِر الموقف الفلسطيني في تأييد العراق في تصرّفٍ غيرِ مفهوم. فالقياديّ الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) مثلاً كان من الرافضين لهذا الموقف. وتفاجأ الفلسطينيون من هذا القرار. واختُزِل الوجود الفلسطيني في توثيقٍ لمظاهرات تأييدٍ ومساعدةٍ للقوات العراقية المتواجدة في الكويت. ونُحِّيَ الجانب الشعبي الحقيقي غير الراضي عمّا حَدَثَ وقَلَبَ حياتَهم، ممّا اضطرّ الغالبية العظمى من الجالية الفلسطينية إلى مغادرة الكويت في غضون أشهرٍ إلى بلدانٍ مختلفة. وهكذا أنتج الغزوُ العراقيُّ تهجيراً وتشريداً جديداً للفلسطينيين شمل بدايةً ما يقارب نصفَ عدد الفلسطينيين الموجودين في الكويت.

تعمّد صدّام حسين الربطَ بين اختلافاته مع الكويت، وبين احتلال الكويت باعتباره جزءاً من مشروع الوحدة العربية، ومنه لتحرير فلسطين. وعلى هذه الأسس ولغاية حشد الدعم الشعبيّ، وظّف الرئيسُ العراقيُّ القضيةَ الفلسطينيةَ، فنجح في الحصول على تعاطفٍ، خصوصاً في فلسطين والأردن، في زمنٍ يفوز فيه بالتأييد من يرفع راية فلسطين وعداء إسرائيل. أمّا فلسطينيّو الكويت، فقد كان واضحاً لهم عدمُ الترابط بين المشروعين. وعلى حدّ قول الكاتب الفلسطيني محسن صالح، فقد ساءهم ما رأوا من معاناة الكويتيين على يد القوات العراقية، إضافةً إلى الشعور بفقد الأمن وتدهور المرافق والخدمات. ناهيك عن أن وظائفهم وأعمالهم ومصالحهم تعطّلت، وتوقّفت مرتّباتهم الشهرية، وتبخّرت مصادرُ دخلهم. بل أنه لم يعُد بإمكان الفلسطينيين وغيرهم من المقيمين سحبُ مدّخراتهم بسبب إغلاق البنوك. أمّا الكويتيّون فقد كانت لكثيرٍ منهم شبكاتُ دعمٍ اجتماعيٍّ توفّر لهم جزءاً من احتياجاتهم الماليّة والمادّية. ومن ثمّ، حُصِر كثيرٌ من الفلسطينيين، خصوصاً العاملين بمجال التعليم، بعد الاحتلال بين سندان ضغط النظام العراقي للإبقاء على عمل المؤسسات التعليمية، ومطرقة الضغط الكويتي المطالِب بالإضراب وشلّ الحياة المدنية احتجاجاً ومقاومةً للغزو.

وفي حوارٍ لصحيفة الشرق الأوسط مع ياسر عبد ربّه، أمين السرّ السابق للّجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، قال عبد ربّه إن عرفات أخطأ بمساندته لصدام حسين في قرار غزو الكويت، مضيفاً أن خيارات عرفات كانت صفرية. وإنْ رَفَضَ القرار في داخله، فإنه كان يخشى البوحَ برفضه تحاشياً لخسارة العلاقات مع العراق، لا سيّما مع تزايد عزلة منظمة التحرير في محيطها العربي وعلاقاتها المتوترة مع نظام حافظ الأسد في سوريا وتغرّبها في منفاها في تونس. اختار عرفات، كما يقول عبد ربّه، إمساكَ العصا من المنتصف آملاً أن لا تحدث الحرب، لكن تقديراته خابت. ومن ثمّ كانت هناك خشيةٌ أنه بمعارضة صدام كان سيجني على الفلسطينيين المقيمين في العراق. في المحصّلة، خَلَقَ موقفُ عرفات صورةً سلبيةً عن الفلسطينيّ في الوعي الكويتيّ، وأسهم التحريضُ الإعلاميُّ في تعميق هذه الصورة. يقول محسن صالح إنه عند تحرير الكويت أُخِذَ الفلسطينيّون في البلد بجريرةِ منظّمة التحرير، مع أنهم لم يتبنّوا مواقفَها.   


أين نذهب؟ سؤالٌ كبيرٌ راودَنا طيلة الأشهر الستّة التي مكثناها في الكويت بعد الثاني من أغسطس. هل نذهب للعيش في العراق – لأننا نحمل وثيقة سفرٍ عراقية – أم نذهب إلى الأردن، أم نعود إلى فلسطين؟ بعد انغلاق الأفق السياسيّ للحلّ، قرّر الوالدُ العودةَ إلى قطاع غزّة، فلدينا هويةٌ خضراءُ (أصدرتها إسرائيل لسكّان الضفّة وغزّة بعد 1967) وبها يمكننا الإقامة هناك. فهناك لنا بيتٌ بناه الوالد وعائلةٌ كبيرةٌ وأقاربُ وبلدةٌ تسمّى خزاعة مساحتها مئات الدونمات وسط القطاع، ملاصقةً لما يسمّى "الخط الأخضر"، ويعمل غالبُ أهلها في الزراعة أو عمّالاً داخل إسرائيل. 

دمعت أعينُنا على فراقٍ لن يكون بعده لقاء. فبعنا أثاث الشقّة التي عشنا فيها ذكرياتنا، بمختلف المشاعر، السعيدة منها والحزينة. تركتُ هناك مكتبتي الصغيرة. منحتُها لأحد الأصدقاء الذين قالوا أنهم لن يغادروا الكويت مهما حدث، وإنْ خرج عشراتُ آلاف الفلسطينيين بعد تحرير الكويت بسبب التحريض والتضييق والخوف على أمنهم. خرجنا ونحن لا نملك شيئاً من المال، فلا اشتغال للبنوك الكويتية بعد الغزو، ولم نتمكّن من الوصول لمدّخراتنا. وخلال الأشهر الستّة التي مكثناها، ولغرض النجاة، كنّا نحاول الاشتغال بأيّ شيءٍ من بيع صناديق المياه الغازية، والمعلّبات، والأحذية، إلى أن وصل الأمرُ إلى العمل في العتالة، أي تحميل الأشياء. 

لم تكن رحلةُ العودة إلى فلسطين صعبة، فلا حدود بين العراق والكويت التي أصبحت فجأةً المحافظةَ التاسعةَ عشر للعراق. فقط كان علينا مداومة السفر بسيارتنا، وأذكر أنها كانت من نوع شيفروليه إمبالا. وصلنا الحدودَ الأردنية من العراق بعد ثلاث عشرة ساعة منهَكين، مئاتُ السيارات كانت أمامنا، وكانت في غالبها تحمل هاربين من جحيم الحرب في مكانٍ أحببناه ورأيناه وطناً موازياً. كنا ننتظر دورنا في إنهاء عمليةٍ حدوديةٍ إجرائيةٍ طالت حتى دخلنا الأردن بعد عناء لساعاتٍ طوال. انقسم أغلبُ الفلسطينيين العائدين قسمَينْ: قسمٌ يحمل الجنسية الأردنية، مآلُه الإقامة في الأردن. وقسمٌ آخَر يعود إلى فلسطين المحتلّة، وكنّا من هذه الفئة الثانية. 

وصلنا فلسطينَ في أواخر 1990، في حين كانت انتفاضة الحجارة في رمقها الأخير. وكان الناس قد استنزفوا ولم يتبقّ من نَفَس الانتفاضة إلا ظواهر لا تصل إلى بداياتها الملتهبة. أهل القطاع كانوا يذهبون للعمل في إسرائيل باستخدام الهويّة فقط. الكهرباء والمياه كانت متوفّرةً، والمعابر مفتوحةٌ ما بين غزة والأردن ومصر، والبضائع متوفرةٌ في الأسواق. وهكذا بقي الأمر بضعَ سنينٍ حتى الانتفاضة الثانية سنة 2000. 


اليوم أجلس وأمامي العدد 498 من مجلّة "العربي" الصادر في مايو 2000، وملفّه الرئيسيّ "فلسطين: النداء ما قبل الأخير"، وكأن التاريخ يعود للوراء، ليذكّرنا ونحن الآن في الحرب بأن فلسطين ما تزال حاضرةً في الوجه الثقافيّ للقلم الكويتي. وبعد ثلاثة عقودٍ ونيّفٍ من الإقامة في غزّة، ما يزال اسمُ الكويت يثير الشجونَ في مسمعي، ويستحضر ذاكرةً وذكرياتٍ خصبةً. وها أنا أطرقُ بابَ الخمسين من العُمر، أتساءل: هل سأعود إلى الكويت يوماً ما زائراً؟

لا أعلم. ما يهمّني الآن وأنا أخطّ هذه الكلمات أن تنتهي الحرب وكفى. وما بعدها، لكلّ حادثٍ حديث. وحتى ذلك الحين، ما زال يتردّد ذاك الصوت في ذاكرتي وأنا في خيمتي نازحاً، أقلّب الذاكرة والذكريات:

   وطني الكويتَ سَلِمْتَ للمجدِ ... وعلى جبينِك طـالعُ السَـــعْدِ

     وطني الكويت، وطني الكويت ... وطني الكويتَ سَلِمْتَ للمجدِ

اشترك في نشرتنا البريدية