حكاية رقية: العودة إلى بيت عائلتي في صفد 

تعود الكاتبة لصفد لتزور بيوت عائلتها وقد باتت لغرباء، فتستذكر حكايات أمها رقية، ومن خلالها تعود في الزمن لتعيش حياة صفد وأحوالها قبل النكبة.

Share
حكاية رقية: العودة إلى بيت عائلتي في صفد 
جانب من البلدة القديمة في صفد / خدمة غيتي للصور

في كتابه "قضية فلسطين" المنشور سنةَ 1992، يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد إن فلسطين اليوم قائمة فكرةً وتجربةً سياسية وإنسانية. يردم سعيد بوصفه هذا الفجوة بين فلسطين الذكرى وفلسطين الواقع، الوطن الضائع. كأن إدوارد سعيد يقول إن تذكر فلسطين يبقيها حقيقةً ووطناً، وإن بالكلمات والقصص كاملةً أو ناقصة. قد يعرف أبناء الأجيال الجديدة من الفلسطينيين المهجرين شذرات عن مدن فلسطين وقراها رسمتها حكايات أجدادهم الشفوية وذاكرتهم التي قد تُسقط بعضَ التفاصيل. وربما لا يعرف أبناء الأجيال الجديدة عن فلسطين سوى ما خطته كتب التاريخ وصبغته سياسة اليوم. وهنا أعيد اكتشاف جزء من فلسطين بمنظور شخصي، من قصة أمي رقية في رحلتي الأولى إلى مدينة صفد منتصف سنة 2000. 

صفد هي مسقط رأس أمي إذ ولدَت فيها سنةَ 1924، وتشكلت فيها ذكرياتها الأولى، ثمَّ هُجِّرت منها حين تشتت مع عائلتها في النكبة سنةَ 1948، ودامت غربتها عنها حتى توفيت في الدوحة سنةَ 2014. في تقليب بعض تفاصيل هذه الرحلة، أستكشفُ أحوال هذه المدينة الفلسطينية، عاصمة الجليل الأعلى، وأكتب عن الحياة في صفد قبل النكبة وقبل أن يُفقدها غرباءٌ مستعمرون هويَّتَها العربيةَ محتلّين بيوتَ عائلةِ أمي وأجدادي. أمشي قرب بيوت عائلتي القديمة وأسير في شوارع صفد وأسواقها، وأبحث عما بقي من بهائها القديم من عيون رقية، أمي، وكلماتها وذكرياتها. أتخيل نفسي في تجربتها وفي زمنها، وكأني عشت هناك، فأمزج الماضي بالحاضر لعله يكون سلوى من وجع الفقدان. 


على مدخل صفد تخيلت نفسي ممسكةً يدَ أمّي، ملامسةً ذلك الدفء الفريد الذي بدأ يسري بها. تلمسنا معاً جدران المدينة وحجارة شوارعها المرصوفة بإتقان فنان. مضيت أراقب محيطي، وقد استقرت في داخلي حسرة السؤال: لِمَ حُرمنا من أن نكون هنا؟ تخيلت أمي تتنبّأ ما جال في ذهني، فتهمس لي: "سأسرد لك عن مسقط رأسي في رحلتنا هذه، بعض من حكايات عن مدينتك ومدينة أجدادك، وعن البيئة التي نشأت أمك فيها وترعرعت". فتحت الجملةُ في ذهني سرداً تاريخياً طويلاً غاب جزء منه عن ذاكرة الفلسطينيين الجمعية. 

صفد القديمة

ضرب زلزال شديد منطقة الجليل سنة 1837، وقيل إنَّ السماءَ اسودَّت وضحَ النهار، ففر الناس من بيوتهم إلى مرتفعات الكرمل مروراً بساحل عكا وحيفا. حصد الزلزال أرواح ما يقارب خمسة آلاف شخص. أما في صفد فقد أصابت الكارثة كثيراً من بيوتها وعمارتها فصارت أثراً بعدَ عين. تقول أمي إنَّ هذا الدمار دفع الصفديين إلى احتراف البناء والعمارة لإعادة بناء مدينتهم، مستفيدين من أن صفد هي بلد المحاجر والحجّارين. فصفد المتربعة على السفح الجنوبي الغربي لجبل كنعان في الجليل، مكانٌ "مُصفدٌ بالجبال"، ومن هنا جاءت التسمية. وفي رواية أخرى اشتُقَّ الاسم من "صفاة"، أي الصخر الصلد. تضيف أمي أن رجال صفد ماهرون في قص الحجر وصقله وهو ما ساهم في تطور أساليب العمارة لديهم. حافظت المدينة على طابعها العمراني الخاص حتى بعد محاولات الاحتلال الإنجليزي صبغ العمارة الصفدية بطابع أوروبي بعد سنةَ 1917.

فرضت طبيعة صفد الجبلية نفسها على أساليب بناء البيوت. لفت بيوتها القديمة نظري وذكرتني بحديث أمي عن أن بيوت صفد عُرفت بأن لها ثلاثة جدران بدلاً من أربعة. والسر وراء ذلك يكمن في طبيعة صفد الجبلية التي كثيراً ما جعلت سفح جبل كنعان الصخري جدار البيت الرابع. قالت لي أمي إنَّ معماريي صفد "كانوا يقومون بتفّجيم [أي تكسير] الجبل وكلسه ليصبح حائطاً من حيطان البيت". لذا قيل عن بيوت المدينة، خصوصاً في حارة الأكراد، إنها أسقفٌ بلا أعمدة، فقد كان سقف البيت يتوسد سفح الجبل. وقيل أيضاً إنَّ شوارع صفد كجدرانها، أي مُحجرة بحجارة بيضاء ملساء مثل جدران بيوتها. ومن شدة اهتمام أهل المدينة بالبناء واعتدادهم بمّعماريها، كانت نساء صفد وبناتها يخاطبن العروس قبل انتقالها إلى بيت زوجها، ويوصينها بأداء واجب البنائين، فينشدن: 

مليّ بريق البنا [عامل البناء]

يا مخضّرة بالحِنّا

إنتوا بنيتوا أوضة [غرفة]

وإحنا بنينا أوضة 

عادات أبونا وأهلنا


بينما كنت أطوف أرجاء المدينة، وصلت إلى دور عائلة أمي في حارة الصواوين وهي من أقدم حارات صفد وأعرقها. نُسب اسم الحارة إلى صوان حجارتها البيضاء المقلوعة من جبال المدينة. هناك تخيلت نفسي أسير خلفَ أمّي وهي تسرع بخطواتها إلى دور عائلتها وهي عائلة قدورة التي كانت تسمى سابقاً بعائلة الخالدي ويُعتقد أن نسبها يعود إلى خالد بن الوليد. تخيلت أمي كأنَّها تحاول العودةَ إلى ما بعد النكبة وقبل أن يُصبح الشتات هو الوطن بعد صفد. درجات المنزل كانت كأنها عصف في الذاكرة، تخيلتها آخر ما خطت عليه أمي عند خروجها من صفد مُهجَّرة خائفة.

أخبرتني أمي أنه مع وصول أخبار مجزرة دير ياسين، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في إبريل 1948 بأهالي قرية دير ياسين غرب القدس، قرَّرَ رجالُ صفد نقل النساء والأطفال وكبار السن لمناطق آمنة، فتكدسوا في شاحنات حملتهم وسط غابات صفد وطرقها الوعرة حتى وصلوا إلى بنت جبيل في لبنان. جاء المخاض خالتي فخرية في رحلة الهجرة، فولدت طفلة في الخيمة أسمتها هاجر.

ومن بنت جبيل، انتهى بعائلة أمي المطاف في سوريا، وكانت أمي في الرابعة والعشرين من عمرها ولم تتزوج بعد. تذكر كيف فرض عليها الواقع الجديد أن تعمل لمساندة عائلتها، إذ ضاقت بهم الحال، بعد أن كانوا من عائلات صفد الميسورة. عملت أمي معلمة في مدرسة دوحة الوطن في منطقة القنوات في دمشق تسعَ سنوات، فقد أتقنت العربية والإنجليزية وبرعت في الرسم. قالت لي أمي إنَّ المدرسة أسستها عائلة سعد الدين التي تنتمي لأشراف صفد، وشغل بعض أعضائها المناصب الدينية كالقضاء في عهد الدولة العثمانية والانتداب البريطاني. 

أمام بيوت عائلة قدورة، دخلت ممراً اسمه المعبر، يفصل بين المنازل المتجاورة. كان المعبر مسقوفاً لوجود بيت فوقه. وقفت أمام بابين خشبيين متقابلين أكل السوس منهما ما أكل، أحدهما لعائلة أمي والآخر لعمها محمد قدورة. عندما وصلت قُبيل المغرب، فتذكرت ما قالته أمي من أن بيتها أضيء بسراجٍ من الكاز، وأن أسوار المدينة كانت تُضاء بقناديل من الكاز أيضاً صُنعت من زجاج، ووُضع فيها فتيل من القماش يُشعل عند المغرب على طول خط صفد. وثمّة مَن ينظّف زجاج القناديل قبل المغرب، ويأتي بعده مسؤول الإنارة ليضع فيها الكاز ويشعلها. في فترات لاحقة، بدأت بعض الأسر الصفدية استعمال ما سمي جهاز "اللوكس"، وهو صندوق زجاجي به كيس من مادة شبكية يُربط تحته مغموراً في كحول من نوع "الـسبيرتو"، يُشعل به المكان المراد إنارته، وله مخزان في القاع لحفظ الكاز. ومثل غيرها من مدن فلسطين، لم تصل الكهرباء إلى صفد إلا آخر الأربعينيات. 

انقسمت دور عائلة قدورة عدَّةَ أقسام: الدار الفوقة أي التي تعلو في الجبل والدار التحتا أي المحيطة بالسفح. قطن في الدار التحتا رشيد قدورة أخو جد أمي، وأخوته الثلاثة مجيد وعبد القادر وحميد. وكانت شجرة الميس تتوسط دارهم وتميزها. أما الدار الفوقة فكانت من نصيب مفتي صفد، الشيخ أسعد قدورة الذي تلقَّى دراسته الأولى في سوريا ثمَّ انتقل إلى الأزهر الشريف في القاهرة حيث تتلمذ على يد عالم الدين والمفكر الشيخ محمد عبده، ثم عاد الشيخ أسعد قدورة إلى صفد حاملاً لقب الأزهري. نزح المفتي في النكبة إلى دمشق وتوفي فيها سنةَ 1959. كذلك عاش في الدار الفوقا زكي قدورة، الذي كان آخر رئيس لبلدية مدينة صفد قبلَ سقوطِها في يد الاحتلال في مايو 1948، وكان معه إخوته وأبنائهم جميعاً. 

ميز هذه الدور الصِوَان أي الفناء المتسع، وكان بالعادة دليلاً على يسر حال صاحبه وكثرة زواره. كان الصفديون يستقبلون ضيوفهم في إيوان بصوان البيت، توضع في إحدى زواياه الكراسي والفرش، وقبالته كانت هناك بالعادة بركة تتزين بالنوافير المائية. تذكر أمي كيف أُحيط الصوان بشجر اللوز الأخضر والياسمين، وأن مساحته وطبيعته كانت متكيفة مع الطقس في صفد، لا سيما قسوة برودتها في فصل الشتاء، إذ أقيمت المدينة على رقعة جبلية ترتفع مئات الأمتار عن سطح البحر. كانوا يقولون عن صفد: "سقعتها بتقص المسمار"، أي أن بردها شديد. تذكر أمي أن شباك غرفتها، وباللهجة الصفدية "أوضتها"، مطلٌّ على الصوان، وكانت واحدة من عدة "أوض" بنيت لتتسع أبناء العائلة جميعاً، أبناء عمومة أمي ونسائهم وأولادهم وجدي وجدتي. 

 أخبرتني أيضاً عن "الصهوة"، أي علية البيت التي قطنتها عمتها مريم، شقيقة أبيها. ما زالت كلمات أمي رقية حاضرة في ذهني: "كانت عمتي ذات شعر منسدل على كتفيها، وابتسامتها ما كانت تفارقها. من فرط حبي لها في صغري، كنت حريصة على الصعود إليها والجلوس معها، أنصت لأحاديثها الماتعة وأحلامها في الغد، والتي لسوء حظنا تبخر أكثرها بتبخر فلسطين". 


هنا أمام بيت جدي، وخلف أبوابه الموصدة ما زلت، أتخيل، من كلمات أمي وحكاياتها، البيتَ من داخله. أرى مقعداً صنع من الكتان المزخرف. وجدي على الكنبة أمام العائلة، وضوء السراج يكشف عن ملامحه التي تحمل كثيراً من الوقار، ورأسه المُزيَّن بطربوش أحمر، يسمّى طربوشَ الأفندية، يزداد هيبةً مع بدلته الجوخ السوداء. أتخيل سِتِّي أم حكمت، وكان اسمها زُبيدة عُزو صبح، تقترب منه ممسكة بصينية من الفضة يفوح من فنجان قهوتها رائحة البن المحمص وكوب الماء الممزوج بماء الزهر، تضعه أمام زوجها على الطاولة الخشبية المذهبة والمدققة بقطع نحاسية. ثم أتخيلها تدندن همساً كلَّما ارتشف جدي من فنجان قهوته، فتقول:    

أنا محبوبة السمرا [القهوة] وأجلي في الفناجين

و عود الهند لي عطر  وذِكري شاع في الصين


اسمُ جدي، والد والدتي، الذي مات وأنا في الخامسة محمود يوسف محمد أفندي الحاج يوسف قدورة، مُنحت له الأفندية لقباً تشريفياً أيام الدولة العثمانية. وكان والده محمد قدورة من كبار أعيان صفد، عمل في التجارة وإدارة أملاك العائلة التي ورثها عن والده يوسف أفندي. تخبرني أمي أن يوسف أفندي امتلك جل أراضي العائلة البالغة عشرات الآلاف من الدونمات وانتشرت في ثماني قرى في قضاء صفد، منها الزنغرية والسموعي والشونة وحرفيش. لا روايةَ مؤكدة عن سبب امتلاك آل قدّورة هذه المساحات من الأراضي. قيل إنَّهم حصلوا عليها بموجب قانون الأراضي العثماني لسنة 1858، الذي قضى بتسجيل الأرض باسم من يدفع الضرائب المترتبة عليها. 

أثّر جدي محمود في شخصية أمي تأثيراً كبيراً. حدَّثتني عنه بشغف: "عُني جدك بي عناية فائقة عندما لامس حبي للدراسة، فحرص على أن أرافقه في مكتبه الحقوقي وإلى محكمة صفد حيث ترافع. كما كنت أرافقه عندما كان يقوم بزيارة أهالي المدينة ومن خلال هذه الزيارات تعرفت على الكثير من جوانب الحياة فيها وخارجها، وعلى الكثير من الشخصيات المعروفة من وجهاء أهل صفد ومخاتير القرى حولها". 

وتقول أمي: "كان لوالدي صديق مقرب من نابلس دائم الزيارة لنا، حقوقي مثل أبي، يدعى أبو وليد صلاح، وله كذلك الكثير من الأصدقاء من حيفا وعكا والناصرة والقدس، وكان حريصاً على زيارة بدو صفد في قرية الخالصة"، الخالصة هي القرية التي تقام على أنقاضها اليوم مستوطنة كريات شمونة الإسرائيلية في إصبع الجليل، والقريبة من بحيرة الحولة سابقاً، تلك البحيرة التي جففتها إسرائيل بعد النكبة لتحويلها إلى أراض زراعية. كانت الخالصة من البقع المحببة لأمي، وإليها رافقت جدي في ترحاله مراراً. حتى تلك الرحلات تذكر أمي تفاصيلها من ناس وأماكن "كنا ننزل في منزل الحاج عبدالله الحميد زعيم منطقة الخالصة والحولة، وكان أبي يكن له الكثير من المودة والمحبة. كان الحاج عبدالله عقيماً لم يُرزق بأطفال، فتبنى الكثير من اليتامى ورعاهم وحرص على تعليمهم بناتاً وصبياناً. نشأت بيني وبين ابنة أخي الحجة فاطمة زوجته، صداقة وطيدة".

كان جدي محمود يزور أهالي صفد لحل النزاعات التي كانت تحدث بين بعض الأهالي بسبب خلافات في توزيع الإرث، أو نزاعات تجارية بين تجار المدينة. ووفقاً لأمي رقية، كان جدي وجيهاً ذا كلمة عند أهالي صفد، "لخُلُقه وقدرته على إيجاد الحلول"، مضيفة أنَّها "تعلمت منه سمة التأني في اتخاذ القرارات و البحث عن الحلول … كذلك الجدية في التعاطي مع أمور الحياة وتسيير شؤون الآخرين". 

وعد جدي محمود أمي بإلحاقها بأخيها حكمت للدراسة بمدرسة الشويفات الدولية في قرية الشويفات في محافظة جبل لبنان، واحدة من أعرق مدارس الشرق الأوسط في حينه، وقد أُنشأت في ثمانينيات القرن التاسع عشر. شجع على ذلك محاذاة صفد جغرافياً لجنوب لبنان. وكانت العادة الدارجة أن تُرسِل العوائلُ الصفدية وغيرها من مدن الجليل أبناءَها للدراسة في الشويفات أو الجامعة الأمريكية في بيروت. الخيار الآخر كان الالتحاق بكلية دار المعلمات في القدس البعيدة أكثرَ من مئة كيلومتر عن صفد. في الكلية قسمٌ داخليٌّ للطالبات من المدن والقرى البعيدة، وأهّلت الكلية خريجات التعليم العالي الفلسطيني وفق نظام بريطاني يسمى "الميتريكيوليشن" الفلسطيني، يدرسن فيه عاماً يُصبحن بعده معلمات في المدارس الابتدائية في فلسطين. إلا أنَّ حرب 1948 وما تبعها من تهجير وشتات أغلب أهل فلسطين كانت أقوى من والوعود والمسافات. قالت أمي: "لقد قصفت أحلامي هذه الحرب، وحرمتني من أن أكون كما أريد".     


أقف في محيط بيوت آل قدورة، يأخذني عبق المكان فأتخيل أمي معي، تضحك ضحكة طفولية وكأن الزمن قد أعادها طفلةً صغيرة. ثمَّ أرسم في ذهني ما كان يحدث، كأني أسمع صوتاً طفولياً ينادي:       

"رقية … يا رقية"         

يثير الصوت انتباه أمي، فتتجه صوب النافذة لتعلم من المنادي. وكأني أسمع جدتي زبيدة تقول لجدي: "هذه فهمية خالد، بنت عمة رقية وصديقتها، لا يمكن لها أن تغيب عن رقية دقيقة واحدة".                                                                  

قررت أن أمضي في باقي رحلتي في أنحاء صفد، وكأني أتتبع الدرب ذاته الذي سلكته أمي وفهمية قبل عقود. استعدت مزيداً من حكايات أمي رقية، فرأيتها واقفةً مع فهمية على الشارع الرئيس لصفد، قريباً من دور آل قدورة، ثم عرَّجَتَا على دكان العم أبو كامل السلطي، الذي بات اليوم أثراً تسكنه أشباح الماضي وتنهش معاول الزمن ما بقي من معالمه. أرى الفتاتين تقولان لصاحب الدكان: "يا عم أبو كامل، بدنا القضامة الحلبية"، وكانت تُصنع من حبات الحمص فتصبح مكسرات مقرمشة، أو مُحلاة بالسكر، فتمد فهمية يدها لكيس نايلون شفاف وتغرف بعضها. قالت لي أمي إن العم كامل كان يفتقدهما إذا مضى وقت دون أن تأتيا لدكانه.

وليس ببعيد عن دكان أبو كامل، تُلقي الفتاتان التحية على العم جريس حداد، صاحب محل بيع ماكينات الخياطة المعروفة "سِنجر". كثيراً ما حلمت أمي أن تملك واحدة منها، فقد أحبت دروس الخياطة والتطريز في مدرستها، المدرسة الأميرية للإناث، عكس فهمية التي فضلت دروس الطبخ، أو ما عُرف بالتدبير المنزلي. ولا عجب أن فهمية كانت بارعة في صنع الحلويات مثل: زنود الست، والزلابيا، وست الحسن، وهي من الحلويات المحلية، والكنافة التي ما أزال أذكر طعمها منذ أن  كنا نزورها أنا وأمّي في دمشق. 

واصلتُ المشي إلى سوق المدينة الرئيس متخيلة نفسي برفقة أمي وفهمية، لنجد أنفسنا أمام الطريق الذي يؤدي إلى الدور التحتا للعائلة. ومن هناك شمالاً وصلنا إلى حارة النصارى التي كان غالبية سكانها من الروم الكاثوليك، هُجر بعضهم وهاجر آخرون بعد النكبة. فيها كنيسة السيدة مريم العذراء، وقد أزيل جرسها وصليبها بعد النكبة واليوم يُستخدم جزء منها ورشةً للأعمال الخشبية لأحد اليهود الصهاينة. ونجت كثير من أنماط العمارة الصفدية بعد النكبة، إلا أنها لم تنجُ من التشويه والتزوير. 

في السوق مررت بما كان يوماً محلات جلي النحاس، أي تبييضه، واستخدمه أهل صفد للحفاظ على "الزنتوت" أي الطناجر والمعالق والصواني. وفي هذا السوق، كما أخبرتني أمي، كانت منازل عائلة حجازي الكبيرة، يقال إنَّ أصولهم من الحجاز في الجزيرة العربية ولها فروع بشتى أنحاء فلسطين وباقي بلاد الشام منذ أكثرَ من قرنين. وقطنت هناك عائلة الحاج سعيد عبدالرحيم، ومن هذه العائلة كانت والدة جدي محمود قدورة. لفت نظري منزل كبير مغطى بالقرميد الأحمر، فاسترجعت كلمات أمي وطابقتها على الواقع: إنه إذن بيت الحاج عبدالرحيم قدورة، أخو محمود أفندي. أما في صدارة السوق فكان دكان مصطفى النقيب، ومنه اشترى أهل صفد الموادَّ التموينية. وليس ببعيد عنه بيعت أجولة القمح والسكر والطحين والأرز الذي كان يُجلب من مصر بالقفة وهي سلة مصنوعة من القش أو ألياف الشجر.              

هناك تخيلت كأني أسمع صوت الأذان قادماً من جامع السوق، أو ما سمي الجامع التونسي أو الجامع الكبير الذي كان في مرمى النظر بحارة الوطأة القريبة. عُدَّ ثاني أكبر مساجد صفد وبناه السلطان عبد الحميد آخر العهد العثماني. حافظ الجامع على شكله القديم، بمئذنة وقبة زرقاء، لكن بلا مصلين، فقد حُول إلى متحفٍ تعتليه يافطة باللغة العبرية سالِبةً روحه وزمانه. تخيلت أطياف رجال صفد وهم يتّجهون إلى الصلاة فيه، ثم يبدأ اللحامون بإغلاق محالهم القريبة منه للغرض ذاته، ومثلهم أصحاب محلات السمك وقد كانوا كُثراً في المنطقة لقُرب صفد من بحيرة طبريا، التي أنعمت على السكان بأسماك البلطي والشبوط والسلوار. بدت صفد كأنها المدينة الحارس لبحيرة طبريا، تجاورها وتطل عليها من علٍ وكأنها تعانقها وتحنو عليها. 


بدأ التعب يسري في جسدي، فشرعتُ أرسم رحلة العودة في مخيلتي مع أمي وفهمية. أرى فهمية تشدّ يدَ أمّي، ترجوها ألا تعودا إلى البيت الآن. تضحك أمّي أمام هذا الإصرار لمعرفتها حب ابنة عمها الخروجَ والتّنزهَ أكثر من أمي "البيتوتية" التي أحبّت الجلوسَ في البيت. تقول فهمية: "فلنذهب ناحية بحيرة طبريا، هيا يا رقية … لدينا الوقت الكافي للذهاب".  

كيف لنا أن نذهب الآن؟ سنتأخر. 

تجيب فهمية: "لن نتأخر، اطمئني". 

جدنا سيلقي علينا محاضرة تأديبية لو تأخرنا عن موعد الغداء يا فهمية.

تصر فهمية على الذهاب: "سنصل قبل الغذاء". 

"لا تنسي أن أمّي أعدت اليوم أكلتنا المفضلة، الزنكل الصفدي". 


في الطريق إلى بحيرة طبريا أترك الماضي وأعود إلى الحاضر، وما زالت ذكريات أمي دليلي وكلماتها مرشدي في رحلتي. كنت أريد أن أعود فأعيش تجربتها، لكنّي تراجعت أمام عظمة المنظر عندما وقفت على التلة التي تطل منها صفد على البحيرة. وفي روعة المكان تعمقت لوعة الفقدان.

اشترك في نشرتنا البريدية