هنا نقترب من ذكريات لاعب كرة القدم، جلال رضوان جرار، الذي امتهن هذه الرياضة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي مع فِرَقٍ مختلفةٍ في حيفا وعكّا. ونتلمّس ما كان للنكبة من انعكاسٍ على حياته الرياضية، وكيف تحوّلت الذاكرة الشخصية إلى جزءٍ من التاريخ الجمعيّ الفلسطينيّ. ارتكز السردُ على مقابلاتٍ أجريتُها مع جلال جرار، قبل وفاته في ديسمبر 2018، وبالاعتماد على مراجع صحفيةٍ وتاريخيةٍ، وبالإفادة من الأرشيف الصوريّ الذي احتفظ به طيلةَ سبعين عاماً بعد النكبة، والأهمُّ الشهادات الشفوية عن الذكريات التي أَورَثَها جلال لأفراد عائلته، ولا سيّما زوجته "صبحيّة"، فهؤلاء هم المؤلِّفون الحقيقيون لهذا النصّ. أمّا الكاتب فقد خاض في هذه الشهادات والوثائق والذكريات وأعاد ترتيبَها نصّاً على حِدَته، لعلّه يُسهِم بسدّ فجوةٍ في التاريخ الشفوي لفلسطين ويعزّز تاريخَها المكتوبَ وهويّتَها المهدَّدة دائماً.
ترعرع جلال جرار في بيت العائلة في حيّ وادي النسناس بمدينة حيفا، وهو حيٌّ عربيٌّ في البلدة التحتا في المدينة يُعتقد أنه منسوبٌ إلى عائلةٍ عربيةٍ تحمل الاسمَ ذاتَه سكنَت المنطقةَ قديماً. يَبدأُ جلال سردَ ذكرياته عن المدينة باستحضار الشاطئ والبحر والأندية الرياضية والحياة الاجتماعية والثقافية. حديثُه يَستحضِر وصفَ الشاعر محمود درويش المدينةَ في ديوان "مأساة النرجس ملهاة الفضة"، إذ يقول: "جبلٌ على بَحرٍ، وخلف الذكريات بُحَيرتان، وساحلٌ للأنبياء، وشارعٌ لروائح الليمون". وكثيراً ما استعان جلال جرار بالشِعر والمقولات الشعبية لوصف تلك المدينة، فكان يردّد: "حيفا يا حيفا، ما أحلى مَيّاتك، تنه الخِضِر ساكن جوّاتك"، والتي ظلّ يُردّدها لأحفاده طوال حياته. وفي مقولةٍ أُخرى: "حيفا يا حيفا، ما أطول مداكِ وريتك تهدمي عَلّي بَناكِ، من يوم اللّي فلان [ويَذكر اسمَ المتحدّث إليه] دخل هواكِ وما عدْت أشوفه في السنة يوما". وفي هذا تعبيرٌ عن جَمال حيفا الذي يَسلُب ألباب الأحباب فيُشدَهون بها عن بعضِهم بعضاً. ويَستذكِر جلال صوتَ البابور (القطار) القادم إلى المدينة حين مرورِه بجانب بلدة طيرة قربَ حيفا مردّداً: "قَرقَع بابور الطيرة من حيفا وغاد، وسمِعْنا قراقيعه من قاع الواد". والبابور هو القطار، والقرقعة هي صوت عجلاته على السكّة الحديد.
أخبرَني جلال تكراراً أن الرئيس المصريّ السابق جمال عبد الناصر أعربَ عن إعجابه بمدينة حيفا ووَصَفَها بأنها "مدينة مميّزة تجمع بين البحر والجبل والسهل"، إلّا أن هذه المقولة غير موثّقةٍ في المراجع المعتمَدة، وغالباً ما تناقلتها الأجيال في سياق القصص الشعبية والأحاديث العائلية التي تحفظ الذاكرة الجماعية. مع ذلك، فإن تداولها بحدّ ذاتِه يُشير إلى موقع حيفا الخاصّ في الذاكرة والوجدان الفلسطيني، نظراً لموقعها الجغرافي المُميّز وأهمّيتها التاريخية مدينةً ذاتَ دورٍ اقتصاديٍّ وثقافيٍّ بارزٍ قبل النكبة. وقد تأسّسَت حيفا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد قريةً كنعانيةً، تطوّرت لتصبح مرفأً بحريّاً استراتيجياً في شرق المتوسط. وبهذا باتت مدخلاً لبلاد الشام والعراق من البحر المتوسط؛ المزيّة الجغرافية ذاتُها التي جعلت المدينةَ هدفاً للأطماع الاستعمارية، من الحملات الصليبية مروراً بالانتداب البريطانيّ حتى النكبة عام 1948 وتأسيس إسرائيل. وسَبَقَ ذلك بعقودٍ الأبُ الروحيّ للحركة الصهيونية ثيودور هرتزل حينما شَجّعَ اليهودَ على الهجرة إليها. واليوم باتت حيفا الميناءَ الرئيسَ في إسرائيل.
وفي خضمّ الأهداف ذاتها، حَجَّمَ الصهاينةُ الوجودَ الفلسطينيّ العربيّ سواءً المسيحيّ أو الإسلامي داخل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وعليه، حين موافقة الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) على انضمام الاتحاد الفلسطيني إليه عام 1926، ما كان لهذا الاتحاد سوى اسم "فلسطين". وتطوّر الأمرُ ليصبح جلُّ أعضاء منتخب فلسطين لكرة القدم من اليهود الصهاينة. بيد أن هذا لم يمنع بقاءَ كرة القدم اللعبةَ الشعبية الأولى في مدن فلسطين. ووفق "الموسوعة الفلسطينية"، بلغ عددُ الأندية النشطة قبل النكبة إلى 145 نادياً، في حين كان عدد الأندية التي اكتسبَت عضويةَ الاتحاد الرياضي الفلسطيني العربيّ خمسةً وخمسين حتى يناير 1947، وامتدّت لتشمل مدناً رئيسةً مثل القدس ويافا وعكا ورام الله وحيفا.
وفي رحاب حيفا، يروي جلال ذكرياتِه الأولى عن حبّه كرةَ القدم عندما كان يذهب إلى الملاعب خفيةً عن أبيه، الذي وَجده يَلهو بكرة القدم عن تعليمه، فكان يعاقبه عندما يتأخّر في العودة إلى المنزل بعد قضاء وقتٍ طويلٍ في الملاعب. يَستذكِر جلال ركلاتِه الأولى للكرةِ طفلاً في حديقة المطران في حيفا، وهي حديقةٌ تابعةٌ لمدرسةٍ في شارع المطران بالمدينة. كان ذلك قبل انضمامه للأندية. تحدّث في مقابلةٍ أجراها معه التلفزيون العربي قائلاً: "كنت في الصف السابع في حيفا، فكنت ألعب مع فريق المدرسة، وبعدين انتخبوني رئيس للفريق، وكنا نلعب مع فرق مدارس في حيفا مثل السالزيان". وبعد ذلك انضمّ إلى النادي الإسلامي الرياضي في حيفا، الذي تأسّس في النصف الثاني من العشرينيات. ومن ثمّ إلى نادي الكشّاف المسلم، وكان امتداداً للحركة الكشفية الفلسطينية التي كانت باكورتُها في 1912 في القدس. ومن ثمّ كانت الكثير من اللقاءات والزيارات الكشفية تُختَتَم بلقاءاتٍ كرويةٍ بين الفرق الكشفية المشاركة.
في إحدى المباريات التي خاضها في حيفا في أواخر عام 1940، لفت جلال نظرَ موظفٍ إداريٍ في سجن عكّا المركزي، فعَرَضَ الموظّف عليه الانضمامَ إلى فريق سجن عكّا والعمل موظفاً في مقسم الهاتف هناك. انتقل جلال جرار إلى عكّا في أقصى شمال فلسطين على إثر ذلك العرض. وكان ذلك السجن تحت إدارة سلطات الانتداب في مكان قلعة عكّا التي بناها أحمد باشا الجزار، حاكم ساحل فلسطين والشام في النصف الأول من القرن التاسع عشر. فورَ انتقاله لعكّا، انتسب جلال إلى النادي القوميّ الرياضيّ حيث قضى فيه سنوات. ومن ثمّ انتقل إلى نادي أسامة بن زيد الرياضي وبقي فيه حتى خروجه من عكّا عام 1948 مع النكبة. وهنا تَستذكِر زوجتُه صبحية جرار: "كنا في البلدة القديمة في عكا، وكان عنا دار ووسطها ساحة كبيرة، ولمّا ضربوا عكّا، طلعنا على صيدا (في جنوب لبنان) لأنها قريبة مشان نرجع…".
رَسمت عكّا الملامحَ الأقوى في ذاكرة جلال عن الكرة والملاعب، فهناك بزغ اسمُه لاعباً محترفاً. يروي جلال جرار في مقابلةٍ مع المتحف الفلسطينيّ أُجريَت معه عام 2013: "لعبت أوّلاً مع النادي الرياضي الإسلامي في حيفا. بعدين لمّا انتقلت أشتغل في عكّا، انتسبت إلى النادي الرياضي القومي في عكّا. وكان سكرتير النادي اسمه موسى النجمي، شخصية فلسطينية معروفة". وفي مقالٍ بعنوان "واصِلوا المسيرةَ على دربِهم" نُشِر عام 2005، يَذكر بشارة عبود، أحدُ مؤسّسي النادي القومي الرياضي، قصّةَ تأسيس النادي، فيقول: "كنتُ من مؤسّسي النادي القومي الرياضي عام 1944، وتَرأّسَ هذا النادي في حينِه موسى سليم النجمي، أخو زميلي أحمد النجمي لاعبِ كرة القدم. وضَمّ هذا النادي فريقاً جيّداً انضمّ إلى الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وخلال سنةٍ نال بطولةَ الجليل عام 1945 مُتغلِّباً على فِرَقٍ من صفد وحيفا ويافا وعكّا والناصرة وطبريّا. وصُنّف النادي ضمن فِرَق الدرجة الأولى في فلسطين بعد عامٍ واحدٍ فقط من انتسابه إلى الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. يقول جلال: "لعبتُ مع النادي الرياضي القومي في عكّا، وكنتُ رئيسَ الفريق. كنتُ أَمرُق (أمرّ) بين الخصم دون أن يمسّوا الكرةَ فأطلَقوا عليَّ لقبَ الحيّة"، بسبب مهارته في المناورة والمرور بالكرة.
كان جلال جرار حينَها رئيسَ الفريق، وكان يلعب قلبَ هجومٍ، بينما لَعِبَ أحمد النجمي ظهيراً أيسرَ، واشتهر بأنه أفضل ظهيرٍ في منطقة الجليل. في كتابِ "عكّا: تراث وذكريات"، وهو من المراجع المهمّة عن الحياة في عكّا قبل النكبة، نقرأ أحداثَ إحدى المباريات الشهيرة التي خاضها النادي القوميّ عام 1945 ضدّ نادي أسامة بن زيد الرياضي، والتي انتهت بفوز النادي القومي بثلاثة أهدافٍ مقابل هدف. حينها سدّد جلال جرار هدفين بينما أحرز أحمد النجمي الهدفَ الثالث. وسجّل لنادي أسامة اللاعبُ محمد أبو رمحين الذي اشتهر بضرباته الرأسية، وكان زميلاً سابقاً لجلال جرار في فريق النادي الإسلامي في حيفا.
عَوداً على مشوارِه في عكّا، خاض جلال جرار عدّة مبارياتٍ مع فريق سجن عكّا، حيث نال الفريقُ بطولةَ حيفا عام 1941. يقول جلال: "كنّا أربعة فلسطينيين، وثمانية إنجليزٍ، ويهوديّاً واحداًً، من الموظّفين الإداريّين في (فريق) سجن عكّا المركزي". ويَذكر جلال أن أحدَهم، في الأسابيع الأخيرة قبل هجوم المنظمات الصهيونية على عكّا في مايو 1948، ألمَحَ لَهُ بضرورة حمل أغراضه والعودة مع عائلته إلى أقاربه في مدينة جنين إلى أن تهدأ الأوضاع.
انتقلَ جلال في نهاية الأربعينيات إلى نادي أسامة بن زيد في عكّا، الذي قال إنه أحبّه وتعلّق به. تأسّس النادي في مطلع الثلاثينيات، وكان أحدُ أعضاء مجلس الشَرَف المحامي أحمد الشقيري، والذي أصبح لاحقاً أوّلَ رئيسٍ لمنظّمة التحرير الفلسطينية. نشط النادي في تنظيم الأنشطة الثقافية والاجتماعية والكشفية إلى جانب الأنشطة الرياضية. ففي خبرٍ نُشر في جريدة فلسطين بتاريخ الرابع عشر من سبتمبر 1936 تحت عنوان "في نادي أسامة بعكّا"، بلغ أن النادي أقام حفلةً حضرها رئيسُ البلدية والقائمقام. عُرض في الاحتفال روايةٌ (مسرحية) فكاهيةٌ بِاسم "المتّهَم". وقُدِّمَت وَصْلةٌ غنائيةٌ أدّاها محمد نمر، أحدُ المغنّين بالمدينة. تلاها عرضٌ موسيقيٌّ لأغاني وطنيةٍ قَدّمه كشافةُ النادي.
معظمُ المراجع عن تاريخ مدينةِ عكّا ومجتمعِها قبل النكبة تشير إلى دور نادي أسامة بالمشاركة في الفعاليات الوطنية والحفاظ على الهوية والثقافة العربية، خصوصاً خلال ثورة عام 1936 ضدّ الانتداب والحركة الصهيونية. أصبحَت معظمُ الأندية في ذلك الوقت منابرَ وطنيةً لتوعية أبناء فلسطين بمخاطر التوسّع الصهيونيّ وضرورة التصدّي للانتداب البريطانيّ. ترأَّس نادي أسامة شخصياتٌ مرموقةٌ في المجال الاجتماعي والثقافي. منهم السيّد شفيق الجراح، أستاذ الرياضة البدنية بمدرسة الفرقة. ومن ثمّ عبد الله الدباغ الذي بقي رئيساً للنادي حتى عام 1948. وكانت هناك مكتبةٌ للأعضاء في النادي. هنا يَستذكِر جلال جرار في إحدى مقابلاته المصوّرة معي عام 2017 قائلاً: "لعبت في نادي أسامة، وسمّيت ابني أسامة على اسم النادي. كان رئيس النادي من دار الجراح، زلمة محترم وأستاذ من القُدُم (القدماء). كنّا نقعد في ساحة النادي ونتجادل ونتحدث في كلّ أمور النادي، سواءً كرة التنس أو كرة القدم، أو أمور تهمّ النادي. كنّا ندعو شخصية لإلقاء محاضرة تقريباً مرّة كلّ شهر من جميع أنحاء فلسطين. وكان عنّا علاقات مع الأندية من خارج عكّا".
ويأتي ذكر نادي أسامة أيضاً في كتاب "عكّا: تراث وذكريات"، بالإشارة إلى نشاطه في العمل الكشفي والرياضي والثقافي والموسيقي ونشاطه في الأعياد والمناسبات الوطنية. ويَذكر الكتابُ لاعبي كرة قدمٍ بارزين مثل محمد زهران، ومحمد أبو رمحين وجلال جرار وأديب ترك ومحمد صفوري وإسطفان لاتي، ويصِفُهم بأنهم "أبرز لاعبي كرة القدم في عكّا". ويذكر عدداً من المباريات التي خاضها النادي، مثل مباراته مع النادي الإسلامي الرياضي في يافا، وكذلك مع منتخب أندية دمشق الذي لَعِب مباراةً ودّيةً مع أنديةٍ فلسطينية. روى لي جلال عن إحدى هذه المباريات قائلاً إنه لَعِب ضدّ نادي دمشق الرياضي وخسر فريقُه بستّة أهدافٍ مقابل ثلاثة. وقال: "بعد انتهاء المباراة كرّمنا اللاعبين الضيوف بحضور أحمد الشقيري". ويشير الكتابُ إلى عزف فرقة الموسيقى بنادي أسامة الألحانَ الوطنيةَ عقب الخطاب أمام منزل رئيس بلدية عكّا حينئذٍ الذي ألقاه جمال الحسيني –نائب أمين الحسيني، رئيس الهيئة العربية العليا ومفتي القدس لاحقاً المناهض للإنجليز والحركة الصهيونية– بعد عودته إلى فلسطين عام 1946 بعد أربع سنواتٍ قضاها معتقلاً لدى القوات البريطانية خارج فلسطين في الأحواز ومن ثمّ في روديسيا الجنوبية (زيمبابوي).
وبعد صدور قرار التقسيم من الجمعية العامّة للأمم المتحدة في نهاية نوفمبر 1947، قاضياً بتقسيم فلسطين إلى دولتين؛ عربيّةٍ ويهوديّةٍ، توقّف النشاطُ الرياضي والكشفي في جميع الأندية الرياضية. وانصرف بعض الأعضاء إلى التدرّب على حمل السلاح، لمقاومة القرار الجائر بمنح المساحة الأكبر في فلسطين للأقلّية اليهودية، والتي كانت في جُلّها أوروبية. وفي عام 1948، هاجَرَ جلال جرار وعائلتُه إلى لبنان لمدّة عام، ومن ثمّ ذهب إلى سوريا. وعاد في بداية الخمسينيات إلى الضفّة الغربية، وكانت آنذاك تحت الحُكم الأردنيّ، حيث سكن في القدس مدّةً قصيرةً عمل خلالها في إدارة الأحراش مع السلطات الأردنية. ثمّ انتقل إلى جنين ولَعِب مع نادي جنين الرياضي. وبعدها إلى مدينة طولكرم، حيث أصبح رئيساً لنادي طولكرم الرياضي في عام 1956، وأحرز مع فريقه بطولةَ نابلس في العام نفسه.
انتهى به المطافُ في العاصمة الأردنية عمان بعد نكسة 1967، واحتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، لكونِه متطوّعاً في الدفاع المدنيّ التابع للجيش الأردني. حينها أرسل إلى زوجته صبحيّة، التي بقيت في جنين، يسألها الانضمامَ إليه، فأَبَت تكرارَ تجربة اللجوء مرّتَيْن وطالَبَته بالعودة إلى الوطن. قالت لي صبحيّة: "كان مع دورية أردنية في الـ67، وطلع معهم على عمّان، واحنا في برقين (قرية في قضاء جنين)، وخاف تسكّر البلاد فبَعَتلنا نطلع وراه. بس ما ردّيت عليه. هون عفشنا ودارنا وأغراضنا. ورجع على بيته".
ظلّت أهداف جلال جرار التي أحرزها عالقةً في ذاكرته. وكذلك صوت صفارة الحكم، وهتافات الجمهور، ونتيجة التعادل في مباراةٍ مع النادي الدجاني الرياضي في القدس –الذي أسّسته عائلةُ الدجاني الأرستقراطية قبل إعلان الانتداب بعام– والخسارة أمام نادي دمشق الرياضي. ولا ينسى الفرصةَ الضائعةَ بعد أن وصلته رسالةٌ رئيس النادي الإسلامي في حيفا يونس نفاع عام 1945 يُعلمه بها أنه رُشّح للَّعِب مع منتخب فلسطين، ولكنه لم يستطِع اللعب بسبب إصابته في إحدى المباريات، حتى تلاشى كلّ شيءٍ بعدما قامت إسرائيل. وهنا قالت لي صبحيّة مستذكرةً ما ضاع: "قلنا أسبوع وبنرجع …"، تقصد الرجوع إلى بيتها في عكا بعد أن نزحت إلى لبنان، "ومرّت الأيام. تركنا كلشي في الدار. أنا كنت عروس جديد متزوجة من أربع أشهر. تركنا عفش وصحون وأواعي ما لبستهم وقناني عطر ما انفتحن".
احتفظ جلال جرار بأرشيف صورٍ قديمٍ يوثّق مسيرته الكروية. ولكن معظم هذا الأرشيف دُمّر بعد اقتحام جنود الاحتلال بيتَه في اجتياح مدينة جنين في الانتفاضة الثانية عام 2002، في خضمّ ما عُرف بعملية "الدرع الواقي". وفيها أعادت إسرائيل اقتحامَ أجزاءٍ واسعةٍ من الضفّة الغربية كانت قد سُلّمت لسيطرة السلطة الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو في منتصف التسعينيات. ومع ذلك، فإن الذكرى التي طُويَت لم تلبث أن عادت في رواية "البردقانة" للروائيّ إياد البرغوثي. وتدور أحداث الرواية حول فريق كرة قدم في عكّا سنة 1945، ليَظهر فيها جلال مرّةً أُخرى لاعبَ قلبِ هجوم. وكأنّه القَدَر، فلم يكن جلال جرار يعتقد أنه وبعد ستّةٍ وستّين عاماً من النكبة، أي في وقت صدور الرواية عام 2014، سيعود لاعباً، وإنْ بلُغةِ الأدب، في أندية عكا، فيقابل زملاءه في فريق النادي الرياضي القومي: الظهيرُ الأيسرُ محمد النجمي، وساعدُ الدفاعِ الأيسرُ خليل بياعة، وقلبُ الدفاعِ محمد أبو رمحين، وساعدُ الهجومِ الأيسرُ محمد المدني.
يقول إياد البرغوثي إنه اكتشف أنّ أحدَ أبطال روايته، جلال جرار، كان لا يزال على قيد الحياة عند صدور الرواية، فنشر على صفحته في موقع فيسبوك بتاريخ في سبتمبر 2022 قائلاً: "مِن أجمل الصُدف التي مرّت بحياتي كان اللقاءُ مع أحد أبطال روايتِي 'بردقانة'، المرحوم جلال جرّار، لاعب فريق سجن عكّا لكرة القدم في سنوات الأربعين قبل النكبة. قرأتُ عن جلال جرار في البحث التاريخي الذي قمتُ به تمهيدًا لكتابة الرواية، ولكنني لم أكن على علمٍ أنه لا يزال على قيد الحياة. صُدفٌ كهذه تؤكِّد لي أن واقعَنا المتخيَّل هو جزءٌ من واقعنا الحقيقيّ، ولربّما يمكننا أن نغيّر من واقعنا الحقيقيّ بواسطة إعادة بناءِ وسردِ واقعنا المتخيَّل".
وِمن صُدَف الذاكرة الأُخرى وصولُ رسالةٍ بتسجيلٍ صوتيٍّ حَمَله أُسَيد جرار، الابنُ الأصغر لجلال، في زيارةٍ إلى لبنان عام 1998، حيث صادَفَ صَديقاً قديماً لجلال في نادي أسامة بعكّا، والذي انقطعت أخباره في خضمّ الشتات الذي عاناه المجتمع الفلسطيني بعد 1948. وطيلة ثلاثٍ وعشرين دقيقةً، يعود الصَديقُ في الزمن أكثرَ من خمسين عاماً إلى الوراء ويتحدّث في رسالته عن ذكرياتهم في نادي أسامة وفي البلاد وبعض أصدقائهم وما حلّ بهم.
رحل جلال جرار في ديسمبر 2018 بعد سبعين عاماً من النكبة. سرقوا فيها فريقَه وناديَه وملعبَه وأهدافَه. إلّا أنه استعاد ذلك كلَّه في ذكرياتٍ مكتوبةٍ ومسموعةٍ ومرسومة. أَبَى أن يَنسى. ظَلَّ سبعين عاماً يتحدّث عن عكّا وحيفا، كأنه غادَرَهما منذ أيّامٍ قلائل.