رابط متين: عناقُ الدينِ والفنّ الرصين

لم يحرّم الفقهاء القدامى الرّسم، بل إنّ بعض كبار الفقهاء كانوا فنّانين كبار في عصرهم، مثل القرافي الذي اشتغل بالنحتِ والتصوير.

Share
رابط متين: عناقُ الدينِ والفنّ الرصين
تصميم خاص لمجلة الفراتس

أمْسَكَتْ الفنانةُ التشكيليةُ إحسان مختار دِيكاً كبيراً ذا ألوانٍ زاهية، وَعَزَفَتْ بسكينٍ حادٍ على أوتارِ عُنُقِه، ثم ألقتْ به على أرضِ مطبَخِهَا الرخامي ناصعِ البياض. راح الديكُ يَرْقُصُ وهو مذبوحٌ من شدَّةِ الألمِ، فتناثرتْ بُقَعٌ حمراءُ على رقعةِ الرخامِ الأبيض. واسْتَقَرَّ رأسُ الديكِ بِعُرْفِه البرتقالي ومنقارِه الأصفر على بقعةٍ حمراءَ داكنةٍ. سال الدم فرسم خطاً متعرجاً يُشْبِهُ جريانَ النهر، وَبَسَطَ الديكُ جناحَيْه بألوانِه الرائعة، التي تَدَرَّجَت من البرتقالي إلى الأحمر الوردي، ثم البنفسجي المؤطَّر بالزُرقةِ والسواد.

أقبل أُستاذي الفنان التشكيلي العالمي سيف وانلي فرأى تلك اللوحة البديعة على أرضِ المطبخ، التي أبدعتها دون قصدٍ زوجتُه الفنانة إحسان مختار، فَمَدَّ ذراعه مشيرًا بِكَفِّه وتمتم بكلماتٍ هادئةٍ كأنها همسٌ. ففهمتْ زوجتُه أنه أراد أن تترك هذه اللوحة على ما هي عليه، ثم جاء بحاملٍ عليه لوحةٌ من القماش الأبيض، ثم وَزَّع ألوانَه على لوح الرسم وبدأ يرسم لوحةَ "الديك المذبوح".

لم ينقل ما يراه كأنه آلةُ تصوير، بل أخذ يحذف ويضيف في الشكل واللون، لتكون لوحةً بديعةً كاملة الأوصاف. روى لي أستاذي سيف وانلي هذه الحكاية في إحدى جلساتي معه التي كانت تمتد ساعاتٍ طويلة في بيته أو مرسمه، وحكى لي مصير هذه اللوحة، بعد أن ظلت مهملةً في بيته بضع سنين.

تتلمذتُ في سنوات عمري على يد عددٍ من كبار الفنانين، والتقيتُ ببعض كبار العلماء وحاورتهم، بل ورسمت لكلٍّ منهم صورة شخصية أثنَى عليها ونالت إعجابه، وهم محمد الغزالي وأحمد المحلاوي وصلاح أبو أسماعيل وكذلك يوسف القرضاوي الذي عرضتُ عليه إقامة دورات لتعليم الرسم ملحقةً بالمساجد. فليس برأيي ثمَّةَ خصومةٌ بين الدينِ والفنّ الراقي، بل تأكيد على وحدة الجمال والأخلاق.

إن الدين في نظري يلتقي مع الفنّ الراقي الرفيع، الذي يصور الجمال في أسمى معانيه دون أن يصطدم بالقيم التي تُعْلي من شأن الإنسان وتسمو به إلى أعلى مراتب الفضيلة. فعناقُ الدين والفنّ الراقي الرصين شوقٌ لعالَم الكَمَال الذي يسمو بالروح ويطهر النفس وَيَنْفِي خَبَثَها كما ينفي الكِير خَبَث الحديد، غير أنَّ لهيب الكِيرِ يلفَح الوجوه، أما جمال عناق الفن والدين فيزيد النفس أماناً وينزل عليها برداً وسلاماً.


كان سيف وانلي وأخوه أدهم وانلي من أهم الفنانين التشكليين في مصر، عمل كلٌّ منهما أستاذاً بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية منذ إنشائها سنة 1957. أما لوحة "الديك المذبوح" فبعد أن فَرَغَ من رسمِها، ضَمَّهَا إلى عشرات اللوحات المرصوصة التي أَسْنَدَ بعضَها إلى بعضٍ أسفل الجدران بعد أن اكْتَظَّ أعلاها باللوحات المعلقة. وذات يوم، زار مصرَ تاجرٌ يهودي وأراد أن يقتني بعض أعمال سيف وانلي، فقد رآها منشورةً في الصحف والمجلات العالمية.

زاره في بيته وَجَالَ ببصرِه في الأعمال التي زينت جدرانَه وأخذ يُقَلِّب الأعمال المرصوصة أسفل الجدران حتى وقع بصرُه على لوحة الديك المذبوح فصاح فرحاً، وكأنه عثر على ضالتِه المفقودة بعد أن أضناه البحث عنها سنين عدَداً. أشار إلى الديك المذبوح وهو يقول: هذا أنا، هذا أنا، أركضُ في الحياة بلا هوادة وألهث في تَعَبٍ ونَصَبٍ وأعقد الصفقات وأجمع الأموال ولا أجد وقتاً للمتعة والسعادة. ثمَّ اشترى تلك اللوحة ومضى راضياً، وكأن الفنان قد شَخَّص حالته.

كان سيف وانلي شديد الاعتزاز بنفسه وفنه، ولم يمضِ في ركاب المداحين للسلطة متحملاً تبعات قراراته. ورغم تميزه في رسم الصور الشخصية بأسلوبه الذي ينفذ إلى أعماق من يرسمه مؤكداً ملامحه ببساطة شديدة ودون إغراق في التفاصيل، فإنه يسمو بفنه عن كونه مجرد صورة جامدة. فالصورة توقف الزمن عند لحظة، بينما رسم الفنان يكشف عن مكنونات النفس، معبراً عما يعتمل في داخله من مشاعر الفرح أو الحزن أو المعاناة التي قد يخفيها عن الآخرين لكنها تظهر بوضوح للفنان، وربما تسعى إليه لتلقي بنفسها بين فرشاته وألوانه ليصوغها نغماً مرئياً. ولاعتزازه بفنه لم يرسم سيف وانلي ملكاً أو زعيماً أو رئيساً رغم براعته في رسم الصور الشخصية.

وقد عاصرتُ زيارة هدى جمال عبد الناصر الفنانَ وانلي في بيته كي تسأله عن لوحاته التي رسمها لأبيها، ولكنها عادت خالية الوِفَاض. وبعد أن غادرت شقته مع مرافقها، صَمَتَ سيف قليلًا ثم تمتم بكلماتٍ لم أَسْتَبِن تفاصيلَها، وأحسب أن كلماته كانت تؤكد مدى سُخْطِه على عهدٍ مضى، ثم رفع صوته بكلماتٍ مسموعة ليقول: صورة أي زعيمٍ أو رئيسٍ مصيرُها إلى ظلمةِ المخازن بعد أن يَأفل نجمُه وتَغرُب شمسُه ويذهب إلى غير رجعة، أما لوحاتي فإنها أَخْلَدُ من أي زعيم أو رئيس.

ظل وانلي نسياً منسياً رَدَحاً من الزمن حتى أعاد له الرئيس أنور السادات شيئاً من اعتباره. ورغم أنَّه وصل بفنِّه إلى العالمية إلا أنه لم يكن قد حصل على درجة الدكتوراه، شأنه في ذلك شأن عدد من كبار الفنانين أعضاء هيئة التدريس في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية منذ أن أسسها الفنان أحمد عثمان سنة 1957. بل تلقى المراحل الأولى من تعليمه في قصر أبيه لشدة خوفه عليه، فقد كان أولَ مولود ذكر بعد أربع بنات. وهو ابنٌ لأسرةٍ عريقة، فَجَدُّه لأبيه السنجق محمد وانلي، والسنجق أيام العثمانيين هو اللواء. وَجَدَّتَهُ لوالدته السيدة عصمت هانم ابنة محمد عرفان باشا، الذي أُطلق اسمه على شارع عرفان في حي محرم بك بالإسكندرية.

أحاطتْ هذه الأسرة العريقة طفلَها "سيف" بعناية فائقة، فلم تُلحقه بالمدارس المصرية خوفًا عليه من جنود الاحتلال الإنجليزي، فبدأ دراستَه في القصر على يد معلمين في اللغة والموسيقى. وهذا ما فَعَلَتْهُ الأسرةُ أيضاً مع أخيه أدهم الذي وُلِد بعده بأقل من عامين. لم يدرس سيف في كلية الفنون، بل درس الفن فى مدرسة حسن كامل سنة 1929 التي سُمِّيت بعد ذلك الجمعية الأهلية للفنون الجميلة بالإسكندرية ثم درس هو وأخوه أدهم في مرسم الفنان الإيطالي أوتورينوبيكي بالمدينة سنة 1930.

ذاع صيت سيف وحقق مكانة عالية وتدرج في الشهرة حتى اختير عضواً في هيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة، ولم يكن قد حصل على الدكتوراه. وهذا ما دفعني إلى كتابة رسالة سنة 1976 إلى رشاد رشدي، مدير أكاديمية الفنون بالقاهرة، وكنت حينها لم أتجاوز السادسة والعشرين من عمري، أسألهُ فيها لماذا لم ينل هذا الفنان القدير الدكتوراه الفخرية.

وبعد أيام من إرسالها إلى رشاد رشدي ذهبتُ للقاء سيف وانلي في بيته فاستقبلني بابتسامته الهادئة ووجهه المُحاط بهالة من شعره الأبيض المُسدل حتى كتفيه وملامح تُشعرك أنه قادم من أعماق التاريخ، ثم قال لي بصوت خافت عريض: أقرأت ما نشرته مجلة الجديد؟ وهي المجلة التي يرأس تحريرها رشاد رشدي قلت: لا. قال: لقد نَشَرَت رسالتَك بخطٍ واضح في صدر صفحاتها، وقد عَلَّقَ عليها رشاد رشدي بقوله: "الفنان سيف وانلي له في قلوبنا جميعاً كل تقدير، وفي خطة الأكاديمية إهداء الدكتوراه الفخرية له هذا العام". ثم أردف قائلًا: استيقظتُ صباح اليوم على اتصالات المهنئين وقرأتُ نَصَّ رسالتك المنشورة. وكان النشر في العدد مئة وواحد من مجلة الجديد الصادر في 15 مارس سنة 1976. وقد كتبتُ قصيدةً بالعامية نشرَتْها مجلةُ الإذاعةِ والتلفزيون المصرية ضمن لقاء أجرته مع وانلي، تقول كلماتُ القصيدة:

أَوِّل ما نِبْدي الكلام ح نْسمي ونْصَلِّي

وأقول غناوي المُنَى وَاخُدْ بِدِين خِلِّي

يا مصر يامُّ الكَرَم فيكِ الهرم والنيل

والثَّغْر فيه الفَنَارَ والبَحْرْ سيف وانلي

أَحَبَّ سيف أخاه أدهمَ حباً شديداً فكان صِنْوَه وتوأمَ رُوحِه، وقد ذاع صيته في الفن وحقق شهرةً كبيرة، وكان أيضاً عضواً في هيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية منذ نشأتها. وإضافة إلى شهرته في التصوير الزيتي كان ذا باعٍ طويلٍ في الرسم الساخر "الكاريكاتير" وقد نشر بعضَ رسومهِ في مجلة "روز اليوسف" وفي جريدة "الإخوان المسلمون". وقد اشتهر أدهم وانلي عالمياً وكانت له معارض كثيرة منذ سنة 1947 بروما وبيروت سنة 1949 وباريس سنة 1950 والبرازيل وروسيا. واقتُنيت الكثير من لوحاته في الخارج منها مجموعة في مدرسة الباليه بباريس (رولان بيتيه) وأخرى عند الماركيز كريفاس، وقد كلفته وزارة الثقافة لتسجيل آثار النوبة ومعالمها قبل إقامة السد العالي. حصل على منحة تفرغ مدى الحياة وكرمته الدولة بما يليق بعبقريته، وقد مات أدهم وانلي في 20 ديسمبر 1959 بعد صراعٍ مع مرض السرطان.

حزن سيف حزناً شديداً على أخيه، وكان يُخيَّل إليه أحياناً أنه يسمعه ويراه. قال لي أكثر من مرة ونحن في إحدى غرف شقته الواسعة، التي اتخذها مرسماً وتضم مكتبته الكبيرة، قال وهو يشير إلى أحد أركان الغرفة البعيد: "أمس وأنا أرسم، ظهر لي أدهم من ذلك الركن، وقال لي: برافو يا سيف".

والمؤكد أنها كانت هلاوس سمعية وبصرية. ورغم أن سيف وانلي كان في منتهى الهدوء والحكمة، إلا أنه فنان في نهاية الأمر، والتركيبة النفسية للفنان تجعله أحياناً أكثر عرضة للاضطراب النفسي، بل والعقلي أحياناً، وهو أمر أكدته العديد من الدراسات على مدى عقود. ولا يخفى ما تعرَّض له الفنان بابلو بيكاسُّو على سبيل المثال من فُصَام، وهو مرض عقلي يؤثر على تفكير الإنسان وسلوكه. ولا شك أن صدمة الأستاذ سيف بفقد أخيه كان لها أثر في نفسه، فهو فنان مرهف الحس.

لهذا السبب فأنا أعتقد بأنَّهُ لا بُدَّ للفنٍ من دينٍ يحرسه ويَعْصِمه من الشَّطَط، ولا بد للفنان من دين يحرسه ويحميه من الخلل والزلل. يجعله مُحَلِّقاً ولكن في مساحةٍ مأمونة تحفظ توازنه النفسي وَتَكْبَح جنوحَه وتمنع اندفاعه خارج الغلاف النفسي المدمر وتعود به إلى التحليق في مستويات الإبداع المأمونة. والعجيب أن البعض يقبل كل ما يصدر من الفنان ذائع الصيت حتى لو كان شططاً، فهم يضعونه في مكانة عَلِيَّة ويرَوْنَه مُبَرَّءاً من الزلل، بل ويقَُعِدون هذا الشطط ويعتبروه منهاجاً حتى لو كان  مجرد تخاريف.

وتجربة بيكاسو خير دليل على ذلك. وهو الذي مر بنوبات فُصامٍ حادة، وغيرها من علل نفسية أثرت على إبداعه الذي أراه تشويهاً لجمال الشكل الإنساني، ولكن بعض المسبحين بحمده يرونه إبداعاً لا يعرف قيمته و لا يَسبُر أغوارَه إلا الراسخون في الفن.

لوحات لبابلو بيكاسو أثناء عرضها أمام الصحفيين الأجانب في معرض "من هوكني إلى هولباين، مجموعة وورث" في متحف مارتن جروبيوس باو في 8 سبتمبر 2015 في برلين، ألمانيا. تصوير شون جالوب، صور غيتي.

وقد أجرى طبيب الأعصاب الهولندي ميتشل فراري تجربة على بعض الذين يعانون من صداعٍ نصفي، حيث طلب منهم أن يرسموا صوراً لما يرونه أمامهم أثناء نوبةِ الصداع. وقد كانت رسومُهم مطابقةً للوحاتِ بيكاسو التي رسمها في أواخر الثلاثينيات، وقال فراري إن المصابين بالصداع النصفي أكدوا أنهم يرون الغرفَ والوجوهَ كأنها منقسمةٌ رأسياً.

من هذه التجربة استنتج فراري أن بيكاسو رسم لوحاته بالطريقة التي اشتهر بها لأنه كان يعاني من صداع نصفي يسبب له خللاً في الرؤية. كانت نظرة بيكاسو للعالم عند بدايات تلك المرحلة مثار انتقاد الخبراء الفنيين الذين وصفوها بالغرابة. لكن عمله أخذ منعطفاً جديداً في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، فقد أصبح لبيكاسو رؤية خاصة للعالم وللوجه الإنساني خاصة، منذ أن رسم لوحاته التي عرفت باسم "المرأة التي تبكي" ولوحة "المرأة ذات القبعة". كانت هاتان اللوحتان من أوائل أعماله التي بدأ فيها بيكاسو رسم الوجوه المنقسمة بصورة رأسية بحيث تبدو إحدى العينين أعلى من الأخرى وغير متناسبة ومشوهة. وقد ظهرت عند سيف وانلي في أبسط صورها، وهي تلك الهلاوس السمعية والبصرية التي كانت تظهر في سماعِه صوتَ أخيه أدهم وهو يستحسن إبداع سيف إحدى لوحاته.


كان أستاذي سيف وانلي عف اللسان، كريم الأخلاق، مُحِباً للناس، لا يحسد أحداً على خيرٍ أتاه، أو نجاحٍ حققه، ولكني كنتُ مشفقاً عليه لأنه لا يصلي. بل أن علاقته بالدين كانت واهية رغم الدلالات الدينية التي يحملها اسمه، فهو: محمد سيف الدين إسماعيل محمد وانلي، فأردت أن يكون وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَدْخَلاً لحبه، فقدمتُ له كتاباً يصف النبي وصفاً دقيقاً.

وبعد أيام، سألته: "هل قرأت الكتاب؟" فسكت قليلاً، ثم وضع بقايا لفافة تبغ بين شفتيه وأخذ يبحث بكلتا يديه بين الأوراق المتراكمة على مكتبه متمتماً بكلمات التقطتُ بعضَها. شعرت بالارتباك وكاد قلبي يقفز من مكانه فزعاً، فقد فهمت من تمتمته أنه يبحث عن ورقة رسم فيها بعض الأوصاف التي قرأها في الكتاب الذي أعرتُه إياه. ولحسن الحظ، لم يعثر عليها ولم يُذكر هذا الأمر بعد ذلك. وقد استعدت الكتاب الذي أعرتُه إياه وحمدت الله أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد.

بدأتُ بعد ذلك أبحث عن وسائل أخرى لأقربه من الله بالعبادة، ولكن كانت له قناعاته في هذا الأمر. بل حينما أخبرته أنني أسعى لأُكْمَل نصفَ ديني بالزواج، فوجئت به يستقبل الأمر بفتور قائلاً: الفن لا يقبل معه زوجة ولا صديقة ولا حبيبة ولا ولد. ومع ذلك فقد تزوج تلميذةَ أخيه أدهم الفنانة إحسان مختار، ولكن بعد أن بلغ الثالثة والستين من عمره.

كثيرٌ من الفنانين علاقتُهُم بالدين واهيةٌ، ومنهم المجاهرون بإلحادهم. وقد يبدو للبعض أنَّ الفن والدين ضدان لا يلتقيان، وأن الفن انعتاقٌ من كل القيود، وعدّوا الدين قيد. وفي رأيي أن الدين ليس قيدًا، ولكنه سياجٌ واقٍ. وقد كنتُ طوال رحلتي الفنيّة على يقين من أن الدين لا يتعارض مع الفن، لذا خطرت لي فكرة عرضتُها مرةً على الشيخ القرضاوي، حين كان يزور أبو ظبي لإلقاء المحاضرات بدعوة من المسؤولين.

قلت له: حينما ندفع بأولادنا إلى دورات تعليم الفن على أيدي المتربصين بالدين أو المعادينَ له، فإنهم يعطونهم جرعة فن مصحوبة بجرعةِ فكرٍ معادٍ للدين فينشأ هذا الشقاق بين الدين والإبداع وتزداد الجفْوَة، وإن شِئتَ فَقُلْ الفَجْوَة، بين الدين والفن. فما رأي فضيلتكم في إقامة دورات رسم بِغُرفٍ مُلْحَقةٍ بالمساجد يتعلم فيها أولادنا الرسم ويحفظون القرآن ويتعلمون أمور دينهم فينشأ جيل ذوَّاق للفن ذو حسٍ راقٍ يُحسن استقبال الدين. ومن يبرع منهم نستمر في دعمه حتى يلتحق بإحدى كليات الفنون. ثم ينطلق هؤلاء الفنانون مبشرين بعناق راقٍ بين الفن والدين مستخدمين فنهم في فتح القلوب والعقول الموصدة، سواء من المتدينين الرافضين للفن أو من الفنانين الرافضين للدين. وافق على الفكرة وباركها وسألتهُ الإشرافَ عليها فقال لي "خليني بعيد". ولا أذكر سببَ رفضِه لكن لعله خشي أن تُتَّهم الفكرة بانتماء معين فأراد أن تكون مطلقةً وعامّة.

ويرى القرضاوي إباحة الصور المرسومة وكذلك الضوئية، وقد سبق أن بَيَّن أحكام التصوير والمصورين في كتابه "الحلال والحرام في الإسلام". ووضَّح بالأدلة الشرعية رأي الفقهاء القدامى بأنَّ المُحرَّم من الصور ما كان له ظلّ، أي ما كان مُجَسَّماً، كالتماثيل لأنها تضاهي خَلْق الله. واستدلوا على ذلك بآية "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". ويسُتَثنَى من ذلك لعب الأطفال لحاجتهم إليها، ولذلك فالصور المسطحة تخرج عن التحريم إلى الجواز. واعتبرَ أنَّ الرسوم الكرتونية ليست صوراً كاملة، بل هي صور ذات طبيعة خاصة لا تستجمع كل ملامح الصورة الحقيقية.

استند القرضاوي في رأيه إلى علماء قدامى، والفتاوى بهذا الخصوص متنوّعة وقديمة قدم الإسلام. فمن الذين أجازوا التصوير والرسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد فقهاء المدينة السبعة. وقد كان عبد الله بن عون المزني، أحد علماء البصرة، يُجيز اتخاذ الصور التي لا ظلَّ لها ويستندُ إلى رأيه بأنَّهُ دخل على القاسم بن محمد بن أبي بكر في بيته فرأى فيه حَجْلة (وهي بيت يزيَّن بالثياب والأسِرَّة والستائر) فيها تصاوير القُنْدُس والطائر الخرافي العنقاء. وقد وافقَ القاسمَ الكثيرُ من العلماء والأئمة في رأيه بإباحة الرسم والتصوير مثل المحدِّث ابن أبي شيبة.

وفي السياق نفسه رأي لأحد كبار فقهاء المذهب المالكي شهاب الدين القرافي الذي أسمّيه "الإمام الفنان"، وقد نقلَ رأيَه وموقفه من التصوير محمد عمارة في كتابه "الإسلام والفنون الجميلة": "بل إننا واجدون لدى مجتهدٍ آخر من مجتهدي المذهب المالكي، ما هو أكثر من إباحة الصور والتماثيل . . . واجدونَ لدى الفقيه الأصولي الإمام القرافي . . . الاشتغال بفن النَّحت والتصوير، وليس مجرد الإفتاء بإباحتِهِ فَقَط، فقد تحدَّثَ عن ممارسته لفن صناعة الدُّمى والتماثيل . . . فيقول: 'وعملت أنا هذا الشمعدان، وزدت فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد، إلى البياض الشديد، إلى الحُمْرة الشديدة، وفي كل ساعة لها لون'. فهذا فقيه مجتهد، وأصولي بارز، يمارس صناعة الفن التشكيلي، فكان مَثَّالاً، يصنع تماثيل الإنسان والحيوان، وفي صنعته هذه تتابع وتتعدد الألوان، جمال ينفع الإنسان، المنفعة المادية والجمالية معاً. وهكذا، فإلى جانب الذين منعوا التصوير والنحت في تراثنا الفقهي، كان هناك الذين أباحوا هذا الفن، بعد أن أمِنَت الأمة، خطر الشرك وعبادة هذه التماثيل والصور، بل وكان هناك الفقهاء المجتهدون الذين مارسوا هذه الصناعة، فكانوا فقهاء مجتهدين فنانين". 

ثم يتحدث عمارة عن رأي محمد عبده في الفن التشكيلي فيقول: "من أبرز مهندسي مدرسة التجديد، الأستاذ الإمام محمد عبده يطرق هذا الباب باجتهاده وتجديده، فيعلن مباركة الإسلام للفنون الجميلة، مُنَبِّهاً على دور فنون التشكيل، رسماً ونحتاً وتصويراً، دورها النافع و الضروري في تسجيل معالم الحياة وحفظها، وفي ترقية الأذواق والحواس والاقتراب بالإنسان من صفات الكمال. ولقد عرض الأستاذ الإمام لقضية دور الفنون التشكيلية في حياة الأمة، أثناء سياحته في جزيرة صقلية، سنة 1903. ففي صقلية زار المتاحف والمقابر ومواطن الآثار التي تحفظ وتحكي بالصور  والتماثيل آثار الغابرين، وكأنها من سجلات التاريخ، وكان يرسل إلى مجلة المنار فصولاً يحكي فيها مشاهداته في رحلته، فكتب عن هذه الفنون، وعرض رأي الإسلام في الصور والتصوير والرسم وصناعة التماثيل".

وقد اختلف العلماء في رسم صور الإنسان والحيوان والطير والتي تسمى عند الفقهاء رسم ما لا ظل له، أي الرسم وليست التماثيل على قولين، أرجحهما الجواز وهو ما مال إليه الكثير من المعاصرين مثل يوسف القرضاوي ومحمد نجيب المطيعي وحسنين مخلوف، من كبار علماء الأزهر الشريف، وسيد سابق صاحب كتاب فقه السُّنة المشهور. أما المجلس الإسلامي للإفتاء فقد أفتى  بجواز رسم ما له روح في جلسته المنعقدة يوم الأحد 27 يونيو 2004 وكذلك الأمر بالنسبة للصورة الشمسية فهي أيضاً جائزة ولا حرج في اتخاذها واقتنائها وتعليقها في البيوت. 


كانت تجمعني علاقة طيبة بالداعية المصري أحمد المحلاوي، وقد سبق أن رسمت له صورة شخصية أبدى إعجابه بها بكلمات كتبها أسفل الصورة، فأهديته الأصل واحتفظت بصورة لها. وقد دار بيني وبينه حوار ذات يوم، قلت له: أليست الصحافة الإسلامية إحدى منابر الدعوة؟ قال: بلى. قلت: والصحافة الإسلامية لا تقوم إلا بحذق فنونها من كتابة وإخراج ورسم وتصوير، قال: نعم. قلت: استناداً إلى القاعدة التي تقول ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أليس إتقان الرسم واجب على فئة من المسلمين كي تؤدي دورها في هذا المجال؟ قال: بلى.

فليس هناك خصومة بين الفن والإسلام. ومن يظن ذلك، فليراجع نفسه وليراجع معلوماته عن الدين والفن أيضاً، فمن يُحسن فهمهما معاً لا يرى تنافراً. العزوف عن الفن يجعل الحياةَ جامدة، والانفلات والتمرد على كل القيم ليس مفيداً. بل نريد أن نفتح الباب أمام جيل مُتَدّثِّر بجمال القيم التي تعصمه من الزلل وتحميه من الخلل. فنحن في حاجة إلى الفن للترويح عن أنفسنا وغرس القيم في مجتمعنا وتربية أطفالنا.

اشترك في نشرتنا البريدية