الحكمة اليمانية: مجلةٌ كسرت عزلة اليمن وأسهمت في تكوين نخبتها السياسية

قصة مجلةٍ يمنية موّلها الإمام فتحدّثت بالإصلاح عكسَ مراده، ونَجَت من حروب اليمن وانقساماته، وفي قصتها قصةُ البلد وتاريخه الحديث.

Share
الحكمة اليمانية: مجلةٌ كسرت عزلة اليمن وأسهمت في تكوين نخبتها السياسية
تصميم خاص لمجلة الفراتس

ربما لم يعانِ مجتمعٌ من المجتمعات العربية العزلةَ الشديدة كما عانى المجتمع اليمني عقب رحيل العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى. إذ تسلّم الإمامُ يحيى حميد الدين الحكمَ شمالَ اليمن ودخلت البلادُ عزلةً تامة عن العالم، وصوّرت الإمامةُ اليمنَ لأهله كوكباً وحده، لا يشاركهم شعبٌ آخر هذا الوجود، إلا الجن الذين كان يُخرجهم الإمام لزوار قصره من جهاز عرضٍ سينمائي، ويخبرهم أنهم جن من خدم مملكته وسلطانه. 

عاش اليمن هذه السنوات في ثالوث الجهل والفقر والمرض، وانعزل عن محيطه العربي والإقليمي بينما نشأت دولٌ جديدة وانفجرت السياسة العربية من حوله. هكذا تأخر اليمنُ عن محيطه بعدما جلب العثمانيون بعض أسباب التطوّر إليه، إذ اسهموا بإدخال المطبعةِ اليمنَ سنة 1872 ومدّوا سكك الحديد وأنشأوا المدارس الصناعية والحرفية وبعض المستشفيات والمدارس.

ولما غادر العثمانيون اليمن مهزومين في الحرب العالمية الأولى سنة 1919، تركوا وراءهم مطبعة قديمة لم يُطبع فيها سوى صحيفة صنعاء التي كان الحاكم العثماني يصدرها. فحوّلها الإمام يحيى إلى صحيفة الإيمان وأصدرها لتكون ناطقة باسم دولته الوليدة، ولم يكن ثمة قراء لها إلا قليل من النخب المقربة من الإمام وبلاطه، ولم يكن في عموم مملكة الإمام الكبيرة إلا مدرستان لأبناء طبقتي السادة والقضاة.

وفي هذا المناخ السياسي الجاف في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته نشطت مجموعة من شباب اليمن المتلهفين للتعرف على العالم، مفتونين بما يُهرّب إليهم خفية من مجلات وصحف من خارج اليمن، مثل مجلة المنار والعروة الوثقى والرسالة والمقتطف وغيرها من المجلات التي طبعتها النخب المثقفة في بيروت والقاهرة ودمشق. أثّرت تلك المجلات سريعاً في ولادة تطلعات سياسية وثقافية للشباب الساعين إلى التغيير عنها بمجلة الحكمة اليمانية التي وُلدت في كنف الإمامة، لكنها سرعان ما خرجت عنها. 

في ذلك العقد، هزم جيشُ مؤسس السعودية عبدالعزيز ابن سعود مملكةَ الإمامة الزيدية، وهزمها أيضاً الاستعمارُ البريطاني الجاثم على جنوب اليمن منذ سنة 1839، فوقّع الإمام، مضطّراً، اتفاقيتين مع الطرفين سنة 1934 كانتا أشبه بإعلان هزيمة، وبموجبهما قُسّم اليمن إلى جزء شمالي وآخر جنوبي وأخذت السعودية أجزاء كبيرة من اليمن.

على وقع الهزيمة نبتتْ أولى بذور الحركة الوطنية اليمنية وبدأت أولى تشكلاتها بمعارضة سياسات دولة الإمامة الزيدية وتفريطها بأراضٍ يمنية، وقبولها خط تقسيم اليمن إلى شمال وجنوب، ليصبح الخط لاحقاً خطّاً حدودياً يقسم اليمن بعد الاستقلال الوطني. عدا عن ذلك فقد ولّى الإمام أبناءه المناصبَ العليا في دولته وبرز تنافس بين ولديه، أحمد حاكم لواء تعز، وسيف الإسلام عبد الله وزير المعارف.

وفي خضم هذه التحولات تفتَّقت في ذهن شابٍّ عشرينيٍّ فكرةُ مجلة الحكمة اليمانية. كان هذا الشاب على اتصالٍ بسيف الإسلام عبد الله، ابن الإمام ووزير المعارف الذي استدعاه إلى صنعاء ليكون عضواً في "لجنة التاريخ اليمني" التي شكلها الإمام لكتابة تاريخ اليمن. 

كان ذلك الشاب أحمد عبد الوهاب الوريث، الذي سبقته شهرته إلى بلاط الحكم في صنعاء فقد كان خطيباً مُفوَّهاً خَبِرته جوامع مدينة ذمار ومساجدها بأسلوبه الجديد في الخطابة والدعوة إلى الإصلاح والتجديد الديني. كان أحمد الوريث شديد التأثر بمدرسة الإحياء والإصلاح اليمنية، وأحد أبرز وجوهها الإمام محمد بن علي الشوكاني (1759-1834). 

وما إن وصل أحمد الوريث صنعاء واستقرَّ به المقام فيها حتى تمكَّن من إقناع سيف الإسلام عبد الله بفكرة إصدار مجلة الحكمة اليمانية، على غرار مجلة المنار لرشيد رضا أو مجلة الرسالة للزيات. ولم يكن في اليمن حينها أي مجلةٍ سوى الصحيفة اليتيمة التي تصدر في صنعاء ناطقةً باسم دولة الإمام وحاشيته ومقربيه وتنقل أخبارهم العائلية وأخبار الإجازات والعطل والمناسبات.

عبّر صدور مجلة الحكمة عن توق عارم للانعتاق من سجون العزلة السياسية والمعرفية المضروبة حول اليمن آنذاك، بعد أن كانت المجلات والكتب تُهرّب من القاهرة ودمشق وبغداد ويستقبلها الوريث أو رفاقه ممن لم يخرجوا من اليمن. ظلَّ هؤلاء على اتصالٍ برفاقهم ممن خرجوا للدراسة ورأوا العالم من حولهم يمضي واليمن على حاله، فشكَّلت المجلةُ خطوةً فارقة في تلك اللحظة اليمنية البائسة، لتكسر العزلةَ والجمود المسيطر على المشهد سياسياً وثقافياً، وفتحت نافذةً لليمنيين للاطلاع على العالم من حولهم وإشعارهم أنّ بإمكانهم الإسهامُ في فتح كوَّةٍ للنور في جدار سجنهم عن العالم الذي وضعهم فيه الإمام.


تأثَّر الوريثُ بمدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان، رواد النهضة العربية مطلع القرن العشرين؛ إذ كانت تصله ورفاقه شمال اليمن مجلات العروة الوثقى والمنار والمقتطف وبعض الكتب الحديثة. وكانت هذه المجلات تُهرَّب من مدينة عدن التي يحكمها الاستعمار البريطاني إلى شمال اليمن، مع بعض التجار، الذين  ينشطون في دوائر غير مُنظّمة سياسياً ومعارضة للإمامة، ثم شكّلت هذه الدوائر النواة الأولى للحركة الوطنية. وربما استُدعي الوريث بسبب هذا النشاط إلى بلاط الإمام في صنعاء لتكون تحركاته ونشاطاته على عينيه، عادةَ الإمام مع من يتوجس منهم خيفةً.

صدر أول عدد من مجلة الحكمة اليمانية في ديسمبر سنةَ 1938 وعُرّفت بأنها "مجلة علمية جامعة شهرية"، وحرص فريقها ورئيس تحريرها الوريث أن تكون مجلة متنوعة غير متخصصة وإن كان الفكر والأدب والتاريخ أهم مواضيعها. ارتأى الوريث ورفاقه أنَّ الإصلاح الدينيَّ هو جوهر الفكرة التي يرمون إليها في مواضيع مثل الأدب والشعر والفكر تمويهاً. فتجدهم يكتبون عن الزراعة والتجارة والاقتصاد وعن الشعر والفكر والتاريخ، وكلها مواضيع تستبطن حقيقة رغبتهم العارمة في الإصلاح والتجديد والثورة على الأوضاع التي يرزح تحتها اليمن.

إلا أنَّ طموحات الوريث الإصلاحية كانت هاجسه الأول، فدشّن أولى مقالاته بعنوان "الإصلاح" وكتب تحت هذا العنوان تسع مقالات في تسعة أعداد، تحدَّث فيها عن أهمية الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في مجالات التعليم والصحة وبناء مؤسسات الدولة، ومعرّجاً على أنَّ ذلك لن يتأتى إلا بابتعاث الطلاب للتعلُّم خارج اليمن. وهو ما تحقق لاحقاً بإرسال "بعثة الأربعين" الشهيرة التي تخرّجت منها نخبةٌ من اليمنيين، درسوا في دولٍ عدّة على رأسها مصر. أسهموا في ثورة الدستور سنة 1948، والتي أُعدم إثر فشلها عدد منهم، مثل أحمد بن أحمد المطاع وأحمد الحورش ومحي الدين العنسي وغيرهم، وكلهم من كُتَّاب المجلة ومؤسسيها.

مات الوريث مبكراً ميتةً مريبة سنةَ 1940 وعمره سبعة وعشرون عاماً، فواصل رفاقه الكتابة، وعلى رأسهم أحمد بن أحمد المطاع، الذي تولّى رئاسة تحرير المجلة وتابع كتابة سلسلة مقالات الإصلاح، وكتب عبد الله العزب تسع مقالات عن الأدب العربي، وإن لم يظهر اسمه إلا في العدد الرابع من المجلة، وكتبَ أحمد عبد الواسع الواسعي أربع حلقات وسلسلة مقالات عن الكتابة واهتمام العرب بها، وتابعوا الكتابة حتى توقَّفت المجلة في مارس سنةَ 1941، بعد العدد الثامن والعشرين.

واشترك محمد حسن الذاري وزيد عنان في كتابة خمس مقالات عن أهمية الاستفادة من الخبرات العلمية الحديثة في مجال الزراعة، واستمرَّ عنان بالكتابة عن الحيوانات وأمراضها ووسائل علاجها. وكتب عبد الواسع بن يحيى الواسعي عن الاقتصاد تسع حلقات متواصلة، وكتب محي الدين العنسي عن اليمن السعيد بين الماضي والحاضر، وكتب كلٌّ من المؤرخ عبد الله الجرافي وإبراهيم الحضراني مقالات مطولة عن عيون الشعر العربي. 

سبكت هذه المقالاتِ متنوعة المضمون فكرةٌ مركزيةٌ واحدة، وهي التنوير الفكري والثقافي لليمنيين في بلاد لا صوت فيها فوق صوت الإمام، الذي هو في مذهب الزيديّة ظلُّ الله في الأرض وممثّله الأوحد، له الطاعة الواجبة ومخالفته معصية لله ورسوله. ومن بين يدي سلطة تستند في حكمها إلى شرعية الدين انبثقت فكرة مجلة الحكمة اليمانية مقدمةً أفكاراً جديدة وأطروحات خارجةً عن القالب الذي وضعه الإمام لليمن والعالم من حوله.

ثاني رئيس تحرير للمجلة أحمد المطاع، منحدر من تجربة سياسية ونضالية قاسية بين السجون والمعتقلات، وكان قبلها في القطاع العسكري ثم تركه وتفرغ للفكر والنضال. أسس "هيئة النضال" التي طاف بها ربوع اليمن داعياً إلى الإصلاح في دولة الإمامة، وهو ما قاده إلى المعتقل قبل صدور مجلة الحكمة اليمانية. وهكذا "ظهرت مجلة الحكمة استجابة لتطور الفكر في اليمن" كما يقول سيد مصطفى سالم، أستاذ تاريخ اليمن المعاصر في كتابه "مجلة الحكمة اليمانية 1938-1941 وحركة الإصلاح في اليمن" المنشور سنة 1988. 

رأت هذه النخبة أن لا مخرج لليمن من مأزقه إلا بالعلم والتنوير المعرفي الذي كان شبه محرَّمٍ في اليمن تحت سلطة الإمامة الزيدية ونظرتها إلى الحياة والإسلام. صارت مجلةُ الحكمة اليمانية في بلاط الإمامة، التي أصدرتها ومولتها، أشبهَ بقصة موسى الرضيع في بلاط فرعون، ففتحت أعين اليمنيين على أوضاعِ بلدهم وانتشارِ الجهل فيه وسوء نظام الحكم.

ولهذا سارع الإمام يحيي حميد الدين إلى إيقاف المجلة في مارس سنةَ 1941، أي بعد أقلِّ من ثلاث سنوات، بحجَّة انعدام أوراق الطباعة مع اشتداد الحرب العالمية الثانية. لكن أوراق الطباعة كانت موجودة واستمرَّت تطبع بها صحيفة الإيمان، الصوت الرسمي لدولة الإمام. لكن الواضح أن مشروع الإمام لاحتواء المفكرين والنخبة الجديدة فشل، وصارت مجلةُ الحكمة منصةً للتثقيف في اليمن دفعت للانفتاح على المحيط العربي، وأهمُّ ثمراتها بعثة الأربعين الطلابية، وهم طُلابٌ أرسلهم الإمام على نفقة الدولة للدراسة في الخارج، وتأثّروا بشكلٍ خاص بالناصرية والمدّ القومي في مصر فعادوا لليمن بأفكارٍ جديدة وصاروا جزءاً من  النخبة السياسية اليمنية الجديدة التي أسهمت بقيام ثلاث ثورات متتالية على يد جيلٍ واحد تقريباً، وهي ثورات فبراير 1948 وسبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، كاسرة مقولة أن الجيل الواحد لا يمكنه الثورة أكثر من مرة واحدة.


بُعثت المجلةُ على يد مجموعة يمنية رافضة تقسيمَ اليمن إلى شمال وجنوب، ونادت بإعادة توحيد البلاد في لحظة صعبة. فبعد قيام ثورتي 26 سبتمبر 1962 في الشمال ضد الإمامة وثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني أصبح اليمن مقسماً إلى شطرين ودولتين مختلفتين تماماً، جنوب يتبع التوجه الاشتراكي ومعسكره الشيوعي، وشمال يتبع المعسكر الغربي سياسياً، انقسامٌ استمر حتى نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991.   

دعت المجموعة نفسها إلى تطبيقِ مخرجاتِ مؤتمر الطلاب اليمنيين الأوّل في القاهرة سنةَ 1956 الذي نصَّ على ضرورة إسقاط الإمامة شمال اليمن، وطرد المستعمر البريطاني من جنوبه، ثمّ توحيد اليمن. وقد أعلن المثقفون اليمنيون عن تأسيس لجنة تحضيرية للاتحاد العام للكُتَّاب اليمنيين في أكتوبر 1970، ثمَّ قرَّروا إعادة إصدار مجلة الحكمة اليمانية في أبريل 1971، يرأس تحريرها عمر الجاوي. عادت مجلة الحكمة اليمانية بعد توقف ثلاثة عقود وصدرت باسم "الحكمة"، ولم يكن هذا الاختيار صدفةً بل رمزية مقصودة واستمراراً لخط الحكمة الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي، كما يشير الدكتور علي محمد زيد في كتابه "الثقافة الجمهورية في اليمن" المنشور سنة 2020. أراد الناشرون الجدد متابعة مهمة تنشيط السياسة اليمنية وأخذها إلى آفاق جديدة بعد أن كان للمجلة الأولى أثراً في تهيئة نخبة فجّرت ثورتي سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، وقبلهما ثورة الدستور سنة 1948.

صدرت المجلة الجديدة في أوج الأزمات السياسية والحرب بين شطري اليمن في حربي 1972 و 1979، فناورتْ الحكمةُ الجديدة إكراهاتِ السياسة، يرأسُ تحريرها عمر الجاوي ذو الشخصية الوطنية المتجاوزة الاصطفافات الحزبية والتوجهات الفكرية الضيقة التي كانت وقود الصراع والحرب حينها، فصاغ الجاوي خطاب المجلة وسياستها التحريرية بعيداً عن الخلافات، وبتركيزٍ على الخطاب الوطني الوحدوي العام. وأرى أنَّ المجلة استطاعت أن توحّد اليمن فكرياً وثقافياً قبل توحيده السياسي بأكثر من عقدين من الزمان، إذ تداعى كتّابُ المجلة إلى تأسيس مؤتمر الأدباء والكُتاب من شطري اليمن المنقسم وأعلنوا قيام هذه المؤسسة المُوحدة يمنياً قبل إعلان توحيد اليمن سياسياً سنة 1990.

صدرت مجلة الحكمة في العهد الملكي الإمامي سنة 1938 بطابع إسلامي واضح التوجه والمنهج، ويكاد يقترب، بل يطابق، إصلاحية محمد عبده والأفغاني ومحمد رشيد رضا. ثمّ في صدورها الثاني استمرّت المجلةُ، على يسارية محرّرها عمر الجاوي وجلِّ رفاقه في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، بالطابع الإصلاحي نفسه في طورها الجديد لساناً ناطقاً باسم الاتحاد.

لكن المسار العام لمجلة الحكمة ظلَّ مقروناً بالمسار العام للحركة الوطنية اليمنية التي نشأت هي الأخرى ذات منحى إصلاحي إسلامي واضح في البداية، وإن ضخ في جسدها اليسار تالياً بُعداً ثورياً واضحاً. وظلّت المشتركات الوطنية هي الأساس الذي يجب الحفاظ عليه، وعدم تجاوز ذلك إلى صراع الخلفيات الفكرية وسوقها الرائجة حينها، فقد شهد اليمن في السبعينيات صراعاً فكرياً مريراً بين النخب اليمنية الحاكمة عن شكل الدولة ونظام الحكم. فكانت النخبة اليسارية الحاكمة في جنوب اليمن ترى حتميةَ الخلاص من إرث الاستعمار البريطاني بتبني النموذج الاشتراكي للدولة والمجتمع، وهذه النظرة استبطنت فكرة توحيد اليمن بالقوة وفرض رؤية اشتراكية للدولة والمجتمع، أمّا نخبة مجلة الحكمة فكتبت وبحثت عن مشتركات توسع دائرة التفاهم الوطنية بدل توسيع الفجوة.

حافظ اتحاد الأدباء في أربعة عقود على خطٍ يمثّل اليمن جميعاً في أزماته المختلفة التي عصفت به، وظلَّت المجلة تحلّق فوق عوامل الفرقة وتحكي عن هموم الإنسان اليمني وتبتعد عن خطابات التعصب القبلي والعنصري والمناطقي.

وشكَّلت الحكمة في طورها الجديد 1972 - 1990 امتداداً للحكمة القديمة بما قدَّمته للحياة الفكرية والثقافية اليمنية من رافد مهم أسهم في استمرار زخم الأفكار الإصلاحية والوطنية معاً. وهي التي ساهمت في إيصال اليمن إلى صبيحة يوم 22 مايو 1990، يوم إعلان الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه وإعلان الجمهورية اليمنية التي قدّمت مجلة الحكمة منصةً لأدبياتها السياسية.


مع إعلان الوحدة اليمنية والسماح بالتعددية السياسية، تحوَّلت جلُّ النخبة الفكرية والثقافية التي كانت تقود الاتحاد العام للأدباء والكتاب اليمنيين، إلى العمل السياسي الذي كانت تصدر عنه مجلة الحكمة الجديدة، وعلى رأس هؤلاء عمر الجاوي أمين عام الاتحاد ورئيس تحرير مجلة الحكمة، الذي ترك منصبيه وانصرف إلى تأسيس حزب التجمع الوحدوي اليمني.

فدخلت الحكمة مرحلةً جديدة ومختلفةً؛ تنازعها تياران فكريان، هما اليسار القومي الاشتراكي واليسار الشيوعي، عقب الوحدة اليمنية، واليسار عموماً مقابل حزب المؤتمر الشعبي الحاكم بعد الحرب الأهلية سنة  1994. وتراجعت إثرها الحقوق والحريات العامة، لا سيما الصحفية، فكان لهذا أثره في انتظام صدور المجلة واستمرارها فترة قصيرة، لكنّها توقفت بعد الحرب، ثمّ عادت بتقطّع، وظلّت على هذه الحال سنوات متتالية.

وقد توالى على رئاستها عدّة كتّاب وشعراء وأدباء، لكن وهجها الفكري والثقافي تراجع وانحصر تركيزها على النقد الثقافي الأدبي، ثمَّ توقفت سنة 2010 إلى الأبد. وكان لهذا التوقف أسباب عدة أهمها ارتباطُ المجلة بالاتحاد العام للأدباء والكتاب اليمنيين، الذي شهد تجاذبات وخلافات في قيادته بين السلطة والمعارضة، ثمّ سيطرةُ اليسار اليمني وحده على السياسة التحريرية، وانتهى إلى حصر عملها في النقد الثقافي بعد أن كانت شاملة.

وعلى صعوبة هذه المرحلة، استمرَّ صدور المجلة طوال هذه العقود، وإنْ بتقطّع، مما يعكسُ المكانة الكبيرة التي مثلتها الحكمة وإسهاماتها الكبيرة عقوداً منذ صدورها. جعلها هذا التتابع أحد العناوين الملهمة والبارزة في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي حتى بداية الألفية.

وبسبب هذه الأهمية والدور التنويري الكبير لمجلة الحكمة اندفع باحثون كبار لتتبع سيرة المجلة، لا سيما في نسختها القديمة التأسيسية، مثل الباحث والمؤرخ والأكاديمي اليمني من أصول مصرية سيد مصطفى سالم ورفيقه علي أبو الرجال في كتابهما المشترك عن مجلة الحكمة اليمانية وعنوانه "مجلة الحكمة اليمانية 1938-1941م وحركة الإصلاح في اليمن" وهو كتاب ثري يسبر أغوار هذه المجلة ودورها وتاريخها وتأثيرها الكبير في المشهد اليمني العام.

أدّت المجلة في طورها الأول دوراً ريادياً بأطروحات كسرت حاجز الخوف والصمت في عهد الإمامة، وحافظت في طورها الثاني على صوتٍ وحدوي وطني يجمع شطري اليمن المنقسم جغرافيا وسياسياً وفكرياً ومهّدت لوحدته، ثم أصابها ما أصاب السياسة اليمنية من ركودٍ وتراجع بعد الحروب المتتابعة. ولكن يطيب لي أن أُعرِّف مجلة الحكمة وكُتابها أنهم مثقفون "عضويون"، بتعبير المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أي مثقفون مناضلون منخرطون في حياة الناس ويضيفون لمجتمعهم غير معزولين في بروجٍ عاجية. وهذه مهمة الإصلاح والتنوير التي حملتها مجلة الحكمة اليمانية في أطوارها المختلفة.

اشترك في نشرتنا البريدية