وضعيات الولادة: من خبرة الدايات إلى قوانين المستشفيات

لوضعيات الولادة أثرٌ محوري في تسهيل تجربة الأم والجنين، لكنها تختلف بين الثقافات. فهي لا تؤثّر فقط على الراحة الجسدية، بل تمتد لتشمل الجانب النفسي، مستندةً إلى مزيجٍ غنيٍ من التقاليد والطب.

Share
وضعيات الولادة: من خبرة الدايات إلى قوانين المستشفيات
تصميم خاص لمجلة الفراتس

نَمَتْ فكرةُ هذا المقال من سؤالٍ طرحَتْه صديقة: "ما هي الوضعيّة الأفضل للولادة؟" سؤالها هذا بدا واضحاً وبريءَ الصياغة، ويفترض أنّ جوابه حاضرٌ في ذهني لكوني مختصّة. إلا أنّ السؤال وقع في مسمعي كبذرةٍ خصبةٍ شديدة الإلحاح، أيقظتْ في ذاكرتي حصيلةَ تجارب عمرُها أكثرُ من ربع قرنٍ خبرتُ فيها مهنةَ التوليد ما بين بلدي سوريا وألمانيا حيث أعمل الآن وأقيم. 

أعاد السؤال إليّ صورَ نساءٍ كثيراتٍ أشرفتُ على توليدهنّ، كنّ يصغين إلى التعليمات، ويسألن إن كان لهنّ اختيار وضعيّةٍ تختلف قليلاً. وكأنّ في ذهن الواحدة منهنّ مخزوناً آتياً من تجارب نساءٍ قبلها، يريحها أن تستند إليه كما إلى تعليمات الطبيب أو الطبيبة. تذكّرتُ كيف أسندتْ جدّتي ظهرَ أمّي إلى وسائد لتلد على فراشٍ أرضيٍّ، وتذكّرت حكايات نساءٍ في القرى النائية، في زمنٍ لم يتقادم عهدُه، كيف وَلدن بين سنابل القمح أو في ظلال الأشجار. وصلت بي الذكريات إلى الولادات في مستشفيات ألمانيا، حيث تجري كلّ مرحلةٍ من مراحل الولادة بضوابط صارمة. هذه المفارقات كلّها زادت إلحاحَ السؤال وشَعّبَتْه ونمّت بذرتَه: أيّةُ وضعيّةٍ حقّاً هي الأفضل للولادة؟ في التفكير بسؤال وضعيّات الولادة، وجدتُني أعود بذاكرتي إلى الوراء، إلى سنوات دراستي الطبَّ العامَّ في أوكرانيا بين سنَتي 1986 و 1992، ثمّ مواصلة دراسة الطبّ في مستشفيات وزارة التعليم العالي ووزارة الصحّة السوريّة، ثم عملي بعد تخرّجي في مستشفياتٍ حكوميةٍ وخاصّة.

تشكّل وضعياتُ الولادة جزءاً جوهريّاً من تجربة الأم وجنينها، سواءً بانعكاسها على راحة الأم الجسدية والعاطفية والنفسية، أو بتسهيل عملية الولادة على الأمّ والجنين معاً. وتتنوع هذه الوضعيات بين الثقافات والتقاليد الطبية المختلفة. فالمرأة التي تجلس في وضعية القرفصاء في إحدى القرى السورية لا تشبه تلك التي تستلقي على كرسيّ الولادة في مستشفىً حديثٍ في ألمانيا. ومع ذلك تشترك كلتا التجربتين في هدفٍ واحدٍ، ألا وهو تسهيل قدوم كائنٍ جديدٍ إلى عالمنا. وبين إرث الدايات وحِرفية الأطباء، يتّضح أن اختيار وضعية الولادة يرتبط بتاريخٍ طويلٍ من الخبرات المتراكمة، يتداخل الطبّ فيها مع الموروث الثقافي في كلّ مجتمع، ليرسم الطريق أمام النساء في أكثر لحظاتهن حميميةً وحساسية.


في المستشفيات الحديثة، تلد المرأة عادةً في وضعية الاضطجاع على ظهرها فوق كرسيّ الولادة التقليديّ. يُسمّى هذا الكرسيّ "طاولة التوليد"، ويشبه سريراً طبّياً مجهّزاً بمفاصل عند مستوى الجذع، يمكن رفعُ نهايته العليا بزوايا حسب الطلب، لتتخذ الحاملُ وضعيةَ الجلوس أو نصف الجلوس، أو ببساطةٍ رفع رأسها قليلاً. وهناك مفاصل أُخرى عند مستوى الركبتين يمكن رفعُ نهايته السفلى أو إنزالها، وموصولٌ إليه عمودان على طرفيه عند مستوى الركبتين، ينتهي كلٌّ منهما بسنّادةٍ يمكن للحامل إرخاء رجليها عليهما متباعدتين حين تأتي مرحلة ولادة الجنين. لكنّ هذه الوضعية ليست الوحيدة الممكنة للولادة. والتوليد في المشافي أصلاً حديث العهد نسبياً بتاريخ طقوس الولادة، التي عمرها من عمر البشريّة.

في بدايات وعي البشر، تأمّلوا في أسرار جسد المرأة ومعجزاته الثلاث: معجزة الحياة، حين تنزف المرأة كلّ شهرٍ بلا جراحٍ، كما ينزف الرجال الجرحى في الحروب، لكنها لا تموت مثلهم، إذ ينحسر دمها وحده ثم يعود في ميعاده. ومعجزة الخلق، حين تنفرج ساقاها فيخرج من بينهما طفل، يكبر بفضل معجزة الغذاء، حليب الأمّ الذي يقطر من ثدييها سخيّاً. ومن هذا التأمل، ولدت أساطير ثم نشأت علومٌ صاغت آليّةَ فهمِ ما لم يكن مفهوماً، مثل آليّات الحمل والولادة. هذا الحدث، الحاضر منذ جيل البشر الأول، سبقَ نشوءَ اللغة، فكل تعبيرات الألم المصاحب لم تكن سوى محاولاتٍ لاستنطاق اللسان بما يكابده الجسد. ولحدث الولادة فضلٌ على علوم الطبّ الحديثة، فهو حدثٌ سبق ولادةَ تلك العلوم كما سبق التدابيرَ الشعبية وتأسيس مهنة القِبالة، والتي تسهّل الولادة على يد محترفات، وما تلاها من وضع الأسس العلمية لاختصاص التوليد بفروعه. واستعانت النساءُ تاريخياً بقوى ما وراء الطبيعة واخترعن آلهاتٍ التماساً لأن يحمين خصوبتَهن ويرزقنَهن بالنسل، وابتكَرن أساطير تشفع لهنَّ في المخاض والكروب. وشغَّلت النساءُ ذكاءهنَّ الفطريّ وراكمن الخبرةَ جيلاً فجيلاً لاكتشاف تدابير احتواء الألم وإنجاز ولادةٍ أقرب إلى الآمنة. وقد أسست هذه التدابير للطبّ الشعبيّ لاحقاً، ثمّ لعلوم الطبّ التي استفادت منها في كثيرٍ من أُسُسها.

امرأة تلد بمساعدة زوجها بالطريقة التقليدية لقبائل النيل في منطقة النيل الأبيض في شرق أفريقيا حوالي عام 1600. تصوير أرشيف هالتون، صور غيتي.

في بدايات عملي في ريف سوريا النائي حيث لا مستشفيات، ذهبتُ إلى بيوت الوَلّادَات، تحضّرت النساءُ فيها لوضعية الولادة بخبرتهن المتوارثة منذ زمن القابلات. والقابلة، أو الداية باللهجة الدارجة، هي المولِّدة الشعبية التي تعلّمَتْ مهنتَها من نساءٍ سبقنها، واكتسبتْ خبرتها بالفطنة والملاحظة لا من الكتب والمراجع.

جدّتي لأمي كانت دايةً محترفةً، رأيتُها في بيتنا تولّد أمّي في إخوتي الأصغر، بوضعيةٍ مماثلةٍ لما عدتُ ورأيتُه في عملي في الريف. إذ تضطجع الحاملُ على فراشٍ أرضيٍّ وركبتاها منفرجتان متباعدتان، وقدماها على الأرض، وتسند ظهرها إلى بضع وسائد مصفوفةٍ فوق بعضها، ما يشبه وظيفة كرسيّ الولادة من حيث المبدأ. لم أختبر ولادةً تجري بوضعيةٍ أخرى، بينما ثمةّ وضعياتٌ عدة. متى وأين طُبّقت تلك الوضعيات الأخرى؟

بدأتُ أستجمع أفكاري وأُجري مقابلاتٍ مع أصحاب المهن الطبية الرديفة، ومع نساءٍ من بلدانٍ وأوساطٍ وطبقاتٍ مختلفةٍ لأفهم كيف جرت الولادة في بلدانهن في أزمانٍ سابقة. كذلك عدتُ إلى مراجع تقتفي تراثَ الولادة في تاريخ كلّ بلد. ولم أكن أظنّ أن سؤال صديقتي الذي أثار في ذهني رغبة بالبحث يحمل الجوابُ عنه كلَّ هذا التشعّب، والقضايا المتفرّعة عنه، وكم يتشابك فيه الطبّ مع تاريخ الأديان والأساطير والموروث الثقافي والاقتصاد وعلم النفس والأدب وكثير غيرها.

امرأة تتلقى المساعدة على كرسي الولادة، من قابلتين، كل منهما تسحب قطعة قماش ملفوفة حول بطن الأم، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية، حوالي عام 1840. تصوير: أرشيف هالتون، صور غيتي.

تسمّى الحامل "وَلَّادَة" حين يبدأ مخاضها. وتمرّ عملية الولادة بثلاث مراحل: الأولى انفتاح عنق الرحم حتى أتمِّ اتساعِه. والثانية نزول الجنين في الحوض حتى خروجه من الرحم. والثالثة خروج ملحقات الجنين، المشيمة والسوائل.

المرحلة الثانية هي بيت القصيد هنا، وفيها تُسهم كلٌّ من الوضعيةِ وتوجيهِات المشرِفة في تسهيل الولادةِ، وتخفيف ألمها. وقد تطول زمنياً، في حال لم تتعرقل، حتى الساعتين، ينزل فيهما الجنينُ في مسارِه من قناة الولادة، ويتمّ مخاضه حين يغادر جسد الوالدة ليشهق شهقتَه الأُولى، ويصير اسمُه وليداً. هذه المرحلة الدقيقة التي تولد فيها حياةٌ جديدةٌ بينما تتعرض أُخرى للألم والخطر، مرحلةٌ ابتكرت نساءُ الشعوب من أجلها إجراءاتٍ متباينةً لتسهيلها من أجل مصلحة الطرفين، الوالدة والمولود، قبل نشوء خدمات الطب الحديث. ولا تخلو بعض تلك الابتكارات الشعبية من طرافة. قالت زميلتي الأَذَريّةُ في أثناء دراستنا لمادّة التوليد في أوكرانيا إنّ لجيل أمّها من النساء طقوساً متوارثة. فالنساء في بلدها يلدن بوضعيّة المشي على أربع، اعتقاداً بأنه يسرّع رحلةَ قدوم الجنين، فتعود الولّادة إلى جلوس القرفصاء. وقد تختار في لحظة الولادة غريزيّاً أن ترفع إحدى رجليها بركبةٍ مطويةٍ، لتلد في وضعيةٍ تشبه وضعية ولادة بعض الحيوانات ذوات الأربع.

وفي مشافي أوكرانيا قابلتُ نساءً من الغجر في أرياف شرق أوروبا، يعتقدن أنّ للجماع مع الزوج قبل الولادة مفعولاً سحرياً لتسريع انفتاح الرحم، وكذلك بعدها مباشرةً لإغلاقه ووقف النزيف. كنّ يهربن إلى مكانٍ لائذٍ قريبٍ من المستشفى أو يختلين بأزواجهن في الحمّام أو في حديقة المستشفى كالعشاق السرّيين. ويمكن إسنادُ هذا الاعتقاد إلى أساسٍ علميّ، ذلك أنّ النشاط الجنسيّ يحرّض إفراز أجسادهن للبروستاغلاندين، وهي مادةٌ دهنيةٌ شبيهةٌ بالهرمون تحرِّض بدءَ المخاض.

أما بلداننا العربية، فقد تدبّرت نساؤها الولادةَ بأفكارٍ مختلفة. في مدينتِي السويداء جنوب سوريا، افتخرَت جدّتي الدايةُ الشعبيةُ بأنها ولّدت نساءَ قريتها في البيت مضطجعاتٍ على الفراش ذي الوسائد. هؤلاء كنّ مدلّلاتٍ في نظر جدتي التي شهدَت نساءً كثيراتٍ أنجبن أبناءهن في البراري ولم يعطّلهن الحمل ولا الولادة عن أعمال الفلاحة وحصاد القمح، فتشتغل المرأة في الأرض ببطنها العملاق، ويأتيها الطلق في الحقل فتتابع عملَها وحوضُها ينضغط، إلى أن يشتدّ الألم كالطعنات فتتوقّف لتلد بين سنابل القمح أو تحت شجرةٍ لائذة. لم يتسنّ لي سؤال جدتي في أيّة وضعيةٍ ولدن، إنما يحلو لي تسميتها "وضعية الشغل". بعدها تَربط المرأةُ سرّةَ المولود بأيّ رباطٍ في متناولها، وتدقّ حبل السرّة بحجرٍ حتى ينقطع وتدفن المشيمة في التراب وتضع وليدها في شقبانها، وهو رباطُ قماشٍ مشدودٌ إلى ظهرها، وتعود إلى العمل. ربما بالغَت جدّتي في سينمائية المشهد، لكن أيّاً يكن، تلك كانت تجربة جيلها المشتركة.

يسّرت لي قابلةٌ سوريّةٌ كرديةٌ من القامشلي التواصلَ مع نساءٍ مسنّات في أرياف الشمال السوريّ، رَوَيْن لي كيف كانت تجري الولادة حتى عقودٍ قليلةٍ خَلَت، وربما كانت تجربتهن هي الأشدّ إيلاماً من كلّ ما سمعت. كانت المرأة تخجل من أن يُسمَع أنينُها أو صراخُها وهي تلد. يأتيها الطلق فتنسلّ إلى كوخٍ بجانب الزرائب، ووحدها تتحضّر للولادة بأن تجلب كيساً من الخيش وحجرين. تجلس على الكيس وتضغط على خرقةٍ بأسنانها حين يشقّها الألم من غير أن تُصدر سوى أنينٍ مكتومٍ. تلد وتضع حبل السرّة على حجرٍ وتدقه بحجرٍ آخَر حتى تقطعه، وتدفن المشيمة في التراب وتعود بمولودها إلى أسرتها. ونساءٌ كثيراتٌ ولدن وحدهن في الزرائب وفي الخيام، فوق كومة قشّ. تتغطّى المرأة بالبطانية وقد تكون معها امرأةٌ تكشف عنها كلّ قليلٍ سائلةً "هل ولدتِ؟" أو تركع الوَلَّادَة على الركبتين والدايةُ خلفَها تستلم المولودَ حين ينزل. وبعضهنّ علّقن حبلاً بسقف البيت، تقف وتمسك بالحبل عند الطلق وتتابع شدّه وهي تكبس إلى أسفل حتى تجثو على ركبتيها وتلد. وقد تضع تحتها "طستَ" ماءٍ ساخنٍ فيه أعشابٌ منقوعةٌ، فيبرد ألمُها قليلاً.

و"ولادة الحبل" تلك من الابتكارات الشعبية الذكية التي طالعتني أيضاً في السودان. التقيتُ على تطبيق زووم بالبروفيسورة عائشة الصوفي، التي درست القبالة في بريطانيا واشتغلت عقوداً في السودان. أسهبت عائشة في سرد تاريخ القبالة في السودان منذ مطلع القرن العشرين. وقالت إنّه قبل أن تنشأ مدارس محليّةٌ للقبالة، تولّت القابلةُ، أو داية الحبل أو النفّاسة كما يسمّونها في السودان، توليدَ النساء واستئصالَ الأعضاء الجنسية الظاهرة للإناث فيما يسمّى الختان الفرعونيّ للبنات. وقد قُمن بـ"الشلوخ" أي تخريم الأذن. وما زال بعضهن يزاولن المهنة حتى اليوم في أرياف السودان المتفرقة. 

وتشترك كثيرٌ من المجتمعات العربية وغير العربية في أنّ للدايات مكانةً خاصةً، ولا بدّ لها أن تمتلك هالةً مؤثّرةً لتقنع من يستشرنها من النساء في أمور الحمل والتغذية، كما في الأمور الحميمية. تتنقّل الداية بين بيوت النساء في القرى مشياً أو ركوباً على حمار. وقد تقيم الدايةُ لدى الوَلَّادَة أياماً حتى تلد. وقد عرفت الداياتُ حقائقَ عن المشيمة مثل مقولة "اللحمة بتشيل المَرَة" أي أنها إذا لم تخرج كاملةً بعد الولادة، ستسبِّب بقاياها نزفاً والتهاباً قد يصل إلى التسمّم أو الوفاة. تسمّى الوَلَّادَة في أرياف السودان "المتوجّعة". وتستعمل الداية حبلاً من سعف النخيل لتوليدها، ومنها جاء اسمها "داية الحبل". تربطه ملفوفاً بقماش إلى عامود عرش، وهو دعامة للبيوت في منتصف الغرفة وتتفرع في أعلاها إلى شعبتين. يأتي المخاض فتقف الوَلَّادَة برجلين منفرجتين، تمسك بالحبل وتعتمد عليه كلما اشتد عليها الوجع، تثني ركبتيها وتضغط إلى أسفل حتى يسقط المولود فتتلقاه الداية وتقطع سرّته وحينها يحقّ للنفساء أن تضجع على فراشها.

وانتشرت في السودان طريقةٌ أُخرى بين القبائل الرُحّل. إذ يحفرون حفرةً في الأرض تحت عمود الحبل، يوضَع فيها نشارةٌ تمتصّ السوائل، وقماشةُ "توب الزراق" تحسّباً لاستقبال إفرازات الولادة من دمٍ وماءٍ ثم تَلَقّي الطفل الوليد. تضع الوَلَّادَة حجراً يسمّى "بنبر" تحت مَقعدَتها. حين يشتدّ الطلق، تشدّ بيديها على الحبل وتكبس حوضها، بينما الداية جالسةٌ مقابلها لاستقبال الوليد وسط الحفرة. ومن بعض الاعتقادات الطريفة في أرياف السودان أنّ المرأة في أواخر سنوات خصوبتها تتعمّد الحمل لتجديد شبابها بتجربة الولادة واختبار شدّ الحبل، والخروج منها فتيّةً وواثقةً من شبابها. 

ومن ريف الدار البيضاء في المغرب، روتْ لي الكاتبة عائشة البصري أيضاً تجربة ولادة الحبل، التي شاعتْ في منطقتها قبل جيلها. يربطون للمرأة حبلاً في السقف تمسك به عند الطلق، تظلّ واقفةً تشدّه حين الطلق، حتى تشعر برأس الجنين في حوضها. حينها تأخذها النساء إلى سريرٍ، تسندها سيّدتان من كتفيها، هما متّكأ ظهرها بدل الوسائد، وفي هذا دعمٌ معنويٌ وليس جسديّاً فقط، والدايةُ أمامها تستقبله.

أما من الإمارات العربية المتحدة أخبرتني طبيبةٌ مختصّةٌ بالتوليد أنها منذ عقودٍ ولّدت النساءَ بحضور الأمّ والقريبات مساعدات لـ"الرايلة"، وهو اسم القابلة في الإمارات. تضع الرايلة حجراً دائرياً أملس ملفوفاً بالقماش على بطن المرأة، وتسقيها ماءً فيه نقيعُ أعشابٍ، وتثبّت خشبةً في الأرض لتمسك بها الوَلَّادَةُ حين ينتظم الطلق وتبدأ المرحلة الثانية من المخاص، وتعلّمها التنفسَ الهادئ والعميق وهي تمسح لها وجهها وبطنها وتشجّعها على دفع الجنين إلى أسفل لتتلقاه منها.

هاتفتُ صديقتي، وهي طبيبةٌ نسائيةٌ تشتغل في منطقة العمارة جنوب العراق. قالت لي سأدعك تسمعين من أفواه النساء هنا ما يعتقدن: "لا تهمّ، لا الوضعية ولا شيءٌ من هذا. لا شفاعة للوَلَّادَةِ إلا نصرةُ الإمامَيْن، الحسين وأبو الفضل العبّاس، نتزوّد بأستارٍ خضراء من مزارَيْهما، لا تفارقنا، ونطمئنّ أنّنا ببركتهما سنَلِد بسلامٍ أيّاً كان حالنا. وإن أعرضا عنّا، لا سمح الله، فلن ننجو ولا في أية وضعية".

وضعيّاتٌ مختلفةٌ كثيرةٌ تختلف وتتشابه في أنحاء العالم العربي، يجمعها أنها ذكيّةٌ وشُجاعةٌ، ابتكرتها نساءٌ يتشاركن التجربة القديمة منذ الأزل، لا سيما الدايات اللائي كنّ على الأغلب يؤدِّينَ أيضاً دورَ المداويات الشعبيات اللائي يستثمرن مهاراتهنّ في تسيير الولادة وحدها، وفي مداواة المغص وألم الأسنان وعرق النسا ونوبة الكلى قبل أن تكتسب هذه الحالات أسماء تشخّصها.

إذن، جسد المرأة مصمَّمٌ لينجز عملية الولادة تلقائياً. وحين يشرف على تلك العملية اختصاصيٌّ مدرَّبٌ، وطالما تسير بلا تأخّرٍ أو انحرافٍ أو خطورةٍ خاصّةٍ، فدَوره ينحصر في تهيئة وضعيّة الولّادة، والبقاء قرب الولَّادَة لمراقبة نزول الجنين من قناة الولادة حتى إتمام مرحلتها الثانية وبروز رأس الجنين. حينها يبدأ دوره في تخليصه. عليه إذن أن يُتقن فَنَّي الانتباه والانتظار، وعدم التدخّل لتسريع عملية الولادة بلا سببٍ، كأن ينفد صبره مثلاً، أو أن يكون لديه أشغالٌ يستعجل ليمضي إليها، فقد تكون العواقب باهظة. وقد انتشر ذلك في مستشفيات الولادة في العالم العربي، إذ يتدخَّلُ الأطباء لتعجيل الولادة الطبيعية أو دفع الحوامل إلى خيار الولادة القيصرية لإنجاز أكبر قدرٍ من عمليات التوليد في أقلّ وقتٍ، وأحياناً من أجل سعرٍ أعلى. وليس هذا هو الفارق الوحيد بين الغالب على ممارسات الطب الحديث وطرق الولادة التقليدية. 

أتذكّر أوّلَ مرّة دخلت فيها إلى صالة المخاض في المشفى الوطني في مدينتي السويداء. كثيراً ما شهد المستشفى ازدحامَ عددٍ كبيرٍ من الوَلَّادَات يفوق قدرته.  وكانت صالةُ المخاض فيه مصمَّمةٌ أصلاً بما لا يراعي خصوصيّة الولادة. فطاولات التوليد متقابلة. وهناك دائماً مجموعة نساءٍ يلدن معاً، بلا حاجزٍ بين الطاولات، مكشوفات الأجساد، تصيح الواحدة مع مجيء الطلقة، وتصيح القابلة والممرضة والطبيب، والأدوات في كلّ مكان، وبقع دمٍ هنا وهناك في أرض الصالة. مرآها يثير الذعر لمن يراها، فكيف حال مَن تلد.

طَلَبَت الولَّادَةُ أن تقرفص أو ترفع ظهرها عن كرسيّ الولادة أو تتمشّى خارج الصالة. ولم يُسمَح لها بأكثر من الاستدارة على الجنب. هكذا سارت تعليمات الإدارة لضبط العمل وسط اكتظاظ الصالة قياساً بمساحتها، وكي تبقى الوَلَّادَة في مكانها تحت نظر القابلة أو الطبيب.

يتكرّر هذا المشهد في كثير من المستشفيات، لا سيما الحكومية منها، ويعكس واقعَ النظرة إلى النساء وإلى عملية الولادة في المجتمعات العربية، وقصور الخدمات الحكومية عن احترام خصوصية النساء واحترام أجسادهن في عملية الولادة، وقصورها عن تأمين الرعاية الطبية اللازمة، ناهيك عن عدم منحهنَّ الوقت الكافي لإتمام ولادةٍ مدعومةٍ وآمنة.

هنا نرى اختلافاً يميّز أغلب وضعيات الولادة التقليدية الشعبية التي استعرضنا بعضها في أنها تضع في حسبانها خصوصية المرأة وراحتها، وتتفنن في إيجاد ما يسهّل عليها عملية الولادة ويقلل من آلام المخاض. لكن ما ينتشر في معظم مستشفيات الولادة الحديثة لا يضع راحةَ النساء على رأس الأولويات. يمكن استنتاج ذلك بالنظر إلى الوضعية الأكثر انتشاراً في المشافي، وهي وضعية الاضطجاع أو الانسداح التي ورد اسمها في تعاليم أبقراط، الأب الروحيّ لعلوم الطبّ. وقد وَصَفَها أبقراطُ لعمليات جراحة المثانة، ثم أصبحت الوضعيّةَ المتّفقَ عليها للولادة الطبيعية في المشافي فوق كرسيّ الولادة الطبّي التقليدي. هذه الوضعية تُوفّر المدى البصريّ والجسديّ الكافيَ لمقدِّم الرعاية كي يراقب تبدّلات الفرج، ويتدخّل حين الضرورة. لكنها غيرُ مريحةٍ تماماً للوَلَّادَة بسبب ضغط رأس الجنين على أسفل حوضها، مما يجبرها على بذل مجهودٍ أكبر. وقد تنضغط بسببها الأوعية الدموية للحوض وتصاب المرأة بالإغماء. وخطّ نزول الجنين أفقيٌّ لا يتوافق مع الجاذبية الأرضية. وفي حالاتٍ قليلةٍ، قد تترك هذه الوضعية على المرأة آثاراً متأخّرةً، نفسيةً أو هضميةً أو بولية. يمكن تعديل هذه الوضعية بالاضطجاع على الجانب الأيسر مع ثني الركبتين إلى خلف. هكذا يتوسع الحوض بارتياحٍ أكثر، لكنّ سير الولادة فيها قد يطول.

هناك أيضاً وضعية القرفصاء مع مباعدة الرجلين وتدعيم المرأة لركبتيها بكوعيها، وإسناد يديها إلى كرسيّ. أو أن يسندها الزوجُ أو المساعِدةُ الطبّيةُ باليدين تحت إبطَيها أو تحت كعبَي قدمَيها لرفعهما عن الأرض. أو تنتعل حذاءً رياضيّاً بكعبٍ عالٍ. هذه الوضعية أسهل للجنين لتوافُق مساره نزولاً مع الجاذبية الأرضية، وتستطيع الأمّ رؤيتَه وهو يخرج، وقد تمسكه بنفسها. لكن من سلبياتها أنها لا تتيح للطبيب كبحَ اندفاع الجنين سريعاً وما يرافقه من تمزقاتٍ عميقةٍ في الفرج. لذلك يُسمح بها في المستشفيات فقط إلى أن يُطِلَّ رأس الجنين، ثم تتمّم العملية فوق كرسيّ الولادة. 

ويوصي مستشفى مايو كلينيك في أمريكا بالتدريب على تمرين القرفصاء في فترة الحمل الأخيرة لتُخفّف آلام الظهر والحوض ولتقليل إصابة الحامل بالإمساك، وتليين الحوض، وتقوية عضلات القدم، وتقليل الحاجة إلى الولادة القيصرية. وفي أثناء الولادة، تساعد هذه الوضعية على تحكّم المرأة بعضلات بطنها أكثر، فتسهّل عملية المخاض واتساع الحوض، وتقلّل الحاجة إلى المسكّنات والتخدير. 

تلجأ بعضُ المستشفيات والقابلات المدرَّبات طبّياً حاليّاً إلى نصح النساء بالولادة في الماء. ليس مؤكّداً متى بدأت هذه الطريقة، ربما عند قدماء المصريين أو اليونانيين أو شعوبٍ في جزر المحيط الهادئ، وتذكر بعضُ المصادر تطبيقَها في موسكو في الستينيات. وبدأ اعتمادها في المستشفيات نهايةَ القرن العشرين فقط للولادات النظامية ومنخفضة الخطورة على الأم والجنين، مع شرط مطابقة حوض الولادة والماء المستخدم فيه لمعايير السلامة، ووجود فريقٍ طبّيٍّ مدرَّبٍ عليها، وغرفة عملياتٍ قريبةٍ في حال الحاجة إليها. قد تتمّ الولادة بمراحلها كافّةً في الماء، أو فقط في مرحلة المخاض الأُولى. ففي الماء الدافئ تشعر المرأة بنفسها خفيفةً ومسترخيةً، وينخفض شعورها بالألم، فتقلّ الحاجة إلى التخدير. وفوق ذلك فالوسط المائي مألوفٌ للجنين، لأنه نما فيه أشهر الحمل.


هل لوضعية الولادة حقّاً كلُّ هذه الأهميّة؟ من خبرةٍ شخصيةٍ طبّيةٍ أفترض أن الجواب نعم. فسلامة الأم والجنين مرتبطتان إلى حدٍّ كبيرٍ بتدبير الطاقم الطبيّ لهذه الساعات الأخيرة في الحمل. ولذلك تلزم معرفةٌ شاملةٌ بخصوصية حياة النساء ومجتمعاتهنّ وإرثهنّ الشعبي، وفوارق مستوى الوعي بين امرأةٍ وأُخرى، ثم مناقشة خطة الولادة مسبقاً بين الحامل والطبيب أو الطبيبة.

وإن كان لا خلاف في زمننا على أنَّ الولادة في المستشفى أكثر أماناً من الولادة المنزلية بما لا يقاس، وخصوصاً في حالات الحمل عالية الخطورة واحتمال الحاجة إلى الولادة القيصرية. لكن اكتظاظ غرف المخاض بعدّة ولّاداتٍ، يُخفِّض مستوى هذه الخدمة إلى أدنى من الشرط الإنسانيّ البدهيّ في حقّ المرأة بمساحتها الشخصية وأمانها واطمئنانها. وقد أمّنت الدايات القديمات هذا الحقّ في ظروف الولادات المنزلية، ما جعلهنّ، من هذه الزاوية، يتفوّقن على خدمة المستشفيات الحكومية.

لكنّ الحال في كثيرٍ من المستشفيات الخاصّة مختلفة. إذ تقصدها المرأةُ محصّنةً بمالها المدفوع لخدمة توليدها، فلا تلقى هذا الحيف. تلد في غرفة مخاضٍ لها وحدها مع طبيبها وقابلتها والممرّضة الجوّالة، وكذلك والدتها أو زوجها إن طلبتْ بقاء أحدهما للدعم والتطمين. وكأنّ المعادلة تبدو: لديكِ مالٌ؟ ستلدين بكرامةٍ. ليس لديك؟ اصمتي واقنَعِي بالموجود.

عند هذه التفصيلة بشأن وضعية الولادة لا يعود الأمرُ متعلقاً بها وحدها جزئيّةً، بل يتوسّع تأثيره لتشتبك عنده قضايا عدّة، كغياب العدالة الاجتماعية وقصور مؤسسات الدولة عن توفير الخدمات الأساسية لجميع مواطنيها، والمستضعفين منهم تحديداً، ورفع مستوى هذه الخدمات بما يحفظ كرامتهم، إلى الحاجة لتربية طواقم طبيّةٍ بسويّةٍ مهنيّةٍ وأخلاقيّةٍ عاليتين فلا تستخدم وظيفتها ومكان عملها سلطةً مفروضةً، إلى ضرورة تمكين المرأة اقتصاديّاً، إلى رفع مستوى وعي النساء بحقوقهن، وبالذات ذوات المنابت الفقيرة.


وفي ألمانيا حيث اشتغلتُ في قسم الولادة في أكثر من مستشفىً ومدينةٍ فيها في السنوات الثلاث الأخيرة، قليلاً ما يحدث تقصيرٌ كما في بلادنا. فتسيير الولادات فيها منظّمٌ بصرامةٍ، وتحفظه قوانين العمل الطبيّ ويسري تطبيقه على الجميع. يتَّبع الطبيب قوانين وتعليمات الولادة حرفياً كما وردت في المراجع. يكتب خطّته على ملفّ المريضة ويمضي، وتنفّذها القابلة وحدها، فتسمح للولادة بالجلوس والمشي والجلوس قرفصاء وغير ذلك، وتعيدها إلى كرسيّ الولادة التقليدي في الدقائق الأخيرة، ولا تستدعي الطبيب إلا حينها، وهو الذي يحقن الأدوية ويخيط التمزّقات إن حصلت ويفحص الوليدَ بنفسه.

لكن للنظام الطبيّ في ألمانيا مشكلات أُخرى تكاد تكون فادحةً، وأهمّها السلطة المكتبية وسلطة رأس المال. وربما بسببها لا يخرج الفريق الطبيّ عن تطبيق تعليمات الولادة كما وردت في المراجع حرفيّاً، بلا اجتهادٍ ولا ابتكارٍ، بينما تحتاج كثيرٌ من الحالات إلى مدخلٍ فرديّ. مثالٌ على ذلك الوَلَّادة الهلِعة التي تعاني من رهاب المخاض لأسبابٍ مختلفةٍ، أو الحالات التي تحتاج إلى عمليةٍ قيصريةٍ، فيصرّ الطبيب على إخضاعهن لتجربة الولادة الطبيعية. وفي معظم الحالات تمضي عليهنّ ساعات ألمٍ طويلةٌ، عبثاً، وينتهي الأمر إلى القيصرية. وللطبيب أسبابه في تشبّثه بالتعليمات والقوانين، فهو يضع في حسبانه أولاً حمايةَ نفسه من المساءلة القانونية وما يتبعها من دفع غراماتٍ ماليةٍ وخسارته وظيفتَه إذا ما اجتهد ولم يَرضَ رئيسُ القسم عن اجتهاده. ولا يُغفَل هنا دورُ شركات التأمين الصحّية، واختلاف درجات خدماتها ما بين التأمين الخاصّ الذي يتدلّل أصحابه بأعلى خدماتٍ طبيةٍ وفندقيّةٍ ويضمن للمستشفيات ربحاً أكبر، أو التأمين الطبّي الحكوميّ الذي يُغطّي الخدمات الطبّية الأساسيّة. من هنا تصبح درجة التأمين الطبيّ أيضاً سلطةً قائمةً على حِدَةٍ، فتتدخّل في قرار الطبيب جنباً إلى جنبٍ مع خبرته وحدسه المهنيّ، وتقيّده ليلتزم بالخدمات المدفوعة فقط.

ويهتمّ الطبيب بتوقيع المريضة على خطّة الولادة، وأنها بُلّغَتْ بالمضاعفات المتوقّعة. وكثيراً ما توقّع وهي مشوّشةٌ واهنةٌ، فقط لتسير الولادة وتتخلص من ألمها.

وفي السياق نفسه، ثمّة معلومةٌ لا يتوقعها كثيرون، وما كنتُ لأعرفها لولا عملي في مدينةٍ صغيرةٍ في ولاية براندنبورغ، أنّ الولادات المنزلية لا تزال شائعةً في أرياف ألمانيا حتى يومنا هذا. والقوانين الطبيّة الألمانيّة تُجيزُ للقابلة توليدَ النساء في البيت، ولا تُجيزه للطبيب النسائيّ. لا يبدو لي هذا القانون مفهوماً، لكنّ القابلات يستثمرنه بالترويج للولادة المنزلية في الأرياف، إذ يتفاهمن مع الوَلَّادَة على تسييرها بما يرضي الطرفين.


بالعودة إلى عالمنا العربي، يمكن الاستفادة من إيجابيات التجربة الألمانية في تقسيمِ المهامِّ الصارمِ ما بين الطبيب والقابلة؛ الأمرُ الذي لا يُطبَّق في سوريا، إذ لم تُستثمر مهارات القابلات المؤهّلات علمياً، ومهارات النساء عموماً في الصبر والتفهّم وحُسن الإدارة، وحسّ النساء بما تعنيه الخصوصية لأيّ امرأة.

في مدينتي السويداء، ومنذ الربع الأخير من القرن الماضي، التحقت أولى دفعات القابلات بمدرسة القبالة بعد الشهادة الإعدادية. ثم أصبحت الشهادة الثانوية شرطاً لقبولهنّ فيها. يدرسن علم التوليد وفنّه ثلاثَ سنوات. وبداية القرن الحاليّ، أُنشئت في جامعة دمشق كليّةٌ للقبالة، مدّة الدراسة فيها أربع سنين. التحقت بها الإناث من مختلف المدن السورية. يعلّمهن ويدربهنّ أساتذةٌ في الجامعة. وانضمّت إلى دراستهن موادّ الطبّ الرديفة من جراحةٍ وتخديرٍ وسواها. وفي عملهن في المشافي بعد التخرّج، يشرف الطبيب والقابلة معاً على الوَلَّادَة في صالة المخاض، من غير تحديد دور كلٍّ منهما. لذلك كثيراً ما تحدث منافسةٌ خفيّةٌ، تصل أحياناً حدَّ النزاع الخفيّ بين الطبيب والقابلة على تولّي المهمّة، وخصوصاً عندما يختلف رأياهما بخطّة الولادة، أو على تدليل الوَلَّادة، أي تهدئتها أو التمشّي معها والإمساك بيدها أو تغطيتها. ويرى الطبيب في هذا التدليل محاولةً من القابلة لكسب رضا المرأة وتحريضاً غير مباشرٍ على الطبيب الحريص على إظهار حياده وفرض رأيه استناداً إلى صفته المهنية الأعلى. حينها قد تلتفّ القابلةُ على رأي الطبيب، بتدليل المريضة وبحقن الولّادةَ بدواءٍ محرّضٍ للمخاض من غير علم الطبيب وتنكر أنها فعلت. أو قد يطلب الطبيب إعطاءَ دواءٍ ولا تنفّذ الممرّضة، ولا دليل على أنها فعلت، فلا توثيق كافٍ في ملفّات الوَلَّادَات. هذه التفصيلة الصغيرة جزءٌ من منظومة سلطة الوظيفة في بلادنا كما هي إحدى مشكلات منظومة تربيتنا.


كلّ هذه المشكلات يمكن حلّها عند العودة لفكرة أنّ التوليد علمٌ وفنّ معاً. في محاضرةٍ للدكتور صادق فرعون، أحد أساتذة طبّ التوليد، نبّه إلى أنّ "الكفاءة العلمية وحدها لا تكفي طبيبَ التوليد. لا يكفي أن يطّلع الطبيبُ على سجلّ الولّادة الطبيّ، بل ويجب الاستماع إليها وتكهّن مستوى وعيها وحالتها النفسية وهواجسها الشخصية، وأن يمتلك الحسّ الفنيّ والانتباه والفطنة لتدبير كلّ حالةٍ، حتى ينجح في توليد المرأة بأمان". ما يحيلنا إلى مفهوم العناية الأخلاقية، في مهنة الطبّ كما في كل مهنةٍ، كما شرحته أستاذة الفلسفة فيرجينيا هيرالد في كتابها "أخلاقيات الرعاية" الصادر عن جامعة أكسفورد عام 2006: "ما من تعريفٍ موحّدٍ لأخلاقيات الرعاية. بعضهم يعدّونها فضيلةً، لكنها تفوق الفضيلةَ سمةً في الفرد، لارتباطها اللصيق بالممارسة والعمل. إنها تربية منهج التفكير الأخلاقي باحترام الآخَرين والاهتمام العميق بحاجاتهم عن رغبةٍ ومحبةٍ والتزامٍ ذاتيّ".

 ما من وضعيّةٍ مثاليّةٍ وحيدةٍ يمكن اعتمادها للجميع. والوضعيات كلها التي استعرضناها – على اختلافها – جزءٌ من تسيير الولادة كلّها، وهي مرتبطةٌ بظروف الحامل والطاقم المساعد، وترتبط أيضاً بالوعي وطريقة التفكير والحال الاقتصاديّ لأسرة الوَلَّادَة وبلدها، وبالموروث الثقافيّ لكليهما. وفي الأحوال جميعها، يحسن اختيار مدخلٍ فرديٍّ للتعامل مع كلّ حالةٍ والاستناد دائماً إلى أخلاقيات الرعاية.

اشترك في نشرتنا البريدية