تقاطعات الحرب والهوية في مسرح زياد الرحباني

وُلد مسرح زياد الرحباني من قلب الواقع اللبناني العبثي، خاصة إبان الحرب الأهلية، فكان بمثابة مساحة فنية غنية لتفكيك هذا الواقع والتعبير عن تناقضاته.

Share
تقاطعات الحرب والهوية في مسرح زياد الرحباني
تبقى أعمال زياد الرحباني حيّةً، وتستحقّ أن تُعاد قراءتها في كلّ مرحلة | تصميم خاص بالفراتس

قبل أشهرٍ من انفجار الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، كان المسرح ينذر بما هو آتٍ، ويشهد على بروز دورٍ لفنانٍ سيترك بصمته الخاصة على الفن والمجتمع. فمِن قلب الغليان السياسي والاجتماعي في الواقع اللبناني المضطرب، ولدت التجربة المسرحية لزياد الرحباني، الذي رحل في أغسطس 2025 عن عمر قارب سبعين عاماً. شكّلت هذه التجربة صوتاً فريداً عكس هموم تلك الحقبة وأزماتها وتحدّياتها. وبعد وقتٍ قصيرٍ من توقّف الحرب سنة 1990، وصلت التجربة إلى نهايتها، في حين استمرّت في ميادين الموسيقى والإذاعة والصحافة.
كانت مسرحية زياد الأولى التي فارق فيها إرث العائلة سنة 1974، عندما قدم "نزل السرور"، تجربةً بانت فيها خصوصيته الفنية وحساسيته تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية. إذ تنبّأت المسرحية بالحرب الأهلية الموشكة على الاندلاع وقتئذٍ، قبل أشهرٍ قليلةٍ من اشتعالها.
قدّم زياد الرحباني بعد "نزل السرور" خمس مسرحياتٍ راجت تسجيلاتها الصوتية بين اللبنانيين المتقاتلين آنذاك بين شقَّيْ مدينة بيروت الشرقي والغربي. وجسّدت تلك المسرحيات مختلفَ فصول الحرب الأهلية وتأثيراتها النفسية والاجتماعية، حتى انتهائها بقوةٍ فُرضت على اللبنانيين باتفاقٍ دوليٍ إقليميٍ وُقّع في مدينة الطائف السعودية سنة 1989، ودخل حيّز التنفيذ سنة 1990.
كان للحرب الأهلية اللبنانية أثرٌ عميقٌ في تشكيل تجربة زياد الرحباني الفنية، ولا سيما المسرحية، يتجلّى عند التعمّق في مضمون مسرحياته وسياقاتها التاريخية والاجتماعية. يضاف إلى ذلك اختلافٌ كبيرٌ في طبيعة المجتمع الذي انتمى إليه وعالج هواجسه. فبينما ارتبط مسرح الأخوين رحباني بالريف والمجتمع القروي، انتقل زياد إلى المدينة وهمومها، لتصبح محور تجربته. وتداخلت تأثيرات الحرب مع ميراث عائلة الرحباني الفنّي الذي رسم عوالم مثاليةً، بقي أثرها خفيفاً في مسرحياته الخمس التي أُنتجت في سنوات الحرب، وإن خطّ عبرها أيضاً مشروعَه المسرحي الخاص. وارتبط هذا المشروع باللحظة السياسية والاجتماعية المحتقنة التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وما رافقها من أحلامٍ وتناقضاتٍ تورّط بها زياد في فترةٍ ما. لكنه حاول أن يقف على مسافةٍ تتيح له معالجة تلك الحرب وسياقاتها وتحليل عبثيتها. ومن هذا المسرح نقل زياد أفكاره إلى أجيالٍ متعاقبةٍ، أحبّته ورافقته حتى وفاته مع يأسه المتزايد في السنوات الأخيرة من إمكان التغيير.


عند ولادة ابنه زياد قال عاصي الرحباني لأحد الصحفيين: "والله خايف هالجلبوط [العصفور الصغير] يطلع يحب الموسيقى ويمسحني مسح". في الواقع طوال طفولة زياد ومراهقته، تحرّى عاصي تحويل تخوّفه ذاك إلى حقيقةٍ، فظلّ يزرع في زياد الثقةَ بقدراته ومهاراته الفنية كي يستطيع يوماً ما "مَسْحه".
شاع الحديث باكراً في الإعلام عن علامات عبقرية زياد الرحباني. إذ نسب إليه والده الفضلَ في لحن أغنية "بكرا برجع بوقف معكن" والتي غنّتها فيروز، قائلاً إنه استوحاه من معزوفةٍ ألّفها زياد في عمر السابعة. أما كتابة الشعر، فشاهدٌ على موهبته المبكرة فيها ديوانه "صديقي الله" الذي نشر لزياد وهو بعد في عمر الثانية عشرة.
في تسلسلٍ زمنيٍ أعدّه الباحث المتخصص بعلم الاجتماع والفنون، أكرم الريس، ونشرته مجلة الآداب سنة 2010، نرى أن زياداً عمل عازفاً بديلاً على آلة "الأكورديون" ثم "البيانو" وهو في الخامسة عشرة من عمره، وعزف في حفلات والدته فيروز ومسرحياتها مع أبيه عاصي وعمّه منصور اللذين اشتهرا بِاسم "الأخوين رحباني". وفي ذلك السنّ أيضاً ألّف ووضع موسيقى أعمال فنانين لبنانيين ينتمون إلى الخط الرحباني نفسه، مثل إيلي شويري ومروان محفوظ وهدى حداد (شقيقة فيروز).
وفي إشارةٍ إلى موهبة زياد الرحباني الموسيقية اللافتة، كتب الشاعر اللبناني جورج جرداق في مجلة "الشبكة" سنة 1971: "أمس شاهدتُ [الملحّن الشهير] فيلمون وهبي، طوله متران وعرضه ثلاثة، وشرواله يتّسع لمكاتب الأنباء الوطنية، يغنّي لحنه الجديد الرائع الذي ستُنشده فيروز في مغنّاة [مسرحية غنائية] 'ناس من ورق'، يُمليه على زياد الرحباني – طوله شبران وعرضه متران وعمره 15 سنة – كي يكتبه على أوراق النوتة. أعرف من صديقٍ موسيقيٍ مُلمٍّ جداً أنّ هناك من يحمل شهادات الدَكتَرة في الموسيقى ويعجز أن يكتب نوتةً لأيّ شيءٍ بطريقة السمع".
سنة 1973 قدّم زياد الرحباني عمله الأول والأخير في المسرح الغنائي على الطريقة الرحبانية بعنوان "سهريّة". كانت المسرحية استجابةً لطلبٍ من نادٍ فنّيٍ متواضعٍ في منطقة المتن شمال شرق بيروت. إلا أن أصداءها وصلت إلى أحد المنتجين في العاصمة، فطلب نقلها إلى مسرح سينما "أورلي" في منطقة الحمرا ببيروت. وحصد العمل نجاحاً على مدار شهرين من العروض المتواصلة. ولكن في حوارٍ مع صحيفة الأنوار في السنة التالية، وصف زياد مسرحية "سهريّة" بأنها كانت تمريناً على التلحين والتأليف من أجل التسلية. لم يكن زياد مبالغاً في وصفه، إذ اتضح ذلك من مستوى أعماله التي قدّمها على خشبة المسرح نفسه بعد أقلّ من سنة.
كانت "سهريّة" تنذر باستمرار زياد في مسيرة مسرح الأخوين رحباني، الذي تشرّبه طوال سنوات طفولته ومراهقته، عندما كان يرافق العائلة في عروضٍ داخل لبنان وخارجه. وأتاحت له تلك الجولات التعرّفَ على مختلف جوانب العمل الفنّي، وتعلّم كتابة النصوص والحوارات والتعامل مع الممثلين.
لكن مع عرض مسرحيته الثانية "نُزُل السرور" وهو في التاسعة عشرة، بدأ زياد مساره الانقلابي الطويل على مسرح العائلة، سواءً بتخلّيه عن المثالية الغنائية لصالح مسرحٍ واقعيٍ مشبعٍ بالنقد الاجتماعي، أو بالإعلان عن انحيازه السياسي لليسار. وهو الخيار الذي أفضى بعد سنتين إلى خروجه النهائي من بيت العائلة ومن مسقط رأسه، منطقة أنطلياس شمال شرق بيروت، التي انتمت إلى القسم الذي تهيمن عليه قوى اليمين اللبناني.
قبل أن يبلغ العشرين أصبح زياد الرحباني ظاهرةً فنيةً فريدةً، شكلت لاحقاً واحدةً من الاستثناءات القليلة الجميلة في زمن الحرب الأهلية اللبنانية. وعلى مدى أكثر من نصف قرنٍ، استمرّ زياد في إثارة مشاعر متناقضةٍ لدى اللبنانيين. ومع رحيله لا يبدو أن اللبنانيين قادرون على تجاوز وقع الخبر المفاجئ الذي خلّف صدمةً وحزناً واسعَيْن بينهم. فقد أظهر هذا الرحيل أنهم لا يزالون يُجمِعون على حبّهم الرجلَ الذي شدّهم إلى عالمه بأسلوبه في الكلام والحب والغضب والتمرد، مع أنّ كثيرين منهم ادّعوا طيلة سنواتٍ عكس ذلك، خاصةً بسبب تبنّيه مواقف سياسيةً مغايرةً لمواقفهم.


مع تجاوزه تراث عائلته ومنهجها الفني، إلا أن زياد الرحباني في تمرده يمثل امتداداً لتلك العائلة ذات السمات الخاصة، كما يظهر بالعودة إلى سيرة جدّه، ثم والده وعمّه.
ولد زياد الرحباني سنة 1956 في أنطلياس، وهي القرية نفسها التي ولد فيها والده عاصي وعمّه منصور في عشرينيات القرن الماضي. وورث الأخوان رحباني حبّ الموسيقى من والدهما حنّا الرحباني، عازف البُزُق (آلة وترية من عائلة العود). ووفق ما يذكر الكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "فيروز والرحابنة، مسرح الغريب والكنز والأعجوبة" الصادر سنة 2006، كانت شخصية حنّا الرحباني مختلفةً عن أبنائه. إذ كان أقرب إلى "القبضاي" بما تحمله من معاني الفتوّة والرجولة، و"الطافر" المتمرد على سلطة الدولة. كان الجدّ يعمل في النهار صائغاً في بيروت، ثم يتحول ليلاً إلى قاطع طرقٍ يُغير على العسكر العثماني.
بسبب شخصيته، عاش ابناه عاصي ومنصور عزلةً مضاعفة. فمن ناحيةٍ كانت عزلةً اجتماعيةً في أنطلياس بسبب نشاطات الوالد الخارجة عن القانون. ومن ناحيةٍ أخرى عاشا عزلةً فعليةً في الجرود (المرتفعات)، بسبب اختيار الأب إدارة مقاهٍ في مناطق معزولةٍ وموحشةٍ في جبال أنطلياس وضهور الشوير في قضاء المتن بجبل لبنان.
أورَث حنّا الرحباني بعضاً من تناقضات شخصيته لأبنائه الذين ورّثونها إلى زياد، الابن البكر لعاصي. ومع أن حنّا كان خارجاً عن القانون، إلّا أن ابنيه عاصي ومنصور، اختارا بعد وفاته المبكرة أن ينخرطا في مؤسسات الدولة. فالتحق عاصي بالبلدية، في حين انضم منصور إلى سلك الدرك بعدما عدل عن رغبته في أن يغدو راهباً. وظهرت هذه التناقضات المرتبطة بالنشأة في مسرحيات الأخوين رحباني لاحقاً، التي وإن أظهرت انحيازاً واضحاً لسلطة الدولة المركزية، فقد ظلّت مشدودةً في الوقت نفسه لحياة الطفّار في الجرود الوعرة، وللشخصيات المتمردة التي تشبه الأب. فكتبا شخصياتٍ مثل مرهج القلاعي في مسرحية "موسم العز"، وملهب في مسرحية "يعيش يعيش"، وهاولو في مسرحية "الليل والقنديل".
هذا التناقض الموروث من الجدّ يظهر في شخصية زياد الرحباني وفي أعماله. فعلى تبنّيه وجهات نظرٍ مرتبطةً بالمدينة وهمومها، إلّا أنه ظلّ متمرّداً على المدينة ورافضاً التشبّه بسكانها. ففي حوارٍ مع الشاعر والروائي اللبناني عباس بيضون في جريدة "الوسط" سنة 1996، يقول زياد: "لم أحضر في حياتي حفلةً رسميةً واحدة. ولم أحضر كوكتيلاً (حفل استقبال قصير). أرتبكُ كثيراً، ولا أعرف ماذا أفعل. الآن، على كلّ حالٍ، انقطعتُ عن بقية الناس".
أما تمرد الجدّ على السلطة فظهر امتداده إلى زياد في شبابه المبكر، حينما اختار الانضمام إلى الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان ينادي بتغيير النظام. لكن مع هذا التمرّد وتطور الحرب، بدا زياد مسكوناً بفكرة سلطةٍ ما أو شخصٍ "مستبدٍّ عادلٍ" قادرٍ على كبح الفوضى و"تربية" اللبنانيين، كما ظهر في مسرحيتيه الأخيرتين، اللتين أنتجهما عقب انتهاء الحرب، وهما "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" سنة 1993 و"لولا فسحة الأمل" سنة 1994.
وإذا كان تمرّد زياد الرحباني على السلطة قد تجلّى في سياقات الحرب الأهلية، فإنّ فهم هذه التحوّلات لا يكتمل من دون العودة إلى الجذور: إلى سيرة عاصي ومنصور، ومناخ نشأتهما الأولى الذي رسّخ العلاقة بين الفنّ والهوية والانتماء.
تعلّم الأخوان رحباني الموسيقى في كنيسة أنطلياس، ما خلق لديهما أساساً لفهم الموسيقى الشرقية احترافاً. حينئذٍ، بين الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن الماضي، شرعا في كتابة شعر الزَّجَل الشعبي قبل أن ينخرطا في تنظيم حفلاتٍ ووصلاتٍ مسرحيةٍ في نادٍ ثقافيٍ بالبلدة.
أطلقت هذه النشاطات شهرتَهما في القرى المحيطة بأنطلياس، لكنها لم تكن لتدرّ دخلاً يكفيهما. لذلك، اضطر عاصي إلى العزف في الملاهي والمطاعم بمنطقة "الزيتونة" في بيروت، قبل أن يصبح موظفاً في البلدية. وهو ما كرّره الابن زياد في أوائل السبعينيات، عندما تمرّد على العائلة أول مرّةٍ وغادر المنزل ليعمل بمفرده في مطاعم وملاهٍ ليليةٍ لسدّ نفقاته، قبل أن يذيع صيتُه لاحقاً وينتج أعماله الخاصة.
أما عاصي ومنصور، فكان التحوّل الأبرز في سيرتهما دخولَ عاصي في أواخر الأربعينيات إلى إذاعة "الشرق" عازفاً في الفرقة الموسيقية، بوساطةٍ من صديقٍ لوالده، ما أتاح لمنصور لاحقاً ترك وظيفته والانضمام إليه. آنذاك، كانت الموسيقى اللبنانية تفتقر إلى هويةٍ مستقلةٍ عن مصر وبقية بلاد الشام، إذ سادت الموشحات والأغاني البدوية والمصرية، وفق بحثٍ لفادي بردويل بعنوان "آرت، وور آند إنهيرتنس: ذا أسثيتيكس آند بوليتيكس أوف زياد رحباني" (الفن، الحرب والإرث: جماليّات زياد الرحباني ورؤاه السياسية) المنشور سنة 2002. كان الغناء باللهجة اللبنانية حينها محصوراً في إطار الفنون الشعبية، باستثناء بعض التجارب الفردية القليلة مثل تجربتَيْ عمر الزعني وسامي الصيداوي.
كان مشروع الأخوين رحباني يتركّز منذ البداية حول ابتكار أغنيةٍ لبنانيةٍ تتكلم باللهجة العامية وتفترق موسيقياً عن المطوّلات الطربية التي كان يراها عاصي مملّة. لا بل نعتها بوصف "المرض"، نقلاً عن زياد في مقابلته مع جريدة "الوسط" سنة 1996. واختار الشقيقان أغانيَ تتّسم بالحيوية، وتستند إلى اللهجة المحلية، مع الاستفادة من التطور الذي كانت تشهده التيارات الموسيقية في الغرب، ولا سيما أنماط الموسيقى المنتشرة في أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية. ولم يُغفِل الأخوان رحباني تأثيرَ الفنّ المصري الذي حقّق قفزاتٍ مهمةً في تطوير المسرح الغنائي مع سيد درويش. فقد اقتبس الأخوان رحباني من سيد درويش وغنّت فيروز أغنياته، وفق كتاب "تاريخ لبنان الثقافي: من عصر النهضة إلى القرن الحادي والعشرين" لكمال ديب، الصادر عام 2016.
لكن الفنون الشعبية كانت مهمَلةً ومُزدراةً في الإذاعات. حتى إنّ محاولات الأخوين رحباني الأولى لتلحين أعمالٍ متأثرةٍ بخلفيتهما الريفية جوبهت بالرفض من عدّة مطربين لعدم توافقها مع الذوق السائد حينئذٍ، بحسب بحث بردويل. لكن هذا الواقع تغيّر لاحقاً مع تعيين فؤاد قاسم مديراً جديداً للإذاعة سنة 1948، وهو المعروف بانتمائه الوطني وصداقته الوثيقة مع رئيس الحكومة حينها رياض الصلح.
فتح قاسم الباب لعاصي الرحباني لتجسيد أفكاره الموسيقية التي سعت إلى تأكيد رؤيته للهوية المحلية للبنان المستقل حديثاً. كان ذلك التوجّه مدفوعاً بإرادةٍ سياسيةٍ وقفت خلفها السلطة التي بدأت تولي اهتماماً متزايداً للثقافة المحلية، في ظلّ الانتشار المتسارع للأفكار القومية والعروبية في المنطقة. وترافق ذلك مع سلسلة الانقلابات التي قادها ضباطٌ من أصولٍ ريفيةٍ في سوريا ومصر والعراق، وصولاً إلى قيام الجمهورية العربية المتحدة (الوحدة المصرية السورية) سنة 1958، التي أثارت قلقاً لدى الطبقة الحاكمة في لبنان. وثمّة دلالةٌ في الغضب الذي ثار في سوريا إزاء الأعمال الأولى للأخوين رحباني مع فيروز، إذ خرجت أصواتٌ داخل البرلمان السوري وقتها تطالب بمنع بثّ هذه الأعمال عبر إذاعة دمشق، وفق بردويل.
أدّت تلك الأجواء المشحونة إلى اندفاع الدولة اللبنانية نحو تغيير سياساتها الثقافية. واستهدفت الأرياف والمناطق الطرفية التي رأتها خاصرةً رخوةً يمكن أن تتسرّب إليها بسهولةٍ الأفكار الوحدوية الآتية من دول الجوار. ولم تجد الدولة أفضلَ من الثلاثي عاصي ومنصور وفيروز، ليكونوا واجهةً لهذا التوجه، ومعهم أسماءٌ بارزةٌ أخرى مثل زكي ناصيف وسعيد عقل وفيلمون وهبي وغيرهم.
وتعد المشاركة في مهرجانات بعلبك، المحطة الثانية والأهم في مسيرة الأخوين رحباني لصناعة تلك الهوية اللبنانية التي رَأَيَاها. فقد طُلب منهما سنة 1957 تخصيص أعمالٍ لقسمٍ جديدٍ أضيف إلى المهرجان تحت عنوان "الليالي اللبنانية". كان برنامج المهرجان قبل ذلك يركّز على إبراز وجه لبنان الأوروبي والغربي، وتقديم أعمالٍ تنتمي إلى ما كان يعدّ "فنّاً رفيعاً" كالباليه والموسيقى الكلاسيكية، حسبما يذكر كمال ديب في كتابه "تاريخ لبنان الثقافي". كذلك كان المهرجان يخصّص حيزاً للفرق الاستعراضية والشعبية من حول العالم، لكنه افتقر إلى تمثيل الفنون المحلية التي لم تكن قد تحوّلت إلى فنونٍ مستقلةٍ كما سيحدث لاحقاً.
بدأت المشاركة الرحبانية في مهرجانات بعلبك قبيل حوادث سنة 1958 التي كانت بمثابة حربٍ أهليةٍ مصغّرةٍ أسفرت عن تصدّع الدولة الناشئة. اندلعت الاضطرابات المسلّحة التي استمرت ثلاثة أشهرٍ، جرّاء الصراع بين مؤيدي الرئيس كميل شمعون المقرّب من الغرب حينها، ومعارضين له، على رأسهم رئيس الوزراء رشيد كرامي، من مؤيدي الاتجاه القومي العروبي (الناصري). وانتهت بتدخلٍ عسكريٍ أمريكيٍ مباشرٍ وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً حلّاً توافقياً. ومن المتفق عليه أنّ مشاركة الرحابنة في مهرجانات بعلبك أتت بدفعٍ من السلطة، سواءً بأمرٍ مباشرٍ من رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، أو من زوجته زلفا شمعون. وينقل بردويل في بحثه عن دراسةٍ غير منشورةٍ لمحمد أبي سمرا، أنّ منصور الرحباني تلقّى اتصالاً من رئيس مجلس النواب الأسبق حبيب أبي شهلا، يحثّه على المشاركة.
تألّفت عروض "الليالي اللبنانية" في بداياتها من منوّعاتٍ تستند للموروث الشعبي، تضمّنت لوحاتٍ غنائيةً ومشاهد تراثيةً ومقاطع تمثيليةً فكاهية. غير أنّ هذه العروض تطوّرت بعد أحداث 1958 إلى مسرحياتٍ غنائيةٍ ذات بنيةٍ سرديةٍ موحّدةٍ، يدور معظمها في إطار القرية صورةً مصغّرةً عن لبنان ميداناً دائماً للصراعات السياسية والاجتماعية، وفق طرابلسي في كتابه "فيروز والرحبانة".
في مسرحية "بياع الخواتم" التي عرضت أول مرّةٍ سنة 1964، أبدى الأخوان رحباني نقداً غير مباشرٍ للدولة. تدور المسرحية حول قريةٍ لم تعد تحتاج للحماية بسبب غياب التهديدات. لذلك، يقرّر المختار اختراع شخصيةٍ وهميةٍ تسمّى "راجح" لإخافة الأهالي ودفعهم لطلب الحماية منه مجدداً. لكن تنقلب اللعبة حين يظهر شخصٌ اسمه راجح فعلاً ليثير الذعر في المكان. في أحد المشاهد، يحاول المختار تسويغ فعلته لابنة أخته ريما – تؤدي دورها فيروز – بعد اكتشافها حيلته، ويقول: "الأهالي بدّن حكاية… أنا خلقتلن الحكاية… تايقولو أنا بحميهن من مجهول عليهن جايي… هيدي يا ريما مش كذبي… هي شغلة حد الكذبي".
على الرغم من التصوير المثالي للبنان في مسرحيات فيروز والرحابنة، إلا أنّها ضمّت مشاهد وعلاقاتٍ وشخصياتٍ مستمدّةً من الواقع. تحديداً من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المتغيّرة في القرية اللبنانية، ولا سيما قرى محافظة جبل لبنان الأقرب إلى العاصمة، كما هو حال أنطلياس، وفق ما يقول فواز طرابلسي في كتابه. تضمّنت المسرحيات الأولى مواضيع وشخصياتٍ ستتكرر في معظم الأعمال اللاحقة، بدءاً من شخصية الغريب بملامحه وتحولاته المتعددة، إلى النزاعات القروية والعلاقة بين حلّ هذه النزاعات والازدهار الاقتصادي. كذلك اعتمدت الأعمال في جوهرها، على ثالوثٍ من القيم، يقوم على الإيمان بالله وعبادة لبنان وتقديس العائلة، وعلى أساس تبعية المرأة للرجل وتربية الأطفال على الرضا.
من جهةٍ أخرى، شكّل مسرح الأخوين رحباني وفيروز خزيناً ثرياً للاقتصاد السياسي للبنان المعاصر، مادّته الرئيسة كما يصفها فواز طرابلسي "تحوّلات القرية نفسها التي بدأت المدينة بالصعود إليها، بينما كانت هي نفسها تنزل إلى المدينة". في مشهدٍ آخَر من مسرحية بيّاع الخواتم ينشد الأهالي احتفالاً بانفتاح الضيعة على الخارج بعد البدء بتعبيد الطرقات: "بدنا الطرقات باب مشرّع… بدنا الطرقات نفتحها صوب الأوسع… بدنا الطرقات نمشيها ونتنزه فيها… وبالشمس الزرقا تلمع تلمع تلمع".
هذا الرؤية، بكل عناصرها وقوالبها وشخصياتها، هي ما سينقلب عليه زياد الرحباني ابن تلك الأسرة التي سعت لصياغة صورة الهوية اللبنانية، بعد عقدٍ واحدٍ من أغنية انفتاح القرية على المدينة.


لا يمكن الوقوف على السبب الذي شكّل دافعاً قوياً للتمرد لدى زياد، ولكن ربما كانت نشأته في أسرةٍ تقدّم صورةً مثاليةً عن البلاد فيما تقوم علاقاتها على واقعٍ بعيدٍ عن المثالية. فعلى النقيض من الصورة المثالية التي قدمتها العائلة الرحبانية في المسرح والغناء، كان زواج عاصي الرحباني وفيروز في الواقع شديد التوتر. في المقابلة نفسها مع عباس بيضون سنة 1996، يروي زياد أنّه كان يضطر أحياناً للاستيقاظ عند الفجر من أجل التدخل وإدارة مفاوضاتٍ بين والديه وتهدئة الخلافات، كي لا يغادر أحدهما المنزل. في النهاية، قرّر زياد أنّ عليه هو المغادرة. بدأ الأمر من قضاء بعض الليالي عند أصدقائه، ثمّ لاحقاً عبر استئجار منزلٍ والانتقال للعيش فيه دائماً. وبابتعاده، لم يخرج زياد من بيت العائلة فقط، بل خرج كذلك من القرية للمدينة.
عمل زياد في البداية عازف بيانو، ثمّ تعاون مع أحد الاستديوهات مقابل بدلٍ مادّيٍ جيّدٍ، سمح له بشراء سيّارةٍ واستئجار منزلٍ في منطقة رأس بيروت، التي كانت آنذاك مركزاً للحياة الثقافية والفنية فضلاً عن احتضانها الفنادقَ والملاهيَ الليلية. تميّزت بيروت وقتها بتنوّعٍ اجتماعيٍ كبيرٍ، إلى جانب حضورٍ أوروبيٍ وعربيٍ لافتٍ، إذ كانت وجهةً رئيسةً للمثقفين العرب الهاربين من الأنظمة العسكرية في بلدانهم.
ومهّدت ظروفٌ فنيةٌ وعائليةٌ لدخول زياد إلى عالم الرحابنة في سنٍّ مبكرة. ففي سنة 1972، أصيب عاصي الرحباني بجلطةٍ كادت تودي بحياته، ما استدعى سفرَه إلى خارج لبنان لتلقي العلاج. وقتها، استعان منصور بزياد لاستكمال العمل على مسرحية "المحطة"، التي حافظت على الطابع الريفي نفسه المعهود في أعمال الرحابنة. شارك زياد في تأليف المقدمة الموسيقية، ولحّن عدّة أغانٍ ضمن المسرحية أبرزها "سألوني الناس" التي كتب كلماتها منصور، وغنّتها فيروز تحيةً لعاصي أثناء علاجه.
كرّر زياد التجربةَ بمفرده في مسرحية "سهرية" سنة 1973، التي استعاد فيها عناصر مألوفةً من مسرح أهله، مثل القرية والساحة والمقهى والشاويش، مع التركيز على الأغاني ووصلات الدبكة والرقص. وبحسب ما يقول الموسيقار إلياس سحاب في ملفٍ خاصٍ عن زياد الرحباني نشرته مجلة "الآداب" سنة 2009، تعد المسرحية امتداداً للمقاطع القصيرة الإذاعية التي قدّمها الأخوان رحباني في مرحلةٍ مبكرةٍ من مسيرتهما، والتي كانت تصوّر شخصياتٍ من حياة الضيعة، وتتألف من أغانٍ ذات طابعٍ شعبي.
لكن عندما قدّم زياد مسرحية "سهرية"، كانت القرية اللبنانية قد أصبحت مجرّد ذكرى لمكانٍ لم يعد موجوداً، بعد أن تغيّرت ملامحه العمرانية والاجتماعية. ربما أبلغ ما كتب في هذا الموضوع ما جاء في ورقةٍ للكاتب أحمد بيضون ضمن مؤتمرٍ في الجامعة الأمريكية ببيروت حول أعمال فيروز وزياد الرحباني سنة 2006، حين تحدّث عن تأثير غناء فيروز والرحابنة على اللبنانيين الذين تركوا قُراهم.
في ورقته المقدمة بعنوان "قمر الصباح الباكر يحكي بلايا آخر السهرة"، كتب بيضون: "كنا معها [فيروز] في أقصى الوحشة وفي أقصى الأُلفة. كنا أيضاً معها في العراء، ولكن هذا العراء كان المنزل الذي وُلدنا فيه، وبات، من يوم أن وُلدنا، غير موجود… ما كان يقوله غناء فيروز لنا على وجه الدقة، أنّ بيت ولادتنا قد أصبح أطلالاً، ولكنه كان لا يزال قائماً بمعالمه كلّه فينا". ويتحدّث بيضون في الورقة نفسها عن تجربة فيروز الفنية مع ابنها زياد، التي اتخذت الشكل الذي بتنا نعرفه في بداية الثمانينيات بعد انفصالها عن الأخوين رحباني. يكتب: "حين ترك زياد الرحباني حضن أمّه ليعلّمها كلاماً لم يتعلّمه منها، كان البيت الذي كانت فيروز تُرتّبه فينا كلّ صباحٍ قد تهدّم… أما أطلال الخارج، فقد زالت هي أيضاً أو أمست على مشارف الزوال".
سنة 1976، صدر بحثٌ أعدّه سليم نصر وكلود دوبار بعنوان "الطبقات الإجتماعية في لبنان"، حاولا فيه فهم الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي مهّدت لاندلاع الحرب الأهلية. ووفق الباحثَيْن، شهدت الفترة ما بين عامَيْ 1967 و1974 تحوّلاتٍ بنيويةً كبرى في المجتمع اللبناني، أبرزها تمدّد الرأسمالية إلى المجتمعات الريفية مقوّضةً القطاعاتِ الاقتصاديةَ التي كانت تعتمد عليها القرى في السابق تحت ضغط السيطرة الرأسمالية. ونتج عن ذلك قلبٌ للعلاقات الاجتماعية ونزوحٌ واسعٌ نحو ضواحي بيروت.
تزامناً كان الاقتصاد المديني يزداد تأزّماً، مع هيمنة تجمعات التجار المحتكرين على عمليات الاستيراد والتصدير، وفق نصر ودوبار. فضلاً عن اختراق رأس المال الأجنبي القطاعاتِ الإنتاجيةَ والمصرفيةَ التي تراجعت قدرتها على خلق فرص عمل. في المقابل، لم يكن التطور في قطاع الخدمات كافياً لامتصاص ضغط سوق العمل، خاصةً مع تراجع قيمة الأجور بفعل الارتفاع غير المسبوق في نسب التضخّم.
في خضمّ هذه الأوضاع المتأزمة، كان الوعي اليساري لدى زياد الرحباني يتشكّل. بدأت بوادر هذا الوعي مع بداية السبعينيات، حين بدأ المراهق – آنذاك – إدراك حجم الظلم الواقع على شرائح واسعةٍ من اللبنانيين، ومدى اتساع الفارق في أنماط الحياة بينهم. وهو ما حرّك مشاعر الذنب داخله، بسبب الامتيازات التي كان يتمتع بها، كما يقول لعباس بيضون في مقابلتهما التي نشرتها صحيفة الوسط سنة 1996، وأعيد نشرها في موقع رصيف 22 بعد وفاة زياد. كذلك نما وعيُه بتلك التفاوتات لِما تعرّض له شخصياً من تنمّرٍ في مدرسته بسبب أصوله الريفية وتحدّثه الدائم بالعربية بدلاً عن الفرنسية.
حينئذٍ كانت بيروت تغلي بالإضرابات والحركات المَطلَبية التي قادها الحزب الشيوعي اللبناني. ويتحدّث زياد في المقابلة نفسها عن مشاركته في أحد هذه الإضرابات حين قرّر من تلقاء نفسه الانضمامَ إلى إضراب المدارس. فقد قصد مبنى جريدة "النهار" ذائعة الصيت في لبنان، مدعياً أن مدرسته "الجمهور" تشارك في التحرّك تضامناً مع المدارس الأخرى.
هكذا، لم يكن مُستغرَباً أن تكون خطوة الشاب الأولى في عالم السياسة هي الاقتراب من أوساط الحزب الشيوعي اللبناني سنة 1974، تحديداً بعد موافقته على تأليف نشيد للحزب في احتفالٍ بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسه. وكان ذلك قبل شهرين فقط من عرض مسرحية "نُزُل السرور" في نوفمبر 1974. ولم تكن العلاقة بين الأخوين رحباني والحزب الشيوعي سيئةً، كما أكّد كريم مروة، أحدُ قيادات الحزب السابقين، في مقابلةٍ مصورةٍ مع برنامج "بدون كرافات" أذيعت سنة 2023. كذلك جمعت الأخوين صداقةٌ بالناقد الموسيقي نزار مروة، نجل المفكر الماركسي الشهير حسين مروة.
مثلت مسرحية "نزل السرور" اكتمال ملامح استقلال زياد فنياً وسياسياً عن العائلة الرحبانية. إذ انتمى العمل إلى واقعيةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ، مع جرعةٍ عاليةٍ من الكوميديا الساخرة التي نزلت إلى وحل الواقع اللبناني، عوضاً عن تقديم نسخةٍ متساميةٍ عنه كما فعل مسرح الرحابنة منذ نهاية الخمسينيات.
تقاطع توجّه زياد الرحباني المستجدّ نحو الواقعية مع تيارٍ كان سائداً في الأدب والمسرح، تبنّاه فنانون يساريون في لبنان منذ ستينيات القرن الماضي. فقد تأثّر هؤلاء بمسرحيين من خلفيةٍ ماركسيةٍ مثل الألماني برتولد بريشت، الذي قرأ له زياد عدّة مقالاتٍ عن المسرح. ويبدو أنّ هذه المقالات أثّرت في أفكاره حول الواقعية وكيفية استخدام السخرية أداةً لتعزيز التفكير النقدي، عبر منع المتفرّج من الانغماس العاطفي وتغيير سياق المألوف كي يراه بعيونٍ جديدة. ويؤكد الفكرةَ الأخيرةَ، حول أهمية تغيير مسار المألوف في مسرح زياد، نصٌ كتبه الناقد نزار مروة في كتيّبٍ صاحَبَ مؤتمراً صحفياً عقده زياد الرحباني سنة 2007. قال مروة: "أطروحة زياد الأساسية في المسرح تتمحور حول تحويل العادي والمبتذل إلى اكتشافٍ مدهشٍ واستثنائي".
من ناحيةٍ أخرى، لم يلتزم زياد في كتابته المسرحية بأسلوب الإسقاط (التلميح باستخدام الرمز) ضمن توجّهٍ سياسيٍ محدّد. لذلك، نجد منسوب الحرية في مسرحه يفوق ما كان سائداً لدى مجايليه، وهو ما يبرز في الحوارات التي كان لها وقع خاصٌ على الجمهور بسبب طريقة كتابتها الفريدة.
في مقابلةٍ مع الصحفي اللبناني طلال شتوي على قناة "المستقبل" اللبنانية سنة 1993، يتحدّث زياد الرحباني عن تأثره المبكر بأسماءٍ مثل مارسيل بانيول، الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي الفرنسي، إذ ينسب له الفضل في تحرير لغته المسرحية. ويقول: "عندما قرأتُ مارسيل بانيول للمرة الأولى فكرتُ لو أستطيع كتابة لغةٍ شبيهةٍ بلغته، لا تلتزم بصياغة الجملة بطريقةٍ أدبيةٍ من موقع الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر. شعرتُ كأنّ بانيول كان يأخذ آلة تسجيلٍ معه إلى الشارع ويحفظ أحاديث الناس كما هي، ليعيد تقديمَها في أعماله". طبّق زياد الرحباني ذلك في أعماله الغنائية التي تفوقت في توظيف عناصر من اللغة المحكية، مستكملاً بذلك ما بدأه الأخوان رحباني في بداية الخمسينيات حين أدخلا العامية اللبنانية على كلمات الأغاني.
لكنّ هذا التركيز على النص المسرحي والحوارات أتى على حساب الإخراج المسرحي الذي لم يُولِه زياد الاهتمامَ نفسه. وهو ما عرّضه لاحقاً لتهميش الطليعة المسرحية في لبنان، التي نشأت في الستينيات وارتكزت في مقاربتها على دور المخرج وشخصيته، في حين قلّلَت من الالتفات للمؤلف، وفق ما يقول الباحث آرنو شابرول في مقالةٍ بعنوان "زياد الرحباني، شخصية فريدة لرجل المسرح في لبنان"، نشرت سنة 2007. ويضيف شابرول أنّ إخراج زياد "كان واقعياً وبدائياً إلى حدٍّ كبيرٍ، يتّسم بعدم اتّباع أيّ مرجعٍ فنّيٍ محددٍ، مع الاهتمام بالتنفيذ الحرفي للمعاني من دون الإخلال بمبادئ الكتابة الدرامية الكلاسيكية المرتبطة بخشبة المسرح". وهو ما عزّز تبعاً من وضع زياد الملتبس أو المهمّش ضمن تيار الحركة المسرحية آنذاك.


على العكس من أبيه وعمه، يمّم زياد صوب المدينة. فكانت مساحاتها الاجتماعية والسياسية هي محور عمله، في حين لم يَخرج مسرح الرحابنة قبله عن عوالم القرية المثالية. ظهر ذلك مع أولى مسرحيات زياد "نزل السرور" التي عبّرت عن مساره الواقعي الذي اختاره. وتدور أحداثها في ساحة مدينية بامتيازٍ وهي الفندق "النُزُل" الذي يتعرّض لاقتحامٍ ويُحتجَز نزلاؤه ويهدَّدون بتصفيتهم واحداً تلو الآخَر إن لم يشاركوا في إشعال الثورة في لبنان. ودارت أحداث المسرحية في الزمن الواقعي لبيروت وقتئذ.
استوحى زياد أحداث المسرحية من العمليات العنيفة التي كانت تنفذها مجموعاتٌ يساريةٌ لبنانيةٌ وفلسطينيةٌ ضدّ المصالح الأمريكية والغربية. وكانت عملية اقتحام "بنك أوف أمريكا" في قلب بيروت سنة 1973، التي وقعت قبل عامٍ من المسرحية، هي الملهم الرئيسي لها.
نفّذت العملية وقتئذٍ مجموعةٌ صغيرةٌ تطلق على نفسها اسم "الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية"، إذ اختطفت جميع العاملين في المصرف الأمريكي هائل الثراء، احتجاجاً على دعم المصارف الأمريكية إسرائيلَ في حربها ضدّ سوريا ومصر سنة 1973. وطالب الخاطفون المصرفَ بدفع مبلغ عشرة ملايين دولارٍ للمجهود الحربي في مصر وسوريا، وطالبوا بإخلاء السلطات اللبنانية سبيل فدائيين فلسطينيين من السجن. وانتهت العملية بمقتل اثنين من الخاطفين وأحد أفراد الشرطة، بالإضافة إلى رهينةٍ يحمل الجنسية الأمريكية.
لكن قصة "نزل السرور" كانت مختلفةً من عدّة جوانب عن قصة "بنك أوف أمريكا". فقد تحوّل المصرف هنا إلى فندقٍ رخيصٍ، أغلب نزلائه من اللبنانيين الفقراء نسبياً باستثناء صاحب النُزُل وابنته. وضمّ النُزُل عازفَيْن موسيقيَيْن ومصوراً فوتوغرافياً وموظّف استعلاماتٍ ومفكراً يسارياً يلقي خطاباتٍ رنانة. إضافةً إلى راقصةٍ شرقيةٍ وشابٍّ يؤدّي دوره زياد، كلّ ما نعلمه عنه أنّ زوجته طردته من المنزل لأنّه عاطلٌ عن العمل ومدمنٌ على المراهنات. أمّا مطالب الخاطفين فاتخذت طابعاً محليّاً، مع التركيز حصراً على رغبتهم بقيام ثورةٍ في لبنان، من دون ربط الحادثة بالثورة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، مع أن هذا الصراع شكّل عاملاً أساسياً في تفاقم الوضع في لبنان آنذاك.
بدت تغييرات زياد ذات دلالة. فالفندق بدا اختصاراً لبلدٍ بأكمله يعتمد اقتصادُه على الترفيه والخدمات، بينما يعيش أبناؤه في ضيقٍ مقيم. كذلك فالتنوع الذي احتواه الفندق، وتوزّع انتماءات نزلائه الطبقية، يعكسان رؤيةً اجتماعيةً وسياسيةً أخذ زياد وقتئذٍ يتبنّاها. لكن برزت نقطة ضعفٍ واضحةٌ تمثّلت في غياب العنصر الفلسطيني الذي كان فاعلاً بشدّةٍ في المشهد اللبناني. من ناحيةٍ أخرى، كانت سلوكيات الخاطفين الانتحارية وثوريتهم المفرطة، مجازاً ممثلاً للوجه المظلم للحراك اليساري اللبناني والفلسطيني الذي ضمّ على هامشه مجموعاتٍ عنيفةً محملةً برؤيةٍ خلاصيةٍ، لم تواجَه بجدّيةٍ من داخل الحراك نفسه.
تنتهي "نزل السرور" بتخلّي الثوار عن أحلامهم، بعد تقديم النزلاء إغراءات لهم، مثل إيهام أحدهم بأنّ ابنة صاحب الفندق واقعة بحبه، في إشارة إلى قدرة المجتمع أو المنظومة المهيمنة على احتواء الرغبة بالتغيير. وانتقد زياد نفسه المسرحية لاحقاً، تحديداً الخطاب الوعظي الذي يلقيه زكريا (شخصيته التي قدمها) في النهاية، ويعلن فيه خيبته من تخلّي الثوار عن أحلامهم بعد أن عوّل عليها وعلى قدرتها على تحسين مستقبل أولاده. أيضاً عاد وتراجع زياد عن انتقاده لمفكري اليسار، وانتقد نظرته التشاؤمية حينها تجاه قدرة الفئات الشعبية على الفعل السياسي الواعي بخياراته. لكن هذا الموقف نفسه سيتغيّر في سياق الحرب الأهلية وتحديداً في مسرحية "فيلم أميركي طويل"، التي حمّل فيها زياد اللبنانيين أنفسهم مسؤولية ما يحدث معهم. لكنه سيذهب إلى موقف أكثر تطرفاً لاحقاً اتجاههم، في عملَيْه الأخيرين "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)، و"لولا فسحة الأمل" (1994).
تبقى "نزل السرور" نموذجاً يحتوي على عناصر تكرّرت لاحقاً في تجارب زياد المسرحية، والتي كرّست انقلابه على مسرح العائلة، سواء من تبنّيه مسرحاً واقعياً وسياسياً، أو عبر توجيه نقد مباشر لما يمثّله المسرح الرحباني. وقد بلغ هذا النقد ذروته في مسرحية "شي فاشل" (1983)، التي شكّلت محاكاة ساخرة لمسرحيات الأخوين رحباني. ويظهر هذا النقد في "نزل السرور" على لسان شخصية العازف والمؤلف بركات، التي تتقاطع بوضوحٍ مع شخصية زياد الحقيقية. ويؤدي الدور جوزف صقر، الذي مثّل في عددٍ من أعمال زياد صنْوَه وصوتَه الساخر من كلّ شيء. ولهذا، بدا طبيعياً أن يتكلّم بلسانه. ويتجلّى هذا التقاطع عندما يطلب الخاطفون من بركات تأليف نشيدٍ للثورة، في توازٍ مع تجربة زياد الفعلية حين طُلب منه تأليف نشيدٍ للحزب الشيوعي اللبناني.
من جملة ما يسخر منه بركات في "نزل السرور" عدم واقعية التراث اللبناني المرتبط بالقرية، وعبثية المجهود الذي بذله اللبنانيون طوال سنواتٍ لتطوير هذا التراث. يقول مثلاً: "عم يكتشفو المريخ، ونحنا عم نجرّب نعرف مين لحّن الدلعونا. سامع شي واحد عم يعزف الدلعونة ع السكسوفون؟". ربما بدت سخرية زياد قاسيةً من المجهود الذي بذلته العائلة الرحبانية طيلة سنواتٍ في استلهام التراث لخلق هويةٍ ثقافيةٍ جامعة للبنانيين. لكن هذه القسوة ظهرت في محلّها بعد اندلاع الحرب الأهلية، عندما اتضح أنّ ذلك المجهود على الرغم من جمالياته الاستثنائية، إلا أنّه فَشِلَ في وظيفته الأصلية. فاللبنانيون تقاتلوا بكل الأحوال على الرغم من فخرهم بلبنانيتهم. وقد فعلوا ذلك أحياناً بينما كانوا يستمعون إلى أغاني فيروز والرحابنة، من دون أن يغيّر ذلك شيئاً فيهم على مستوى فهم الهوية عنصراً يجمع اللبنانيين أو يفصل بينهم.
ومع هذا النقد، حافظ زياد على بعض العناصر المستمَدّة من المسرح الرحباني. فمثلاً، أبقى العنصر الموسيقي حاضراً بتوزيع أعمالٍ غنائيةٍ على امتداد المسرحية، حمل بعضها طابعاً قريباً من الأغاني الرحبانية السابقة، سواءً من حيث الإحالات الريفية أو التأثيرات الموسيقية. من جهةٍ أخرى، حافظت المسرحية على موقفٍ سياسيٍ معتدلٍ، يأخذ مسافةً واحدةً من جميع الأطراف، وهي إحدى السمات المعروفة في المسرح الرحباني.


بعد عامين من اندلاع الحرب، انتقل زياد نهائياً من منزل العائلة في أنطلياس، التي أصبحت وقتئذٍ امتداداً للشقّ المسيحي اليميني من ضاحية بيروت الشرقية التي تسيطر عليها فصائل مسلحةٌ تابعةٌ لأحزاب "الجبهة اللبنانية". واستقر في بيروت الغربية التي كان يسيطر عليها اليسار و"منظمة التحرير الفلسطينية". وكان انتقاله احتجاجاً على حصار أحزاب "الجبهة اللبنانية" مخيّمَ تل الزعتر، أحد مخيمات اللجوء الفلسطينية شرقي بيروت.
بدأ زياد في السنة نفسها مع السينمائي جان شمعون برنامجاً إذاعياً بعنوان "بعدنا طيبين، قول الله"، بثّته الإذاعة اللبنانية الرسمية. وتضمّن البرنامج نقداً سياسياً واضحاً استهدف اليمين المسيحي والتدخل السوري في لبنان تحت مظلة "قوات الردع العربية"، وهي قوّةٌ عسكريةٌ مشتركةٌ أُنشئت بقرارٍ من جامعة الدول العربية سنة 1976 إبان الحرب الأهلية، لكن سرعان ما هيمن عليها الجيش السوري. كذلك طرح البرنامج وجهات نظرٍ مختلفةً في أوجُه الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في بيروت. توقّف البرنامج عندما احتلت "قوات الردع العربية" مبنى الإذاعة، حينما كان زياد وجان يصدحان بالغناء، متحدّيَيْن القفلةَ المأسويةَ من "حرب السنتين" التي انتهت بانهيار النظام اللبناني ودخول القوات السورية خلال المرحلة الأولى من الحرب الأهلية: "اختلط الحابل بالنابل… سوريا تبعت لك ردع… ومصر تبعت فلافل"، وفق ما يذكر فواز طرابلسي في منشورٍ كتبه على حسابه الشخصي في "فيسبوك" في يوليو 2025.
في سنة 1976 أيضاً، قدّم زياد الرحباني مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟"، التي وإن تطلّع عنوانها للمستقبل، كانت تنظر إلى الماضي بتحليل المشهد الاجتماعي والاقتصادي في بيروت عشيّة اندلاع الحرب الأهلية. وتتشابه في ذلك مع مسرحيته الخامسة "شي فاشل" سنة 1983.
تدور المسرحية في مطعمٍ تعمل فيه الشخصية الرئيسة التي يؤدّي دورها زياد، في استمراريةٍ واضحةٍ لدوره في "نزل السرور". إذ حافظ على الاسم نفسه (زكريا). كذا فإن زوجته (ثريا) التي كان يشتبه في خيانتها له، أصبحت اليوم تخونه بعلمه مقابل بدلٍ مادّيٍ للمساعدة في مصروف الأولاد والمنزل. تخبرنا المسرحية تفاصيل أكثر عن خلفية زكريا وزوجته هذه المرّة. إذ تعود أصولهما إلى الريف، حيث لا مدخول يكفي لسدّ مصاريف العائلة والأولاد. ومنذ وصولهما إلى بيروت، يتطبّع الثنائي بأسلوب عيش المدينة الغارقة في قيم الاستهلاك واقتصاد الخدمات. ويُصبحان تدريجياً مرآةً للّبنانيين المهووسين بالترقّي الاجتماعي عبر إتقان لعبة المظاهر وتغيير لهجة الكلام، ما يؤدّي إلى مزيدٍ من الاغتراب وفقدان الهوية.
اختار زياد المطعمَ ليكون مكاناً للأحداث، في تقاطعٍ مع خيار الفندق في "نزل السرور". وهما في الحالتين إشارةٌ إلى تركّز الاقتصاد اللبناني في قطاع الخدمات، الذي كان يشهد ازدهاراً في سنوات ما قبل الحرب، على حساب قطاعاتٍ أخرى كانت أكثر نشاطاً في الماضي. في أحد المشاهد، يشرح المدير للموظفين كيفية الاهتمام بالزبائن في المطعم الذي يبدو اختصاراً للبلد بأكمله. ويقول: "لازم الأجانب يحسّوا إنهن محاطين باللطف والعاطفة والطمأنينة. لازم كل واحد يحس إنو ببيتو وبلدو وبين أحبابه. قد ما يرتاح، قد ما يحط مصاري. المحل قايم عليهم. صدقوني، هيدا الشي بيكون لصالحنا كلنا".
بالإضافة لزكريا وثريا، تضمّ المسرحية شخصيتي الطبّاخ والنادل، وابن عمّ زكريا الذي يقدم دوره جوزف صقر، آتياً من القرية لتزويد المطعم بالخضار. ويبدو لقاء زكريا مع ابن عمّه كأنه لقاءٌ مع الماضي، يضعه أمام ما خسرته ذاته من نفسها في الحاضر. يحاول زياد إخفاء حقيقة ما يعيشه أمام ابن عمّه الذي يراه بمثابة قصة نجاحٍ يجب احتذاؤها.
ينتمي أغلب زبائن المطعم إلى جنسياتٍ مختلفةٍ، من أجانب تختار منهم ثريا كلّ مرّةٍ واحداً لتعرض عليه خدماتها الجنسية، ومن لبنانيين متعدّدي المشارب يجمعهم السعي وراء الصفقات. من هؤلاء شاعرٌ يبيع قصائده يومياً للصحف، وتاجر مخدراتٍ يحاول تمرير شحنةٍ إلى أوروبا. حتى صاحب المطعم يحاول إقناع شيخٍ خليجيٍ بأنه قادرٌ على تحقيق حلمه في بناء فندقٍ يضمّ قسماً يدور (يلفّ) في الأعلى. هكذا يصبح المطعم صورةً مصغرةً عن المدينة التي تفتح أبوابها للغرباء كأنها سوقٌ ضخمٌ لصيد الفرص والصفقات المشبوهة والممنوعات. وهي الصورة التي التقطتها أفلامٌ غربيةٌ في الستينيات والسبعينيات، وحوّلت بها بيروت إلى مدينةٍ مثيرةٍ، مليئةٍ بالمغامرات الجنسية وعمليات الاغتيال والتجسس.
تلعب المسرحية على الصراع بين رغبة زكريا في الترقّي الإجتماعي ونيل المكانة من جهةٍ، وبين خسارته كرامتَه بسبب عمل زوجته من جهةٍ ثانية. ومع تصاعد شعوره بالإهانة، تزداد ممارسته العنفَ الذي يصل إلى أقصى درجاته في النهاية، عندما يعتدي بالضرب على أحد الزبائن حتى كاد يفارق الحياة، ما تسبّب في دخوله السجن.
في أحد المشاهد، يشكو زكريا إلى نجيب الطباخ المعضلةَ التي وقع فيها. إذ لم يعد قادراً على العودة إلى حياته الفقيرة في القرية، ولا على مجاراة نمط الحياة الباهظ في المدينة. يقول: "الفقر بيفزّع، نجيب. نحن بس كنّا فيه ما كنّا شايفينو. عايشين هيك طبيعي ما حاسّين. بس طلعنا شوي منو شفناه من بعيد. صار بيفزّع أكثر. مش معقول نرجع".
تمثّل المسرحية باختصارٍ، ثورة زكريا على ظروفه التي أدّت إلى تمزقه بين وعود المجتمع الاستهلاكي بالرفاهية، والإهانات المصاحبة لهذه الوعود التي تستهدف كبرياءه ومشاعره الإنسانية.
في مقال يعود لسنة 1978، يقارن الكاتب جوزيف سماحة بين "بالنسبة لبكرا شو" ومسرحية "بترا" للأخوين رحباني، التي كانت تُعرض في الوقت نفسه. ويقول: "تسعى كل مسرحيةٍ لنوعٍ من التماسك الداخلي لتجاوز القضايا الحقيقية المطروحة في الصراع اللبناني. فبينما تُظهِر بترا هذا التماسك ضد عدوٍّ خارجيٍ، إذ تحكي المسرحية قصةَ مدينة بترا التي دافعت عنها حاكمتها "زنوبيا" بوجه الرومان، تسعى مسرحية زياد الرحباني إلى استعادة تماسك مفهوم الطبقات الاجتماعية من أجل تفسير ما حصل على أسسٍ أكثر عقلانية. هكذا، بينما حافظت العائلة الرحبانية على ولائها للأسطورة الوطنية – العدو في الخارج، أعلن زياد الرحباني ولاءه للأسطورة الثورية – العدو في الداخل".


ظلّت الحرب الأهلية الدائرة حاضرةً في مسرح زياد، وإن أمكن عِدادُ مسرحيته الرابعة "فيلم أميركي طويل" متمّمةً حكايته مع الحرب، التي استمرت عشرة أعوامٍ أخرى عقب تقديم المسرحية سنة 1980.
وفقاً لكمال ديب في كتابه "تاريخ لبنان الثقافي"، استوحى زياد العمل من فيلم "وَنْ فْلو أُوفر ذا كوكوز نِست" (أحدهم طار فوق عشّ الوقواق) المعروض سنة 1975 للمخرج ميلوش فورمان، وتدور أحداثه في مستشفىً للأمراض النفسية. وكما الحال مع "بالنسبة لبكرا شو"، بدت تسمية "فيلم أميركي طويل" غريبةً بعض الشيء. لكن المسرحية تسخر من "منطق المؤامرة" الذي يربط ما يحصل في لبنان عادةً برابط "مخطّط أمريكي". وهي للمفارقة، جملةٌ لا تزال تتردّد إلى اليوم عند الحديث عن أيّ أزمةٍ في أيٍّ من دول المنطقة أو فيما بين تلك الدول. يبقى التفسير الأكثر إقناعاً لعنوان المسرحية، أنّه إشارةٌ إلى الفترة الليلية التي كانت مخصصةً في التلفزيون في أحد أيام الأسبوع لعرض فيلم أمريكيٍ غالباً ما يكون طويلاً.
عبّرت المسرحية عن تطوّر نظرة زياد إلى الصراعات اللبنانية من كونها ناتجةً عن تناقضاتٍ اقتصاديةٍ سابقةٍ الحرب، وما رافقها من صراعٍ طبقيٍ واجتماعيٍ اتخذ شكلاً طائفياً، واستيعابه أنها باتت صراعاتٍ طائفيةً مباشرةً، وأقرب إلى العبث. وهو ما سيؤدي إلى انهيار كلّ الروايات السابقة التي استند إليها كلٌّ من اليمين واليسار في آنٍ واحد.
كان اليمين اللبناني، أو ما عُرف بِاسم "الجبهة اللبنانية"، يرى أنّ الأزمة في لبنان مرتبطةٌ بالنشاط الفلسطيني داخل الأراضي اللبنانية، وبدعم القضية الفلسطينية وتبنّيها من منظمات اليسار والحركة الوطنية المؤلفة من تحالف اليسار والأحزاب العروبية ومنظمة التحرير الفلسطينية. في المقابل، كان اليسار يرى أنّ الصراع طبقيٌ اجتماعيٌ ويرتبط باختلال التوازن الذي كرّسته سياسات اليمين التي رسمت شكل الاقتصاد والمجتمع بعد الاستقلال سنة 1943.
لكن مع هزيمة قوى الحركة الوطنية بعد تدويل الصراع ثمّ دخول النظام السوري مباشرةً في الحرب سنة 1976، انتهت أحلام اليسار بإحداث تغييرٍ في طبيعة النظام الطائفية والليبرالية. هذا إن لم نقُل إنّ اليسار نفسه أوشك على الانتهاء آنذاك قوّةً فاعلةً على الأرض، بعد تعرضه لحملةٍ أمنيةٍ عنيفةٍ نفّذها النظام السوري. وشاركت في هذه الحملة الأحزاب المتحالفة مع نظام حافظ الأسد. بعد وقتٍ قصيرٍ من طلبِ قوى الجبهة اللبنانية تدخّلَ النظام السوري لإنقاذ المناطق المسيحية من "المد اليساري والفلسطيني"، بدأت هذه القوى صراعها مع هذا النظام. فضلاً عن صراعاتٍ داخليةٍ فيما بينها لفرض الهيمنة على بيروت الشرقية والمناطق ذات الغالبية المسيحية.
حينئذٍ نظر زياد لما يجري على أنه استمرارٌ للصراعات الطائفية السابقة على الحرب، والتي تشير إلى أزمةٍ عميقةٍ يعيشها اللبنانيون غير القادرين على تخطّي هوياتهم الطائفية والقبلية لخلق هويةٍ واحدةٍ والتجانس شعباً واحداً.
في مسرحية "فيلم أميركي طويل" حاول زياد النظرَ في أثر الحرب على الأفراد والجماعات، خاصةً لجهة تعميقها مشاعر الخطر الدائم والاضطرابات النفسية الناتجة عن الصدمات. لم يعُد اللبنانيون يتحكمون بمصائرهم، بل أصبحوا أشبه بالآلات التي تحرّكها الحرب من دون امتلاكهم الإرادةَ القادرة على إيقاف ما يحصل معهم. ربما أفضل تعبيرٍ عن الفكرة الأخيرة ما قاله زياد في مقابلةٍ مع الإعلامية هيام أبو شديد سنة 2000، معرّفاً الهزلَ الذي وظّفه في "فيلم أميركي طويل"، ولو أنه لم يؤكد ذلك صراحة. خلاصة كلام زياد في المقابلة أنّه يكفي للإضحاك أَنْ يسلك الإنسان سلوكاً لا يتناسب مع طبيعته. الضحك ينشأ لأن المجتمع يتوقّع من الإنسان أن يتفاعل بطبيعةٍ ووعيٍ مع من حوله. لكن عندما يتصرف لا إرادياً يراه الآخرون وكأنه فقد إنسانيته وأصبح شبيهاً بالآلة، ليتحوّل فعلُه إلى مادةٍ للضحك لأنه يخالف التوقّع العامّ. وهكذا يصبح الضحك كأنه ردّة فعلٍ أو شكلٌ من أشكال تصويب الخطأ.
يُعَدّ حديث الرحباني في المقابلة ذا أهميةٍ خاصةٍ، لأنّه من المرّات النادرة التي يشير فيها إلى الخلفية النظرية التي شكّلت فهمَه أدواتِ مسرحه، والتي استخدمها في النقد الساخر للأفكار والسلوكيات اللبنانية، خاصةً في "فيلم أميركي طويل".
يظهر ذلك في الاضطرابات التي رسمها للمرضى اللبنانيين في المسرحية، إذ ينخرط المرضى في تكرار سلوكياتٍ بعينها كأنهم عالقون في أنماط حركةٍ آليةٍ وغير إرادية. مثلاً يُخرج أحد المرضى هويّته كلّما انتقل من مكانٍ لآخر في المستشفى، رافضاً التحرّك من دون تأكّد أحدهم من معلوماته الشخصية والموافقة على مروره. في حالةٍ أخرى، نجد مريضاً مهووساً بتسجيل صوته وإعادة سماع التسجيلات للتأكد من "منطقية" الأفكار التي يطرحها. بينما تصل الحال بمريضٍ ثالثٍ، من أصولٍ أرمنيةٍ فُجّر متجره قبل مدّةٍ (يبيع أجهزة تسجيل صوتي)، إلى درجةٍ تتخطى السلوكيات الآلية لتصل إلى مرحلةٍ يفقد فيها القدرة على تحديد هويته، لمعرفة ما إن كان أرمنياً أو لبنانياً. وهو ما يجعله متماهياً في النهاية مع حقيقة كونه آلةً أو جهازاً: "أنا ستيريو أرمني لبناني". وتشير كلمة "ستيريو" باللهجة اللبنانية، إلى جهاز تسجيلٍ وتكبيرٍ صوتيٍ بخاصية قراءة الأشرطة وسماعها ويمكن تحويله في الوقت نفسه إلى مذياع يبثّ ما يتلقّاه من إشاراتٍ على موجاتٍ إذاعيةٍ محددةٍ سلفاً.
يؤدي زياد الرحباني في المسرحية دور شابٍ يدعى رشيد، أُدخل إلى المستشفى بعدما أوقف السير في شارع الحمرا، وهاجم شخصاً وضربه بلا مبرّر. يشكو رشيد عند لقائه الطبيبَ مِن أنّه يسمع صوت طنينٍ مستمرٍّ في أذنيه، وبأنّ ثمّة شيئاً ما في الأرض اللبنانية يرسل إشاراتٍ تؤدي إلى خلق "عكفة" أي اعوجاجٍ في عقول الناس يجعلهم "يفردون". وهي كلمةٌ ابتكرها زياد تحيل إلى فردانية الجماعات اللبنانية وحالة التقوقع التي وصلت إليها نتيجة الخوف المتبادل الذي يشوّش الوعي بالذات، ويمنع اللبنانيين من معرفة رغباتهم وما يريدونه تحديداً. ويقول رشيد في مكانٍ آخَر، إنّ نسبة 80 بالمئة من اللبنانيين يريدون "لبنان جديداً"، بينما هناك 80 بالمئة آخرون "بدّن الصرفة"، أي يريدون إنتهاء الحرب وحسب بلا أيّ تغيير. ويعلّق ساخراً بأنّ أحد الطرفين لا بدّ أن يكون كاذباً، إذ لا يمكن أن تكون النسبة 160 بالمئة.
تبدو فكرة رشيد عن تلقّي الناس إشاراتٍ من الأرض مستعارةً من أفلام الخيال العلمي التي تدور حول ظواهر خارقةٍ الطبيعة تؤثّر في العقول، لدرجة تحويل أصحابها إلى كائناتٍ مسيّرةٍ تتصرّف بلا وعي. لكن يمكن ربط الفكرة أيضاً بتماهي اللبنانيين مع الآلات والأجهزة، كالتلفزيون الذي يشير عنوان المسرحية إلى مدى تأثيره، أو"الستيريو". المفارقة أنّ زياداً يرفض أن تكون هذه الإشارات آتيةً من الخارج، كما كان سيفعل الأخوان رحباني لو كُتب لهما العمل على النص نفسه وفق رؤيتهما التي غالباً ما ترى الصراع نتيجة تدخّل عدوٍّ خارجيّ، بل يُفضّل أن يجعل الأرض اللبنانية نفسها مصدراً لهذه الإشارات.
ولا يتوانى رشيد في المسرحية عن شتم اللبنانيين، ليحمّلهم المسؤوليةَ عمّا يحصل معهم، لا الزعماء الذين ليسوا سوى تجسيدٍ لهذا الشعب. وينتقد زياد أيضاً زيف تعبير "لبنان الجديد" الذي تلوكه كلّ الأطراف بينما يعنون به مشروعاً لحربٍ أهليةٍ، تهدف إلى فرض رؤية طرفٍ على أطرافٍ أخرى. في القسم الأخير من المسرحية، وبعد فشل العلاج الكلامي الذي يظهِر هشاشة منطقهم، يقرّر الأطباء حقن المرضى بجرعاتٍ مرتفعةٍ من المخدرات، قبل البدء بجلساتٍ كهربائيةٍ تستكمل تحويلهم إلى آلاتٍ تردّد العبارات نفسها التي يردّدها اللبنانيون باستمرار. ومن هذه العبارات "الزّعما عم يستغلّو هالشعب والشعب معتّر" أو "كلنا إخوة من وين جابولنا الطائفية". ربما كانت نتيجة العلاج معروفة سلفاً، وقد عبّر عنها جوزف صقر في المسرحية، عندما غنّى: "راجعة بإذن الله… على أنحس بإذن الله… إن قلتوا إيه وإن قلتوا لا".
منذ عرض "فيلم أميركي طويل" سنة 1980، لا يبدو أنّ اللبنانيين تغيروا كثيراً. إذ لا يزالون يكرّرون العبارات نفسها التي سخر منها زياد الرحباني آنذاك. حتى عبارة "لبنان الجديد" التي استُخدمت في الماضي لتمرير سيطرة طرفٍ على آخَر عادت للظهور بعد الهدنة الموقعة بين لبنان وإسرائيل برعايةٍ أمريكيةٍ في 2025. إذ ظهرت شعاراً لحملةٍ إعلانيةٍ ضخمةٍ تبنّتها القوى التي تعارض "حزب الله"، الذي كان مهيمناً على لبنان في العقدين الأخيرين، وتراه "أداة إيرانية".


مع أن زياد الرحباني ضمّنَ نقداً لمسرح الأخوين رحباني في عددٍ من أعماله الأولى، باستثناء مسرحية "سهرية"، إلا أنّ هذا النقد لم يكتمل سوى مع "شي فاشل" التي عرضت سنة 1983. فقد كانت هذه المسرحية بمثابة محاكاةٍ ساخرةٍ لتلك العوالم المثالية التي بدأت العائلة صناعتها مع فيروز منذ سنة 1958.
تدور "شي فاشل" حول نور (يؤدي دوره زياد الرحباني)، المخرج العتيق في لبنان، الذي يسعى لإنتاج عملٍ غنائيٍ بعنوان "جبال المجد"، في مدينةٍ لا تزال تعيش الحرب الأهلية. الفكرة الأساس لمسرحية "شي فاشل" هي التناقض بين القرية المثالية التي يكتشف أهلها أهمية التعايش بعد حلّ الخلافات بطريقةٍ شبه سحريةٍ، وبين الواقع الفعلي الذي يظهر شرخاً هائلاً بين اللبنانيين العاملين في المسرحية، المنقسمين بين مسلمين ومسيحيين.
كانت بيروت في ذلك الحين تعيش أجواء تفاؤليةً بقرب تهدئة الأوضاع، مع بداية عهد الرئيس أمين الجميل سنة 1983. وظهر هذا التفاؤل في استعادة الإعلامِ السرديةَ الوطنيةَ التي كانت سائدةً قبل الحرب، والتي حضرت عناصرها في المسرح الرحباني. تمثّل المسرحية وفق منشورٍ لفواز طرابلسي على "فيسبوك": "عبث المحاولة لبناء السلام بواسطة إيديولوجيا فولكلورية ماضوية هي ذاتها من مسبّبات الحرب".
تدور أحداث "جبال المجد"، المسرحية الغنائية التي يعمل عليها المخرج نور، في قريةٍ شبيهةٍ بقرية الرحابنة. وتتألّف من قصةٍ تحمل العناصر الثلاثة الأساس في المسرح الرحباني: "الغريب، والكنز، والأعجوبة"، كما فصّلها فواز طرابلسي في كتابه "فيروز والرحابنة". وتبدأ المسرحية بأجواءٍ من الأُلفة بين أهالي القرية، سرعان ما تنقلب حين يُقدِم غريبٌ وفَدَ إلى القرية على سرقة الجرّة التي لا يُعرف ما بداخلها (والتي تمثّل الكنز). وتثير هذه السرقة الفتنةَ والصراعات بين الأهالي، ولا تنتهي الأزمة سوى "بأعجوبة"، حين تظهر الجرّة مجدداً في القرية، ما يعلّم الأهالي درساً مفادُه أنّ وحدتهم هي الكنز الحقيقي الذي يفتح الباب أمام التقدّم الموعود.
تضمّ المسرحية أيضاً الشخصيات المعروفة في المسرح الرحباني، مثل المختار والصبيّة العفيفة التي تنذر نفسها لبلدها وممثل الأهالي. كذلك تزخر بالرموز التي تشكل عناصر الهوية اللبنانية المتمحورة حول جبل لبنان، مثل الأرزة التي تتوسط علم لبنان والشلال والغابة، وتجسّد معاً صورةً عن "الجنة الرحبانية الموعودة" عند اتحاد اللبنانيين ونبذ الفتنة.
بالمحصلة، تُخضع "شي فاشل" العوالمَ الرحبانية المثالية لظروف الواقع اللبناني المتردّي، حيث تُنزلها من مثاليتها إلى وحول الحرب القاسية وحقائقها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تحوّل حلقة الدبكة التي تمثّل تكاتف الأهالي، إلى صراعٍ طائفيٍ حادٍّ بين الممثلين، ينتهي بتهديداتٍ وشتائم ذات طابعٍ طائفيٍ ومناطقي. تنتهي المسرحية بحدثٍ خارقٍ يتمثّل بظهور أبو الزُلف، وهي شخصيةٌ تُستدعى في الزجل الشعبي والمسرح اللبناني للتعبير عن المواطن في أشكالٍ وصفاتٍ متباينة. هذه المرّة حضر أبو الزلف مرتدياً "الجينز"، ويتكلم بلغةٍ مطعّمةٍ بالإنجليزية للتدليل على انتمائه للعصر الحالي، ورفضه كلّ محاولات نور إعادتَه إلى زمنٍ سابقٍ لا يتناسب مع شخصيته العصرية.
لا تقلّ مسرحية "شي فاشل" أهميةً عن مسرحيات زياد الرحباني الثلاث السابقة. غير أنّ موضوعها، على تزامنه مع الحرب، يطوي في الجوهر ملفاتٍ قديمةً تنتمي إلى زمنٍ آخر. ينطبق ذلك أيضاً على المسرحيتين الأخيرتين "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" سنة 1993، و"لولا فسحة الأمل" سنة 1994. لكن الزمن هنا هو مرحلة ما بعد الحرب، التي شهدت عودة الأوهام السابقة بصيغةٍ جديدةٍ، عبر مشروع رجل الأعمال ورئيس الوزراء لاحقاً رفيق الحريري، الذي أتى باتفاقٍ سعوديٍ سوريٍ لإعادة الإعمار وقيادة البلاد في مرحلة السلم. وتزامن مجيئه مع ثورة الاتصالات والحاسوب وظهور الفضائيات. وحصل كل ذلك في حين كان العالم يشهد تحوّلاً سريعاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وصعود الولايات المتحدة قوّةً وحيدةً مهيمنةً على النظام العالمي.
لكن في علاقته بالحرب الأهلية، بدا أنّ زياد الرحباني قد قال كلّ ما لديه تقريباً في الأعمال الثلاثة الأولى التي قدّمها بين عامَيْ 1974 و 1980. بعد ذلك، وتحديداً في "شي فاشل" وعملَيْه الأخيرَيْن، وجّه الرحباني نقدَه إلى منطق السلم الأهلي، الذي ظنّ اللبنانيون أنّهم قادرون على إعادة بنائه بالاعتماد على الأفكار السابقة نفسها بلا أيّ تغييرٍ في جوهر المشكلة.
رأى زياد أنّ المشكلة تكمن في خلل الصيغة الطائفية القائمة، وفي النظام الاقتصادي الذي يكرّس غياب العدالة، بالإضافة إلى العقلية القبلية والطائفية والهوية المتأزمة غير المتصالحة مع تعدديتها. ولا يمكن فصل أزمة الهوية عن الإشكالية الكامنة في فكرة "القرية الرحبانية" المرتبطة بالجبل ولبنان الأخضر. نحن ننسى أحياناً أنّ هذا البلد الصغير يضمّ أيضاً مناطق ذات طبيعةٍ صحراويةٍ في سلسلة الجبال الشرقية ومناطق واسعةٍ في البقاع، حيث ينتمي السكان إلى ثقافةٍ مختلفةٍ عن تلك السائدة في الجبل. وهناك مناطق داخليةٌ في الجنوب تختلف اجتماعياً عن منطقة جبل لبنان. أمّا العاصمة نفسها (كما بعض المدن الساحلية الأخرى)، فلديها عشرات الوجوه البعيدة عن صورة المدينة المنفتحة باستمرارٍ على الخارج.


في جوهره، حاول مسرح زياد الرحباني تصحيح ما رآه إشكالياً وإنشائياً في مسرح الأخوين رحباني، بتقديم صورةٍ أكثر واقعيةً وتمثيلاً لحقيقة لبنان المتعدّد الهويات والمتناقض الوجوه. في الوقت نفسه، انتقد انشدادهما الدائم نحو السلطة. ثمّ مع مرور الوقت وازدياد تشاؤمه من الشعب، عاد مثلهما يتطلع إلى "سلطة متنوّرة" قادرةٍ على كبح النزعات الاجتماعية التدميرية والعبثية.
ليس سهلاً وضع تجربة زياد الرحباني في قوالب فكريةٍ جاهزةٍ، فهي في جوهرها ترفض أن تبقى أسيرةَ لحظةِ صناعتِها، بل تنفتح باستمرارٍ على قراءاتٍ متعدّدة. ووفق الناقدة والمترجمة اللبنانية سيلفانا خوري، في مقالٍ نشرته في أغسطس 2025، فإنّ من سمات مسرح الرحباني أنه "لا يبشّر ببديلٍ مريحٍ، ولا يكتفي بنقضٍ سهل"، في حين يحافظ في لغته المبتكرة "على التوتّر الخلّاق بين ما يُنتج المعنى وما يفلت منه".
من جهةٍ أخرى، تمثّلت مهمةُ مسرحِ زياد الرحباني الأساسُ في تفكيك مشاكل اللبنانيين وأفكارهم المنغلقة على نفسها، مجسّداً نظرةً ثاقبةً إلى المجتمع والسياسة. فهو يُخرِج إلى السطح ما رغبوا بإخفائه. ويفضح إنكارَهم الحقيقةَ أنّ المشكلة تكمن فيهم، لا في الخارج أو الغريب أو أيّ عنصرٍ يُحمَّل المسؤولية بهدف التهرّب من المساءلة والمراجعة الضرورية لتفادي اندلاع الحرب من جديد. هذا المسرح لم يكن سوى مرآةٍ للُبنان كما عرفه زياد. مسرحٌ يُزعج بقدر ما يُضحك. قد لا يقدّم حلولاً للمشاكل التي يسلّط الضوء عليها، لكنه يدعونا للتفكير والمواجهة. لذلك تبقى أعمال زياد الرحباني حيّةً، وتستحقّ أن تُعاد قراءتها في كلّ مرحلة.

اشترك في نشرتنا البريدية