الشعور بقرب الموت.. حقيقة أم تقديس للراحلين؟

توجد شواهد عديدة على أن بعض الناس يستشعرون اقتراب الموت، حتى وإن لم تكن بهم أسباب ظاهرة تنبئ بأن الرحيل قد بات وشيكاً. فكيف ترى العلوم "همس الموت"؟

Share
الشعور بقرب الموت.. حقيقة أم تقديس للراحلين؟
لطالما قال الناس في لحظات الفقد "قلبه كان حاسس" | تصميم خاص بالفِراتْس

قبل شهرٍ من وفاة والدي في فبراير 2022، دعاني إلى غرفته في بيتنا بالأقصر جنوب مصر. لم يكن باديَ المرض وقتذاك، لكن صوته في تلك الليلة حمل شيئاً من الانطفاء، وكلماته تسلّلت كأنها قادمةٌ من مسافةٍ بعيدة. حدّثني عن رؤىً متكرّرةٍ لوالديه الراحلَيْن، وعن شعورٍ داخليٍّ بأنه قد لا يطيل البقاء في الدنيا. تلقّيتُ كلامه بكثيرٍ من التشكيك، وعلّقت ممازحاً "انت دايماً بتقول كده لما تتعب". بعدها بأيامٍ، حضر أبي زفافَ أخي، ولكنه بدا شاحباً. ثم باغته المرض بقسوة. وقبل إدخاله إلى المستشفى، كانت آخِر كلماته "رجّعوني البيت أموت على سريري". لم تُتَح له الفرصة، وبعد أيامٍ رحل.

في بداية سنة 2025 كنت أعزّي صديقاً في والده. روى لي كيف بدا أبوه في ساعاته الأخيرة وكأنه يعلم حقّ اليقين إلى أين هو ذاهب. تحدّث حديثَ مودّعٍ، لكنه كان موارياً كأنما لا يريد أن يفجع أحداً. يلوم صديقي نفسه لأنه لم يلتقط الإشارات.

في سياقٍ مختلفٍ تماماً، وداخل زنزانةٍ ضيقةٍ في أحد سجون مصر سنة 2021، عشتُ تجربةً لم تفارقني. كان زميلي في الزنزانة، الحاج تاج الدين علام، رجلاً طيباً في أواخر الخمسينات. ليلتها باغتَته أزمةٌ قلبية. استدعينا السجّان، فنُقل إلى المستشفى وعاد بعدها بساعةٍ مبتسماً شاكراً الله على نجاته. صلّى معنا الفجر ثم هجمت عليه الأزمة مجدداً. غفوتُ قليلاً، فاستيقظتُ وباب الزنزانة مفتوحٌ في غير موعده. دارت عيناي بين الوجوه المتيبّسة. وقبل أن يخبرني أحدٌ من الواقفين، عرفتُ أن "عم تاج" قد رحل. شعرتُ بذلك، بحدسٍ ما. كيف ولماذا؟ أهي أوهامٌ نصنعها؟ أم أننا بالفعل نستشعر شيئاً غامضاً حين يهمس الموت؟

هذه المواقف الثلاثة ليست استثناءات، بل تبدو كأنها جزءٌ من دأبٍ إنسانيٍّ واسع. لطالما قال الناس في لحظات الفقد "قلبه كان حاسس". يستعيدون تصرّفات الراحل وكلماته ونظراته ويجدونها توحي بأن الموت لا يأتي فجأةً تماماً، بل يرسل إشاراتٍ لا يفهمها إلّا من عاشها. مع أبي ووالد صديقي، وفي حالة عم تاج، علقت الأسئلة في ذهني كالغبار. هل أحسّ هؤلاء فعلاً بدنوّ أجلهم؟ هل همس الموت لهم بلغةٍ لا نعرفها؟ أم أننا – نحن الأحياء – نعيد تأويل كلام الراحلين بحثاً عن معنى، وسط الفقد والحنين؟

تحضر مسألة الموت والتعامل مع اقترابه وحتميته واحدةً من المسائل الكبرى في العلوم والفلسفة. وإحساس الراحلين بدنوّ آجالهم فكرةٌ قوية الحضور في الروايات الشعبية والنصوص الدينية، وتستحضر معها أسئلةً عن حقيقة هذه الظاهرة، وفيما إذا كانت إحساساً حقيقياً أم مجرد وهمٍ يصنعه الحزن بأثرٍ رجعي. ففي علم النفس الاجتماعي، تطرح "نظرية إدارة الخوف من الموت" فرضية أن إدراك الإنسان حتميةَ موته يخلق توتراً نفسياً هائلاً. فيلجأ إلى صناعة رواياتٍ تمنحه شعوراً بالسيطرة، كأن يشعر بأن الموت يهمس له، لا يباغته. في المقابل، يرى التحليل النفسي أن ثمّة غريزةً غير واعيةٍ تجاه الموت قد تظهر في سلوك الإنسان حين يقترب أجله، ويُعاد تأويلها لاحقاً "إحساساً". أما الفلسفة، فتميل إلى نفي إمكانية إدراك الموت قبل وقوعه. وبينما نعيد قراءة كلّ هذا، لا نسعى لتفكيك هذا الإحساس لغرض نفيه أو إثباته، بل لفهم كيف يولد ولماذا، وماذا يكشف عن علاقتنا بالموت، نحن المدركين حتميتَه.


في القرى المصرية، يندر أن يرحل أحدهم دون أن يروي أهله أنه "ودّعهم بطريقته". في الصعيد، كثيراً ما تُروى حكاياتٌ عن رجالٍ زاروا بيوت أقاربهم فجأةً أو تصدّقوا على الفقراء أو أعادوا أغراضاً قديمةً لأصحابها، وكأنهم ينفضون عن أكتافهم آخِر ما يربطهم بالحياة. بعدها بأيامٍ أو ساعاتٍ يختفون، وتصبح كلماتهم الأخيرة كأنها ألغاز أدركها الباقون بعدهم متأخراً أنها همساتٌ أخيرةٌ على الحافّة الفاصلة بين الحياة والموت، أو هي "سكرات الموت" كما يسمّيها التعبير القرآني.

في يونيو 2024، ودّع محمد حجاج يوسف جمهورَه قبل الموت. كان معروفاً بِاسم "حمادة عواوة"، وكان من أبرز فنّاني الكفّ (لون من الغناء والنظم الشعبي منتشر في قنا وأسوان). في آخر حفلاته وقد أثقل المرض جسده، وقف على المسرح وبكى. وقال في لحظةٍ صادقةٍ أمام جمهوره "أنا حاسس نفسي بعد أيام هموت". لم تمرّ أيامٌ حتى تحقّق حدس حمادة عواوة، ورحل الفنان الذي ظلّ صوته يصدح في ليالي الصعيد حتى أيامه الأخيرة.

في دراسةٍ عنوانها "عادات الموت كمحدد للسمات الثقافية في المجتمع المصري" منشورةٍ سنة 2014، تناولت الباحثة مرفت برعي وضع تلك الظاهرة في قرية العبور في محافظة الإسماعيلية. وجدت الباحثة، وهي أستاذة علم الاجتماع في جامعة قناة السويس، أن أهالي القرية "يُجمعون على أن ثمّة علاماتٍ تسبق الموت. منها الرؤى والأحلام أو سلوكياتٌ غير معتادةٍ من المريض، كطلب أطعمةٍ محدّدةٍ أو [طلب] رؤية أقارب متوفَّين". ويُعتقد أن هذه الرموز تفسَّر نداءاتٍ من الغيب أو إشاراتٍ قدريةً لا يراها إلا من اقترب أجله. وتقول الدراسة إن ثمّة شواهد على أن "لحظة إدراك الخطر" ليست لحظةً طبيةً بحتةً، أي أنها لا ترتبط بالوضع الصحي لمن يستشعر اقتراب الموت، بل هي "بدايةٌ فعليةٌ لطقوس الموت في المخيال الشعبي". وتنقل عن أفراد عيّنة بحثها أنه "ما إن يشعر المريض بثقلٍ غامضٍ أو يدخل في صمتٍ غير مألوفٍ حتى يبدأ المحيطون به بقراءة العلامات". ويعتقدون حينئذٍ أنه يستعد لمفارقة الحياة، إثر ملاحظة سعيه لتسوية ما عليه من ديونٍ أو توزيعه أغراضه أو طلبه الاستغفار والتجهيز للدفن. لكن اللافت في هذه الطقوس ليس فقط ما يُقال ويُفعل، بل كيف يفسّر المجتمع تلك التصرفات. نظرةٌ طويلةٌ وعزلةٌ مفاجئةٌ وهمهماتٌ مبهمةٌ ورغبةٌ في التوديع دون إعلان. كلّها تُقرأ "سلوكَ انفصال"، أي استعداداً داخلياً للرحيل لا يعيه صاحبه دوماً، لكنه يُفهم ضمن شبكة تأويلٍ جماعية.

وتظهر الدراسة أن هذه الأفعال لا تؤدَّى جزافاً، بل تدرَج ضمن نظامٍ رمزيٍّ متماسكٍ لا يكون الموت فيه قطيعةً، بل عبوراً. وهو ما يتقاطع مع نظرية "طقوس العبور" التي صاغها عالم الإناسة الفرنسي "فان غينيب". وترى هذه النظرية في الموت لحظةً انتقاليةً لا تخصّ الفرد وحده، بل تُعاش جماعياً في طقوسٍ تعيد ترتيب الصلة بين من بقيَ ومن مضى. المهم هنا أن هذه العلامات – سواءً ظهرت في صورةٍ دينيةٍ أو اجتماعية – لا تُفهم مصادفاتٍ، بل دلائلَ على أن الإنسان نتيجةً للحظةٍ واعيةٍ أو لأسبابٍ كامنةٍ في اللاوعي يعرف دنوّ موته.


وربما لهذا السبب لا يقتصر هذا الإحساس الغامض على الرواية الشعبية وحدها. فهو يجد امتداده في النصوص الدينية التي لا تكتفي بالحديث عن "سكرات الموت"، بل تشير أيضاً إلى علاماتٍ تُرى وتُشعَر في اللحظات الأخيرة. في الإسلام، تظهر هذه الفكرة بإلحاح. فبحسب الأخبار المنسوبة للنبيّ محمد، يبشِّر مَلَك الموتِ المؤمنَ برضوان الله. في حين يُنذِر العاصيَ بسخطه، في مشهدٍ يقدَّم كاشفاً أخيراً لما ينتظر الإنسان بعد رحيله. ورُوي عن النبيّ محمد أنه في ساعاته الأخيرة كان يردّد "بل الرفيق الأعلى"، وهي العبارة التي تفصح عن اختيارٍ واعٍ للرحيل عن الدنيا. ويُروى عن عمر بن الخطاب قوله "اللهم ارزقني الشهادة"، فكان ينادي الموت بنفسه، لا يهرب منه. في هذه النصوص، لا يبدو الموت حدثاً مفاجئاً، بل نداءً يسمعه البعض فيستجيب له.

ويروي الصوفيون المسلمون تجارب لا تنظر للموت نهايةً، بل فناءً يكاد يكون اختيارياً للجسد، سعياً لتحرير النفس من أسره المادي. وتنقل المأثورات المسجّلة عن كبارهم أن الصوفي لا يهرب من الموت، بل يسير إليه مختاراً. يقول الشاعر العباسي الحسين بن منصور الحلّاج في واحدةٍ من قصائده "اقتلوني يا ثقاتي، إن في قتلي حياتي"، واضعاً الموت في موضع الحرية لا الفقد. لم يكن هذا استعراضاً شعرياً فقط، بل جزءاً من رؤيةٍ ترى أن التصفّي – أي التخلّص من كلّ ما يعكّر صفاء الروح، بما في ذلك الجسد – هو الطريق إلى الحقيقة.

في القرن الثالث الهجري، صاغ أحد أعلام الزهّاد حاتم البلخي (الملقّب بحاتم الأصمّ) ما سُمّي لاحقاً "الموتات الأربعة"، وهي تدرّجاتٌ سلوكيةٌ للوصول إلى الصفاء. تلك الموتات الأربع هي "الموت الأبيض: الجوع. الموت الأسود: احتمال الأذى. الموت الأحمر: مخالفة الهوى. الموت الأخضر: الزهد في الزينة". ويظهر من شرح الأصم أن تلك الموتات، كما يسمّيها، هي خطوات برنامجٍ روحيٍّ لتفكيك العلاقة بين الجسد والرغبة. ويمضي بعض الصوفية أبعد من ذلك فيما يسمّونه "الموت الصناعي". وهو ما أشار إليه ابن خلدون في كتابه "شفاء السائل وتهذيب المسائل"، المنشورة طبعته المحققة سنة 1996. يعرّفه ابن خلدون أنّه "إخماد القوى البشريّة كلّها، حتّى يكون السالك ميّت البدن حيّ الروح". هذا العمل يهدف إلى قتل صفاتٍ تدفع النفس للالتصاق بالحياة، كالطمع والأمل، كي لا يعود في القلب من تعلّق سوى بالمطلق (بالله). وعند عمر بن الفارض الذي عاش في القرن العاشر، يتحوّل الشوق إلى الله من رغبةٍ روحيةٍ إلى توقٍ جسديٍّ، فيقول:

إنّ الغرامَ هو الحياة، فمُتْ بهِ صَبّاً فحقُّكَ أن تموتَ وتُعذَرا

في التصوف لا يبدو الموت لحظةً أحيائيةً، بل حالة تَحقّقٍ أو انكشافٍ للحُجب بين المحبّ والمحبوب (الفرد والخالق). وربما لهذا عدّ بعض الصوفية أن الموت يُرى بالذوق، قبل أن يُعاش بالجسد.

وفي المسيحية يتخذ الموت طابعاً رمزياً، فلا هو نهايةٌ ولا هو غيابٌ، بل عبورٌ نحو الخلاص. في الطقس القبطي الأرثوذكسي، يتكرّر القول في القدّاس "بموتك يا ربّ نبشر وبقيامتك نعترف"، ما يحوّل ذكرَ الموت إعلانَ حياة. ويُروى عن القديس أثناسيوس الرسولي، وهو البطريرك القبطي العشرون للكنيسة المرقسية الرسولية في مصر، أن المسيح "نزل إلى الجحيم بروحه ليحرّر الأرواح"، في رؤيةٍ تؤكد أن الموت ليس خصماً بل فرصةً للفداء. وحتى على مستوى التعبيرات اليومية، فإن كثيراً من المسيحيين يرَوْن أن رؤى ما قبل الوفاة – كزيارة قديسٍ في الحلم أو نورٍ مفاجئ – هي تمهيدٌ إلهيٌّ للرحيل.

ومع اختلاف المرجعيات بين العرف الشعبي والموروث الديني، إلّا أن كليهما يشتركان في نزع الطابع الفجائي عن الموت. فالموت في هذه التقاليد لا يأتي وحيداً، بل يسبق حضورَه صمتٌ خاصٌّ وتصرفاتٌ مُربكةٌ ورؤىً ليليةٌ وكلماتٌ معلّقةٌ في الهواء، وسلوكٌ يشي بأن المحتضَر يعرف. هذا الشعور أو "الهمس" الذي يتحدث عنه الناس في قصصهم ليس مجرّد استنتاجٍ لاحقٍ، بل يبدو وكأنه تأويلٌ جماعيٌّ يَنسب ما لا يُفهم إلى ما لا يُقال.

لكن هذا التأويل بكلّ رمزيته لا يجيب عن سؤالنا: هل يشعر الإنسان حقاً بقرب موته، أم أنها إشاراتٌ نُسقطها لاحقاً على من رحلوا. الروايات الشعبية والمرويات الدينية والتجارب الروحية كلّها تقول نعم، هناك شيءٌ ما. لكن الفلسفة وعلم النفس والعلم قد يكون لهم رأيٌ آخَر، أكثر تفكيكاً وأقلّ حسماً.


الفلاسفة لم يعالجوا "الإحساس بقرب الموت" تجربةً حسّيةً مجردةً، بل ألبسوه ثوباً وجودياً ومعرفياً، إذ يقف الوعي على حافة الانطفاء. يسجل روبرت أولسن في مقاله عن الموت المنشور في 1972، أن قلّةً من الفلاسفة درسوا الموت مشكلةً قائمةً بذاتها، لا مجرد مظهرٍ أخلاقيٍّ أو غيبيٍّ أو ديني. فقد رأى أفلاطون الفلسفةَ "إعداداً للموت"، أمّا سقراط فقد واجه الموت بهدوءٍ وسعى لاستغلال لحظات حياته الأخيرة في مناقشة الفلسفة. الرواقيون نظروا للموت حقيقةً مجردةً لا تحمل أبعاداً أكبر من انتهاء الوجود، وعدّوا الاستقبال الهادئ للموت علامةً على الاتزان. أما الوجودية، وهي أكثر الاتجاهات الفلسفية اهتماماً بسؤال الموت، فتتفق مع الرواقية في رؤيتها الموت انقطاعاً عن الوجود. بالنسبة لها، لا يمكن للذات الواعية أن تدركه بعد وقوعه. أما أثناء الحياة، فهو "نداء صامت" ملازمٌ للوجود.

بين حدسٍ قَبْليٍّ مزروعٍ في النفس وإدراكٍ يتشكّل بفقد الآخَرين وتجربة وجودٍ تسير حتماً نحو الموت وتدريبٍ روحيٍّ على التصالح، يظهر أن الموت لدى الفلاسفة لا يُختزل في اللحظة الأحيائية، بل في رحلة استبطانٍ داخليٍّ تحثّ على عيشٍ أصدق. أي "همسات" قد تُنسَب إلى المحتضَر تظلّ في النهاية جزءاً من بناءٍ إنسانيٍّ رمزي. فبدون قصصٍ تعيد تسمية القلق وتضفي عليه معنىً أعمق، أكثر روحانيةً أو عقلانيةً، يبقى الموت صمتاً بلا لغة.

لا تهتم الفلسفة بتقديم وصفٍ حسيٍّ لمرحلة ما قبل الوفاة، لكنها تقدم إطاراً لفهم التجربة الداخلية من منظور وعي الإنسان الدائم بالمصير. تدعونا أغلب الاتجاهات الفلسفية للتصالح مع فكرة الموت، لا تجاهلها. هذا التصالح يولّد شعوراً متوازناً تجاه الحياة. ولا تلتفت هذه الاتجاهات لمسألة القدرة على استشعار لحظة الموت. في حوار "فيدون" (إحدى المحاورات التي نقلها أفلاطون ودارت في سجن سقراط بين تلاميذه ومريديه)، يعرض أفلاطون الموتَ تحرراً للنفس من قيود الجسد. الفيلسوف الحقيقي في رأيه يمارس تأملاتٍ تمهّد له استقبال هذه الفكرة طوال حياته، فتتآلف روحه مع احتمال الرحيل قبل حدوثه الفعلي. هو إذن ليس شعوراً حسّياً أو تنبّؤاً خارقاً، بل تنشئةً نفسيةً وفلسفيةً. فهو يقول "تَمرّن على الموت كي لا يفاجئك". سقراط نفسه واجه الإعدام بهدوءٍ، معتبراً أن الموت قد يكون نوماً بلا أحلامٍ أو انتقالاً إلى لقاء الأرواح. فأيقن تلاميذه أن الفيلسوف "يَعرِف" قُربَ أجله، ليس فقط لأنه مدرك للمصير، بل لأنه مستعد له. أو كما نقل عنه فيدون في المحاورة، فإن إيمان المعلم بالآلهة وأن هناك رجالاً أفضل على الجانب الآخر جعل الموتَ عطيّةً يرحّب بها.

في الفلسفة الرواقية عُدّ الموت جزءاً طبيعياً من النظام الكوني، لا تهديداً يجب الفرار منه. لوكيوس سينيكا، الفيلسوف الروماني في القرن الأول، قال بوضوحٍ إن "من يعلّم الناس كيف يعيشون، عليه أن يعلّمهم كيف يموتون". وقد جسّد فكرته حين أجبره الإمبراطور نيرون على الانتحار، فاستقبل موته بهدوءٍ وشجاعةٍ رواقية.

أما ماركوس أوريليوس، الإمبراطور والفيلسوف الروماني في القرن الثاني، فكانت عنده نظرةٌ خاصةٌ للموت في مقالاته "التأملات" التي يرجّح أنه كتبها بين عامَيْ 170 و180. وفيها دعا ماركوس أوريليوس إلى تقبّل الزوال امتداداً للانسجام مع الطبيعة. ووسط المعارك والأوبئة، ظلّ يذكّر نفسه بأن كلّ شيءٍ مؤقّتٌ، وأن الاستعداد للموت جزءٌ من عيش الحياة بسلامٍ داخلي. في هذه الرؤية يغيب الإحساس بقرب الأجل بمعناه الحسّي، ليحلّ محلّه استعدادٌ دائمٌ متّزنٌ للموت، وأن يوازن الإنسان يومه كما لو كان آخر أيامه دون هوسٍ أو ترقّب.

في القرن السادس عشر وبين أهوال الحروب الدينية في فرنسا، كان ميشيل دو مونتين ينظر للموت لا باعتباره مفهوماً غيبياً، بل واقعاً يومي. رأى دو مونتين أن الخوف من الموت رافق البشر على الدوام، لكن التصالح معه لا يحتاج إلى تأملاتٍ معقدةٍ بقدر ما يحتاج إلى إحساسٍ حيٍّ متقبِّلٍ يستلهم بساطة الناس العاديين في مواجهة الفناء. أما رينيه ديكارت، الذي عاش في القرن السابع عشر، فكان يسعى إلى توفيق العقل والإيمان في زمنٍ مضطرب. لم يعالج ديكارت الموت مأساةً روحيةً، بل رأى فيه تحدياً فلسفياً يتطلب يقيناً عقلانياً. ووجد أن فكرة خلود النفس، أملاً في الاستمرار بعد الجسد، هي محض "مسكّن" لمخاوف الفناء.

جاء آرثر شوبنهاور في القرن التاسع عشر ليقدّم أول معالجةٍ منطقيةٍ لمشكلة الموت في الفلسفة الحديثة. فهو يرى أن الموت لا يمسّ جوهر الوجود، بل صورته العابرة. وأن ما نخشاه في خشيتنا للموت ليس الفناء الحقيقي، بل وهم الانعدام. والموت عند شوبنهاور تحوّلٌ طبيعيٌّ وانسحابٌ للإرادة إلى حضن الطبيعة الكبرى، وليس نهايةً مأساوية. لكن فريدريك نيتشه، رغم تأثره بشوبنهاور، قَلَب المعادلة. فالموت عنده ليس خصماً للحياة، بل مقياسها. ومن يخاف الموت إنما يفتقر إلى الشجاعة لاحتضان الحياة كما هي. الإحساس بالموت، في فلسفة نيتشه، هو اختبارٌ للحبّ الأعظم للوجود، أن تعيش بما يكفي لتستقبل النهاية ضاحكاً لا مرتعداً.

في القرن العشرين ومع اشتداد الأزمات العالمية، انتقل التفكير في الموت من التنظير العقلي إلى الاستبطان الوجودي. الفيلسوف الألماني ماكس شيلر، الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتوفي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، رأى أن إدراك الموت حدسٌ قَبْليٌّ مزروعٌ في النفس يظهر حتى في غياب الشواهد الخارجية. والشيخوخة عنده ليست "انحلالاً بيولوجياً"، بل مساراً داخلياً نحو انطفاءٍ يكشف حدود الذات. أما الفيلسوف الألماني بول لودفيغ لانسبيرغ، الذي توفّي سنة 1944 في معسكرٍ نازيٍّ، فعبّر عن الموت تجربةً مشتركةً لا فرديةً. وقال: "وعي الموت يبدأ حين نفقد من نحبّ، حين ينهار الحاجز بين الذات ومصيرها، فيرسم الحزن العلاقة الجديدة بين الحياة وفنائها".

في عمله الفلسفي المؤسّس "بيينغ آند تايم" (الوجود والزمن) المنشور سنة 1927، قدّم مارتن هايدغر رؤيته للموت كاشفاً جوهرَ الوجود الإنساني، لا نهايةً عارضة. يرى هايدغر أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعيش "تحت ظل النهاية"، وأن القلق أمام الموت ليس رعباً بل استيقاظاً من الزيف ودعوة للعيش بصدق. أما جان بول سارتر، فقدّم موقفاً مغايراً في كتابه "بيينغ آند نوثينغنيس" (الوجود والعدم) الصادرة ترجمته الإنجليزية سنة 1953. فالموت عنده واقعةٌ خارجيةٌ تُباغت الحرية وتغلق مشروع الإنسان. لا يمنح الموت المعنى، بل يسرقه. في حين جمع غابرييل مارسيل بين الروحانية والتأمل الوجودي. فالموت عنده لغزٌ يمسّ صميم الكينونة، لا يُفهم بل يُعاش. القلق لا يأتي فقط من فقد الذات، بل من فقد الأحبة. والحبّ الصادق في فلسفته لا يقبل انتهاء من نحبّ بسهولةٍ، بل يتوق إلى الانتصار على الفناء.

من جانبٍ آخَر، وفي روايتها "تو لي زوم سون مورتيل" (كل الناس فانون) الصادرة سنة 1946، تطرح سيمون دو بوفوار تصوراً مختلفاً للموت. فهي تختلف عن غيرها من الفلاسفة الذين يتفقون في معظمهم على أن الموت بمثابة لحظةٍ، بينما تراه هي تفككاً بطيئاً للهوية. وفي نظرتها ربما تكون دو بوفوار أقرب الفلاسفة إلى تناول مسألة "همس الموت"، لأنها ترى أن الإنسان يختبر موته مقاومةً أخيرةً للحياة. ما يُسمى "الإحساس بالموت" في هذا السياق لا يكشف عن يقينٍ وجوديٍّ، بل عن بهتانٍ تدريجيٍّ للذات يجعل النهاية أكثر التباساً من أيّ تصورٍ مسبق.


من الأسئلة الجوهرية التي يهتم بها علم النفس الاجتماعي: كيف لِوَعْي الإنسان بحتمية موته أن يؤثّر في حياته، وكيف يستمر في العيش وهو يعلم منذ طفولته أنه سيموت يوماً ما.

رأى فرويد أن الخوف من الموت نتاج صراعٍ بين قوى الحياة ودوافع الفناء، فتنبثق دفاعات اللاوعي لتجنّب التصادم مع الحقيقة الموجعة.

في كتابه الأشهر "ذا دينايل أوف ديث" (إنكار الموت) الصادر سنة 1973، يقترح عالم الإناسة الأمريكي إرنست بيكر أن الخوف الحقيقي لا ينبع من لحظة الموت ذاتها، بل من شعور الإنسان أن مشروعه الشخصي في هذه الحياة بكلّ ما فيه من أحلامٍ وسعيٍ سينتهي حتماً.

المأساة في نظر بيكر لا تنبع من الموت نفسه، بل من التناقض بين عقل الإنسان القادر على الإبداع، مقابل جسده الضعيف الذي لا يملك للفناء دفعاً. لذلك لا يرى بيكر في إنكار الموت ضعفاً في الشجاعة، بل شرطاً وجودياً لبقاء الإنسان نفسياً على قيد الحياة. فالعقل الواعي بحتمية زواله لا يحتمل أن يبقى مكشوفاً لهذا الإدراك باستمرارٍ، وإلّا أصيب بالشلل أو الهوس. لذلك يصبح الإنكار، لا المواجهة، هو الخطة اليومية للبقاء.

ولأن لا أحد يستطيع النجاة بجسده، فالإنسان يبحث عن الخلود الرمزي. أن ينجو بشيءٍ منه اسماً أو ذرّيةً أو إنجازاً أو فكرةً أو ديناً أو وطناً كي يواصل العيش بعد الموت بالآخرين، سواءً ببقائه الجينيّ عبر الذرّية أو المعنوي في التاريخ أو في السماء.

وكلّ ثقافةٍ، كما يقول بيكر، هي نظامٌ دفاعيٌّ وهميٌّ ضد رعب الفناء يمنح الفرد شعوراً بالأمان وبأن لحَياته معنىً يتجاوز نهايتها. لذلك حين يشعر أحدهم أن هذه القيم أو الرموز مهددةٌ، يتصرف وكأن حياته كلّها في خطر. هكذا لا تنحصر "همسات الموت"، في قراءة بيكر، في اللحظات الأخيرة للمحتضَر ولا في الكلمات الغامضة التي يفسّرها الأهل بعد الرحيل، بل هي ذلك التوتر الذي يرافق كل بحثٍ عن المعنى ومحاولةٍ لترك الأثر والهروب من العدم. حين نقول إن أحدهم "كان حاسس"، لا نَصِف واقعةً أحيائيةً، بل نروي حكايةً نروّض بها الغياب ونجد بها عزاءً في مواجهة صمت النهاية.

في منتصف الثمانينيات طوّر أطروحةَ بيكر ثلاثةٌ من علماء النفس الاجتماعي، هم جيف غرينبيرغ وتوم بيسزينسكي وشيلدون سولومون. وأسسوا "تيرور مانجمنت ثيوري" أي (نظرية إدارة الرعب) التي تُعَد اليوم من أكثر النظريات تأثيراً في فهم سلوك الإنسان أمام الموت.

ترى النظرية أن وعي الإنسان بمصيره يولّد قلقاً هائلاً لا يُحتمل. لذا يطوّر البشر آلياتٍ دفاعيةً، بعضها واعٍ وبعضها غير واعٍ، لاحتواء ذاك القلق بحثاً عن وسائل للهروب أو التخفيف. أحياناً يتجاهل الإنسان حتمية الموت، وأحياناً يلجأ للدين أو أفكار الفداء القومية أو العشائرية أو حتى الشراء والتسوق. كل هذه استجاباتٌ دفاعيةٌ لمواجهة الشعور بالخوف من الفناء. وتميّز النظرية بين نوعين من الخلود يتعلق بهما الإنسان في مواجهة رعب الفناء. أولهما الخلود الحرفي، كما في الأديان التي تبشّر بحياةٍ أخرى أو بعثٍ أو عودةٍ (تناسخ). والآخر هو الخلود الرمزي الذي يتحقق من الأثر الذي يخلّفه الإنسان بعد رحيله، سواءً في إنجازٍ أو تكوين عائلةٍ أو ترك أثرٍ إبداعيٍّ من كتبٍ وأعمالٍ فنيةٍ أو منجزاتٍ وطنية.

ولأن هذه "الأنظمة الثقافية" تشكّل السدّ الدفاعي أمام رعب الموت، فإن أيّ تهديدٍ لها يقابَل بردّ فعلٍ عنيف. فالإنسان لا يدافع عن فكرةٍ لأنها صحيحةٌ، بل لأنها تمنحه الحماية في مواجهة الهاوية وتنفي عن الموت أنه فناءٌ لِذات ذاك الإنسان في العدم. ولهذا يصبح الصراع بين الأفراد أو الجماعات أو الدول، في جوهره، صراعاً بين أنظمة الخلود الرمزية التي توفر لكلّ طرفٍ شعوره بالأمان الوجودي.

لكن التأثير لا يقتصر على السياسة أو العقيدة. فالدين في هذه النظرية ليس مجرد منظومةٍ روحيةٍ، بل استراتيجيةً نفسيةً لمواجهة الفناء. والانتماء القومي لا يمنح فقط شعوراً بالهوية، بل امتداداً في رواية الأمّة الخالدة. وأثناء جائحة كورونا، قدمت الحياة مثالاً حيّاً على هذه النظرية. حين عمّ الرعب، لجأ بعض البشر إلى الإنكار بقولهم "الفيروس مؤامرة"، وبعضٌ آخر إلى التديّن، وغيرهم إلى الشراء المفرط. في كل هذه السلوكيات، كانت النفس تحاول أن تخفي الحقيقة التي لا تطاق، أننا زائلون.

قد تبدو النظرية مظلِمةً، إذ لا يواجه الإنسان الحقيقةَ، بل يهرب منها باستمرار. لكنها لا تقول إن علينا الاستسلام للخوف، بل عكس ذلك. فحين نفهم هذه الآليات، نصبح أوعى وأقدر على تقبّل هشاشتنا بشراً، دون أن نعيش في وهم النجاة الكاملة. بهذا المعنى لا تصبح "همسات الموت" تلك النذر التي تشي بقرب الفقد، بل هي حاضرةٌ في كل بحثٍ عن المعنى وكلّ توترٍ بين الذات والعالم وكل محاولةٍ للإنجاز أو النجاة أو حتى الحب. إنها النغمة التي ترافقنا في العمق، وإن أنكرنا سماعها.


في قلب ظاهرة همس الموت، لا يعود الموت خصماً فجائياً، بل قريناً وجودياً. لا يقتحم حياتنا من الخارج، بل يسكنها من البداية. وكلما اقتربنا من هذا الإدراك ازددنا صدقاً مع الذات. وإضافةً لبحث الفلسفة وعلم النفس في علاقة الإنسان بحتمية الموت واقترابه الحثيث، نجد العلوم التطبيقية – وعلى رأسها الطبّ – قد سجّلت ما يشي بأن "همس الموت" ليس مجرد قلقٍ وجوديٍّ أو رعبٍ من الفناء أو حتى يقينٍ بحتميته، بل هناك استشعارٌ مرصودٌ لا ينكره الأطباء وإن كانوا لا يملكون له تفسيراً حاسماً.

تتحدث كارول برادلي بورساك، الخبيرة في رعاية كبار السنّ، في مقالٍ غير مؤرخٍ بعنوان "وين لوفد ونز رالي بيفور ديث" (عندما يمرّ الأحباء بنشاطٍ مفرطٍ قبل الموت)، عن فورة النشاط المفاجئة التي تشهدها أسرٌ كثيرةٌ في أحبائهم الموشكين على الرحيل. تقول كارول برادلي إن أسراً عديدةً يتعلق أفرادها بالأمل في تعافي أحبائهم الطاعنين في السنّ، أو الذين يعانون مرضاً عضالاً، عندما يرون فورة النشاط المفاجئة والإقبال الكبير على الحياة. لكن مشاهداتٍ عديدةً تؤكد أن تلك الصحوة المفاجئة تحدث قبل أيامٍ من الوفاة، وقد تطول مدّتها إلى أسبوعين.

تشمل الصحوة، كما تصفها بورساك، إلى جانب النشاط والإقبال على الطعام والشراب والحديث ومشاركة الذكريات والنصائح (الوصايا) حالةً من الوضوح العقلي، أي جلاء الأفكار وتماسكها. ألا يشبه هذا ما نعرفه في مجتمعاتنا العربية بصحوة الموت.

في غرف العناية الفائقة (المركزة)، لاحظ الأطباء ما يسميه بعضهم "سلام ما قبل الموت". كثيرٌ من المرضى بعد مراحل من الخوف أو الإنكار، يدخلون في حالة هدوءٍ وتأملٍ لا تشبه ما قبلها. لا تعني تلك الحالة بالضرورة الرضا بالموت ولا التصالح الكامل معه، لكنها حالةٌ من الاستبطان الصامت. إذ يخفّ التعلّق بالمحيط وتنخفض الحاجة للكلمات وتعلو مشاعر الصفح والتسامح والتسليم.

هذه الحالة ليست كشوفاً غيبيةً، كما يحبّ البعض أن يراها، بل تُفهم مرحلةً متأخرةً من التكيف النفسي مع ما بات محتوماً وقريباً. إذ تنهار آمال نجاة الجسد ويبدأ العقل بترتيب أوراقه الأخيرة. في هذا السياق لا تعود "همسات الموت" مجرّد حدسٍ، بل نغمةً داخليةً تنشأ حين تصمت الضوضاء. صوتٌ خافتٌ يقول إن المعركة انتهت، وأن ما تبقّى هو الإنصات لا المقاومة.

مع فردانية الرحيل، إلا أن علم النفس الاجتماعي يؤكد أن الإنسان لا يعيش موتَه وحيداً. حتى في لحظاتها الأخيرة تظلّ الذات منغمسةً في تفاعلات محيطها وفي نظرات الأحبة ومشاعرهم المرتبكة وطقوسهم وصمتهم والكلمات التي تُقال ولا تُقال. كلّ هذه تشكّل خلفيةً حيةً، تسرِّب إلى الداخل إشاراتٍ تمهّد للنهاية.

"الإحساس بالموت" إذن لا ينبع فقط من الداخل، بل يتكوّن تدريجياً عبر ما يستبطنه الإنسان من محيطه. ينصت إلى الوجوه، هل تتهيأ لغيابه. هل تمنحه غفراناً كان ينتظره. هل تمنحه إذناً بالرحيل. الموت ليس مجرد حدثٍ أحيائيٍّ، بل تجربةً تفاعليةً بين الذات والعالم وبين جسدٍ ينطفئ وعيونٍ تحاول الإمساك به.

حتى طقوس الوداع – نظرةً أخيرةً وعناقاً مؤجلاً وهمسةً صامتةً – لا تُقرأ سلوكياتٍ مجردةً، بل بنىً معنويةً تسهم في تشكيل الشعور بالموت نفسه. ولهذا نادراً ما يرحل شخصٌ دون أن يروي من حوله أنه "كان يعلم"، لأنهم في حقيقة الأمر هم الذين صنعوا ذلك الإحساس معه بكلماتهم وقلقهم وصمتهم المشبع بكلّ ما لم يُقَل. 

علم الأعصاب يوضح أيضاً أن الدماغ يستجيب لفكرة الموت. في البداية يُظهر ردَّ فعلٍ قويّاً وخوفاً. لكن مع الوقت، خاصةً عند المرضى مع طول المرض أو تكرار مواجهة فكرة النهاية، تنخفض هذه الاستجابات ويبدأ العقل في تقبّل الأمر بهدوء. إذ تتولى "شبكة الوضع الافتراضي" إعادة رسم علاقة الوعي بالزمن، وتمهّد لما سمّي "السلام ما قبل الموت". هنا لا يُفهم التخفف العصبي التدريجي استسلاماً، بل تحولاً من ردود فعلٍ حادةٍ إلى حضورٍ تأمليٍّ يمنح التجربة الأخيرة طابعاً من القبول العميق.


أخبرتني أمي أن أبي، قُبيل رحيله، همس لها بأن هناك من "يمسك به". لم تفهم وقتها من هم، لكنها اليوم تؤمن أنهم الملائكة جاؤوا ليأخذوه إلى مستودع رحمات الله. هكذا تؤمن أيضاً بشأن ابنة أختها التي ودّعت الحياة منذ مدةٍ قصيرةٍ، أن أرواحاً رحيمةً كانت في استقبالها. لكن هذا الوداع المتشدد لا يعكس نبوءةً خارقةً، بل تفاعلاً بشرياً بالغ العمق مع إشاراتٍ عصبيةٍ رصدها باحثون في طبّ الأعصاب بدراسةٍ نشرت سنة 2023 بعنوان "سيرج أوف نيروفيسيولوجيكال كوبلينغ آند كونيكتيفيتي أوف غاما أسيلاشينز إن هيومان داينغ برين"، ويمكن ترجمتها اختصاراً (رصد دفقة من موجات غاما في أمخاخ البشر الموشكين على الوفاة).

الوعي بالموت إذن لا يتشكّل من الداخل فقط، بل يتخلّق في نسيجٍ اجتماعيٍّ دافئٍ في كلمات من نحبّ، وفي نظراتٍ حزينةٍ وفي ضمّةٍ صامتةٍ تُقال فيها كل الأشياء. كل هذا يُضعف الخوف ويهدئ العاصفة داخل الدماغ، ويمنح المحتضَر لحظةً أخيرةً من التوازن النفسي يعود فيها إلى ذاته ليخرج من الحياة كما دخلها، ساكناً ومتصالحاً ومكتملاً.

لكن بين كل هذه القصص والتفسيرات يظلّ هناك صوتٌ داخليٌّ يسأل: هل نحن نقرأ الحقيقة، أم نعيد رسمها بلغة الحنين. هل ما نسميه "إحساساً بالموت" وعيٌ داخليٌّ حقيقيٌّ، أم بناءٌ نُسقطه بأثرٍ رجعيٍّ كي نعطي الفقد معنى. لا أحد عنده الإجابة اليقينية، وربما لا ينبغي لأحدٍ أن يدّعيها. فالموت في جوهره حدثٌ لا يُعاد التحقق منه، لا يعود صاحبه ليخبرنا بما رآه أو أحسّه. نحن الذين نبني القصص ونرتّب الإشارات ونمنح الهمسات معناها. وهذا لا يعني بالضرورة أنها أوهام، بل أنها محاولاتٌ بشريةٌ نبيلةٌ لصياغة معنىً في وجه الصمت الأكبر. بين الشكّ والإيمان، تظلّ الحقيقة غير مكتملة. لكن يكفي أن نمنحها الإصغاء لا الحكم، والاحتواء بلا التفكيك القاطع.

اشترك في نشرتنا البريدية