من الحبس الزماني إلى حافة الغد.. أن تكون قريباً لمعتقل في سوريا الأسد

تحوّل سجن الطيّار السوري رغيد الططري ثلاثاً وأربعين سنة إلى حبسٍ زماني طويل لكلّ من يمت له بصلة. هذه شهادة حتى لا تتكرر المأساة.

Share
من الحبس الزماني إلى حافة الغد.. أن تكون قريباً لمعتقل في سوريا الأسد
في الثامن من ديسمبر، عاد السوريون والسوريات إلى التاريخ | خدمة غيتي للصور

تبدأ فيروز أغنيتها الشهيرة "شادي" بهذا المقطع: 

من زمان أنا وزغيرة

كان في صبي يجي من الأحراش
إلعب أنا وياه كان اسمه شادي

[. . .]
ويوم من الأيام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بهالدني

ثم بعد ذلك تقول عن شادي:

ومن يومتها ما عدت شفته ضاع شادي
والتلج إجا وراح التلج
عشرين مرة إجا وراح التلج
وأنا صرت إكبر وشادي بعده زغير
عم يلعب ع التلج

لم يضع منا شادي عندما كنت "زغيرة"، بل رغيد الططري، ابن خالتنا الطيار العسكري السوري سنة 1981 في غياهب السجون السورية. لكن رغيد، أو عميد المعتقلين كما يسمّى الآن، عاد إلينا بعد ثلاثٍ وأربعين سنة حين سقط نظام الأسد وفتحت قوات هيئة تحرير الشام أبواب سجن طرطوس.

لم يكن رغيد العائد الوحيد. ففي صباح يوم الثامن من ديسمبر، عاد السوريون والسوريات إلى التاريخ بعد أن كانوا قد احتجزوا في يومٍ كئيب طويل مقداره أربعٌ وخمسون سنة. في هذا الحبس الزماني سعى النظام الأسدي إلى تجميد حياة السوريين في يومٍ واحد تتكرر أحداثه وتتشابه، بما يصعب على المحتجزين اختراقه وتجاوزه والوصول إلى غدٍ أو مستقبل مختلف.

إن تحوّل حكاية سجن رغيد الططري المكاني إلى حبسٍ زماني لكلّ من يمت له بصلة ما هي إلا قصة من بين آلاف القصص السورية التي تكشف عن طبيعة القوى المتسلطة والاستبدادية للنظام الأسدي. فهي تكشف أن خوف هذه القوى من التغيّر والمجهول هو ما دفعها للمحاولة اليائسة في السيطرة على الزمان والتحكم به. وعلى عكس السجون المكانية التي يستطيع الآخرون مشاهدة آثارها المادية وزيارتها والتحقق منها، فإن هذا الحبس الزماني يكاد يكون غير مرئي ولا محسوس إلا لمن عاش داخله. ما يجعل عودته وتكراره أسهل من نظيره المكاني. ومن هنا تكون مسؤولية الذين عاشوا في هذا الحبس الزماني واستشعروا شناعته أن يحكوا عنه لنحمي أنفسنا من العودة إليه وتحرير غيرنا منه بلا أن يضطروا لأن يقاسوا مثلنا. 


كان ينتابني قبل سقوط نظام بشار الأسد نوعان متناقضان من المشاعر. أولهما شعور عميق بالإحباط حين أرى الوقائع السورية الملموسة أمامي أو أقيّم الأحداث بعقلانية. خاصة بعد البطش بالمدنيين بعد الثورة السورية 2011 واستعادة نظام الأسد كثيراً من الأماكن وإحكام دماره على العديد من المناطق والقرى السورية. وكان يزداد هذا الشعور وأنا أرى، ومعي غيري من السوريين والسوريات، محاولات إعادة تأهيل النظام عربياً ودولياً. عبّر الكاتب السوري ياسين الحاج صالح عن هذا الإحباط ببلاغة عندما عَنوَن أحد كتبه "الثورة المستحيلة"، الصادر سنة 2017. فهو رأى أن الحصار الأمني المتوحش داخلياً يقابله غياب العدالة والقانون عالمياً.

ومع هذا الشعور بالإحباط في أعماقي، غمرني أيضاً شعورٌ آخر مناقض، دافعه إيماني وكأنه همسٌ من عالم الغيب. بأن كل هذا الذي يجري ما هو إلا كابوس مظلِم استوطن في اللاوعي الجمعي السوري ومصيره أن ينتهي بما يشبه الإستيقاظ المفاجئ. كنت أتأثر كلما استمعت إلى سورة النحل وأتفاجأ وكأني أسمع بدايتها لأول مرة: "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون." أو أسمع: "إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ". وكنت في لحظات معيّنة، أجدني أكرر لنفسي: "أليس الصبح بقريب".

وكم كانت مفاجأتي حين وجدت فيلم "إيدج أوف تومورو"، أو "حافة الغد"، يصوّر ببراعة هذه المشاعر المتناقضة التي كنت أعيشها ويسعفني على تأمل هذه الآيات القرآنية. عرض الفيلم سنة 2014، وقصته مستوحاة من رواية الياباني هيروشي ساكورا زاكا. وهي عن كارثة تلمّ بكوكب الأرض بعدما غزته كائنات فضائية تسمى "الميميك". عبثاً حاول البشر مقاومة هجوم هذه المخلوقات ووجدوا أنفسهم يخسرون المدن في معركة تلو أخرى. ولكن بعد عدة معارك، بدأ البعض يدرك أن هناك بعداً زمنياً لهذه المعركة الكونية. فالميميك متصلون فيما بينهم بوسيلةٍ أكبر تسمى "أوميغا"، قادرة على إعادة الزمان والتعلم من الأخطاء وتطوير القدرات ثم هزيمة البشر. أي أنها تستطيع حبس البشر زمنياً في معركة واحدة، في يوم واحد يتكرر باستمرار. وعند إدراك المعضلة الزمنية، يفهم أبطال القصة أن مفتاح هزيمة الميميك يبدأ من الزمان وتجاوز هذا اليوم الطويل للوصول إلى حافة الغد. أي أن الصبح ينتظرهم، وأن وصولهم إلى هذا الصبح القريب قد يعني انتصار الجنس البشري.

كانت مشاهدة هذا الفيلم قبل سقوط الأسد أشبه بالواجب الديني السوري السنوي. فقد كان ملائماً لحالتي التي امتزجَ فيها اليأس العقلاني مع التوق والأمل في حضيض الإحباط وحالة التسليم. ففي كل مرة أشاهده، أذكر نفسي بأهل البلد الذي وُلدت فيه وكيف أنهم مختطفون في يومٍ كئيب طويل يكرر نفسه. كان هذا اليوم يتلخص في شعار الأبد الذي اختاره النظام ومناصروه لتأكيد بقائهم واستمرارهم في شعارات، مثل "القائد الخالد حافظ الأسد". كنت أتساءل كيف سينتهي هذا اليوم السوري الأبدي وصبحه الذي، مع قربه الشديد، لا يقدر الناس الوصول إليه؟ وأتذكر حينها آية من سورة يس: "وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ. وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ". فهذا التوقف والعجز عن العودة أو التقدم والبقاء في يومٍ واحد، يسمّيه القرآن مسخاً. في أي بُعدٍ يحدث هذا المسخ وإعاقة التحرك في الزمن؟

ظهر رسوخ هذا السجن الزمني في وعي السوريين بعد سقوط الأسد وفتح أبواب سجونه المكانية ووصول السوريين إلى حافة الغد. فالكاتب السوري البريطاني روبن ياسين قصاب كتب في مدونته الإنجليزية "قنفذ" تدوينة سنة 2024 بعنوان "ذا إند أوف ايتيرنيتي" أو "نهاية الأبد". وعندما أراد الإعلاميون السوريون ملاذ الزعبي وكنان قوجة وحسام القطلبي إطلاق "بودكاست" لمناقشة القضايا السورية بعد سقوط الأسد، لم يجدوا له عنواناً إلا "ما بعد الأبد".


هذا الوعي السوري بسجن الأسد الزمني كان غائباً عندما استولى حافظ الأسد على السلطة بانقلابٍ عسكري في 16 نوفمبر 1970. لم يدرك السوريون والسوريات ما كانت تعنيه حقاً شعارات "الأسد إلى الأبد" التي ظهرت لاحقاً. لم يعوا حقيقة الكائن الاستبدادي الذي استوطن، ليس فقط أرضهم، وإنما وعيهم الذي أوقف فيه حركة الزمن.

حاول عدد من المفكرين فحصَ هذا البعد الزماني للاستبداد والتسلّط. أحدهم الأمريكي والتر بروغمان الذي شرح في كتابه "الخيال النبوي"، المنشورة ترجمته سنة 2023، كيف تحبس الأنظمة الاستبدادية الأحداث في حالةٍ من الديمومة أو الأبدية المتوقفة عند تربع الاستبداد على عرش التحكم وليس الحكم أو الحكمة. ولذا فإنه يقول إن المستبدين تجسيدٌ للنموذج الفرعوني كما ظهر وفق منظور المخيال الديني الموجود في النصوص الدينية. ولأنهم تجسيد لهذا النموذج، فهم "يضيفون مفهوم 'إلى الأبد' إلى كل حدث تاريخي يتربعون عليه". ويعلل بروغمان هذا بهوس الأنظمة الاستبدادية بالزمن بسبب ذعرها من العواقب والتغيرات. وبالتالي إنكارها النهايات والموت والفناء وتبجحها بالديمومة. فتخلق وهم الأبدية لنفسها حتى لا تواجه حقيقة أنها ليست مسيطرة بإحكام على حركة الأحداث وتحولات الزمن.

وهذا البعد الزماني هو ما حاول الإناسي الهولندي يوهانس فابيان مقاربته في كتابه "تايم آند ذي أذر" (الزمن والآخر) الصادر سنة 1983. أوضح فابيان كيف تحاصر الحداثة الغربية حركةَ الزمن في بقية الكوكب. فالاستعمار الغربي لم يستعمر المكان فقط، بل الزمان أيضاً. وهذا ما يفسر رغبة الغرب في تحقيب "الآخر" على سلّمٍ زمني يسقطه إلى ما قبل العصر الصناعي. إما ينعته "المتخلف" أو يصنفه ضحيةً لما يسمّيها "الرجعية". وهو يفسر نعت الغرب مجتمعات بسيطة بأنها "بدائية" وتوهّمه أنها آثار تتيح له دراستها معرفة ماضيه في تاريخ أوروبا القديم قبل الحضارة. وبعد إزاحة الآخر زمانياً، يعلل الغرب لنفسه إزاحته مادياً أيضاً لأنه ليس من هذا العصر. فالغرب يجلس على عرش الحاضر ويقرر من يجلس خلفه في الزمان ولا يشاركه الحاضر.

وربما ليس غريباً انتشار فكرة "التقدم" خارج العالم الغربي وتكريس فكرة أن "الآخر" يعيش في الماضي. يستبطن كثير من المثقفين والمثقفات خارج الغرب هذه التقسيمات والحصارات الزمنية. فنجدهم ينادون بأهمية "اللحاق بالغرب" وأهمية "التقدم"، وكأننا لا نعيش الزمن نفسه. يسمّي فابيان نفي الغرب الأخرَ من الزمن "إنكار التزامنية" ويعدّها أحد الأدوات الاستعمارية. إذ تساعدنا الآليات التي يوقف فيها الزمن، أو يجلى بها "الآخر" الغريب الرجعي عن الحاضر، في فهمٍ أعمق وأدق لعلاقات الاستبداد والقهر. خصوصاً أن هذه الآليات مترسخة بشدّة في وعي شعوب مختلفة وخطاباتها، ما يجعلها خفية تسري مثل الداء في دماء اللغات المختلفة.

ولهذا لا يمكن قصر النظام السوري على أنه محض آلة تعذيب أو قصف عشوائي بالبراميل. بل هو كائن حَبَسَتْ شعاراته عن الأبدية الإنسانَ خارج حركة الزمن، وحصرته في خندقٍ وهمي أُوقفت فيه دقات الثواني. فعندما يكون "الأسد إلى الأبد"، يُختطف شعبٌ كامل داخل يومٍ واحد ولا تتحرك الساعة ويتوقف الزمن. وهذا ضروري للمستبد. فحركة الزمن شرطٌ للتغيّر والتغيير. ولهذا لا يكفي الاستبدادَ حصار المكان، بل يحتاج حبسَ الزمان. وهكذا يأتي صيف ويتلوه خريف، ونظام الأسد متوقف. ذهب الأب وجاء الابن، والابن يحضّر الحفيد. وخارج سوريا، كان التاريخ في حركةٍ سريعة لا تتوقف. فقد سقط جدار برلين وانهار الاتحاد السوفييتي، ونظام الأسد متوقف. توالى عشرة رؤساء على أمريكا وتبادل تسعة من رؤساء الوزراء كرسي الحكم في كندا، ونظام الأسد متوقف. صار الناس يقتنون الهواتف المحمولة ويتحدثون بالصوت والصورة مع أي شخص على الكوكب، ونظام الأسد متوقف.


اعتُقل ابن خالتي رغيد الططري في أحد أيام سنة 1981. ولد رغيد في ديسمبر 1954، ولما بلغ الثامنة عشر من العمر التحق بأكاديمية القوات الجوية سنة 1972. تخرج من الأكاديمية طياراً عسكرياً سنة 1975. وفي فترة التدريب، عاصر وشارك في حرب أكتوبر سنة 1973. بعد سنة من تخرّجه، تدخلت سوريا عسكرياً في الحرب الأهلية اللبنانية وشاركت قواتها في حصار مخيم تل الزعتر الفلسطيني في يونيو 1976. في هذا السياق انشقّ اثنان من طياري الجيش السوري، هما محمود مفلح ياسين وأحمد عبدالقادر الترمانيني، واتجها بطيارتيهما إلى العراق.

ذكر رغيد الططري بعد الإفراج عنه أن التدخل السوري في لبنان خلقَ نقاشاتٍ بين أفراد الجيش عن أخلاقية الامتثال لأوامر تستهدف مدنيين. في سنة 1978 صدر قرارٌ استثنائي بتسريح عشرين طياراً عسكرياً، كان من بينهم رغيد، ولأسبابٍ غير واضحة.

بعد تسريحه، كانت الظروف في سوريا تتجه نحو المزيد من القمع وتشديد القبضة الأمنية. ففي يونيو 1979 شُنّ هجوم على مدرسة المدفعية في حلب، قُتل وجُرح فيه عدد كبير من العسكر العلويين. استغلّ نظام الأسد هذه الحادثة وبدأ بشنِّ حملة قمع شديدة ضدّ المجتمع السوري عموماً، وبالأخص ذوي التوجهات الإسلامية. وتزايدت الرقابة على كل أنواع المعارضة والنقد، بما في ذلك الحركات اليسارية، ووصلت حتى المساحات الخاصة.

في هذه الأثناء كان رغيد الططري وصديقه الطيار العسكري محمد سيجري يتحاوران عن انشقاق الطيارين مأمون النقار وعبدالعزيز العبد بطيارتيهما إلى الأردن. وكان موضوع الحوار أخلاقية كسر الأوامر العسكرية إذا كانت ستؤدي لقتل المدنيين. كان الطيار سيجري لايزال في الجيش، فعلّق أنه سيكسر الأمر قطعاً ولن ينفذه. أجابه رغيد أن هذا قد يؤدي لإعدامه فور هبوطه في المطار العسكري. فذكر سيجري أن الإعدام أحبَّ إليه من أن ينفذ الأمر. نصحه رغيد حينها أن يأخذ طيارته ويرحل للأردن ويطلب اللجوء. فردّ سيجري أنه لن يقلع أصلاً، إذا كان الأمر فيه قصف مدنيين. كان معهما في الحوار شخصٌ ثالث، ويبدو أنه وشى بهما. بدأ رغيد الططري يُراقَب مراقبة لصيقة أينما ذهب، فقرر الرحيل إلى الأردن. وبينما هو هناك، لم تتوقف مضايقات الأجهزة الأمنية لأهله ووالدته. فقرر العودة ظناً أنه، حتى لو اعتقل، لن يمكث فترة طويلة. وخاب ظنّه.

من جهتنا نحن أسرته، فقد عرفنا أن رغيد اعتُقل أثناء عودته إلى سوريا عبر الحدود الأردنية. ولم نكن على دراية بكل هذه التفاصيل. كانت زوجته سلمى حينها قد ولدت ابنهما الصغير وائل، ولم يحظَ رغيد برؤيته بسبب غيابه في الأردن. انتشر حينها صمت وهدوء حزين في أرجاء العائلة مع مشاعر الصدمة. لم يكن رغيد منتمياً لحزب أو ناشطاً. فما الذي جرى؟ ولماذا اعتقلوه؟ وبعد عدة أشهر من اختفائه صارت مجزرة حماة 1982 التي أدخلت سوريا مرحلةً أشدّ ظلمة من الخوف والذعر المُبكم. عندها حاصرت قوات النظام مدينة حماة سبعاً وعشرين يوماً، ارتكبت فيها مجازر، بحجة القضاء على مجموعة إسلامية معارضة.


عندما سُجن رغيد الططري في زنزانته المكانية، حُبسنا نحن في زنزانةٍ زمنية. فمع أننا تنقلنا بين سوريا وألمانيا وهاجرنا إلى كندا، إلا أن جانباً من وعينا السوري بقي محبوساً في ذلك اليوم الأسدي الطويل. فَـيَدُ الاعتقال والسجن لم تتوقف عند رغيد. بل طالت والدي وخالي عدة مرّات، ثم بعدهم أولاد خالي وأولاد خالتي، وغيرهم آخرين من أقرباء وأصدقاء. فمثلاً صديقتنا فاطمة الحريري فقدت ابنيها، صهيب وإقبال العمار، وهما بعمر الورد. والسيدة ميادة العبار في داريا، والدة غياث مطر الذي كان يوزع الورد وقناني الماء على جنود النظام في بداية الثورة، فقدته وفقدت أخويه الآخرين أيضاً حازم وأنس وفقدت كذلك أخاها إياد العبار. وصديقتنا آمنة خولاني فقدت ثلاثة من إخوتها، وهم شبابٌ تتمنى كل عائلة أن يكون لها أبناء بصفاتهم.

تعلّمنا بسرعة ألا نتحدث عن رغيد الططري أمام الخالة نور التي كانت تعابير وجهها تتغير عند ذكره. ومع أننا كنا أطفالاً إلا أننا صرنا نعرف ألا نتحدث عنه أمامها أو حتى عن قضايا السجون والمعتقلات في سوريا. خاصة أنها كانت ذات شخصية مميزة. إذ أسست في شبابها عملاً خاصاً بها وكانت من النساء القلائل اللاتي قدن سيارة في دمشق في الستينيات، وكانت ضمن الوفد النسائي الذي استقبل أم كلثوم حين زيارتها دمشق. كانت دائماً ترتدي ملابسَ جميلة وأحذية ألمانية خشبية، وكانت صاحبة نكتة ومصدر سعادة لكلّ من حولها. وبنظرة إلى هذه الذكريات يتضح لي أنها كانت تقاوم بسعادتها وأناقتها. ونحن أيضاً كلنا كنا نتآمر بصمتٍ معها لتكون السعادة والتقارب العائلي أحد طرق مقاومتنا.

كان ينتابنا فضول شديد يعبّر عن شوقنا لهذا الشخص المميز الذي كانت له رمزية في طفولتنا وكبرت تصوراتنا عنه، لكن أيضاً قلق وخوف مما يتعرض له. ولكننا كنا، أسوةً بالخالة نور، نتجاوز مواضيع القلق بسرعة ونقلب الموضوع فجأة إلى آمالنا بعودته. وكان أكثرنا فضولاً لرغيد هو ابن خالتي عبد الرحمن الشاغوري، والذي نناديه عبود. ومشكلة عبود أنه يحب القراءة. وفي أحد الأيام في 2002، اختفى هو أيضاً عند حاجز عسكري، لنعلم بعد فترة طويلة أنه في المعتقل. اعتقل لأنه أرسل إلى تسعة أشخاص من أولاد الخالات وأولاد الخال بريدَين إلكترونيين فيهما مقالتين. وهناك في السجن التقى عبود رغيداً بعد أكثر من عشرين سنة. ولما خرج عبود من السجن بعد ثلاث سنوات، عرفنا أن رغيد الططري شخص مميز. وأنه رفض أن يشارك عبود تفاصيل اعتقاله ليجنّبه أيَّ ثقلٍ إضافيّ في السجن. وعرفنا أيضاً من عبود أن رغيد يتذكرنا جميعاً بالأسماء من أكبرنا إلى أصغرنا، وكان يريد أن يعرف كل شيء عنا وعن كل المعارف والأهل حولنا.


من المحزن أن يعاد دفع أثمان دفعتها شعوب قبلنا. فبعد سقوط نظام الأسد وظهور تفاصيل السجون، جاءني اتصال مرئي عبر الانترنت من صديقتي الأمريكية غيل دانكر. وغيل ناشطة مخضرمة فقدت معظم أقاربها في الهولوكوست من طرفَي أبيها وأمها. عرفتُ دانكر بسبب دعمها سنين طويلة القضيةَ الفلسطينية والقضيةَ السورية اللتين كانتا متداخلتين في أسرتنا. فبيوت أقربائي كانت في قرية بئر عجم على الشريط الحدودي في الجولان. وكنا عندما نزورهم نرى القواعد الإسرائيلية على تل أبو الندى من الشباك الخلفي في بيت خالتي كريتس، والدة عبود الذي لحق رغيد الططري في غياهب السجون. ومازلت إلى اليوم أذكر تهشّم زجاج نوافذ بيوت أقربائي مرّات عديدة جرّاء طلعات الطائرات الإسرائيلية الدورية.

قالت لي دانكر في اتصالها بعيونٍ بدت منتفخة من البكاء أن ما نراه يذكر بالحقبة النازية. تقول لي ذلك وأنا أعرف كم هو صعب وثقيل عليها الإشارة إلى تلك الحقبة. فإضافة لقراءاتي عن أهوال الهولوكوست، مازلت أذكر زيارات المستشفى التي كان والدي الطبيب يأخذنا معه فيها بعد انتقالنا إلى ألمانيا. كنا في هذه الزيارات نلتقي مرضاه من كبار السن الألمان الذين كانوا يحكون لنا ذكرياتهم المؤلمة المليئة بالفقد والمعاناة في الحقبة النازية. أعاد سقوط النظام السوري وظهور تفاصيل السجون رسوخ "الطبيعة النازية" للنظام التي تكشفت لدانكر بعد أن سرّب ضابط أمن منشق، اتخذ اسم  قيصر، أحد عشر ألف صورة مرعبة لمعتقلين قُتلوا بسبب التعذيب في السجون.

ولذلك تصبح سوريا بوابة لانعتاق آخرين من الأثمان الهائلة، وتكون الانتقالات الأخرى في المنطقة والعالم مستفيدة من الدرس السوري الكبير. لم يكن فتح بوابات سجن صيدنايا الشهير بالقرب من دمشق في لحظات فجر ذلك اليوم حدثاً إخبارياً عادياً. بل كان لحظة الانعتاق من كائنٍ قمعي حبسَ الزمان في يومٍ واحد طويل امتد أربعاً وخمسين سنة يكرر نفسه. صار فتح البوابات مجازاً هائلاً لخروج الشعب السوري من حقبةٍ كئيبة مظلمة اختُطف فيها شعبٌ بأسره داخل أبدية موحشة.

وربما لهذا وصف الكاتبُ السوري جابر بكر السجنَ بأنه "كائنٌ حيّ [. . .] وخليةٌ نهمةٌ تحيا على السوريين [. . .] تتغذى عليهم وتلفظهم خارجها يوم موتهم فقط". وكتب جابر في مقاله في الفِراتْس "سوريا الأسد.. السجن كائناً حياً" أن النظام السوري استعمل السجون أدواتٍ للسيطرة. فصارت لها قوة، ليس للقمع فقط، ولكن أيضا أماكنَ احتجاز السوريين وإخفائهم. ولهذا فإن توسع ظاهرة الاعتقال السياسي التعسفي في سوريا في أكثر من خمسين عاماً حوّلت السجن إلى كائنٍ حيّ. بالمعنى الذي صار فيه السجن، ليس جزءاً من حياة السوريين السياسة فحسب، وإنما شكّل هويتهم الاجتماعية أيضاً. الأمر الذي يمكن ملاحظته في التعبيرات والمواقف وأسلوب الحياة وحتى في الثقافة السمعية والكتابية.

ولعلّ أغرب الأماكن التي يتجلى فيها تأثير سجون نظام الأسد على ثقافة الناس هي كوابيس السوريين. فهم يتمازحون أنه حتى لو هاجروا ونجوا من ملاحقات المخابرات السورية، فإنهم لا يسلمون من تعرضهم للرعب في أحلامهم. وأتذكر أني أدركت ذلك مع صديقٍ شاركني مرة نوعاً من هذه الكوابيس، وعبّر عن صدمته عندما اكتشف أن كل أصدقائه وصديقاته السوريين عندهم نفس هذه الكوابيس، وأنها جزء من الوعي الجمعي الذي يتسلل إلينا حتى وقت النوم. وأدركنا سوياً كم شكّلتْ تجربة الرعب من المخابرات والسجون المخيالَ الجمعي، وخاصة مع تواجد أقارب ومعارف داخل الزنزانات نتخاطر معهم عقلياً في غيبات الظلمة. ولهذا صار سجن صيدنايا بمبناه ثلاثي الأذرع رمزاً قادراً على التنافس، حتى مع أعتى حبكات الخيال العلمي. وخاصةً في قدرة كائن الاستبداد هذا أن يطال، بأذرعه الممتدة، أدق تفاصيل حياة الناس متسللاً لأحلامهم.

إن أذرع كائن الاستبداد الطويلة لا تنحصر بسجن صيدنايا، بل تمتد إلى غيرها. فهي تشمل سجن تدمر سيّئ الصيت المقترن بالتعذيب الممنهج والمجازر. وتشمل كذلك فرع فلسطين الأمني، الذي تبث الإشارة إليه الرعب في قلوب الناس. ولم تكن هذه الأذرع الممتدة تصل فقط إلى داخل المهاجع والزنزانات. وإنما تصل لذوات الأهالي الذين يشعرون بصخب غياب أحبابهم في أحد هذه السجون أو الأفرع الأمنية، وتشكل كل تفاصيل حياتهم وذاكرتهم.

لكن ما جعل رمزية صيدنايا أقسى أنه تحوّل لمعسكر موت واختفاء في سنوات الثورة. فإضافة لمركزية السجن كائناً حياً يبتلع أجواء الحياة كما وصفها جابر بكر، تنتمي هذه السجون لكائنٍ حَي أكبر. كائن أوقفَ الزمنَ وعطّلَ إمكانيةَ الفعل السياسي المعتمد على التفاعل ضمن حركة الزمن وزحزحة المواقف وتحريك المطالب في مخيّلة الناس. ولهذا مثّل فتح السجون –وتحديداً سجن صيدنايا– وتحطيم تماثيل الأسد الأب والابن رمزاً لانتهاء عهد شمولي مرعب أقرب لحبكة خيال علمي. ومثّل فتح السجون أيضاً لحظةً لها دلالات أوسع، ستبقى معنا فترة طويلة حتى نفهم ما خرجنا منه، والمنظومة الفكرية والأمنية التي احتجزت شعباً بأكمله كل هذه العقود.

وإن كان دفع أثمان دفعتها شعوب قبلنا محزناً، فلعلّ ما يهوّن الحزن تضامن شعوب تقاسي اليوم أثماناً مشابهة. فقد كان مشهداً مؤثراً أن نرى أهل غزة وهم يغنون ويحتفلون بسقوط الأسد. فأهل غزة أدرى بشعاب الظلم والتوحش. ويعرفون معنى الاحتجاز داخل منطقة جغرافية تحت احتلال عسكري، ويعرفون معنى القصف والإبادة الجماعية. ولنجنّب غيرنا دفع الثمن الذي دفعناه، وحتى نردّ بعض الدَين للمدنيين من سكان المنطقة الذين دفعوا ثمن البطش الصهيوني، فواجبنا أن نعيد قيمة الإنسان وألا نحوّله لبندقية. فكما قال أبو القاسم الشابي: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر". ولم يقل إذا الشعب يوماً أراد الحياة فعليه أن يتنازل عن إرادة الحياة. وهكذا يكون الاتجاه باستعادة إيماننا بسنن كونية لا تتطلب الهدر والإسراف كما أوهمنا المستبدون. والإيمان أن نجوم السماء وظروف الأرض تتناسق بلا هذا الكم الهائل من التضحيات. هي مسؤولية ليست على السوريين وحدهم. بل على سكان المنطقة، لمراجعة أحداث كثيرة والتفكير جدياً بكيفية إنزال تسعيرة الحرية.


إنه مشهد عجيب أن نرى نظاماً، أوهمَ العالم بقوته وأوهم ضحاياه بأبدية عصية، يتهاوى في غضون اثني عشر يوماً. وأن يعود الأطفال الصغار بعد أن أصبحوا شباباً ليحرروا البلد كلها، بعد أن هُجروا وقُتل ذووهم ونُقلوا في الحافلات الخضر نحو محافظة إدلب. وتنتابنا حالات من الإعجاب بضبط النفس وحقن الدماء والدمار الذي رأيناه في عملية ردع العدوان في أيام استعادة البلد. وما زلنا نراه في محاولات جاهدة لضبط الأمن مع حدوث حالات انتقامية، في بلدٍ يعيش حالة ما بعد الصدمة وعدم الاستقرار والانضباط في مؤسساته.

وتنتابنا أيضاً حالات من التوجس، لأن الكثير من الأفكار التي تشربها شباب المنطقة لاتزال فيها وحشة. بدت أول الأمر في سلوكيات منفلتة وتصرفات خارج ما يريده السوريون في تطلعاتهم ما بعد سقوط النظام. ثم بدت مرة أخرى، وكم كانت صدمتنا كبيرة حينها، في العنف الذي طال مدنيين أبرياء وتصاعد وتيرة الانتقام والقتل الطائفي في منطقة الساحل السوري بعد أزمة أمنية طالت قوات الأمن أظهرت حجم التحديات التي تواجه هذا البلد المتعب والمنهك. ولا ننسى أن شعوب المنطقة خاضت صراعاتها ضمن تضاريس تهيمن عليها كيانات استبدادية أو استعمارية. ولذا فإن شباب المنطقة استجابوا لها أيضاً بمنظومات قاسية، ضمن تضاريس وعرة وموغلة في العنف والشدة.

ولهذا فإن شخصية البطل في فيلم حافة الغد يمثل أيضاً مجازاً عن شباب المنطقة. فالضابط ويليام كيج، الذي مثل دوره توم كروز، يعمل في الجانب المدني بوزارة الدفاع في قسم العلاقات العامة في الجيش وليس لديه أي خبرة قتالية. ولكن مع تناقص الجنود، يجد نفسه بضغط من القيادات تحت أوامر النزول إلى أرض المعركة ليقاتل المخلوقات الغازية الفتاكة. وهو يرتعد من المهمة ويحاول التملّص منها بكل الطرق الممكنة، ليجد نفسه في النهاية مكبلاً ومرمياً في أحد المعسكرات القتالية التي تتهيأ للطيران والهبوط مباشرة في وطيس المعركة. ولكن مع الوقت يتحول هذا الرجل الذكي الخجول تدريجياً إلى مقاتلٍ شرس، وخاصة أنه يموت ويحيا بتواصل وهو عالق في نفس اليوم. يتدرب في كل يوم، يكرر نفسه للتقدم ساعات أطول في معركته مع الكائن ومخلوقاته حتى يتمكن من الوصول إلى حافة الغد.

لا يمكن الإستهانة في أثر البيئة العنيفة المغلقة في تحفيز العنف والتطرف. أتذكر حين كنا صغاراً وتزورنا عمتي آينور من العراق، كيف كانت تندهش من إصرار السوريين على تفادي الصدامات والمواجهات. كانت تمزح حين تعود وتتذكر لطف السوريين ودماثتهم حين تشهد مواقف تقول إنها لو صارت في العراق لتعارك الناس بالأيادي.

هكذا كانت سمعة بلاد الشام وبالأخص سوريا. أننا شعب لطيف لا نحب النزاعات، وأننا مثل الضابط كيج قادرون على التملص بدهاء من المواجهات والمعارك. وهناك العديد من الكلمات في اللهجات الشامية تصف هذه القدرات في التنصل السهل من المواجهة. كلمات مثل "حربوق" و"سلال" و"فهلوي". وإن تصاعدت الأمور، فالحلول هي أقرب لمقولة "الإيد يلي ما بتقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر". وغيرها الكثير من التعبيرات التي تضمر نفوراً من النزاعات ومواجهة المعارك.

إلا أن هذه "الفهلوية"، أي القدرة على التلاعب والتملص من المواقف الصعبة، التي قد تكون من بقايا سمات الفينيقيين الذين فضلوا التجارة والعلاقات الدبلوماسية على الحروب –وإن يقال إن أصل الكلمة فارسي– لم تمنع تغلغل العنف داخل المجتمع والعلاقات السورية. يذكرنا المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي بالمقولة الإنجليزية، إنه إذا أُمسك شعبٌ بيد من حديد فإنه يتحول إلى حديد. ولا يمكن فصل تصاعد التطرف في بلاد الشام عن تضاريس المنطقة الشائكة والتي حوصرت بكيانات استبدادية واستعمارية.

ولهذا يمكن رؤية التطرف أنه أحد أنواع الاستجابات. فقد جرّب شباب المنطقة الكثير من الصراعات الفكرية لإيجاد مخارج من أيام معاهدة سايكس بيكو في 1916 و"خطف الديمقراطية من العرب"، كما توصفها الأكاديمية الأمريكية إليزابيث تومبسون في كتابها "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب"، والمترجم للعربية سنة 2022. ترصد في كتابها كيف سرقت فرنسا وبريطانيا المبادرات الديمقراطية والدستورية التي تمخضت عن المؤتمر السوري الأول في 1920، والتي كانت متقدمة بمقترحاتها وإصرارها السياسي على دولة ديمقراطية حديثة على العديد من الدول الأوروبية آنذاك.

وبعد حركات التحرر من الاستعمار وقعت المنطقة في نموذج الدولة الأمنية التي تتشارك في مصالح أقرب للقوى العالمية من مطالب شعوبها. ولهذا ليس غريباً حيرة الشباب المقاوم في توجهاتهم السياسية منذ ذلك الوقت حتى اللحظة الراهنة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. من خطف الطائرات والفكر الشيوعي إلى لبس العمامات واقتراف الجرائم باسم الدين في عالم صمم فيه المنتصرون المكاسب على مقاس مصالحهم، وتركوا الصغار يتشاجرون ويقتل بعضهم البعض. ولا أعرف إن كان رصد هذه الانعطافات الحادة في التوجهات الفكرية مع تراكم الكثير من النتائج الكارثية، وخاصة على المدنيين في المنطقة، كفيل بطرح أسئلة حقيقية تعيدنا لذواتنا اللطيفة. وفيما إذا كنا قادرين أن نستعيد أدواتنا الحضارية وقدرتنا على الإبداع التي تراكمت عبر عصور ماضية خارج هذه الارتكاسات الإقليمية السياسية الشرسة حالياً.

ورطت هذه المتاهات شباباً صغاراً وفتكت بالعديد منهم في اقتتالات داخلية، وضحّت في مناوراتها بأعداد هائلة من المدنيين. وفي الحالة السورية ظهر الالتزام بمعايير عالية في تحرك جبهة تحرير الشام في الفصل الأخير من الثورة في حقن الدماء. فهم استعادوا بأدنى درجات الأذى والمواجهة بلداتهم وقراهم وبيوتهم التي سلبت منهم بعد قصفهم بالبراميل ورشهم بالكيماوي وقتل ذويهم وتهجيرهم. ودخلوا إلى بقية الأراضي السورية وهم يقولون "عدالة لا انتقام"، ويطلقون سراح عناصر الجيش الذين كانوا في طريقهم قائلين "اذهبوا أنتم الطلقاء"، كما رأينا في العديد من المقاطع المصورة المنشورة. ولهذا كانت حزينة جداً أخبار ماحدث في الساحل بعد هذا النجاح في بدايات العهد الجديد والتي أظهرت كم هو مهم أن يتمكن السوريون والسوريات من إقرار وضع لا يقبل فيه بإراقة دم أو إلحاق أذى بأي أحد خارج سيادة القانون.

وكما يبدو، فحتى مع الاختلاف الفكري معهم، أخرج هؤلاء الشباب سوريا من حقبة رهيبة ما تزال كلمات السوريين محض محاولات خجلة لفهمها وتوصيفها. لم يكن الجيش الأمريكي الغازي الذي انتشل الطاغية من جحر، أو الجيش التركي الذي دخل زاحفاً إلى التضاريس السورية. بل أولاد المدن والحارات وأحفادها الذين عادوا وفتحوا السجن الكبير بعد أن كان العالم قد نسيهم في بقعة صغيرة في شمال غربي سوريا.

وصحيح أننا بدأنا ندرك أن هذا الحصار الزماني قد انتهى بشكله المحلي. ولكن أشعر أني أعبّر عن الكثير من السوريين والسوريات حين أقول إن معظم من في سوريا أو له علاقة بالبلد يعيش في حالة ‏دهشة وتوجس حتى بعد مرور الأسابيع العديدة. يكاد شعاع الحرية الساطع أن يصيبنا بالعمى، وما تزال حدقات عيوننا الفكرية تتأقلم مع حجم النور الذي أصاب سوريا. ولكن أيضاً نتساءل هل سيقدر العالم أن يسمح لهذه المنطقة بالعودة للزمن ومعافاة جراحها بعد خمسين عاماً من الاستبداد ومئة عام من العزلة.


ومع التوجس، لاتزال أرقام القتلى والمصابين والمعتقلين غير معلومة بدقة. ويرجَّح أن المفقودين عشرات الآلاف، حسب العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية. يقول محمد العبدالله، المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة في واشنطن، إن السوريين والسوريات "لم يقوموا بحصر حقيقي لشهدائهم ومفقوديهم بعد". ويضيف بأنهم سيحتاجون وقتاً كثيراً حتى يجرون هذا الإحصاء الصعب، خاصة مع غياب الإحصاءات الدقيقة المسجلة في المراحل الفائتة. فهو يشرح كمية التوثيق التي عملها السوريون والسوريات في منظماتهم الحقوقية والمدنية. وكيف ساهمت ظروف الحرب واستحالة الوصول لكافة التفاصيل في جعل هذا الملف معقداً، ولكن في نفس الوقت قابلاً للتطوير والعمل المستقبلي. وخاصة أن الانتهاكات بمجملها تمتد ضمن عهدي الأب والابن معاً.

ويرى العبدالله أن السوريين يحتاجون أشهراً طويلة، بل ربما سنواتٍ عديدة، لاستيعاب ما حدث فعلاً كمياً ولمعرفة حجم الخسائر بدقة أكثر حسب معايير حقوقية ودولية منهجية. وكما أن السوريين مازالوا يفتقدون الأرقام الدقيقة، فإنهم أيضاً يفتقدون معرفة مصائر مفقوديهم وأماكن دفنهم. فلم يحرم هذا النظام السوريين كرامةَ الحياة فقط، بل حرمهم كرامةَ الموت أيضاً.

ولهذا يغدو مهماً التوثيق الكيفي والنوعي وسرد قصصنا التي نعرفها عن قرب، ومن عدة أطراف، لرفع وتيرة المصداقية. يتقاطع هذا مع مفاهيم الذاكرة الشفوية، أحد أفرع الدراسات التاريخية، التي تتقاطع أيضاً مع أحد ركائز العدالة الانتقالية في "تخليد الذكرى". أي أن معاناة الناس تحتاج لأكثر من الإطار القانوني والمحاسبات القضائية والمحاكم لمعالجتها. ولهذا هناك آليات أخرى في المراحل التي تُنجز فيها العدالة الانتقالية بطرق تساعد في استرداد الحقوق المعنوية وخلق ثقافة الذاكرة والامتنان للشهداء في مجتمع مثل سوريا قدّم أثماناً هائلة لإنهاء الأبدية الأسدية. يصبّ هذا في تعزيز مكانة أهالي الشهداء والمفقودين أيضاً وإعطاء المصداقية لقصصهم ومعاناتهم. ويمكن للتوثيق الكيفي أن يتراكم ويتسارع في مجتمع استعاد حرية التعبير والقدرة على تبادل المعلومات. فهذا المعتقل التقى بذاك المعتقل في السجن، أو تلك المعتقلة تخبر الأهالي المكلومين أنها رأت ابنتهم في ذلك العام. وهذا يعرف تلك المجموعة التي دخلت للسجن بعده. وهؤلاء يعرفون أصدقاء قتلهم النظام في السجن، وهكذا تترابط سلسلة الذاكرة السورية.


التقت أختي مريم برغيد الططري في دمشق بعد سقوط نظام الأسد، في الأسبوع الأول من شهر يناير 2025، بعد ثلاث وأربعين سنة. وبعدها بأسابيع، زار ابن خالتي عبود سوريا والتقى رغيد أيضاً. صار رغيد، الذي كنا نشعر أنه قصة عائلية، رمزاً وطنياً وسُميّ عميد المعتقلين. وكم كان جميلاً أن يحظى باستقبالٍ رائع من الأصدقاء القدماء ورفاق السجن الأحرار، وأن يظهر في المقابلات متحدثاً عن تجربته بصوتٍ هادئ وبحكمةٍ تبثّ أسرار صبره الطويل والعميق.

في عائلتنا، ما زلنا نتأقلم مع الزمن الذي سرق منا ما بين ذكرى الشاب الذي ضاع منا وهيئة الشيخ الحكيم الذي عاد إلينا. فرغيد الططري في ذاكرتنا طيارٌ لطيف مع الأطفال، قبل الكبار، مشهور بتوزيع الحلويات علينا عندما نزور والدته الخالة نور. وكان في ذاكرتنا رساماً بارعاً، يرسم وأخوه الأصغر فريد طائرات بسرعة فائقة ودقة عجيبة تخلب عقولنا الصغيرة.

وكان بيت رغيد الواقع في حي المالكي، وراء السفارة الأمريكية في دمشق، مليئاً بالحياة. كانت خالتي كريتس تصطحبنا وراءها أطفالاً مثل البط الصغير عندما تزورهم، لنجد الطعام الطيب الذي طهته الخالة نور. هناك حيث أحاط بنا زوجها العم أبو سعيد وأبناؤهما وأصدقاء وصديقات ظرفاء داخلين وخارجين من البيت الأرضي الذي تحوي حديقته شجيرات الياسمين. وكنا نحن في خيالاتنا الطفولية نشعر بنوع من البهجة عندما كنا نزورهم، وخاصة أننا كنا ننظر إليه رافعين رؤوسنا الصغيرة مقتنعين أنه عندنا "سوبرمان" في العائلة.

أما الشيخ الحكيم رغيد الططري، الذي عاد إلينا، فقد كان ملهماً في لقاءاته بعد خروجه من المعتقل عندما رفض أن يكون سجيناً كل هذه السنين. كم كان مفاجئاً لي أن أرى –ما بدا لي– عمق المحارب الشركسي المستبسل في داخله وعناده، رغم ما ظهر عليه من رقة. وكم شعرت أن قوة ضميره ورفضه قصف المدنيين كان متصلاً بأجمل ما التقطه في الثقافات التي تقاطعت في داخله، من أم شركسية وأب شامي وأجواء سورية وطنية وتفاعل مع القضية الفلسطينية. وربما أفكار خالي جودت سعيد عن السلمية وعصيان الأوامر الظالمة.

ما فاجأني أكثر هو أن أرى رغيد الططري يعبّر بوضوح عن إصراره على خلق هويته الذاتية حتى في أحلك الظروف والساعات، وأن يصمم مساحات داخلية ذاتية لنفسه. وأكثر ما لفت نظري في مقابلته مع الصحفية هزار الحرك من إذاعة صوت سوريا، رفضه أن تكون هويته "معتقل سابق". شرح لها كيف رفض هوية السجين حتى وهو في السجن، وكيف رفض استعمال لغة السجانين ومفرداتهم. فمثلاً قال لها إن فتحة السقف التي كان تنزل منها أشياء إلى المهجع كانوا يسمّونها "شراقة"، وأصرّ إلا أن يسميها "فتحة السقف". وأصرّ كذلك مع معاناة كبيرة وعقوبات ألا يلبس ملابس السجناء في سياقات عديدة. هذا الإصرار على خلق الهوية الذاتية أمرٌ تتحدث عنه كثيراً المفكرة والأكاديمية السورية الأمريكية نعمت حافظ البرزنجي في كتابها "قراءة جديدة للقرآن" المنشور سنة 2004، في سياق استعادة النساء صوتَهن ومعرفتهن السياسية والدينية في مجتمعات أبوية. ولكني وجدت نفسي أفكر بطرحها في السياق السوري الذي يحتاج أن يخرج من مفاهيم السجين والسجان والضحية والجلاد، وأن يصرّ كما أصر رغيد على خلق هوية جديدة من إرادة ذاتية داخلية خارج ما صمّمه كيان الاستبداد.

ولأني من فترة أفكر بالحبس الزماني، فقد وجدت أن كلمات رغيد الططري تؤكد لي أهمية إرادتنا في إعادة تعريف الأشياء واستعادة هويتنا المخطوفة. وجعلني رغيد أفكر أن أربعاً وخمسين سنة كانت يوماً واحداً طويلاً يُعاد تكراره. أي إنه بمقدورنا، إن استطعنا، أن نستعيد هويتنا الذاتية. أن نضغط المأساة السورية والحقبة الاستبدادية في يومٍ واحد لا يحدد هويتنا الحضارية العريقة، الممتدة آلاف السنين، ولا يدمغنا بالمأساة ولا يختزل وعينا إلى مشاعر الضحية. بل بإمكاننا، كما فعل رغيد، أن نرى المعنى العميق للصبر في سياق التجربة التي تنتج عن عصيان القانون الظالم، وأن نرى أنفسنا عائدين إلى الزمن. أو كما قال هو في آخر مقابلته إن أجمل شيء في حياته الآن هو ملاحقة ضوء القمر والنظر عالياً إلى النجوم.

وأمام هذا كله، فنحن الآن أمام مفترق طرق وعندنا أكثر من فرصة للعودة لحركة التاريخ واستعادة الزمن الضائع ومراجعة أخطائنا أيضاً. إن الانتصار على أبدية الأسد وإعادة الإعمار ليست مقتصرة على شوارعنا وبيوتنا وأحيائنا، وإنما تعني عودتنا إلى حركة الزمن. أي أن نستثمر في تعافي ذواتنا بعد خروجنا من ذلك اليوم الموقوف، لاسترداد مساحات الود والثقة بيننا. وستكون من علامات انتصارنا حالياً أن نخرج فعلاً من ثقافة الأذى اللفظي والجسدي وثقافة الوشاية والتقارير إلى ثقافة التراحم والصدق والعدل. هذه اللحظات التي انعتقنا فيها من حصار الزمن وعودة بعض من نحبهم ورثاء الذين رحلوا منهم تعطينا فرصة لنعيد إنتاج ثقافة تضع كرامةَ الإنسان والرحمة به أولوياتٍ أمنيةً لأنها هي التي تؤسس لمجتمعات متماسكة. ونحتاج إلى فتح قلوبنا وعقولنا حتى نكون قادرين على تلقي نعمة الانفلات من كيانٍ أمسكَ بنا حتى لا نرى حافة الغد. وإنها لمعجزة أن نرى أنفسنا فعلاً على حافة الغد وأن نكتشف أن الصبح فعلاً صار قريباً.

اشترك في نشرتنا البريدية