"سوريا الأسد".. السجن كائناً حياً

سقط النظام بسقوط سجنه. سقط سجن الأسد لا واقعاً فقط، إنما عن أكتافنا وأرواحنا التي كانت ترزح تحت ثقله منذ أربعة وخمسين عاماً مضت.

Share
"سوريا الأسد".. السجن كائناً حياً
حوّل نظام الأسد سوريا إلى دولة سجنية | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

"يوم الأَحد هو أوَّل الأيام في التوراة، لكن الزمان يغيِّر العادات: إذ يرتاح ربُ الحرب في يوم الأحدْ". صدقت نبوءة محمود درويش في قصيدته "في البيت أجلس"، وارتاح رب الحرب السورية يوم الأحد. وضعت الحرب أوزارها وسقط نظام الأسد صباح الثامن من ديسمبر 2024، عند تمام الرابعة فجراً بتوقيت دمشق، الثانية فجراً في بلاد اللجوء والشتات الأوروبي. ومع فتح أبواب سجن صيدنايا العسكري، اقتحمت زوجتي الغارقة بدموعها غرفة نومنا لتوقظني. كنت طلبت منها إيقاظي مع فتح أبواب هذا السجن، وراهنتُ على فرضيةٍ آمنتُ بها في دراستي نظام الأسد وهي أنه سيسقط مع فتح أبواب سجونه لا بدخول قصره الرئاسي. فتح الثوارُ أبواب سجن صيدنايا وسقط الأسد، وسقط معه سجن الإبادة والأبد. سقطت أسطورة الموت الصامت في الدولة السجنية التي جثمت على صدور السوريين أكثر من نصف قرن.

قبل هذا الأحد بسنواتٍ طويلةٍ في منتصف التسعينيات، كنت تلميذاً في المدرسة الإعدادية بمدينةٍ شبه صحراوية تبعد عن دمشق أكثر من ستين كليومتراً إلى الشمال الشرقي. كان أبناء جيلي مشغولين بتدخين السجائر المهرّبة ومطالعة المجلات الإباحية الأجنبية. شغَلنا العالمُ خارج حدود هذه البلاد التي كنا نحيا فوق أرضها، أي سوريا. تداولنا عشرات قصص التطور والتقدم التي لا نسمع بها إلا من برنامجين تبثّهما القناة التلفزيونية الأولى الرسمية أو "قناة البرنامج العام". كان موفق الخاني، وهو لواء طيار متقاعد، يُقدّم البرنامج الأول بِاسم "من الألف إلى الياء". وكان محمد توفيق البجيرمي، وهو مدرسٌ في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة دمشق، يُعِد ويُقدّم البرنامج الثاني "طرائف من العالم". مثّل البرنامجان نافذةً صغيرةً تطلّ من صندوق سوريا المغلق إلى خارجها.

عنفوان المراهقة لم يسمح لنا أن نكون أبناء هذه البلاد البالية. تداولنا عشراتِ الأساطير عن قوة دولتنا ووقار رئيسنا الذي سُمّي "الأب القائد" حافظ الأسد. الرئيس الذي يدّعي مؤيدوه أنه أجلس وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر ساعاتٍ دون حراك في مكتبه. يقال أيضاً إن كيسنجر خرج بعدها مبهوراً بذكاء الرئيس الأسد وحنكته ومحملاً بيقين أن لا سلام في العالم بلا "سوريا الأسد".

كلما أشعل أحدُنا سيجارةً أجنبيةً مهرّبةً كان يقول يا ليتها سيجارة حمراء طويلة محلية الصنع، ولكن من تلك السجائر "المعدة للتصدير". استمر يقيننا أن أفضل أنواع السجائر في العالم يُصنع في سوريا، ويُصدّر باسم "الحمراء" ويباع في المناطق الحرة في المطارات، ويُدمنه المشاهير من ممثلين وفنانين. مُني سوريون كثيرون بصدمةٍ قاسيةٍ يوم دفعتْ بهم بلادهم للعمل في دول الخليج العربي واكتشفوا زيف تلك الحكايات وتبينوا أن "الحمراء المُعدة للتصدير" ما هي إلا خرافةٌ رددناها سنوات.

حوّل نظام الأسد سوريا إلى دولةٍ سجنيّة تقوم على اعتقالِ المواطن المعارض وخلقِ سجنٍ واسع، خارج جدران الزنازين، زجّ به السوريين جميعاً. امتدّت السجون الأسدية على الجغرافيا السورية مشكّلةً علاقةً فريدة بين السوريين والسجن تتعدد فيها أطوار السجن. أصبح السجن رمزاً للحياة والموت والغياب والحضور والمعاناة والمعنى في آن واحد. تتضح معالم هذه العلاقة بتتبع تحليل الأثر النفسي والاجتماعي للسجن، وبوضع تعريفٍ خاص بسجن الأسد يأخذ من تعريف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ويوسّعه بما يتناسب مع السياق السوري. ففوكو في تعريفه يتحدّث عن "الحبس" حقيقةً لا "السجن". فمعنى الحبس الانضباطي بمفهوم فوكو وإن كان موجوداً في سجن بسوريا إلا أنه قاصرٌ عن استيعاب دور السجن في حقبة نظام الأسد. الحبس في السجون الأسدية أداةُ تنكيلٍ وترهيبٍ للمجتمع كله داخل السجن وخارجه، ومظهرٌ من مظاهر سيادة الحكّام وجبروت بطشهم كالإعدامات قديماً في أوروبا. فإذا كان الحبس عند فوكو هو الانتقال من القوة القمعية المتمثلة بالإعدام والتعذيب علناً تعبيراً عن السيادة، إلى الحبس في السجون لخلق ذاتٍ جديدة، فإن السجن في سوريا جمعَ الأمرين معاً وكان أداةً للحكم داخل السجن وخارجه.


لم يعلّمنا تاريخ المدارس ولا الكتب المتاحة في المكتبات العامة الكثيرَ عن سوريا. بلادٌ تتوسط العالم ولها حضارة تمتد آلاف السنين. عاصمتها دمشق هي الأقدم في التاريخ، إلا أنها رزحت بعد سنواتٍ طويلةٍ من العز والفخر والقوة تحت "احتلال عثماني" لأكثر من أربعمئة عام، وتخلصت منه بالتعاون مع قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. تعاونٌ انتهى بالاستعمار الفرنسي للبلاد بعد معركة ميسلون سنة 1920، ثم تخلصت القوى الوطنية من الاحتلال الفرنسي يوم 17 أبريل 1946 لتدخل البلاد مرحلة الحكم الوطني المدني.

لم يطل الزمن حتى جاء انقلاب قائد الجيش السوري حينها حسني الزعيم يوم الأربعاء 30 مارس 1949، الذي أطاح بالرئيس شكري القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم، وفتح الباب لسلسلةٍ طويلةٍ من الانقلابات العسكرية. شهدت فترة الخمسينيات كثيراً من التغييرات السياسية المفصلية. انهارت قيم فترة الاستقلال، وجذبت الأحزابُ انتباه الطبقة المثقفة السورية. وفي الحبس السياسي أعاد المهزمون في الانقلابات تشكيل صفوفهم ليعودوا إلى الحياة السياسية لحظة الإفراج عنهم. ثم واجهت سوريا تحديها الأول بعد الاستقلال، إذ أُعلن عن الوحدة بين سوريا ومصر سنة 1958.

جاء الانفصال بعد ثلاثة أعوامٍ لأسبابٍ اختصرها رئيس الحكومة السورية سنةَ 1961 مأمون الكزبري رداً على سؤال صحافيٍّ فرنسيٍّ، في غياب الحريات العامة وتغوُّل القبضة المخابراتية التي جعلت الأب يخاف من ابنه والأخ يخاف من أخيه. إلا أن فكر الرئيس جمال عبد الناصر عاد بعباءة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي شكّل وصوله إلى السلطة التحدي الثاني الذي واجه البلاد في الثامن من مارس سنةَ 1963. ويسمّي الباحثُ السوري رضوان زيادة هذه المرحلة "الجمهورية الثالثة" في كتابه "السلطة والاستخبارات في سورية" الصادر سنةَ 2013. جمهوريةٌ جاءت بشعار "تخليص الفلاحين وصغار الكسبة والعمال من ظلم الإقطاع والنظام البرجوازي"، بحسب أدبيات الحزب الذي مال هو نفسه عن الطريق القويم وفقاً لأدبياته. "فصحح" حافظ الأسد المسيرة سنةَ 1970 وتسلمّ السلطة حتى وفاته في العاشر من يونيو سنةَ 2000. قضى حافظ الأسد ثلاثين عاماً على رأس السلطة بهدف تصحيح المسار، ثم ورّث سوريا أرضاً وشعباً لابنه بشار الأسد ليصير رئيساً لها حتى 8 ديسمبر 2024.

تحتل السجون مساحةً شاسعةً من الفضاء العمراني السوري. تراها عند بوابات المدن وأطراف الساحات العامة وبجانب الطرقات الرئيسية وفوق التلال المطلة على المدن. وتمثل الفروع الأمنية نقاط نفور ورعب مزروعة في أجساد المدن، قرب الجامعات أو الساحات العامة، وبأقلّ تقدير قرب الطرق الرئيسة التي يعبرها السوريون في طريقهم إلى العمل ذهاباً وإياباً، مثل الحال في دمشق. لو رسمنا خريطة سوريا وحاولنا وضع نقطة في مكان كل فرع مخابرات لغرقت الخريطة تحت النقاط حقيقةً لا مجازاً.

أعيد تصميم المدن السورية لتكون مساحات قابلة للإغلاق بسهولة. فلو قررت الأجهزة الأمنية إغلاق دمشق، على سبيل المثال، فلا تحتاج إلا لنشر حواجز عند بوابات تلك الفروع، فوق المتحلق الجنوبي أهم طرق النقل بين دمشق وضواحيها وريفها. ويمكن للمخابرات الجوية إغلاق المدخل الشمالي الشرقي والجنوب الغربي، والحرس الجمهوري يمكنه إغلاق المداخل الغربية والجبلية من جبل قاسيون، وتغلق إدارة المخابرات العامة المداخل القادمة من القدم ومنطقة كفرسوسة وطريق مطار دمشق الدولي، وبهذا تصبح دمشق مدينةً مغلقة ومعزولة. وهذا ما وقع بالفعل أثناء الأحداث اللاحقة لانطلاق الثورة السورية سنة 2011.

يفسّر انتشار أبنية السجن ومراكز التوقيف سبب استمرار تأثيرها القمعي الاجتماعي والنفسي. يتداول السوريون في سرّهم حكايات السجن أداةً للموت والتعذيب والخوف، فيجدون بناءه ماثلاً أمامهم على الدوام. أبنيةٌ ضخمةٌ محصنةٌ رماديةٌ منتشرةٌ في كلّ بقعةٍ وسط المدينة وعلى أطرافها. فإذا نظرنا إلى شعبة المخابرات العسكرية، نرى أن لها أكثر من عشرين فرعاً بمراكز توقيفٍ مختلفة السعات في عموم الأراضي السورية. يصنف فرع فلسطين رقم 235 بأنه جهاز مخابرات بحدّ ذاته، فللفرع حوالي ثمانية مكاتب في مختلف الاختصاصات. يستقر هذا الفرع مع فرع الدوريات في الجنوب الشرقي للعاصمة خلف كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية على المتحلق الجنوبي، أحد أهم الطرقات التي تُخدم المدينة وريفها.

التنافس العالي بين أجهزة الأمن السورية لإثبات الولاء للرئيس والنظام الحاكم لم يمنعها من التعاون في قمع السوريين جغرافياً. فإذا كانت شعبة المخابرات العسكرية تحتل تلك البقع العمرانية وسط دمشق وعلى أطرافها، فإن المخابرات الجوية تطوّق بفروعها دمشق من كل الاتجاهات وتحتلّ قلب العاصمة. أما خارج دمشق، فلكلّ من أجهزة المخابرات السورية الأربعة وإدارة الشرطة العسكرية فرعاً أو مفرزةً في كل مدينة سورية. إضافة للفروع الأمنية ومراكز الشرطة العسكرية، يوجد في كل عاصمة للمحافظات الأربع عشرة سجنٌ مركزي مدني، يخصّص منه جناحٌ لسجناء الأجهزة الأمنية المحظوظين.

أما السجناء الأقلّ حظاً فيُرسلون إلى أحد السجون السرية في الألوية أو الأفواج العسكرية ذات الطبيعة الأمنية، واشتهر منها "الطاحونة" التابع للحرس الجمهوري، والفوج 555 مظلي التابع للفرقة الرابعة، أو يُرسلون إلى أحد السجون العسكرية. وهي بحسب التسلسل التاريخي سجن المزة العسكري الذي يستقر فوق جبلٍ يطلّ على دمشق، ودخل الخدمة سنة 1949 وبقي محافظاً على دوره القهري والسياسي حتى إغلاقه في سبتمبر سنة 2000.

يليه بالتاريخ ويسبقه بالسمعة السيئة سجن تدمر العسكري الذي دخل الخدمة رسمياً صيف 1980 وخرج منها سنة 2001. احتلت السجون أشهر المدن السورية التاريخية، وبات السوريون يعرفون مدنهم بسجنها لا بتاريخها وآثارها. مثّل سجن تدمر جحيم التجربة السجنية السورية قبل أن يستلم سجن صيدنايا العسكري الراية منه. سجن صيدنايا كتلة عمرانية حمراء تشبه شارة شركة السيارات الشهيرة مرسيدس وبناء آخر على شكل حرف "إل" الإنجليزي أبيض اللون، يقع فوق تلة قرب الطريق القادم من مدينة صيدنايا. افتُتح بناء سجن صيدنايا الأحمر سنة 1987 ليكون سجناً للسياسيين والموقوفين الأمنيين، ثم أُنشئ البناء الأبيض بين سنتي 1998 و1999 ليصير سجناً للعسكريين القضائيين. مثّل صيدنايا عقب اندلاع الثورة السورية سجنَ تدمر المعاصر، إذ خضع السجناء فيه لبرامج تعذيب مميتة.

كان السجنُ السوري بأنواعه، من مراكز توقيف الفروع الأمنية والسجون المدنية والعسكرية والسرية، مركزَ قتلٍ وقهرٍ لغير المرغوب بهم. استخدم النظام السجون كما استخدمت الكنيسة في أوروبا مراكز عزل مرضى الجذام. يقول فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" الذي نُشرت النسخة العربية منه سنةَ 2006: "إذا كان المريض بالجذام قد أُقصيَ من الحياة ومن العيش وسط الجماعة الكنسية، فإن وجوده يكشف مع ذلك عن صورة الإله، لأن وجود الداء واختفاءه كليهما يكشفان عن غضبه ورحمته". الإله هنا هو النظام السوري، الذي يعطي السوريين انطباع الرحمة والقسوة باستعراض هذه المراكز التي تنضح بين حينٍ وآخر أعداداً كبيرة من المعتقلين المحطمين جسدياً ونفسياً. وأغلبهم معتقلون سياسيون معزولون خلف الأسوار العالية للفروع الأمنية أو في السجون البعيدة المعروفة.


استند حكم الأسد منذ سنة 1970 إلى إبراز حضور السجن جغرافياً أمامَ السوريين، وهي آلية حكمٍ أسمّيها "نموذج الدولة السجنية"، أي تحويل سوريا إلى سجنٍ كبير لكل السوريين بالتخويف من السجن أو بالسَّجن. ولهذا النموذج صفات وعوامل تساعد في استمراره. فالسجن حاضرٌ بالأجهزة الأمنية ومراكز التوقيف والسجون العسكرية والمدنية ومفردات هذه المؤسسات، من أفرادٍ وآليات وأبنية ومساحات في الأرض السورية.

الدولة السجنية نموذج يعتمد على السجن أداةً سياسيةً ثقيلةَ السطوة، تستبعد غير المرغوب بهم من السلطة الحاكمة بإبقائهم في السجن حتى الموت، كما فعل حافظ الأسد مع رفاقه الذين انقلب عليهم سنة 1970، وكما فعل بشار الأسد مع الثوار الرافضين بقاءه في السلطة بعد 2011. تطور هذا السجن الحي ليصير أداةَ قهرٍ اجتماعي، أي وسيلةَ حُكمٍ بالقهر والخوف تطال كلَّ أطياف المجتمع بدرجاتٍ متفاوتة. هذا الحضور الكبير للسجن في أجساد المدن السورية وحتى في بعض الحالات في أجساد السوريين أنفسهم بالتعذيب الشديد الذي يترك أثاره بوضوح على المعتقلين السابقين، إضافةً إلى حضوره السياسي والاجتماعي الواضح، نتج عنه حضورٌ كثيف للسجن في أذهان السوريين وفي شعورهم الداخلي.

أشار مؤرخ عائلة الأسد باتريك سيل إلى شكل الدولة السجنية في كتابه "الأسد - الصراع على الشرق الأوسط" المنشور سنة 1997، بقوله: "وكان بوسع المسافر المتجوّل في المحافظات السورية أن يكتشف وجود ثلاثة رجالٍ ذوي أهمية في عاصمة كل محافظة. فأولاً في مسائل البروتوكول هناك أمين فرع الحزب الذي كان على رأس المنظمة الحزبية، وهو أداة القيادة القُطْرية وبالتالي أداة الأمين القطري. ثم المحافظ وهو مثل الحاكم في فرنسا، يعني ممثل الحكومة المركزية، وبالتالي ممثل رئيس الجمهورية. ثم مدير الأمن السياسي، وهذا كان في الغالب الأعم عقيداً علوياً كان دوره كشف النشاط التخريبي والتعامل معه، وهذا أيضاً كان تسلسله القيادي يؤدي في نهاية المطاف إلى [حافظ] الأسد". يضاف إلى كل ما سبق الأجهزة الأمنية التي أغفلها "سيل" ومنها الاستخبارات العسكرية وإدارة أمن الدولة "المخابرات العامة" والمخابرات الجوية والتي تمثل بمجملها امتدادَ السجن السوري. كل هذه الفروع لها مراكز توقيف مؤقتة تغذي مراكز التوقيف في الفروع المركزية بالعاصمة دمشق، التي تُصدّر نزلاءها إلى سجون عسكرية أو مدنية أو سرية.

كانت الدولة السجنية منظومةً قائمة على إبقاء السوريين في فضاءٍ كل مقوماته سجنيّة، تطبيقاً لمنطق اعتقال المواطن المعارض بحسب توصيفات المخابرات. استناداً إلى لقاءات مع ضباط سوريين في نظام الأسد، تُصنِّف المخابراتُ المواطنَ السوري إيجابي وحياد إيجابي وحياد وحياد سلبي وسلبي معادٍ أي معارض. فالمواطنون الذين يندرجون تحت قسمَي الإيجابي والإيجابي الحيادي ينخرطون في الدولة ووظائفها، أما السلبيون والحياديون السلبيون فهم غالباً المعارضون والمجتمعات الحاضنة لهم، مثل حماة وأهلها الذين كانوا حاضنة للمعارضة في الثمانينيات، ومثل معظم المجتمعات السنية التي لا تُظهر ولاءً للنظام. يبقى هؤلاء مراقبين دائماً ومهدّدين بعقوباتٍ عشوائية وإن لم يفعلوا شيئاً. مثلاً في أحداث الثمانينيات بين نظام الأسد والإخوان المسلمين، اعتُقل آلاف من أهالي حماة وكان بعضهم من البعثيين وبعضهم من المُخبرين وقُتلوا تحت التعذيب عشوائياً فقط لأنهم من حماة. فلا يستهدف النظام الأسديّ المعارضين له فقط، ولا يقتصر أذاه "على المعتقلين السياسيين بل يمتد إلى جميع أنحاء المجتمع"، وفقاً لسلوى إسماعيل في كتابها "حكم العنف: الذاتية والذاكرة والحوكمة في سوريا" المنشور سنة 2018.

استناداً إلى تحليل سلوى إسماعيل للسجن أداةَ حكم، وإلى ما ذكره سيل في معرض تأكيده سطلة حافظ الأسد المباشرة والعنكبوتية على الأرض، فقد كانت سوريا سجناً كبيراً منذ سنة 1970. أعضاء الحزب الحاكم فيها مكلفون بمراقبة المجتمع ومراقبة بعضهم بعضاً ورفع تقارير دورية للجهات الأمنية، فيكونوا مُخبِرين متفرغين لهذه المهمة. تتهم التقاريرُ الأمنيةُ الخصومَ أو المقرّبينَ من المعارضين أو من أصحاب الرأي المخالف بالعمالة أو عدم الوطنية، فيزجّ ذلك بهم جميعاً في سجون النظام. كانت أبنية الإدارات الحكومية وغيرها من الأبنية الخدمية تُسخدم سجوناً في حالة الضرورة، كما حدث في حماة فترةَ الثمانينيات وفي معظم المحافظات السورية عقب انطلاق الثورة السورية سنة 2011.

تداخل الهرمية الإدارية والاختلاط الوظيفي بين حزب البعث الحاكم حينها ومؤسسات الدولة السورية سمح لأجهزة الأمن السيطرة على المجتمع والدولة بجميع مفاصلها، لا سيما مع أعداد العاملين الكبيرة في تلك الأجهزة. لتحليل الصورة السابقة يمكننا بحث ارتباطات تلك الأجهزة الأمنية إدارياً وحضورها جغرافياً. تتبع هذه الأجهزةُ المخابراتية مكتبَ الأمن الوطني "القومي" التابع لحزب البعث العربي الاشتراكي. أما إدارياً فالأمن السياسي الذي ذكره باتريك سيل في كتابه يتبع رسمياً وزارةَ الداخلية في الحكومة السورية، إلا أنه يفوق الوزارةَ قوةً وحضوراً على الساحة الأمنية السورية. أما باقي الفروع الأمنية فجميعها تتبع إدارياً القيادةَ العامة للجيش والقوات المسلحة، وتبرز قوتها وتخفت بناءً على مجموعة متغيراتٍ سياسية داخلية أو خارجية أو تحولاتٍ في القيادات العليا لهذه الأجهزة المخابراتية. لكنها جميعاً تدين بالولاء للرئيس القائد العام للجيش والقوات المسلحة.

بناءً على ذلك يمكن عدّ الجيش قوةً حزبيةً خالصة. كان القائد العام للجيش والقوات المسلحة يشغل منصب الأمين القُطْري لحزب البعث العربي الاشتراكي ومنصب رئيس الجمهورية في آن، ويليه عسكرياً وزير الدفاع الذي يشغل منصب عضو اللجنة المركزية للحزب وهي أعلى سلطة حزبية. ثم يأتي قادة الفيالق العسكرية ويشغل فيها كل قائد فيلق منصب أمين فرع للحزب، فكلُّ فيلق فرعٌ حزبي. أما الفرق العسكرية فتمثل شُعباً حزبية وفيها ثلاث فرق حزبية تمثل الألوية والإدارات العسكرية في الفرقة. يستمر التمثيل الحزبي داخل الجيش وصولاً إلى السرايا العسكرية التي تمثل حلقة حزبية تتابع اجتماعاتها الأسبوعية كحال الفروع والشُعَب، وترفع تقاريرها الدورية لقيادة الحزب في الجيش. ما ينطبق على الجيش ينطبق على المؤسسات الأمنية التابعة له. هذه الحالة الحزبية في المؤسسة العسكرية حوّلتها إلى مؤسسة عقائدية ومساحة نشاط لمخبري الحزب. فالجميع يعمل مخبراً على الجميع وتبقى تلك التقارير في ملفات أولئك الضباط في شعبة المخابرات العسكرية حتى يأتي الوقت المناسب لاستخدامها ضدّهم للتخلص منهم أو ابتزازهم.

تحليل مفهوم الدولة السجنية واختلاط العلاقة بين الحزب الحاكم والدولة والجيش يمكن إدراكه بوضوح بسيطرة حزب البعث على المخابرات والجيش. فوصول البعث للسلطة كان امتداداً لسيطرة الجيش على الدولة، إلا أن إدارة هذه الأجهزة باتت حصراً على البعثيين. وتحولت الولاءات في الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة. إذ بدا الحضور العلوي في أعلى هرم السلطة واضحاً مع وصول حافظ الأسد للسلطة، وتطوَّر هذا الأمر مع بشار الأسد. أدار المخابرات الجوية منذ تأسيسها وحتى سقوط نظام الأسد ضباط علويون، وخضعت المخابرات العسكرية منذ سنة 1974 لضباطٍ علويين.


معرفة "سوريا الأسد" تبدأ من سجونها. هذا ما قاله لي صديقي الراحل أحمد حمدو المحمود يومَ كنّا في سجن صيدنايا صيف سنة 2003. خدم أحمد سنواتٍ طويلة بفرع الاستطلاع التابع للاستخبارات العسكرية في لبنان، واعتُقل سنة 1988 بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، ومات في معتقله سنة 2014. لفتني إلى كلام محمود ما فيه من خلاصة خبرته العسكرية وخبرة الضباط الآخرين الذين زجّ بهم الأسد في السجون خوفاً من توجههم السياسي المعارض له. سُجنتُ في صيدنايا منذ مارس 2002 حتى أبريل 2004، وأذكر جيداً أنَّ إدارة السجن سنة 2004 سمحت لنا بإدخال الصحف الحكومية. أتاحت حينها صحيفة تشرين الرسمية مساحةً للكتابة لبعض الأقلام اليسارية ذات التجربة السجنية السابقة، فقرأنا ذات مرة في صفحتها الثقافية مقالاً يتحدث عن "سجن صيدنايا" تحت رمزية مصحّ نفسي وعقلي يحتلّ بقعةً جغرافية تشبه منتجعات الاستشفاء البعيدة عن المدينة. يبعد المصحّ المزعوم عن العاصمة أكثر من ثلاثين كيلومتراً، وهي المسافة ذاتها التي تفصل سجن صيدنايا عن دمشق. ولذاك المصحّ كل مقومات السجن الذي كنا فيه. كان المقال يتحدث عن "مصحّنا"، أي عن سجن صيدنايا العسكري.

تطورت علاقتي مع السجن بعد خروجي منه في أبريل 2004. صرتُ أنتمي إلى عائلة سوريّة كبيرة هي عائلة المعتقلين السابقين. وبات السجن نسباً أسرياً قدرياً لا سلطة لي في اختياره مثل العائلات التي ولدنا فيها حسب تعبير المعتقل محمد برو. أمسى تصوّري عن السجن يخرج عن حيّزه العمراني المادي ليصير في عقلي شيئاً أكثر حيوية وحضوراً. أفترض اليوم أن السجن السوري أثبت بالتجربة أنه كائنٌ حيّ رعاه النظام. كان السجن خليةً نهمةً تحيا على السوريين ضحايا وجلادين. تتغذى عليهم وتلفظهم خارجها يوم موتهم فقط. كان السجن كائناً حيّاً يمثل عامود النظام الفقري في قهر السوريين حفاظاً على بقائه في السلطة إلى الأبد. ويوم يُكسر هذا العامود يسقط النظام، وهذا ما حدث صباح يوم الأحد 8 ديسمبر 2024.

يرى ميشيل فوكو أن العقاب في أوروبا نهاية القرن التاسع عشر أصبح الجزء الخفي في العملية الجزائية. المكان الذي تختفي خلف جدرانه هذه العمليات العقابية هو السجن وهو المكان الأسوأ والأسود في جهاز العدالة، والذي تُنظم فيه سلطة العقاب خفية ولا تجرؤ على الخروج علناً.

لا تتطابق تطلعات فوكو إلى السجن الأوروبي نهاية القرن التاسع عشر مع التجربة السورية. لذا نحتاج إلى تعريفٍ خاص بالسجن السوري والبحث عن مطابقة هذا السجن مع تجارب سجنيّة أقدم، ربما نعود معها إلى ما قبل القرن التاسع عشر. لا سيما إذا ما انتبهنا إلى أنَّ العملية العقابية على الجسد السوري باتت جزءاً من وعي السوريين، إذ صار السجن يحمل تعبيرات خاصة سنأتي عليها لاحقاً، وكلها تشير إلى السجن الذي بات شاغل الناس.

تتطابق مشاهد التعذيب والقتل الجماعي وحرق جثث الضحايا، حتى الأحياء منهم، والتسلية بتعذيب المعتقلين مع نماذج العلاقة بين السلطة والمواطنين في حقبة القرون الوسطى. إذ مارست السلطة قهرها على الجسد مباشرة، فقد كانت آنذاك لا تعترف بقيمة الإنسان ومقوماته لا سيما الحرية. اشتملت العلاقة بين سلطة نظام الأسد والمواطنين أيضاً على مفهومٍ ملتبس لتعريف العقاب، خصوصاً في المسائل ذات الطبيعة السياسية.


تؤكد الصورُ القتلَ في السجون تعذيباً بوحشيةٍ مثّلت نوعاً من العقاب الجماعي للسوريين في السجن وخارجه. تُظهر مقاطع مصورة كثيرة عمليات تعذيب وقتل سوريين من مختلف الفئات العمرية والدينية ومن كلا الجنسين. صُوَرُ "قيصر" سرّبها عسكري منشق عن النظام السوري كان يعمل في قسم التوثيق الجنائي في الشرطة العسكرية، وحمل الاسم المستعار "قيصر" ليخفي هويته حمايةً لذويه وأهله ونفسه.

وبعد سقوط نظام الأسد، أظهرت صورٌ من مشفى حرستا العسكري في دمشق رجالاً قضوا تحت التعذيب في سجون الأسد قبل سقوطه بأيامٍ قليلة. بينهم الناشط السوري المعروف مازن الحمادة الذي احتال عليه النظام ليعيده إلى سوريا من مكان لجوئه في أوروبا، قبل أن يقتله تحت التعذيب في سجونه التي خبرها حمادة سابقاً، وكانت سبب هروبه إلى أوروبا عابراً البحر. لكنه عاد لينقذ أبناء أخته الذين اعتقلوا معه سابقاً.

العقابُ الجماعي والنفسي والاجتماعي الذي يرتكبه السجن هو نتيجةُ دوام التعذيب الجسدي المسبّب للموت خلف جدران تلك السجون التي ازداد موقعها في العقل السوري عمقاً واتساعاً. بات السجن بهذه الحالة حيّاً وفعّالاً يشارك في بناء إرادة الإنسان السوري، وحاضراً بقوة في يوميات السوريين وحديثهم سرّاً وعلانيةً منذ سنواتٍ طويلةٍ مضت، بدليل مسارعة السوريين إلى سجن صيدنايا في الساعات الأولى لإعلان سقوط الأسد وإخراج المعتقلين.

"يستهدف نظام الاعتقال المجتمع ككل وليس المعارضين له فقط". تثبت سلوى إسماعيل هذه النتيجة بمقارنتها بتجربة الاعتقال السياسي في الأرجنتين، الذي يشبه الواقع السوري. طال الأذى محيط المعتقلين سياسياً في سوريا، فعانى الوالدان من المراجعات الأمنية أو الزيارات المفاجئة لعناصر المخابرات، وغالباً لم يُسمح بإخوة السجين وأخواته بالعمل في أي مؤسسةٍ حكومية. شكّل منع السفر أحد أشكال التضييق على المعتقل بعد خروجه وأحياناً على أهله وأقاربه من الدرجة الأولى. خضع الأصدقاء والجيران إلى التضييق والمراقبة ما انعكس كراهيةً للمعتقل وذويه لأنه المتسبّب بكل هذه القيود. نجح نظام الاعتقال بتحويل السجين السياسي إلى نقطةٍ ضعيفة ومؤرِّقة في محيطه. وتحوّلَ نتيجةَ ضعفِه إلى مشجبٍ يُحَمّله معظمُ من هم في محيطه وزرَ تعاستهم ومعاناتهم من نظام القمع.

النماذج العلنية للتعذيب والقتل بحق المخالفين من السوريين ليست حكراً على فترة ما بعد ثورة 2011. الفارق أن تجربة المواجهات الأقدم بين النظام والسوريين في السبعينيات والثمانينيات غابت عنها عدسات التصوير والبث في مواقع التواصل الاجتماعي التي نشهدها اليوم. إلا أن المساحات العامة في المدن السورية حُولت إلى أماكن لتعذيب المعتقلين أو لدفن القتلى.

حضور السجن متجذرّ على المستوى السياسي والاجتماعي. يمتاز حضوره بالديمومة. لذا يتفوق على المجزرة في القدرة على التأثير القهري رغم قسوة الأخيرة. من هنا يمكن وصف السجن بأنه "إبادة مفتوحة" لا سيما في أوقات المواجهة بين النظام والمجتمع. المجزرة فعلٌ قصير العمر، إلا أن السجن مديد الحضور والأثر ويمثل مجزرةً مفتوحة. القتل يبقى قتلاً وإن كان بالجوع أو المرض أو التعذيب المستمر. إلا أن الموت الجماعي المكثف زمناً يمثل ثقلاً في الذاكرة السياسية والأدبية للشعوب. لذا نرى أن معظم الروايات السجنية التي تتناول فترة الثمانينيات تُدخل بطريقة أو بأخرى مجزرة حماة في سياق سردها الروائي.

تتغير كثافة حضور السجن بحسب الواقع السياسي. فهو أداة سيطرة وتحكمُّ بالمجتمع، حتى سُمّيت البلاد "سوريا السجن الكبير". يقول الباحث السوري ياسين الحاج صالح إن هذه الاستعارة الأدبية لتعبير "السجن العملاق، أو السجن الكبير، ابتُكر بعد إطلاق سراح العديد من المعتقلين السابقين". فخروجهم من السجون الصغيرة هو انتقال من زنزانةٍ إلى أخرى أكبر، عدا عن أنه خروج بعفو رئاسي، أي هيمنة بشعور أنك لست خارج السجن استحقاقاً إنما لأن الرئيس الأبوي الرحيم قد تكرّم بالعفو عنك.

شكَّل النظام السوري سوريا لتكون سجناً، فلا يمكن للخارجين من السجن السياسي السَفر إلا بإذنٍ "عفو" يسمح لهم بالخروج من البلاد. وأي تصرف أو حركة تتطلب المراجعة الأمنية وكأنهم يطرقون باب الزنزانة لطلب الإذن للخروج إلى الحمام، ولكن خارج السجن يطلبون الإذن للزواج مثلاً أو العمل في مجال ما وهذا لا ينطبق في كثير من الحالات على المعتقلين السابقين فقط، إنما على فئة واسعة من السوريين.

كان التعذيب والعقاب يقومان على أجساد السوريين ضمن "العملية العقابية" بحسب تعبير فوكو والتي أخذت طور "العملية القهرية" بحسب تحليلنا للتجربة السورية. هي عملية شبه علنية وشديدة القسوة والهمجية ومميتة، كتلك التي كانت قائمة في حقب الحكم الديني. الفارق الإضافي هو أن القصاص في تلك الحقب كان في معظمه عقوبة جزائية تخص القضايا الجنائية أو الجنح. أما في سوريا فإننا نتحدث عن قضايا سياسية كالاختلاف بالرأي أو الموقف السياسي من النظام أو فقط لكون هذا المجتمع يمثل حاضنة شعبية للمعارضين كحالة حماة، فيعاقَب المجتمع الحاضن بمعظمه إما بالسجن أو بالانتظار. يترافق انتظار الأهالي مفقوديهم المغيبين قسراً مع ابتزاز شبكات الفساد المنتفعة من هذه الحالة التي أنتجها السجن، بما بات يُعرف في سوريا باسم "اقتصاد السجن". يتمثل هذا الاقتصاد بالمتاجرة بمصائر المفقودين أو بوعود وصول ذويهم لهم أو بمجرد زيارتهم هناك "خلف الشمس" أو "تحت سابع أرض" بحسب تعبير السوريين عن السجن.


تختلف أطوار السجن السوري. فتارةً هو قطعة من الجحيم ومساحة للموت الحتمي مثل سجن صيدنايا وتدمر، وتارةً يكون أكاديمية تنتج عشرات العقول اللامعة وتتيح الفرصة لتنمية معارف النزلاء بتداول الخبرات بين بعضهم بعضاً. هذا لا يعني أن تدمر في الثمانينيات لم يكن فرصة للدراسة وتطوير المهارات المتبادلة، إلا أنه كان جحيماً مستعراً. وهذا لا يعني أيضاً أنَّ واقع السجن في فترة السلم مثاليٌ يمكن مقارنته بمفهوم السجن العقابي الإصلاحي.

قابلتُ أكثر من مئة معتقل ومعتقلة، اتفق الأغلب على وصف السجن أنه "مقبرة"، تلك المساحة التي طالما كان "الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود". لذا فالمعتقلون المحررون، مع غياب القانون الواضح وحضور المحاكم بمسمّيات مختلفة وانعدام قانون مرجعي إلا مزاج القضاة والسَّجانين في توقيت إطلاق سراحهم، يصبحون مفردةً إضافيةً تضاف إلى مفردات السجن اليومية. مفردات تتمثل بعربات نقل السجناء التي تُسمّى "سيارات اللحمة" كونها عربات بصناديق معدنية مغلقة تماماً، وغيرها من المفردات التي تعزز قهر الإنسان السوري أمام جبروت النظام أو الدولة السجنية.

أمّا المجتمع فهو مبني على قمعٍ جسدي وتربوي وثقافي وإداري وجغرافي وبصري وسياسي، وهو بذلك "مجتمع سجنيّ". طُبّقت حياة السجن على السوريين سنوات طويلة، على أقل تقدير منذ أكثر من خمسين عاماً، حتى بات السجن جزءاً من طبيعتهم ويومياتهم ولغتهم. الحالة التي يمثلها السجن الحاضر بآلاف المعتقلين والمفقودين والمغيبين قسراً وآلاف الخارجين من التجربة السجنية بدرجات مختلفة خلقت مجتمعاً مقهوراً يشيع بين أفراده التملّق والمبالغة في تأليه القائد الأعلى رتبةً مخافةَ شرّه.

وبعد أي حراكٍ سوريٍّ تاريخياً تستحيل السجون السورية العسكرية والسرية والمدنية مساحاتٍ للانتقام من المتمرد ومَن يسانده، يقتلهم النظام فيها تحت التعذيب بهمجية. زاد ذلك خلل العلاقة بين أفراد النظام والسوريين، وتمايزوا بين يدٍ عليا لها جبروت الإله وقدرته على الإحياء والإماتة وبين يدٍ سفلى تنتظر ما تحكمه الآلهة عليها من استحقاق الحياة وعدمها.

أسدل تحويلُ السجن إلى كائنٍ حيٍّ يرهب السوريين ويرعبهم لبوسَ الألوهية على النظام السوري الذي "يحيي ويميت". تُرجمت هذه الحالة بصور القائدين الأب والابن وتماثيلهم والشعارات التي تتغنى بأبديتهما وأزليتهما وخلودهما. وهذا القهر الاجتماعي نتاج أداةٍ عنيفة حاضرة في الحياة السياسية السورية وهي السجن "كائناً حياً"، يدافع عن رأسِ النظام رمزَ الدولة كلها. فهو يدافع عن "سوريا الأسد" ويقوم بأعمال النظام التطهيرية والقمعية والقهرية.

كرسَ نظامُ الأسد العقليةَ المخابراتية السجنية التي ورثها عن النظم العسكرية التي سبقته في حكم سوريا. إلا أنه لم يسعَ لتأسيس كلية أمنية تخرّج الضباط المخّولين شغل مناصب قيادية في أجهزة المخابرات على اختلافها. كل القادة الأمنيين في سوريا مندوبون من الجيش، بتأكيد الدراسات والأبحاث الأمنية والمقابلات الميدانية التي أجريتها. الجيش يسيطر عبر آلية "الندب" على مفاصل الأجهزة الأمنية العسكرية والمدنية. يُخضع كل العاملين في هذه الأجهزة لنظام الجندية بكل تفاصيله من عقوبات وتصرفات. حافظتْ العقليةُ العسكرية الصارمة على ولاء هذه الأجهزة وتماسكها بمواجهاتها المتكررة مع السوريين دفاعاً عن النظام. المؤسسات المخابراتية السجنية، جندية المنهج، تسودها مبادئ عنيفة بطبيعة قمعية حتى في أوقات السلام. كان الجيش السوري مؤسسةً تعتمد في فلسفتها على مبدأ الطاعة العمياء للقائد، وهذا واقع السجن السوري وأذرعه الأمنية إذ تدار بمنطق الطاعة العمياء. تتكامل أجزاء المنشأة السجنية تكاملاً يعطيها نوعاً من الحياة الكلية والحركة الكلية، وهذا نتيجة الانسجام والعمل اليومي الذي تعتاد عليه هذه المؤسسة، فتصير كالجسد الواحد.


يمكن تسمية المعتَقلات السورية سجناً لا حبساً. بينما يقمع الحبس الفضاء المحيط بالإنسان، مثل الحرية والسفر ونمط الحياة والتواصل، يقهر السجن في سوريا جسد الإنسان السوري. تقول بسمة عبد العزيز في دراستها "ذاكرة القهر، دراسة حول منظومة التعذيب" الصادرة سنة 2014 إن ذلك يكون بتصميم عمليات التعذيب بمهارة "بحيث تجري في ظروف غير متوقعة، وبحيث لا يمكن الهروب منها أبداً … لا تتحكم الضحية في أي شيء منها، حتى جسدها وتصرفاتها وردود أفعالها. ما من شيء يمكن عمله وما من شيء قد يكفل لها قدراً من السيطرة على التعذيب".

قد يتسبب التعذيبُ العنيفُ والمستمرُ وقتاً طويلاً بإصاباتٍ جسدية تلازم السجين أبداً. ترى بسمة أنَّ هذا التعذيب يُنتج رابطة "تدميرية"، أي محاولة الضحايا الاحتفاظ بأي علاقة ودية مع أي كائن حي من أجل استرداد بعض السكينة. وغالباً ما تقتصر الخيارات على مصدر وحيد وقت التعذيب. فترى الضحية تعقد رابطة عاطفية قوية بجلاديها ومعذبيها. يتعدد الجلادون ويتغيرون باستمرار في السجن السوري، فتختلط العلاقة بين السجان والجلاد وتمتزج شخصية السجان والجلاد مع شخصية السجن. يجعل العلاقة الرضية بين السجين والسجن، فالأخير يمثّل النَسَب أو "العائلة"، ويمثل الجانب الإنساني الوحيد في حياة هذا السجين وقتاً طويلاً. يشمل الجانب الإنساني هنا باقي السجناء الذين يصبحون في الذاكرة جزءاً من ذلك الجسد، أي تلك المساحة وهي السجن والتي استحالت كائناً حياً.


استناداً إلى طبيعة السجن السوري القائمة على الحبس والمعاناة، والمختلفة عن طبيعة الحبس العقابية الإصلاحية، وإلى تحوله من مساحة احتجازٍ إلى كائنٍ حيّ يملك مقومات شخصية خاصة وأذرع انتشار وحضور بصري وسيل من الذكريات. فيبني علاقات اجتماعية مع الجسد السوري، أي المجتمع السوري، لذا يمكن أن نسمّيه بدقّة "السجن"، إشارةً إلى تجربة الاعتقال السياسي في سوريا.

ويُصبح المعتقلُ بمثابة المتوفى حتى يثبت العكس. إذ تمتد المعاناة في السجن لتشمل التعذيب والحرمان من العناية الصحية والحشر مع المئات في مساحات ضيقة، والحرمان من حقوق المحاكمة العادلة، والإخفاء، والقتل العشوائي، وحتى إخفاء جثة المعتقل بعد موته في مقابر جماعية سرية.

سقط النظام بسقوط سجنه. إلا أن السجن بأرشيفاته وجدرانه فجّر بين أيدينا، نحن السوريين، ملايين الوثائق والحكايات والتجارب المريرة. بات لزاماً علينا بحثها بعمق ودقة وكتابة قصّة السجون السورية وحفظها بكل تفاصيلها لتكون مركزية في بناء هويتنا الوطنية الجامعة، ولتكون عبرةً لشعوب أخرى، فلا يصيبها ما أصابنا من تجربة الموت الصامت والإبادة خلف تلك الجدران السميكة فوق تلال صيدنايا أو في صحراء تدمر أو قرب دمشق أو في أقبية كثيرة وسط مدننا. سقط سجن الأسد لا واقعاً فقط، إنما عن أكتافنا وأرواحنا التي كانت ترزح تحت ثقله منذ أربعة وخمسين عاماً مضت.

اشترك في نشرتنا البريدية