وانغاري ماثاي.. الكينيّة التي أعادت تعريف العلاقة بين البيئة والسياسة والحرية 

أفنت وانغاري ماثاي حياتها للدفاعِ عن حقوق شعبها في أرضهم وبيئتهم.

Share
وانغاري ماثاي.. الكينيّة التي أعادت تعريف العلاقة بين البيئة والسياسة والحرية 
تقاطَع النشاط البيئي مع النضال السياسي في فكر وانغاري ماثاي | خدمة غيتي للصور

افتُتح معهد وانغاري ماثاي للسلام والدراسات البيئية في أحد مباني جامعة نيروبي بكينيا سنة 2023، على مقربةٍ من الأماكن التي طالما دافعتْ فيها الناشطة وانغاري ماثاي عن الأشجار والنساء والمجتمع. يجسّد المعهد فكرةً طرحَتها ماثاي نفسها قبل وفاتها سنة 2011، حين تخيّلتْ فضاءً أكاديمياً يُزاوج بين المعرفة والعمل، وبين البيئة مسؤوليةً جماعيةً والسلام حالةً اجتماعيةً لا تنفصل عن العدالة.

أخلصتْ وانغاري ماثاي طيلة سنين عمرها للدفاع عن البيئة والمرأة في وطنها كينيا. فأسستْ حركة الحزام الأخضر سنة 1977 لحماية حقوق الأفارقة، لاسيما النساء في بلدانهم وأرضهم وفي بيئةٍ نظيفةٍ، مبتدئةً من كينيا. ثم نالتْ ماثاي عن نضالها الطويل جائزة نوبل للسلام سنة 2004، لتكون أوّل امرأة إفريقية تحصل على هذه الجائزة.

مع ذلك، لاتزال تجربة وانغاري ماثاي تُروى غالباً من منظورٍ مبسّطٍ ومحدود. وغالباً ما تُختصر ماثاي، في الأدبيات العربية على وجه الخصوص، في جائزة نوبل للسلام وبعض الأشجار. لكن حكايتها أكثر تعقيداً مما نُقِل عنه. فقد انطوتْ على دروسٍ تتصل بالصراعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد الاستعمار. كانت تجربة ماثاي جزءاً مهماً من نضال النسوية البيئية الإفريقية، وارتبط نضالها بسياسات الأرض والانتماء والديمقراطية الشعبية. فهي لم تكن تدافع فقط عن زراعة الأشجار. سعت ماثاي لمواجهة سياسات الإفقار ونزع الأراضي التي مارستها السلطات الكينية في مرحلة ما بعد الاستعمار، وهمّشت بموجبها المجتمعات المحلية وسلَبتها أدوات التحكّم في مصيرها البيئي والاقتصادي. فأصبحت تجسيداً حيّاً لمقاومةٍ صاغتها امرأة عادية واجهت بُنى السلطة السياسية في بلدها بأساليب خارجةٍ عن المألوف.


قبل أن تكون وانغاري ماثاي رمزاً بيئياً ونسوياً، كانت طفلةً من الكيكويو، أكبر الجماعات العرقية عدداً في كينيا التي تضم اثنتين وأربعين جماعةً عرقية. وُلدت ماثاي سنة 1940 في قرية إيهيثي الصغيرة في مرتفعات نيري شمال العاصمة نيروبي. وحينها، كانت كينيا تحت الاستعمار البريطاني، وكانت الأراضي التي طالما ارتبطت بها الذاكرة الجمعية والهوية الكينية تنتزعها السلطات قطعةً قطعة، وتمنحها لمستوطنين جدد غرباء عن المنطقة وناسها.

تحكي ماثاي عن مولدها ذاك في مذكراتها "أن باود" (غير منحنية)، المنشورة سنة 2006، فتصف الطبيعة التي عاشتْ فيها وكيف ارتبطَ أهلها بالأرض. والداها كانا مزارعيْن ريفيَّين يعيشان على الزراعة ويربّيان والماعز والأغنام، إذ "كانت الأرض المحيطة بإيهيثي لاتزال خصبةً وخضراء. كانت الفصول منتظمةً لدرجة أنه من الممكن التنبؤ ببدء هطول الأمطار الموسمية الطويلة في منتصف مارس. ولأن الأمطار كانت تهطل بانتظامٍ، كانت مياه الشرب النظيفة متوفرةً في كلّ مكان".

كانت تلك الأراضي والأشجار مُرتكَز الثقافة الكينية وثقافة الكيكويو، فينظر لها الأهالي امتداداً حياً للعلاقة بين الفرد والمجتمع والأسلاف. فبحسب ما أورده جومو كينياتا، أول رئيسٍ لكينيا (من 1964 وحتى 1978) في كتابه "فيسينغ ماونت كينيا" (في مواجهة جبل كينيا) المنشور سنة 1938، تُعدّ الأرض كياناً مقدساً يرتبط بكلّ مراحل الحياة من الولادة حتى الموت، وتمارَس حولها الطقوس والعادات الجماعية التي ترسّخ الانتماء وتعيد إنتاج الذاكرة الجمعية. كانت موغومو تري شجرة تينٍ مقدّسة لدى الكيكويو، وهي ترمز إلى الارتباط بالأجداد ويستخدمها أفراد الجماعة موقعاً للعبادة الجماعية والدعاء. جعل ذلك فقدان الأرض وتدمير الأشجار لاحقاً، بسبب سياسات الاستعمار البريطاني ومصالحه لزراعة أشجار أخرى بديلة، قطيعةً رمزيةً وروحيةً مع الجذور وهوية المجتمع إضافةً إلى كونه خسارةً مادية.

لم تكن طفولة وانغاري ماثاي بعيدةً عن هذه التحولات. فقد جاءت إلى العالم وسط زمنٍ يُعاد فيه رسم الخرائط وتوزيع الحقوق. وكما تروي في سيرتها الذاتية، فإن والدتها كانت تردد دوماً أن "لكل شيء حيّ احتراماً"، من الماء إلى الشجرة. لم يكن ذلك درساً في الأخلاق فحسب، بل كان جزءاً من نسقٍ تربويٍّ غير مكتوبٍ يجعل من الانسجام مع الطبيعة مبدأً للعيش، لا رفاهاً ثقافياً. فقد آمنَ شعب الكيكويو أنّ جبل كينيا الذين يسمّونه كيرينغايا – ثاني أعلى جبال إفريقيا – كان مكاناً مقدساً ينبع منه كل خير. وحذّرتها أمها أكثرَ من مرّةٍ ألا تلتقطَ الحطب من شجرة موغومو.

لكن تلك النشأة التي بدت في ظاهرها ريفيةً وبسيطةً، سرعان ما اصطدمت بمشهدٍ ترك أثراً لا يُمحى في ذاكرة الطفلة. قد انتقلت أسرتها سنة 1943 إلى منطقة تُسمّى وادي الصدع العظيم، بالقرب من مدينة ناكورو شمال غرب نيروبي، حيث عمل والدها سائقاً وميكانيكياً في مزرعة مستوطنٍ بريطانيٍّ أبيض. تَفتَّح وعي ماثاي حينها، وهي في الثالثة من عمرها، على ملامح فصلٍ عِرقيٍّ واجتماعي. شاهدتْ مستوطنين أوروبيين يملكون الأرض ويحتكرون السلطة، وفلاحين أفارقة يعملون في أرض أجدادهم يداً عاملة مؤقتة، لا يملكون الأرض ولا يأمنون الطرد.

كان المكان مشتركاً، لكن الحياة موزّعةٌ وفق خطوطٍ استعماريةٍ دقيقة. عالمٌ يُمنح فيه الامتياز والثقة، وآخر يُفرَض عليه الشكّ والمراقبة. تسرّب سؤال العدالة إلى عقل طفلةٍ لم تكن تدرك بعد أنها ستقضي عمرها في محاولةٍ للإجابة عنه. وإذ تتحدّث عن تلك الفترة في مذكراتها، تقول إنّ شعبها هُجِّر من أراضيه في المرتفعات الوسطى، التي تمتد على المنحدرات الشرقية والغربية لجبل كينيا، "لإفساح المجال للمستوطنين الذين استولوا على الأرض".

عند بلوغها الحادية عشرة سنة 1951، التحقت وانغاري ماثاي بمدرسة سانت سيسيليا الداخلية الواقعة على سفوح تل مدينة نيري وسط كينيا. وهي واحدة من المدارس التي أسّسها المبشّرون الأوروبيون، وكانت تديرها راهبات إيطاليات. في هذا الفضاء التعليمي، كانت الحياة المدرسية جزءاً من مناخ الهيمنة الاستعمارية. أتقنتْ ماثاي اللغة الإنجليزية واعتنقت الكاثوليكية، وأقامت علاقاتٍ وثيقةً مع العديد من معلّماتها الراهبات، واعتادت على طقوس القداس المنتظم.

فرضت المدرسة الإنجليزية لغةً إلزامية للتعلّم والتخاطب، وأصبح استخدام اللغات الإفريقية المحلية مدعاةً للعقاب البدني. كانت اللغة أداةً للهيمنة ولإعادة تشكيل الوعي وتحويله، وهو ما تأمّلته ماثاي لاحقاً لأنه أحد أوجه السيطرة الاستعمارية الرمزية التي مورست على شعوب القارة تحت غطاء التعليم. تقول ماثاي إنّ المدارس شددت على ضرورة التحدث بالإنجليزية حتى أثناء العطلات، وكانوا يجعلون المخالفين يرتدون زراً يسمّونه "المُراقَب". تقول عنه ماثاي: "كان يُكتب عليه أحياناً عبارات باللغة الإنجليزية مثل 'أنا غبي، لقد ضُبطت وأنا أتحدث لغتي الأم'. في نهاية المطاف، كان من يحمل الزر يتلقى عقوبةً، مثل قصّ العشب أو الكنس أو العمل في الحديقة. لكن العقوبة الأكبر كانت الإحراج الذي نشعر به بسبب التحدث بلغتنا الأم".

مع اقتراب نهاية سنة ماثاي الأولى في سانت سيسيليا، اندلعت ثورة حركة ماو ماو العسكرية ضدّ الحكم البريطاني، واستمرت معظم فترة الخمسينيات. كانت ثورة الماو ماو رداً على عقودٍ من الاستعمار البريطاني وسياسات الاستيلاء على الأراضي، التي انتهجها المستوطنون البريطانيون في كينيا.

تمحورتْ ثورة حركة "ماو ماو" حول ثلاث قضايا، هي الأرض والحرية والحكم الذاتي. ومثّلت هذه الحركة المسلّحة تحدّياً مباشراً للاستعمار البريطاني. فقابلتها السلطات بردٍّ عنيفٍ تَمثّل في حملات تمشيطٍ عسكريٍّ واعتقالاتٍ جماعيةٍ وتضييقٍ ممنهَج على السكان المحليين، بما في ذلك إغلاق المدارس وإحراق القرى وتكثيف الرقابة. وتشير شبكة "بي بي سي" في تقرير لها بعنوان "ماو ماو أَب رايزنج: بلودي هِستري أوف كينيا كونفلكت" (تمرد الماو ماو: تاريخ دموي لصراع كينيا) نشر سنة 2011، إلى أن العدد الحقيقي للقتلى في الانتفاضة لايزال موضع جدل. لكن رسمياً، يقول معدّو التقرير إنّ عدد قتلى الحركة وصل إلى أحد عشر ألف قتيلٍ، من بينهم ألفٌ وتسعون أعدَمَتهم الإدارة البريطانية شنقاً.

لم تكن وانغاري ماثاي أو عائلتها جزءاً من تلك الانتفاضة، لكنها نشأت على تخومها واستبطنت أصداءها في أحاديث العائلة والبيئة المدرسية. فبدأت تدرك تدريجياً أن المدرسة التي تؤويها واللغة التي تُفرض عليها والتاريخ الذي تتلقّنه، كلها عناصر في منظومةٍ استعماريةٍ أشمل. ولا تنسى ماثاي أنّ القائمين على المدرسة كانوا يلقّنونها وأقرانها أن حركة ماو ماو ليست إلا حركة خطيرة ومنفلتة من القانون. فتقول: "لقد أبقت الدعاية البريطانية على سذاجتنا بشأن الجذور السياسية والاقتصادية للصراع. وكانت تهدف إلى إقناعنا بأن حركة ماو ماو تريد إعادتنا إلى ماضٍ بدائيٍّ ومتخلّفٍ، بل وحتى شيطاني".

مع نضجها الفكري، بدأت وانغاري تراجع ما تعلّمته وتحاول تفكيك الأسس التي قامت عليها منظومة التعليم التبشيري. ولاحظت أن المبشّرين لم يأتوا إلى كينيا بدافعٍ روحيٍّ خالصٍ، بل كانوا جزءاً من مشروعٍ استعماريٍّ متكاملٍ هدفه تمهيد المجتمعات المحلية ثقافياً ونفسياً لإعادة تشكيلها بما يخدم البنية الاستعمارية. شجّع الرهبان السكانَ على التخلّي عن معتقداتهم وعاداتهم، وفرضوا أنماطاً غربيةً في التفكير والتديّن واللباس واللغة. واعتبرت ماثاي أن هذه العملية أدّت إلى انفصالٍ مؤلمٍ بين الأجيال. فقد بات الجيل الجديد يرى في تاريخه عبئاً وفي ثقافته عائقاً، وينظر لأرضه شيئاً أقلّ قيمة من الصور القادمة من لندن وروما.

تُطلق ماثاي على هذه العملية لاحقاً توصيفاً بالغ الدقة "ترويض العقل الإفريقي وفق نموذجٍ أوروبيٍّ معياريّ". وهو ترويض لم تَسلَم منه هي ذاتها في بداياتها. إذ تعترف أن جزءاً من جيلها، بمن فيهم هي، تبنّى في الطفولة تلك التصورات دون وعي وظنّ أن التنكّر للتقاليد والانتماء يقرّبه من الحداثة والتحضّر. تقول ماثاي: "عندما أصبحنا جزءاً من النخبة الكينية، فضّلنا التحدث باللغة الإنجليزية مع بعضنا ومع أطفالنا، ومع من هم في طبقتنا الاجتماعية". لكنها مع مرور الزمن واشتداد الوعي، أعادت النظر في كثيرٍ من المفاهيم التي اكتسبتها في المدارس التبشيرية، وبدأت تدرك أن الانفصال عن الثقافة الأصلية لم يكن تحرّراً، بل شكلاً آخر للاستعمار.


اتخذ "ترويض العقل الإفريقي"، كما تسمّيه وانغاري ماثاي، أشكالاً متعددة تتجاوز مجرد تعليم الطليعة الكينية لغةً جديدةً هي الإنجليزية وتسهيل اعتناقها ديناً جديداً هو الكاثوليكية. انتبهت ماثاي في شبابها للسبل التي كان الاحتلال البريطاني يعيد بها صياغة وعيها ووعي جيلها من الكينيين.

يتوقف كلٌّ من غوتام كارماكار، الأستاذ في جامعة دُربان في جنوب إفريقيا، وديردري سي بيرن، الأستاذ في جامعة جنوب إفريقيا، في ورقتهما "نولِدج بورن إن ذا ستراغل" (المعرفة المولودة في النضال) المنشورة سنة 2024، عند المشاعر التي اختبرها الكينيون حين بدأوا استكشاف أنماط المعرفة الغربية. كانت المعرفة التي جاءت في ثوب التعليم تقدَّم مدخلاً للتقدّم، لكنها حملت في طيّاتها أدوات لإدامة الاستعمار، وإن بطرقٍ غير تقليديٍّ وأكثر خفاءً وتأثيراً. فقد كانت المدارس التبشيرية تحتلّ موضع التعليم التقليدي المعتمد على "طرائق الحكي التقليدية [التي] بدأت بالتحلل في المجتمعات الأصلية التي واجهتْ التفكك والتحلل بسبب إعادة تشكيل البنية الاقتصادية"، كما يقول الباحثان.

هذا المسار يقودنا إلى ما يسمّيه الفيلسوف البورتوريكي نيلسون مالدونادو توريس في أعماله "الاستعمار مشروعاً طويل الأمد" لا ينتهي بخروج الجيوش، وإنّما يستمر نظامَ سلطةٍ يتغلغل في تشكيل الهويات الثقافية والنظم الاجتماعية وإنتاج المعرفة في المجتمعات غير الغربية. ويقسّمه توريس إلى ثلاث دوائر مترابطة. "استعمار السلطة" الذي يسعى فيه المستعمِر إلى إنشاء نظمٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ تكرّس عدم المساواة والهيمنة. و"استعمار المعرفة" الذي تهمَّش فيه الثقافة المحلية لصالح هيمنة ثقافة المستعمِر. و"استعمار الوجود" الذي يتجاوز سيطرة المستعمِر على الأرض إلى تأثيره على الهوية ومفهوم الإنسانية عند المجتمعات المستعمَرة.

عند تطبيق هذه الأطروحة على السياق الكيني، تبرز نيري حيث ولدت ونشأت وانغاري ماثاي مثالاً ملموساً. فقد عمد المبشّرون إلى تعليم المتحوّلين إلى المسيحية القراءة والكتابة بالإنجليزية شرطاً للتمييز. فنال هؤلاء لقب "أثومي" وتولّوا مواقع إدارية. وأثومي، بلغة الكيكويو، تعني "الناس الذين يقرؤون"، أي قرّاء الكتاب المقدس. ومع مرور الوقت، تبنّى هؤلاء نمطاً حياتياً غربياً في الملبس والغذاء والسلوك. وغدت "ثقافة الأثومي" رمزاً للتقدّم والتمدّن، في مقابل تصوير أولئك الذين لم ينخرطوا فيها مجتمعاتٍ متخلّفة غير قابلةٍ للتحديث.

هكذا بدا الاستعمار الجديد وكأنه لا يستدعي البنادق، بل يستند إلى الكتب والمدارس والمناهج واللغات وسائلَ للسيطرة الصامتة والممتدة. تقول ماثاي: "استُبدل كل ما يمثل الثقافة المحلية بحماس. فحلّت الذرة محلّ الدُخْن [حبوب صغيرة تُستخدم في صنع الخبز وبعض المشروبات]. ومع تغيّر المحاصيل، تغيّرت أدوات الزراعة والطبخ. فحلّت الأواني المعدنية محلّ الأواني الفخارية المصنوعة من طين الأرض، والملاعق محلّ تناول الطعام بالأصابع والعصي. ووُضعت الملابس المصنوعة من جلود الحيوانات جانباً لصالح الفساتين القطنية للنساء، والقمصان والسراويل القصيرة والسراويل للرجال".


تروي وانغاري ماثاي أن ما حدث في أواخر القرن التاسع عشر لم يكن مجرد توسّعٍ عسكريٍّ، بل لحظة أسّست لتحوّلٍ جذريٍّ في تاريخ القارة. ففي سنة 1885، اجتمعت بريطانيا إلى جانب القوى الأوروبية الكبرى فيما سُمّي مؤتمر برلين، وفيه أضفى الأوروبيون الطابع الرسمي على ما تسمّيه ماثاي "التكالب على إفريقيا"، ملخّصةً في مسماها اندفاع تلك القوى نحو تقسيم القارة وانتزاعها قطعةً قطعة.

بعد غزو كينيا سنة 1920 وتقسيم الأراضي، منحت حكومة الاحتلال البريطاني امتيازاً واسعاً للمستوطنين البريطانيين بالوصول إلى المرتفعات الزراعية الخصبة في البلد، وذلك بموجب "مرسوم أراضي التاج لسنة 1902". فوزّعت السلطات على المستوطنين سندات ملكيةٍ رسمية تعطيهم الحق في الأراضي التي اختاروها، خاصةً في المناطق القريبة من المراكز الحضرية أو "تلك التي بدت واعدة لزراعة القمح والذرة والبن والشاي"، كما تقول ماثاي. وبهذا التشريع، بدأت إعادة توزيع الأرض لصالح الأقلية البيضاء، ما أدى إلى حرمان مزارعي الكفاف الكينيين من مواردهم وتقليص المساحات الزراعية المتاحة لهم لصالح تعزيز القوة الاقتصادية للمستعمِرين.

استمرَّ هذا النمط من نزع ملكية الأراضي وتوسَّع بعد الحربين العالميتين، إذ حصل عدد من الجنود البريطانيين القدامى على أراضٍ في كينيا مكافأةً على خدمتهم العسكرية. وبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين، كان هناك ما يقارب أربعين ألف مستوطنٍ أوروبيٍّ يملكون نحو ألفين وخمسمئة مزرعة في كينيا، فيما صار يُعرف بالمرتفعات البيضاء التي شملت تلال نيروبي ومرتفعات الأقاليم الوسطى والغربية، ومساحاتٍ واسعةً من أراضي وادي الصدع.

قبل الاستعمار، كانت كينيا فضاءً بيئياً غنياً بالتنوّع الحيوي. وكان للمجتمعات المحلية معرفةً عميقةً بالنظام البيئي والحيوانات والنباتات، وأصول العلاقة المتبادلة بين الإنسان والطبيعة. توضح آنا شاتوك، الباحثة بقسم الحشرات في جامعة كورنيل بنيويورك، في دراستها "وان بيرسن، وان تري" (شخص واحد، شجرة واحدة) المنشورة سنة 2022، أن هذا التوازن انهار مع الاستعمار البريطاني. فصودرت أراضي العشائر وقُيّدت حركة النساء، لاسيما جمع الحطب أو زراعة أراضيهن الخاصة. وقد تقلّصت مساحات الأمان الاقتصادي التي كانت النساء يتمتعن بها، فتحوّل اعتمادهن على الأرض إلى تبعية للرجل، وفقدَ الاقتصاد طابعه التشاركي المحلي.

تطرّق إلى هذا التحوّل الجذري كل من كارماكار وبيرن، مؤكدَين أن الاستعمار أعاد تشكيل الرؤية الروحية البيئية للعالم، عبر خطابٍ يرى في الطبيعة مورداً للربح، لا كائناً حياً مشتركاً في الوجود. فقد كانت عملية تحويل البيئة ومواردها الطبيعية إلى "سلعة نتيجةً للتحديث الاستعماري، واستوحيتْ هذه الأفكار من مبادئ التنوير الأوروبي وروّجت للعقلانية الإنسانية بوصفِها فوقَ العالم المادي".

في ظلِّ هذا النظام الجديد، فصلَ الاستعمار النساء عن مكانتهن الرمزية والاجتماعية. ومن هنا، ربطت وانغاري ماثاي بين مشروعها البيئي واستعادة ذاكرة الأرض ومكانة المرأة فيها. وفي مقابلةٍ مع صحيفة الغارديان البريطانية سنة 2007، صرّحت ماثاي أن الفساد والجشع اللذين نخرا الدولة الكينية في العقود الثلاثة الأولى بعد الاستقلال سنة 1963 لم يكونا إلا من تَرِكة الاستعمار. وتابعت ماثاي حديثها قائلة: "لم يكتفِ الحكم البريطاني بتقسيم البلاد إلى اثنتين وأربعين مجموعةً عرقيةً، بل عبث بالنظام البيئي وعمّق تهميش النساء".

ترك الاستعمار آثاراً عميقة في مجتمع كينيا لاتزال تتردد في حياة الناس اليومية، خاصةً في علاقتهم بالأرض والغذاء. أدركت ماثاي أن سكّان كينيا، وبخاصة المنطقة الوسطى، كانوا يعانون من أمراضٍ سببها سوء التغذية. كان ذلك بمثابة صدمةٍ لها لأنها نشأت هناك، وتعرف من تجربتها أن هذه المنطقة كانت من أكثر المناطق خصوبةً في البلاد. لكن سرعان ما تغير الحال. فقد حوّل العديد من المزارعين أراضيهم بالكامل تقريباً إلى زراعة البن والشاي، اللذين استزرعهما المستعمر لتصديرهما إلى السوق العالمية، بدلاً من إنتاج الغذاء المحلي.

لذلك اضطرت النساء لإطعام أسرهنّ أطعمةً مصنّعةً، مثل الخبز الأبيض ودقيق الذرة والأرز الأبيض، وكلها تحتوي على نسبٍ عالية من الكربوهيدرات لكنها منخفضة في الفيتامينات والبروتينات والمعادن. كانت هذه المواد سهلة الطهي وتستهلك وقوداً أقل، وهو أمرٌ مهم لأن إزالة الغابات قلّص إمدادات الحطب. وهو ما أدى إلى تفاقم سوء التغذية، خصوصاً بين السكّان الأشد عرضةً للخطر، مثل الأطفال وكبار السن.

أزعجت هذه الحقائق ماثاي كثيراً، لأنها تتناقض تماماً مع ذكرياتها عن طفولتها عندما كان الطعام مغذياً والناس أقوياء والحطب متوافراً. ومع ذلك، لم تكن قد أدركت حينها حجم الأثر السلبي لهذه الأنشطة.


بحلول الوقت الذي تخرجت فيه وانغاري ماثاي من المدرسة الثانوية سنة 1959، كانت الحقبة الاستعمارية لمعظم أنحاء إفريقيا تقترب من نهايتها. استقلتْ غانا عن بريطانيا سنة 1957، وبعد ثلاث سنوات نالت العديد من المستعمرات الفرنسية والبلجيكية في غرب إفريقيا ووسطها استقلالها. وفي كينيا أيضاً، كانت الحرية تقترب. ومع أن جومو كينياتا أول رؤساء كينيا كان في المنفى الداخلي، والنشاط السياسي كان لايزال محدوداً، إلا أن رياح التغيير – التي قال رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان سنة 1960 إنها تهبّ عبر إفريقيا – جعلت استقلال كينيا أمراً لا مفرّ منه. وفي سنة 1957، سُمح للكينيين السود بالتصويت في الانتخابات لأول مرة. وفي سنة 1959، دعت الحكومة البريطانية السياسيين الكينيين إلى لندن للتفاوض على نظامٍ سياسيٍّ جديد. وفي سنة 1960، بدأت الاستعدادات للاستقلال.

في خضم هذا الزمن المعلّق بين استعمارٍ راحل واستقلالٍ لم يتبلور بعد، ظهرت مبادراتٌ استثنائيةٌ تراهن على التعليم أداةً للتحرّر لا تقلّ شأناً عن النضال السياسي. من بين هذه المبادرات برز برنامجٌ غير مألوفٍ في حينه تَمثّل في إرسال الطلبة الأفارقة إلى الولايات المتحدة لاستكمال تعليمهم الجامعي، ثم إعادتهم ليكونوا جزءاً من مشروع بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال. وقد تبنّى هذه الفكرة عددٌ من السياسيين الكينيين البارزين، وعلى رأسهم توم مبويا. ومبويا هو أحد الآباء المؤسسين لكينيا، الذي بذل جهوداً مكثّفة لتوفير فرصٍ تعليميةٍ حقيقيةٍ خارج حدود كينيا، وبعيداً عن قبضة النظام التعليمي الاستعماري.

جاء الدعم الأمريكي عبر السيناتور جون كينيدي، الذي غدا بعدها الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة. وافق كينيدي على تمويل المبادرة عبر "مؤسسة جوزيف بي كينيدي الابن"، وأُطلق عليها لاحقاً اسم "كينيدي إير لفت" (الجسر الجوي لكينيدي). وفي سبتمبر 1960، كانت وانغاري ماثاي واحدةً من نحو ثلاثمئة كيني اختيروا للسفر ضمن هذا البرنامج. ومن بينهم أيضاً باراك أوباما، والد باراك أوباما الابن، الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة.

في الولايات المتحدة، تخصّصت ماثاي في علم الأحياء مع تخصّصاتٍ فرعيةٍ في الكيمياء واللغة الألمانية. وحصلت على درجة البكالوريوس في العلوم سنة 1964 من كلية ماونت سانت سكولاستيكا (كلية بنديكتين حالياً) في أتشيسون بولاية كانساس. ثم التحقت بجامعة بيتسبرغ في بنسلفانيا للحصول على درجة الماجستير في علم الأحياء سنة 1965. وبهذا غدت ماثاي أول امرأة كينية تحصل على درجة الماجستير.

وهناك، في مدينةٍ مازالت مصانع الصلب فيها تخنق برائحة الدخان، شهدت وانغاري ماثاي أول تجربة حيّة لحراكٍ بيئيٍّ محليٍّ، عندما نظّم ناشطو بنسلفانيا حملاتٍ لحماية البيئة من التلوث الناتج عن الصناعات الثقيلة، والذي كان يؤثر مباشرةً على صحة السكان. دفعتها تلك المشاهد للربط لأول مرة بين قضايا البيئة وحقوق الإنسان، وفهم البيئة قضيةً ترتبط بالحياة اليومية والصحة والعدالة والكرامة.

تزامنت دراسة ماثاي مع ذروة "حركة الحقوق المدنية" في الولايات المتحدة، وهي الحركة الاجتماعية التي امتدت بين سنتَي 1954 و1968. كان من قادتها المناضل مارتن لوثر كينغ، وسعت الحركة إلى إنهاء التمييز العنصري والحرمان القانوني الذي كان يطال الأمريكيين من أصلٍ إفريقي. وقد أتاحت لها هذه المرحلة أن تُصغي إلى خطابات المساواة والحرية والعدالة في سياقٍ عالميٍّ أوسع، فتتسع زاوية رؤيتها بعيداً عن الحدود الكينية.

تحكي وانغاري ماثاي كيف تأثرت بشدة بما شهدته من أحداث حركة الحقوق المدنية في أمريكا. فمع كل ما كانت تسمعه وتشاهده من عنفٍ ضد المتظاهرين، بدأت تدرك عمق التمييز العنصري المتجذر في المجتمع الأمريكي. ومع أنها لم تتعرض شخصياً لكثيرٍ من المواقف العنصرية، إلا أنّ وعيها بوجود تمييزٍ مؤسسيٍّ حقيقيٍّ ضد السود قد ازداد، خاصةً بعد أن علمت بما واجهه طلاب كينيون آخرون من صعوباتٍ في إيجاد السكن والعمل وحتى تكوين صداقات. أكثر ما أثار تساؤلاتها، هو الشبه بين ما رأت من عنصريةٍ في أمريكا وما عرفته في كينيا أيام الاستعمار البريطاني.

دفعتها هذه التجربة إلى التفكير في هويتها امرأةً كينيةً سوداء، وسَعَت لفهمٍ أعمق لما تعنيه الحرية والعدالة في أمريكا التي تحمل هذا الكم من التناقضات. ذلك الوعي لم يغيّر فقط نظرتها إلى السياسة، بل مهّد لها طريقاً آخر للكفاح سيبدأ من جذور الشجرة، لكنه سيتّسع ليشمل الكرامة والعدالة في بعدها البيئي. لقد عادت ماثاي إلى بلادها بفهمٍ جديدٍ، وهو أن الدفاع عن البيئة فعل مقاومة.

تتحدث ماثاي عن تجربتها الأمريكية بشيءٍ من العاطفة، ففي جامعة بيتسبرغ بدأت بالتفكير في العمل على مشروع حياتها "حركة الحزام الأخضر". تروي في مذكراتها أنّها حضرت في صيف 1963 دورةً تدريبيةً عن مساعدة النساء في المناطق الريفية على العمل معاً، لتضع ماثاي ما تعلّمته "موضع التنفيذ بعد عقدٍ من الزمان فقط، عندما ألهمتني النساء الريفيات لبدء حركة الحزام الأخضر".


عادت وانغاري ماثاي إلى كينيا سنة 1966 محمّلةً برؤيةٍ مغايرةٍ لعلاقة الإنسان بالطبيعة، ووعيٍ حادٍّ بالظلم التاريخي الواقع على الفئات المهمشة، وعلى رأسها النساء في الأرياف اللواتي سرعان ما أصبحن الفاعل المركزي في الفصل الجديد من حياتها.

لم تكن عودة ماثاي إلى كينيا سهلةً. فقد اصطدمت بجدارٍ صلبٍ من الإجراءات الإدارية حال دون انضمامها إلى هيئة التدريس في جامعة نيروبي، حتى مع مؤهلاتها الأكاديمية. لم تتقبل الجامعة الكينية أو المجتمع الكيني امرأةً في موقعٍ أكاديميٍّ قياديٍّ، في أجواء ٍمحافظة لا تمنح النساء سلطةً خارج دائرة الأسرة. وحتى بعد حصولها على درجة الدكتوراه من جامعة غيسن في ألمانيا سنة 1971، لم تُمنح المنصب الذي رُشحت له، وهو رئاسة قسم علم التشريح البيطري سنة 1975. اعتبرت ماثاي أن إقصاءها سببه الرئيس أنها امرأة. وفي قسم التشريح البيطري، الذي أُسند لها لاحقاً، بدأت تناضل ضد السياسات التمييزية التي مَنحت النساء رواتب أقلّ من نظرائهن من الرجال وحرمتهم من التقاعد والتأمين الصحي لأطفالهن.

بدأت ماثاي في 1976 أولى خطواتها المؤسسية داخل كينيا بانضمامها إلى المجلس الوطني للمرأة، وسرعان ما أصبحت رئيسته. ومن موقعها، زارتْ القرى وجلست إلى النساء الريفيات واستمعت إلى مشكلاتهن اليومية، من نقص الحطب وتدهور التربة وصعوبة تأمين الغذاء وتراجع جودة المياه، وكلها مشاكل وجدتها متكررة. من قلب هذا الواقع، بدأت تتبلور لديها فكرةً بسيطةً في ظاهرها، لكنها مشبعة بوعيٍ عميق. لماذا لا تُزرع الأشجار؟ فالأشجار تمنح الحطب وتثبّت التربة وتحسّن مصادر المياه، وتعيد الاعتبار للعلاقة المهملة بين الناس والأرض.

تحوّلت الفكرة سنة 1977 إلى مبادرةٍ عمليةٍ مع إطلاق حركة الحزام الأخضر.كان الهدف إحداث تحوّلٍ في الوعي الجمعي عبر زراعة الأشجار، وإعادة الثقة للناس بقدرتهم على تحسين واقعهم بأيديهم.

منذ انطلاقتها، ركّزت الحركة على الفئات الأكثر تهميشاً، كالنساء وكبار السن وذوي الإعاقة. وقد وفّرت لهم تدريباً بسيطاً ودخلاً رمزياً بدعمٍ من الأمم المتحدة، مقابل غرس الشتلات ورعايتها.

خططت الحركة لغرس ملايين الأشجار، وهو ما اعتبره بعض خبراء الغابات آنذاك مشروعاً لا يمكن تحقيقه. لكن النموذج الذي صاغته ماثاي كان بسيطاً بما يكفي ليتمكّن الناس من تفعيله دون خبرةٍ تقنيةٍ، "فكل ما عليهم فعله هو حفر حفرة وزرع شتلة وسقيها، ثم رعايتها"، كما تقول ماثاي. هذا البُعد العملي جعل الفكرة تنتشر بسرعة، خصوصاً بين النساء في مختلف أقاليم كينيا. وبحلول سنة 2017، زرعت الحركة ما يتجاوز واحداً وخمسين مليون شجرة في المزارع والمدارس والكنائس وعلى طول الأنهار والمناطق الريفية. وذلك وفقاً لما أوردته جائزة "غولدمن إنفايرونمنتال برايز" السنوية لتشجيع النشطاء البيئيين، في تقريرٍ لها بعنوان "ذا غرين بيلت موفمنت: فورتي ييرز أوف إمباكت" (حركة الحزام الأخضر: أربعون عاماً من التأثير) نُشر سنة 2018.

بعد سنواتٍ من العمل المتواصل، جاءت سنة 1985 لتشكّل منعطفاً حاسماً في مهمة وانغاري ماثاي. فقد عُقد في نيروبي المؤتمر العالمي الثالث للمرأة برعاية الأمم المتحدة، وكانت ماثاي من أبرز المشاركات فيه. رتبت ماثاي في المؤتمر ندواتٍ وعروضاً تقديميةً لتسليط الضوء على ما أنجزته حركة الحزام الأخضر، ورافقت عدداً من مندوبي الأمم المتحدة في جولاتٍ ميدانيةٍ لزيارة المشاتل ومواقع الزراعة. وهناك التقت كلاً من رئيسة صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة بيغي سنايدر، وهيلفي سيبيلا، أول امرأة تعيَّن أميناً عاماً مساعداً للأمم المتحدة. وقد أسهم هذا اللقاء في توسيع نطاق تمويل الحركة، ومكّنها من ترسيخ وجودها خارج كينيا.

توسّعت حركة الحزام الأخضر سنة 1986 بدعمٍ من برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى خارج الحدود الوطنية، وتأسست شبكة الحزام الأخضر الإفريقية. كان التصحّر يتوغّل في دولٍ عدّةٍ عانت من إزالة الغابات وأزمات المياه والجوع. فسافر خمسة وأربعون ممثلاً من خمس عشرة دولة إفريقية إلى كينيا على مدى ثلاث سنوات متتالية، لتعلّم أساليب إنشاء برامج مماثلةٍ لمكافحة التصحر وإزالة الغابات، ومواجهة أزمات المياه والجوع في المجتمعات الريفية. فأطلقتْ مجموعات الحزام الأخضر في إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا وموزمبيق مشاريعَ للزراعة.

ومع اتساع نشاط الحركة على مستوى القارة، لم يَفتر التزام وانغاري ماثاي بالشأن الوطني. فقد ظلّت جذورها الكينية راسخةً، ووجدت في التحولات السياسية والاجتماعية الداخلية فرصةً لتعزيز تأثيرها، لاسيما مع تصاعد الدعوات داخل كينيا إلى الانفتاح الديمقراطي في ظلّ نظام الرئيس دانيال آراب موي القمعي في الثمانينيات. إذ تقول ماثاي في مذكراتها: "غالباً ما يصعب على من يعيشون في مجتمعاتٍ حرةٍ أن يدركوا شكل الحياة في ظلّ نظامٍ استبدادي. لا تعرف بمن تثق. ينتابك القلق من أن تُعتقل أو تُسجن، أنت أو عائلتك أو أصدقاؤك، دون محاكمةٍ عادلة. يسود الخوف من العنف السياسي أو الموت، سواءً من خلال الاغتيالات المباشرة أو 'الحوادث' المتعمَّدة". كان هذا هو الواقع في كينيا، ما دفع ماثاي وحركة الحزام الأخضر إلى التوغل أكثر في الحقل السياسي.

وجّه أنصار الانفتاح السياسي في كينيا جهودهم نحو الانتخابات الوطنية التي جرت في شهر مارس سنة 1988. فقد شاركوا في أنشطةٍ داعمةٍ للديمقراطية، مثل المساعدة في تسجيل الناخبين والدعوة إلى إصلاحاتٍ دستوريةٍ تدفع بتوسيع مساحة العمل السياسي وحرية الرأي والتعبير. وانضمت حركة الحزام الأخضر إلى هذه الجهود لتؤكد بذلك أنها ليست مجرد مبادرةٍ نسويةٍ تطوعيةٍ معنيّةٍ بالبيئة، بل جزء من حركةٍ أوسع تناضل من أجل الحريات الأساسية والتعددية السياسية، كما تؤكد ماثاي دوماً.


تزايدت التحديات التي واجهتها ماثاي تدريجياً، وبلغت ذروتها في أواخر الثمانينيات. فقد بدأ تأثير حركة الحزام الأخضر يُقلق السلطات الكينية. ومع أنّ الحكومة الكينية بقيادة الرئيس دانيال آراب موي حافظت معظم سنوات الثمانينيات على موقفٍ حذرٍ إزاء نشاط الحركة، إلا أنّ الأمور تغيّرت جذرياً سنة 1989، عندما أعلنت الحكومة عن مشروعٍ لبناء ناطحة سحاب من ستين طابقاً داخل "حديقة أوهورو" في قلب العاصمة نيروبي، وهي واحدة من أهم المساحات الخضراء العامة في المدينة.

تضمن المشروع تحويل مساحةٍ خضراء مخصصة للصالح العام إلى مجمعٍ استثماريٍّ ضخمٍ يشمل البورصة والبنوك ومراكز التسوق، بتمويلٍ بريطاني. لم يعد الأمر عند وانغاري ماثاي قضيةً بيئيةً وحسب، بل أصبح قضية عدالةٍ اجتماعية. إذ رأت في المشروع مثالاً على تغوّل السلطة والنخبة على حقوق السكان وتهميش أصواتهم، وتحميل الدولة ديوناً جديدة في سبيل مصالح خاصة. لذلك قادت مع أنصارها حملةً شاملةً للاعتراض شملت الاحتجاجات والعرائض، في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الدولة.

لم يكن هذا الموقف بلا عواقب. ففي ظلّ نظامٍ سياسيٍّ أحاديٍّ تَمتَّع فيه الحزب الحاكم "الاتحاد الوطني الإفريقي الكيني" (كانو) بسلطاتٍ شبه مطلقة، لم تتردد الحكومة في استهداف ماثاي مباشرةً. فقد واجهت حملةَ تشهيرٍ إعلاميةً قادها أعضاءٌ في البرلمان شككوا في وطنيتها وطعنوا في حياتها الشخصية بعد طلاقها من زوجها موانغي ماثاي، عضو البرلمان، الذي جعل طلاقه منها قضيةً سياسيةً بإعلانه في الصحافة. وفي خضم ذلك، خضعت لمحاكمةٍ علنيةٍ امتدت ثلاثة أسابيع، بعدما تقدّم زوجها بطلب الطلاق واتهمها بتهمٍ قاسيةٍ، من بينها الزنا والتسبب في مشكلاتٍ صحيةٍ له ومعاملته بقسوة. وعلى إنكارها لكّ ذلك، أُجبرت على المثول أمام المحكمة وسط تغطيةٍ صحفيةٍ واسعةٍ، جعلتها تشعر بحسب وصفها "وكأنها عارية أمام الجميع". ووصلت الحملات السياسية ضدّها إلى وصف الرئيس موي لها أنّها امرأة "مجنونة تهدد النظام" وأنّها "دمية في يدِ سادتها الأجانب"، وأنّها تنتهج نهجاً غير إفريقيٍّ بمواجهتها ومعارضتها الرجال.

أُجبرت حركة الحزام الأخضر على إخلاء مكاتبها لتتابع عملها من منزل ماثاي ذاته. ومع هذا، نجحت في كسب دعمٍ شعبيٍّ واسعٍ، ما أجبر الحكومة سنة 1992 على التراجع عن المشروع بعد انسحاب المستثمرين، في انتصارٍ تاريخيٍّ للمجتمع المدني على سلطة الدولة.

خاضت وانغاري ماثاي سنة 1992 معركةً جديدةً حين قادت اعتصاماً سلمياً في منتزه الحرية في نيروبي مع مجموعةٍ من النساء للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. جاء الاعتصام في سياقٍ سياسيٍّ مضطربٍ ازدادت فيه الدعوات لتعدد الأحزاب، بينما شددت الدولة قبضتها على الحريات العامة. التحقت ماثاي بالاعتصام لأنه فعلٌ مدنيٌّ سلميٌّ، لكن قوات الأمن تدخلت بعنفٍ لتفريقه، وضُربت ماثاي حتى نُقلت إلى المستشفى. ومع أنّ الحكومة لم توجِّه تهماً رسميةً ضدها، إلا أنّ الحادثة استقطبت انتباهاً محلياً ودولياً واسعاً، وسلّطت الضوء على ممارسات النظام تجاه المعارضة، وأسهمت في إعادة ملف المعتقلين إلى صدارة النقاش العام.

وُجّهت لوانغاري ماثاي تهمٌ خطيرةٌ، منها نشر شائعات "خبيثة" والتحريض على الفتنة والخيانة العظمى، وهي تهمة تصل عقوبتها إلى الإعدام. حُجزت في زنزانةٍ باردةٍ بلا غطاءٍ أو وسيلةٍ للنوم، وكانت في سن الثانية والخمسين وتعاني من التهاب المفاصل وآلام الظهر. في المحكمة، نُقلت على نقالة وهي تبكي من الألم. ومع تعاطف القاضي وقراره بإطلاق سراحها بكفالة، كانت الملاحقة القانونية وسيلةً للحدّ من حركتها ومنعها من السفر أو مواصلة عملها. لكن الدعم الشعبي والمحلي والدولي كان واسعاً، بدءاً من ابنها موتا الذي تحدث عبر وسائل الإعلام إلى منظماتٍ نسويةٍ دوليةٍ، وانتهاءً بتدخل ثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، من بينهم إدوارد كينيدي وآل غور، ودعوتهم الحكومة الكينية لتبرير الاتهامات. تحت هذا الضغط، أُسقطت التهم في نوفمبر 1992 وأطلق سراح ماثاي وزملائها، لتعود إلى العمل والنضال من أجل الديمقراطية والعدالة البيئية في كينيا.

تعارضت ممارسات ماثاي مع سياسة التنمية التي تبناها الرئيس دانيال آراب موي. كانت ماثاي سنة 1999 تحتج على مشروعٍ يستهدف تحويل آخر الغابات الحضرية في نيروبي إلى منطقةٍ مغلقةٍ للنخبة فيها منازل فارهة وملاعب غولف، على حساب الصالح العام والحق في البيئة للمواطنين. فكادت مواجهة ماثاي هذه أن تردي بها قتيلةً، فقد شنّ نحو مئتي مسلح هجوماً على ماثاي ومجموعة ناشطين بينما كانت ماثاي تزرع شجراً. وكما تروي لصحيفة الغارديان، فإنها شعرت بالدهشة أكثر من الألم لحظة تلقّي الضربة، لكنها كانت تدرك منذ البداية أن "النية كانت واضحة: أرادوا إيذاءنا، وربما قتلنا".

مع ذلك لم يكن موقع ماثاي من السلطة دوماً موقفَ المعارضة. فقد انتهى حكم الرئيس موي في ديسمبر 2002 عندما اكتسح الانتخابات ائتلاف متعدد الأحزاب، وكانت ماثاي من بين النواب الجدد. فقد انتُخبت بنسبة 98 بالمئة من الأصوات، عن دائرة تيتو بمقاطعة نيري مسقط رأسها.

وشهدت كينيا سنة 2007 انتخابات عامة شملت الرئاسة والبرلمان والإدارات المحلية. ومع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، التي تنافس فيها الرئيس المنتهية ولايته مواي كيباكي ورايلا أودينغا، أعلنت اللجنة الانتخابية فوز كيباكي بفارقٍ ضئيل. ما أثار اتهاماتٍ بتزوير النتائج وأشعل موجةً من العنف السياسي والعرقي غير مسبوقة. أسفرت هذه الاضطرابات عن مقتل أكثر من ألف ومئة شخص، ونزوح ما يزيد على نصف مليون من منازلهم.

في خضم هذه الفوضى، أطلقت ماثاي عبر حركة الحزام الأخضر مبادرة "خيمة السلام"، في محاولةٍ لبلورة استجابةٍ بيئيةٍ لأزمةٍ سياسية. هدفت المبادرة إلى تعزيز الحوار الأهلي وبناء الثقة واستعادة الرابط المقطوع مع الأرض، خصوصاً بعد أن هُجرت المزارع ونُهبت الأشجار واقتلعت. وفي مقابلةٍ صحفيةٍ نشرتها "كريستيان ساينس مونيتور" سنة 2008، أوضحت ماثاي أن العنف طال الناس والطبيعة معاً، وأن ما وصفته بهوس الاستيلاء جعل البعض يقتحم المزارع ويصادر كل ما يمكن أخذه، بما في ذلك الأشجار. ما كشف الحاجة العاجلة لإعادة تأكيد قيمة الأرض في عيون الناس، وهو ما حاولت "خيمة السلام" استعادته.


في محاولةٍ لقراءة مسيرة وانغاري ماثاي من زوايا تتجاوز التصنيفات التقليدية للنسوية أو النشاط البيئي، يأتي كتاب "راديكال أوتو" (الإنسان الراديكالي) الصادر سنة 2020 للباحثة الكينية بيسي بريليَن موهونجا، أستاذة الدراسات الإفريقية في الولايات المتحدة، بمنظورٍ غير تقليدي لفهم تجربة ماثاي. توظّف موهونجا مفهوم "أوتو" أو "أوبونتو"، وهي كلمة في اللغة السواحلية تعني "أن تكون إنساناً" بما يتضمنه ذلك من كرامةٍ ومسؤوليةٍ أخلاقيةٍ متبادلةٍ بين الفرد والمجتمع، ورؤيةٍ تشاركيةٍ للحياة والعالم. من هذه العدسة، تعيد موهونجا تموضع ماثاي ليس ناشطة بيئية أو سياسية فحسب، بل فاعلة اجتماعية تشكّلت رؤيتها من داخل التقاليد الأخلاقية الإفريقية الأصيلة. إذ لم تكن ترى في البيئة مجرد مورد اقتصادي، إنّما امتداداً لهوية الإنسان وعلاقاته ببلده والآخرين وكرامته.

يكشف هذا الطرح أن مشروع ماثاي تجاوزَ المجد الفردي إلى التعبير عن التزامٍ بالمصلحة العامة. ويكشف أيضاً أن حركة الحزام الأخضر كانت من أوائل المبادرات التي دفعت باتجاه انتقال الوعي من "أجندة بُنيّة" تركّز على المشكلات البيئية الحضرية المباشرة، مثل تلوث الهواء والماء، إلى "أجندة خضراء" تركّز على القضايا البيئية الأوسع مثل أزمة المناخ. وذلك في نقدٍ مباشرٍ لنموذج التنمية الموروث من الدول الغنية في أوروبا وأمريكا الشمالية الذي، بحسب ماثاي، كان هو نفسه مسؤولاً عن فصل الأفارقة عن علاقتهم العضوية بالأرض والبيئة في الحقبة الاستعمارية.

إلى جانب هذا البعد البيئي الأخلاقي، برزت وانغاري ماثاي صوتاً يسعى إلى تخليص المجتمعات الإفريقية من الإرث الاستعماري الاقتصادي الثقيل. إذ يشير الأستاذ في جامعة إيسترن إلينوي الأمريكية جيمس إيتشيل، والباحثة في الجامعة نفسها روزماري أونيانغو، في دراستهما "أفريكان وومن أند سوشيال ترانسفورميشن" (المرأة الإفريقية والتحول الاجتماعي) المنشورة سنة 2018، إلى أن ماثاي كانت من أوائل الأصوات التي دعت إلى إعفاء الدول النامية من أعباء ديونها الخارجية، بما في ذلك الدول الإفريقية. ولم تكتفِ بذلك عبر الخطابات، بل نشطت نشاطاً فعلياً على الأرض وقادت حملةً دوليةً باسم "يوبيل 2000"، هدفت إلى تعبئة الرأي العام العالمي للضغط على الدول الغنية من أجل إلغاء هذه الديون.

في كينيا، تعاونت ماثاي وحركة الحزام الأخضر مع منظماتٍ محليةٍ، مثل لجنة حقوق الإنسان الكينية وهيئاتٍ دينيةٍ، لإطلاق حملةٍ واسعةٍ لجمع توقيعات تهدف إلى حشد مليون توقيعٍ في سنة 2000 للمطالبة بإلغاء الديون. كانت المسألة في نظرها أخلاقيةً قبل أن تكون اقتصاديةً، وتتصل بإرثٍ استعماريٍّ مستمرٍّ يتخذ أوجهاً أخرى من الهيمنة. إذ تشير أستاذة الفلسفة بكلية كورتلان بجامعة ولاية نيويورك ميتشلد ناجل، في دراستها "إنفايرونمينتال جستس أند وومنز رايتس" (العدالة البيئية وحقوق المرأة) المنشورة سنة 2005، إلى أن نضال ماثاي من أجل إسقاط الديون الإفريقية كان جزءاً من تحليلٍ أوسع لمنظومةٍ تُعيد إنتاج الفقر. لا بسبب سوء الإدارة وحدها، لكن نتيجة علاقاتٍ اقتصاديةٍ غير متكافئةٍ بين الدول الغنية والدول النامية.

أكدت ماثاي على هذه الرؤية في مشاركتها في مؤتمر "بكين زائد عشرة"، الذي انعقد سنة 2005 في العاصمة الصينية بكين، وهو جزءٌ من أعمال الدورة التاسعة والأربعين للجنة وضع المرأة التابعة للأمم المتحدة. فقد طالبت بمزيدٍ من الالتفات إلى مسألة الديون لأنها عائقٌ أساسٌ أمام أي مشروع تحررٍ حقيقيٍّ في القارة.

تروي وانغاري ماثاي في مذكراتها أنّها في صباح 8 أكتوبر 2004، كانت تستقل شاحنةً في طريقها من نيروبي إلى دائرتها الانتخابية تيتو لحضور اجتماع دوريٍّ، حين رنّ هاتفها المحمول. وسط التشويش والمطبات، اقتربت من نافذة الشاحنة لتحاول السمع بوضوح. كان على الخط السفير النرويجي يطلب منها إبقاء الخط مفتوحاً، لأن مكالمةً قادمةً من أوسلو في طريقها إليها. جاءها بعد وقتٍ صوت رئيس لجنة نوبل النرويجية أولي دانبولت ميوس يسألها: "هل أنتِ وانغاري ماثاي؟"، ليخبرها بمنحِها جائزة نوبل للسلام.

مع ذلك لم يخلُ التتويج من الجدل. إذ تقول ميتشلد ناجل إنّ خبر فوز وانغاري ماثاي أثارَ جدلاً بين نشطاء حقوق الإنسان الذين تساءلوا عن مدى صلة "جائزة السلام" بمسائل ليست سياسيةً مباشرةً، وعن العلاقة بين البيئة والسلام والعدالة. رداً على ذلك، قالت ماثاي في خطبتها لنيل الجائزة: "في جائزة هذا العام، وضعت لجنة نوبل النرويجية قضية البيئة الحاسمة وارتباطها بالديمقراطية والسلام أمام العالم. وأنا ممتنة للغاية لعملها الثاقب. فإدراك أن التنمية المستدامة والديمقراطية والسلام لا يمكن تجزئتها، فكرةٌ آن أوانها. لقد دأب عملنا على مدى الثلاثين عاماً الماضية على تقدير هذه الروابط والعمل عليها".

رحلت وانغاري ماثاي سنة 2011، لكن إرثها لم يُطوَ مع سيرتها. فقد ظلّ يتناسل في مبادراتٍ وجوائزَ ومشاريعٍ حملتْ اسمها، أو استلهمتْ خطاها. وثّقت منصة "جينييسِز" (عباقرة) بعضاً من هذه المحطات في مقالٍ أضاء على لحظاتٍ تُرجمت فيها أفكار ماثاي إلى أفعالٍ تجاوزت الظرف والمكان. ففي سنة 2012، أطلقت "الشراكة التعاونية في مجال الغابات"، وهو تحالفٌ دوليٌّ معنيٌّ بقضايا الغابات، جائزة "وانغاري ماثاي لبطل الغابات"، تكريماً لكل من يواصل حماية ما دافعت عنه من أشجار وهواء نظيف ومنظور أكثر عدالة للطبيعة.

تتالتْ بعد ذلك مبادرات التكريم واستلهام تجربة ماثاي. فقد حُوّلت قطعة أرضٍ مهمَلة في أحد أحياء واشنطن سنة 2012 إلى حديقةٍ تحمل اسمها. وفي سنة 2013، نُصب لها تمثالٌ حجريٌّ بين شجرتَي قيقب في حديقة كاتدرائية جامعة بيتسبرغ، تحته نُقش "من كينيا إلى بيتسبرغ... شجرة واحدة يمكن أن تبدأ غابة". وبعد عام، في الذكرى الخمسين لتخرجها من كلية ماونت سانت سكولاستيكا، كُرّمت بتمثالٍ آخر داخل الحرم الجامعي. وفي سنة 2015، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" روايةً مصوّرةً بعنوان "وانغاري ماثاي وغرين بيلت موفمنت" (وانغاري ماثاي وحركة الحزام الأخضر) باتت تُدرّس في بعض المدارس مدخلاً إلى فهم العلاقة بين البيئة والعدالة. أما مدينة نيروبي، التي شهدت أشد معاركها، فقد اختارت سنة 2016 أن تغيّر اسم "طريق الغابة" إلى "طريق وانغاري ماثاي"، ليغدو الفضاء الذي دافعت عنه حياً باسمها شاهداً على حضورها.


بعد مرور أكثر من عقدٍ على رحيلها، لاتزال أفكار وانغاري ماثاي حاضرةً في النقاشات البيئية والاجتماعية الممتدة من نيروبي إلى عواصمَ إفريقيةٍ وغير إفريقية. استمرّ إرثها دافعاً لأجيالٍ جديدةٍ من النساء الإفريقيات في مجالات الدفاع عن البيئة وحقوق المرأة. من بين هؤلاء إليزابيث واثوتي، الناشطة الكينية التي أسست مبادرة "الجيل الأخضر" لتشجيع الشباب على زراعة الأشجار وتعزيز الوعي البيئي. وسيسيل نديجبيت من الكاميرون التي أسست "شبكة النساء الإفريقيات لإدارة الغابات المجتمعية"، وسعت إلى تمكين النساء بإشراكهن في إدارة الموارد الطبيعية. وكرّمت المخرجة الكاميرونية ستيلا تشويس وانغاري ضمن مشروعها "أريد أن أكون مثلها"، الذي يحتفي بعشر نساء إفريقيات بارزات.

وربما تكمن قوة هذا الامتداد في صلته بشخص وانغاري ماثاي نفسها، التي لم تكتفِ بإلهام الآخرين، بل خاضت نضالاً معقّداً تجاوز الأطر التقليدية للعمل البيئي. فحين تُذكَر ماثاي، تُستعاد سيرة نضالٍ متعددة الأوجه، بدأت بزراعة الأشجار وانتهت بالدفاع عن الحقوق والحريات. فقد نجحت في الربط بين قضايا البيئة والتنمية والعدالة الاجتماعية، وفَتحت المجال أمام مقاربةٍ جديدةٍ ترى في حماية الطبيعة عملاً سياسياً وثقافياً يتصل بجوهر العلاقة بين الإنسان ومحيطه.

وعبر نشاطها في حركة الحزام الأخضر، طرحت ماثاي رؤيةً نقديةً لبُنى السلطة والاستعمار والمركزية الغربية. وجعلت من الدفاع عن البيئة مدخلاً أوسع للمطالبة بالكرامة والسيادة الوطنية والانعتاق من التبعية الخارجية.

اشترك في نشرتنا البريدية