ساقتني قدماي في مشاويري المسائية في شهر رمضان سنة 2025 إلى الميدان حيث المسجد والمقام. الأنوار تحاوط المحلات والمطاعم وعربات الباعة الجائلين وقبّة المسجد. ذهبٌ ونورٌ وورود. رؤوس الخلق تلفّ حول مسجد السيدة زينب وتطوف حول سورِه الحديدي. ويصدح الميكروفون بصوت الشيخ، يقيم التراويحَ ويدعو اللهَ أن ينصر أمّةَ محمدٍ على أعدائها. يؤمِّن المصلّون خلفَه، وتؤمِّن السيدة التي تبيع السبح والبخور على سور المسجد. ربما وُلِدَت وعاشت هنا أو جاءت مع من جاؤوا من بلادٍ بعيدةٍ للإتجار والتبرك بالمقام. تسكن الشارع وتولّي وجهَها شطرَ القبلة. تصلّي في الشارع لئلا تضيع بركة التراويح ورزقها في آنٍ واحد.
هذا الوجه من حي السيدة زينب والمسجد والمقام أحفظه جيداً. عشتُ فيه وأنتمي إليه. ولاتزال السيدة زينب مبهِرةً وجاذبةً في سكونها العادي واحتفالاتها السنوية. وقد أصبحَت الآن مقصداً لزيارات أجيالٍ شابةٍ تبحث عن التاريخ بين جدران البيوت وأزقّتها والأماكن القديمة. حتى زيارة الأضرحة باتت طقساً سياحياً أكثر منه دينياً أو روحانياً. لكنّ للسيدة في ذاكرتي جانباً آخَر خيالياً. قرأت عن الحي في روايات وقصص يحيى حقي وبهاء طاهر، ورأيت في كلماتهم مجاذيبَ الحيّ وناسَه الهائمين على وجه الدنيا. لا أفتُر عن السؤال والدهشة، عن تكوّن صورة حي السيدة زينب في ذاكرتي. وكلّما قرأتُ عنه، هل رأيتُه بعيون الراوي، أم بعين ذاكرتي التي تحفظ الشوارع ولا تنساها؟ بدت أسئلتي مفتتحاً للكتابة عن حي السيدة زينب في الخيال الأدبي، ومخيّلتي الذاتية، وتجربتي الروائية. لعلّ السؤال يقودني إلى رسم صورةٍ إبداعيةٍ أشمل للحيّ والمقام. كيف تطوّر حي السيدة زينب أو كيف تطوّر كتّابه ورواته.
بدأ الحيّ والميدان المحيط بالمسجد يُسمّى "السيدة زينب" في أواخر القرن التاسع عشر. وحول المرقد وتاريخه وارتباطه بزينب بنت علي، صِيغت كثيرٌ من هوية المنطقة. أضحت الرواية الشائعة أن السيدة زينب قدِمت مصرَ بعد معركة كربلاء سنة 680 وعاشت فيها حتى مماتها. وحسب ما يورد مجدي باسلوم وسميرة مسكي في كتاب "موسوعة آل بيت النبيّ" الصادر سنة 2010، فقد تتبّع المؤرخ الكوهيني الفارسي الأندلسي أصلَ المقام وتاريخَه. فوجد أن هذا مقام السيدة زينب بنت الإمام علي، وأنها بالفعل جاءت إلى مصر وتوفّيت ودُفنت في مكان المقام. استرشد في هذا بما كُتب على باب حجرة المقام "هذا ما أَمَر به عبد الله ووليُّه أبو تميمٍ أمير المؤمنين الإمام العزيز بالله صلوات الله عليه وآبائه الطاهرين وأبنائه المكرمين بعمارة هذا المشهد على مقام السيدة الطاهرة بنت الزهراء البتول زينب بنت الإمام علي [. . .]".
في المقابل، قيل إن مقام السيدة هو قبر رؤيا. عرض ذلك مؤرخ المزارات ابن الناسخ (الذي عاش في أواخر القرن السابع الهجري) في كتابه "مصباح الدياجي وغوث الراجي". وقبور الرؤيا كانت تقام من حلم. إذ يحلم أحد الصالحين بأن السيدة زينب (أو أيٌّ من آل البيت) مدفونةٌ هنا، فتقام لها القبّة وشاهد القبر في الموضع نفسه. يمرّ الزمن، فيتحول الموقع إلى قبّةٍ خضراء ومقامٍ لآل البيت. ومضافٌ لطرح ابن الناسخ تراكماتٌ من البحوث لمؤرخين مصريين قدماء، على غرار ابن الزيات الأنصاري والمقريزي اللذين توفّيا في القرن الخامس عشر، تشير إلى أن السيدة زينب لم تدخل مصر.
وحسب محمد السابقي في كتابه "مرقد العقيلة زينب" الصادر سنة 2011، فالأدلة التاريخية تنفي أن لِعليٍّ بنتاً من صلبِه جاءت مصر. ويؤيد هذا الرأيَ المؤرخ الإسلامي المصري، عبد الحليم عويس. يعتمد عويس على فرضيةٍ أنه حين وفاة زينب سنة 62 هجرية، كانت المنطقة التي يقوم عليها المرقد حالياً جزءاً من النيل، لا أرضاً يُدفن فيها. وقال عويس إن الإشارات لوجود مراقد لأهل البيت مردُّه الدولة الفاطمية وضغوط المتصوفة.
وسواءً دُفِنَت السيدة زينب في المنطقة أم لا، فلم يمنع هذا الجدل أن ينموَ الحيّ جسراً بين الماضي والحاضر. نشأ في محيط "مرقد السيدة" ومسجدها مجتمعٌ بنكهةٍ خاصةٍ، جمع بين طيّاته ناسَه ومجاذيبَه ومساكينَه وروّادَه والمارّين به. وبين جنباته خرج أدباء وكتّابٌ ارتَوَوا من هذه النكهة. فصارت تفاصيل الحيّ ويومياته إلهاماً لهم ولأعمالهم الأدبية، التي نقلت حي السيدة زينب وتجارب أهله خارج حدود الجغرافيا والزمان لقرّاءٍ ما زاروه من قبل.
في بداية الرواية يحكي لنا حقّي عن جولةٍ بطلها إسماعيل في ميدان السيدة زينب. وفي سياق إسماعيل، يرصد الراوي تفصيلاً حركة الناس في الميدان وأصواته، بل وحتى روائحه. درسٌ في الوصف الأدبي الذي يوظِّف فيه الراوي حواسَّه كاملةً لينقل لنا جغرافيا الناس والمكان، ومن ثمّ يزرعنا فيه. يلتقط تفاصيل بعينها، العادي وغير المألوف، هي حتماً ما علق بذاكرة يحيى حقّي وروحه فاستدعاها في النص الأدبي. ذاتها المشاعر التي ألحّت عليه عندما عاد إلى حي السيدة زينب بعد سفره إلى الخارج لدراسة الطب. فقد قال في اللقاء مع فاروق شوشة: "وحين عدتُ إلى مصر سنة 1939، شعرت بجميع الأحاسيس التي عبّرت عنها في قنديل أمّ هاشم".
إسماعيل مثل حقّي، ابن حي السيدة زينب الذي عاش في أزقّته، لكنه سافر إلى أوروبا لدراسة طبّ العيون. فبات يطيل الجلوس إلى جانب الضعفاء من مرضاه، بفضل جذور الحيّ الشعبي الذي يعجّ بالغلابة (المساكين) الذين أصبح وجودهم في محيطه مألوفاً. رقّقتْ السيدة زينب قلبَه وعلّمته الهوانَ مع الناس. أما عقله فهو ميزان الحكمة وجوهرها، رمز العلم في مقابل الخرافة، يهدم الكثير ممّا بناه القلب.
سافر إسماعيل إلى أرض الحضارة والعلم ورأى الدنيا خارج حدود الحيّ العتيق، ليدرك بعدها أنه عاش طيلة حياته محاطاً بخرافات مجاذيب السيدة ودراويشها، وأن عليه أن ينظر للسيدة بنظرةٍ أخرى قِبلتُها العلم. أصبح يرى البركاتِ خرافاتٍ، والغرض من الخرافات واضحٌ أمامه: التحكم في نفوس العباد.
تتغيّر لهجة الراوي في وصف ما يراه إسماعيل في حي السيدة زينب: "قذارة وذباب، فقر وخراب. فانقبضت نفسه وركبه الوجوم والأسى، وزاد لهيب الثورة في قرارة نفسه وزاد التحفز". وفي موضعٍ لاحقٍ، يصف زحام الميدان بأنه "الصخب الحيواني". في هذه السطور نرى حيّاً آخَر غير الذي رأيناه في السطور الأولى من القصة، ونرى الأوصاف الأدبية تنزع عن الحيّ قداسته القديمة، فتمنحنا عيناً أخرى للرؤية أكثر تعالياً.
تتقلب مشاعر الراوي مع مشاعر البطل، الذي تبدّلت علاقته بِحيِّه الشعبي بعد أن رأى المدن المتحضرة، ورأى أناساً لا يغرقون في الخرافة والجهل والفقر، لكنه مع هذا لا يخسر تلك العلاقة.
يتغير كلّ شيءٍ في نهايات القصة عندما يتساءل إسماعيل "هل في أوروبا كلّها ميدان كالسيدة زينب؟ هناك أبنيةٌ ضخمةٌ جميلةٌ، وفنٌّ راقٍ، وأناسٌ وحيدون فرادى". ولكي لا يخسر يحيى حقّي القارىءَ المتعاطف مع الحيّ، اختار نهايةً لا ينهزم فيها القلب المحبّ للسيدة. لم يغترب بطل القصة ويترك حيَّه، بل قرّر أن يسكن فيه ويتزوج منه ويعالج الغلابة بالطبّ الذي تعلّمه. وهكذا يتجاور المقام إلى جوار العيادة، فلا يفقد أحدهما قداسته.
تكشف القصّة عن صراع ناس الحيّ البسطاء وتقاليدهم الدينية الشعبية مع إسماعيل، ابن الطبقة المتوسطة المثقفة الذي يحمل شارة التنوير في جموع العامّة من الجاهلين. وفي الكشف تبرز المفارقة بين طبقتين، لا يفرّقهما فقط نمط حياتهم الاجتماعية وإن جمعهما المكان ذاته، بل نمط إيمانهم أيضاً. تفصل بينهما ثنائية العلم والخرافة، أو التنوير والجهل. تنتهي القصة بانتصار البطل للعِلم والتعلّم، لكنه لايزال يسير حذوَ معتقدات ناس الشارع والمقام، أو ما يمكننا تسميته "الإسلام ممارسةً شعبية". هنا، فالمقدَّس "المقام" لا يُمسّ. يتحول إلى فضاءٍ يحكمه خطابٌ ومعتقداتٌ ومفرداتٌ تخصّه وتحوّله إلى سلطةٍ من نوعٍ خاصٍّ، إمّا أن تقبلها أو لا تقترب منها.
لم تختلف نظرة يحيى حقّي في قصة "أم العواجز" (اسم شعبي للسيدة زينب) المنشورة سنة 1947 كثيراً عنها في "قنديل أم هاشم". في "أم العواجز" ناس السيدة ومريدوها لا يتغيّرون، تحديداً في ليلة الثلاثاء الأخير من شهر رجب، الليلة الأخيرة من الاحتفالات بميلاد السيدة. تجول عين حقّي في الشارع، تقف على المسافة ذاتها من ناس حي السيدة زينب. ومن بين الزحام يختار شخصاً على هامش الميدان، إبراهيم أبو خليل. الرجل الفقير والبائع السريّح (المتجوّل) الذي يصلُح ضحيةً لمجتمعٍ غارقٍ في الفقر والجهل.
صدرت الطبعة الأولى من الرواية في السبعينيات، بعد ما يقارب ثلاثة عقودٍ من "قنديل أم هاشم"، وقد تغيّر وقتها حالَ حي السيدة زينب في نفس سياق تغيّر ملامح المدينة التي تعجّ بالزحام والاختناق. لكن حيّ السيدة زينب يأسر شيئاً من النور، فمازال قبلةَ المتصوفين والزاهدين والفقراء في أرض الله. فهو يبدو مساحةً بِكراً تصلح لتأمل الروحانيات وتأثيراتها على العامّة، الذين لا تغويهم شعارات السياسة والفلسفة والأسئلة المعرفية الكبرى، ولا يثنيهم صخب مدينةٍ لا يتوقف. فيكسر السرد الصخبَ بأناشيد وغناء مدّاحي السيدة.
"وكان الليل يتقدم وأصوات الزحمة صاحية في الطريق مثلما كانت منذ مطلع النهار، تعلو من هناك ومن فوق السطح أصوات التهليل والتكبير والدعاء لصاحبة الليلة الحبيبة السيدة زينب، الست الطاهرة، أم هاشم، بنت بنت النبي، أخت الحسن والحسين، أم العواجز وجابرة المنكسرين. مدد يا ست مدد!".
تبحث شخصيات رواية بهاء طاهر عن النور الذي هو جوهر الروح البشرية. يحرّكها سؤالٌ وجودي عن الحياة، المعنى الروحاني الصوفي للخلق الإنساني، أكثر منه تأمل المكان أو ثنائيات العلم والخرافة. لم يكتفِ الراوي بوصف الحيّ وتفاصيله وزحامه ومريدي المقام، بل استفاض أكثر من قصة حقّي. امتدت فصول الرواية لتشهد مساحات حياةٍ أكبر داخل حي السيدة زينب. استوقفني فيها إحياءٌ لليلة ذكرٍ وإنشادٌ دينيٌّ وذبحٌ عظيمٌ في ليلة مولد السيدة زينب.
"ولما جاء يوم المولد قرّر شعبان أن يحتفل به كما كان جدّه السعدي يفعل وكما ظل الباشكاتب [موظف إداري] يحييه لسنواتٍ طويلة". وفي مقامٍ آخَر يصف المولد: "يسمع صوت ربابة وإنشاد مداحين، وفرقعات بنادق التنشين [التصويب]، وأزيز المراجيح، ونداءات باعة الأطعمة، وباعة العطور وباعة كتب الأدعية الدينية، وخشخشة ميكروفون الساحر الذي يشطر ابنته بالمنشار إلى نصفين أمام أعين المتفرجين، والدخول بقرش صاغ واحد".
يمزج بهاء طاهر بين روحانيات الشخصيات التي تتوق إلى الخلاص، وطاقة النور التي نفذت إلى أرواحهم في الطقوس الشعبية ليلة المولد. وهنا تتجلّى روح الخيال وروح الواقع. يمتد مشهد الإنشاد الديني والمديح لصاحبة المقام خلفيةً لأحداثٍ تسري داخل الشخصيات. بينما ذاكرة الباشكاتب، بطل الرواية، تستحضر ذكرياته القديمة مع مولد السيدة وترتعش في قلبه هزّةٌ عندما يسمع "البُردة". والبردة هي قصيدةٌ في مدح النبيّ محمدٍ ألَّفها الشاعر الصوفي البوصيري في القرن السابع الهجري.
"وأخيراً جاءت اللحظة التي انتظرها الجميع، حين عَلَت من فوق سطح البيت بعد انقطاعٍ طويلٍ أبيات البردة التي اعتادوا على سماعها منذ الصغر، تنقلها مكبّرات الصوت للحيّ كلّه. واغرورقت عينا الباشكاتب بالدموع وهو يسمع الأبيات الأولى التي يهتز لها قلبه [. . .] وتساءل الباشكاتب هل يتحدث البوصيري عن نفسه أو عنه؟".
أقرأ سطور الرواية وتختلط الصور في ذاكرتي. أتذكّر يوم الزحام الأكبر وقدوم الوافدين يوم مولد السيدة ليلة الثلاثاء الأخير من رجب. أحفظ تاريخه وأعرف أنه اقترب عندما تمتلئ الساحات وشوارع حي السيدة زينب الجانبية بالوافدين من الريف والصعيد والمدن المجاورة، ينصبون الخيم والشوادر ويقيمون جماعاتٍ بداخلها. وأحياناً كانوا يفترشون مداخل البيوت، فقد ترك زوّار المولد بيوتهم وحالهم وجاؤوا ليحْيوا ليلتها المباركة. يزورون ويصلّون ويدعون الله بالستر والسلامة والرزق والعيال، ثم تبدأ الجولات الليلية والاحتفال والمرح والغناء.
لم ينتشر المتصوفون ومحبّو آل البيت وحدهم في المولد. فقد تَجاور الفنانون أيضاً في السياق المهرجاني الشعبي ذاته ليمارسوا مواهبهم في التعبير والحكي. فظهر الأدباتي والبهلوان وعازف البيانولا (آلة موسيقية متنقلة) ولاعب الأكروبات، وكذلك المداحون والشعراء. ربما من هنا بدأت علاقتي بالكتابة عن حي السيدة زينب. فالحكي جزءٌ من روح الشارع وعاداته وبه يتسامر الناس. يلتقطون أطراف الحكايات من هنا وهناك، ويغزلون شيئاً يشدّ الروابط الاجتماعية، وتجمعهم جغرافيا واحدة.
كنت صغيرةً يزعجني كلّ هذا الزحام وهؤلاء الذين يفترشون الأرض بثيابهم نفسها ليلَ نهار. ولكنهم كانوا ودودين، يوزعون الطعام على العابرين ويصنعون أكواباً – تبدو أبديةً – من الشاي والقهوة لناس المولد. ولا تختبئ من عيونهم نظرة غيرةٍ منا، نحن سكّان الحيّ الذين نحظى بمجاورة الست وبركتها. هو الزخم والضجيج والزحام في روايات يحيى حقّي عن حي السيدة زينب، يزيد عليه البُعد الروحي الذي تحمله لنا كلمات بهاء طاهر في روايته عن المكان ذاته. ولكن حتى وسط كلّ هذا الضجيج، وإن اخترقه طيفٌ من الروحانيات، تخيّم الوحدة ويتقلص معها الكون. وهو ما يرصده يوسف إدريس في قصته عن حي السيدة زينب.
لا تتحدث القصة عن الوحدة فحسب، بل تُعمّقها بخلق سياقاتٍ أوسع لها. بطلة القصة امرأةٌ يقودها القدر إلى لقاء ولدٍ يتيمٍ يبحث عن أمٍّ تمنحه ما ينقصه من مشاعر. وفي سدّ احتياجاتهما الإنسانية، وَجدا نفسيهما يكمّلان بعضهما بعضاً. تذهب البطلة لزيارة مقام السيدة لتكسر رتابة الوقت والأيام. ويلخّص يوسف إدريس المشهد في القصة بقوله: "قد نفدَت أمومتها، أو ما تبقَّى منها، وبين عودتها من جديد لتصبح هي نفسها ابنة، ابنةً لأمٍّ لا وجود لها، وربما لهذا سمَّوها أمَّ العواجز".
المقاربة بين الأمّ والسيدة زينب تجعل القارئ متماهياً مع ذلك الشعور الذي يؤرق الأمّ ويؤدّي بها إلى الوحدة. هي امرأةٌ، أنثى، لا ابنةٌ لأحد. وإن كانت حقّاً أمّاً لأبناء، فإنهم ما عادوا يبالون، فُنزعت منها أمومتها وتعمّقت وحدتها. يجرّد الكاتب بطلتَه من علاقتها بنفسها، امرأةً، بعد أن عاشت حياتها محصورةً في دور الأمّ والزوجة. وكأنها لا تصلح لشيءٍ أخر. لكنها في القصة تمارس أمومةً جديدةً ومشاعر تجاه مراهقٍ صغيرٍ يفتقد وجود أمٍّ في حياته. من هنا تتأجج المشاعر بينهما، المريدون وصحابة المقام. ألا يشبه الأمر هؤلاء المريدين اليتامى الذين يتوافدون على أمّ العواجز لتعطيهم المَدد وتمنحهم البركة؟ يعدّونها أمَّهم، يؤنِسون وحدتها في قبرها، فتنشأ علاقةٌ خفيّةٌ بينها وبينهم تسدّ فراغات النفوس الوحيدة.
منها مثلاً رواية "الواقعة الخاصة بأموات أهله" لمحمد عبد الجواد والصادرة سنة 2025. وهي واحدةٌ من روايات عبد الجواد التي تتميز بحضورٍ قويٍّ للأحياء الشعبية، لكنها تبقى مجرّد خلفيةٍ للحكاية. يؤسّس الكاتب لأبطال روايته مكاناً ينتمون إليه، وفيها تمتد جذور عائلة الرز إلى حي السيدة زينب. تتجلّى السيدة في خلفية الرواية شاهدةً على الأحداث، ويتردّد بين الفصول ذكر المقام وصاحبته. تارةً يصف لنا الراوي شوارع حي السيدة زينب الجانبية. وتارةً تزور الشخصيات في المنام، فتمزج بركاتها بين الصحو والنوم. ومن هنا، تحتفظ السيدة زينب في مخيّلتنا الآن بالبركة والزهد، تحمل رائحتها شيئاً من نسائم الحنين إلى الماضي. إنه مكانٌ يحمل فضاؤه خصوصيةً يرتبط فيها اسم حي السيدة زينب بمشاعر موجودةٍ ومعروفةٍ مسبقاً. حياةٌ خاضها من عاشوا في الحيّ أو ارتادوه، أو ما بين الاثنين.
أياماً ولياليَ لم أنقطع فيها عن الكتابة، أعدتُ وصفَ السيدة زينب كما أعرفها وأحفظها معاينةً ورواية. أحيِي أشخاصاً رأيتُهم وعاشرتهم سنواتٍ، وأستدعي حكاياتٍ أذكر منها البدايات والنهايات. ومثل عجوزٍ تستدعي أيامَ الصبا، استدعيت روائحَ بخور المسك والشيح، وكومة القمامة العظيمة في شارع السدّ البرّاني، وزفارة السمك البلطي والبوري والجمبري في سوق السمك. استدعيت تخيّلاً كذلك باعة الخضراوات والفاكهة في السوق الكبير، ووجوه الشحاذين والسريحة (الباعة الجائلين) الملتصقين بجدران المسجد، والعيال أنصاف عرايا والنساء يُرضِعن صغارهنّ دون ستار. تجوّلتُ حرّةً في خيالي. وممّن تذكرتُهم ذلك المجذوب الذي سرق منّي ذات نهارٍ تذكرةَ يانصيب وجريدة الأهرام أثناء مروري أمام فرشة الجرائد بالميدان، فلم أفعل شيئاً سوى الضحك. لم يعد لفرشة الجرائد أثرٌ الآن، وتلاشت تماماً في زحام باعة الملابس على الرصيف المقابل للمسجد والمقام.
أمّا المدينة الحديثة التي أعيش فيها، ذلك البراح والهدوء وصمت الحكايات، لا يحفّز في خيالي أيّ شيء. وإنما شيءٌ من السحر يجذبني في وصف حي السيدة زينب وناسها، حَرَكَتهم في الشارع ومعاركهم الصغرى والكبرى. لا أَعجَبُ كثيراً. فالشيء الساحر ذاته جذب يحيى حقّي وبهاء طاهر ويوسف السباعي وأدباء كثيرين ربَطَتْهم والحيَّ صلاة الروح والعقل والجسد، بعضها أو جميعها.
نقطةٌ رئيسةٌ تفرِّق بين الأدباء القدامى وأدباء جيلي في النظر لحي السيدة زينب، ربما تتعلق بموقع الأدب ووظيفته عموماً. لم يعد الأدب في كتابتنا أداةً لخوض صراع الأصالة والمعاصرة، أو الدِين والعِلم، أو التديّن الشعبي والرسمي، وكلَّ هذه الثنائيات التي طالما حرّكت الأقلامَ لتكتب عن السيدة زينب نموذجاً يجسِّد زمناً ونظامَ تديّنٍ بعينِه، مرفوضاً حيناً ومصالَحاً حيناً ومستحضَراً حيناً. بل يحاول الأدب في جيلنا أن يلتقط اليومي والواقعي والبسيط والهامشي، بعيداً عن الجدالات الثقافية الكبرى. لهذا توجّهَت أنظارنا إلى مثل حي السيدة زينب، نكتبه ونروي قصص ناسه، تهدينا رؤى القدماء في التقاط خيوط الواقع، لنذهب بها إلى الأكثر بساطةً وهامشيّة.
ربما لن يصدّق زوّار السيدة حديثاً من يخبرهم أن ما مِن سيدةٍ مدفونةٍ هنا. ولكن ليس هذا ما يشغلني، بل تلك الطاقة الروحية التي لا أجد لها مثيلاً في مكانٍ آخَر. بسطاء مخلصون يحملون أملاً ورجاءً، يتضرعون إلى الله بقلوبٍ منهَكةٍ ويطلبون المَدد. "نظرة يا ست"، ما مِن سبيلٍ آخَر سوى الدعاء بإخلاصٍ وتلمّس البركة. كلّ هذا وإن بدا خرافاتٍ مجرَّدةَ المعنى، إلّا أنه حقيقةٌ صادقةٌ لا تغفلها عينٌ ولا قلب. هي الحقيقة التي ظلّت مجسدةً في الروايات عن حي السيدة زينب، مع تغيّر الزمان وتغيّر الكتّاب، مرفوضةً حيناً ومصالَحةً حيناً ومُحتفىً بها أحياناً أخرى.
