تفاخرنا صغاراً بمكان ولادة أبي المدوَّن على بطاقته، محافظة الإسماعيلية. ولم يقصّ والدانا علينا قصّة لقائهما في العاصمة المصرية القاهرة، إلّا وذكّرنا أبي بأنّ جدّنا كان مُهجَّراً. كان قد وصل بأبنائه إلى حيّ الحسينية في القاهرة، خشيةً على أطفاله من مغبّة الحرب التي تجدّدت مراراً بين مصر وإسرائيل بين سنتَيْ 1965 و 1973. وترك خلفه في الإسماعيلية بيتاً كان يملكه. سكنت العائلة الوافدة قريباً من مسكن عائلة أمّي. تعارفت العائلتان وتزوج أبي أمّي، واختار أن يسكنا في قريةٍ بمحافظة الجيزة القريبة للاستقرار بين النيل والخضرة.
طالما حملتُ في قلبي اعتزازاً بالسياق التاريخي الذي وُضعَت عائلتي فيه، إلّا أنّ هذا الاعتزاز خذلني عند وفاة والدي. فقد دُفن أبي إلى جوار حَمِيه. حاولَت والدتي أن تواسيَني بالحديث عن تجاور أبوَيْنا. لكن مواساتها لم تجد لقلوبنا رفقاً.
مررتُ بقلوبٍ ونواصٍ وتواريخ أنتمي لها، لكن أيّاً منها لم يضِئْ جانبي المخفيَّ، بل ازداد قتامةً كلّما حدّقت فيه وازدادت غربتي. لذا قررت البحث والكتابة عن تهجير محافظة الإسماعيلية (في عدةِ مراحل من القرن الماضي)، الذي كان لنا منه نصيب. وهنا ازدادت غربتي وحشةً، لجهلي بما لاقاه جدّاي وأكبر أبنائهما، وبأيّ سياقٍ زمنيٍ وسياسيٍ ارتحلوا.
أيقنتُ أن أصداء التهجير لا تنقطع بوصول العائلة إلى مكانٍ آمنٍ ووفاة حَمَلة الذكرى، بل تتحوّل على يد الجيل الثاني إلى تاريخٍ وجذورٍ عميقةٍ إذا ما اقترن التاريخ المَرويّ والسياق السياسي بذكريات العائلة، فيرتبط الأبناء بماضيهم ووطنهم. من جهةٍ أخرى، يتحوّل التاريخ إلى أسطورةٍ إذا ما تكتّمت العائلات أو الأوطان على ماضيها، فينقطع الأحفاد عن جذورهم نهائياً. ويخلّف ذلك القطع اغتراباً وانفصالاً وفقداناً للهوية. وقد تستفيق الصدمة في قلوبهم بعد حدثٍ جللٍ، من دون أن يدركوا ماهيّة ما يشعرون به.
في رحلة بحثي عن ذاكرة عائلتي، مدركةً تفرّد الصدمات التاريخية وبُعدها الاجتماعي، لم أجد ما يكفي للتسلح به من كتبٍ ودراساتٍ عربية. إذ اكتشفت ندرة ما كُتب عن مُهجّري الإسماعيلية، وقلّة الدراسات عن الذاكرات العربية وصدماتها التاريخية، وما خلّفه التهجير من آثارٍ ممتدةٍ، وفق منهجٍ يراعي تفرّد مجتمعاتنا. هذا النقص يبدو أكثر وضوحاً عند النظر إلى تجارب التهجير الواسعة التي شملت كلاً من فلسطين ولبنان وسوريا، والتي لا تزال تلقي بظلالها على الذاكرة الفردية والجمعية في تلك البلدان.
يأتي ذلك فيما تتصدر أسماء دولٍ عربيةٍ القائمةَ السنوية لأعلى الدول تصديراً للّاجئين والنازحين. إذ تحيا فيها شعوبٌ تشهد أقسى الأزمات الإنسانية، وتصارع كابوس التهجير، وتواجه تدميراً يكاد يكون ممنهجاً لكلّ شاهدٍ على ذاكرتها. تماماً كما تضاءلت مصادر ذاكرتي العائلية، لتصبح بذلك زيارتي إلى الإسماعيلية خطوةً استوجب عليَّ خطوُها وإن بدأت أهابُها.
ينعكس ذلك الاختلاف المفاهيمي على القانون الدولي. فقد انتقد مؤلّفو بحث "التهجير القسري للسكان – الحالة الفلسطينية: الحرمان من جبر الضرر" تعريف وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) للّاجئ الفلسطيني. إذ وجد البحث الصادر في ديسمبر 2018، قصوراً في الوصف الذي يقصر تعريف اللاجئ على من أقام في فلسطين بين سنة 1946 وعام النكبة، ومن فقد بيته ومورده وتشرّد داخلياً. فضلاً عن أن التعريف نفسه حصر معاناة الفلسطيني اللاجئ في حاجته للمساعدة، وليس في تهجيره من الأساس.
في ذلك كتبَت عالمة الإناسةِ الأردنية سيتيني شامي بحثَها التحليلي "ذا سوشيال إمبليكيشنز أوف بوبيوليشن ديسبليسمنت آند ريسيتلمنت" (الآثار الاجتماعية لإزاحة السكان وإعادة توطينهم) المنشور سنة 1993. ونادت شامي في هذا البحث بضرورة الخروج من الإطار الذي يحصر تحليل ظاهرة الهجرة الجماعية في مناقشة الدوافع المسببة للتهجير وحدها، والتركيز بدلاً من ذلك على دراسة حالات نزوحٍ معينةٍ ضمن سياقاتها التاريخية، لا سيما في العالم العربي. وقد نَبّهَت إلى أن "الهجرة القسرية وضعٌ يعيشه من ضعفت سلطة قراره". واعتبرت أن "استراتيجيات التنمية في الوطن العربي أدّت، بالقدر نفسه، إلى تهجير شعوبٍ من دون أن يلحظ أحدٌ ذلك".
تتفق هذه الرؤية مع دعواتٍ عربيةٍ لدراسة الآثار النفسية للهجرة الجماعية القسرية من سياقها الاجتماعي. ففي بحثه "صدمات العنف المسلح والتهجير القسري والتعامل معها، منظور ثقافي جمعي"، الصادر في مارس 2019، رفض عالِم النفس اللبناني مصطفى حجازي دراسةَ صدمات التهجير القسري من المنظور الفردي لعلم النفس الغربي. وبرّر رفضه بأنّ مسببات الهجرة كامنةٌ في "الجماعة"، وكذلك يكمن في فكرة الجماعة علاج صدمتها. "فالإنسان العربي" وفق رأيه، ابن كلمةِ "نحن". ولذلك يرى حجازي أنه من المرجّح أن تكون لنا، نحن العرب، أعراضٌ مختلفة.
لم ينل أحفاد المهجَّرين نصيباً من البحث العلمي غالباً إلّا في دراساتٍ غربيَّة. وتأسّس نهج معظم هذه الدراسات على الناجين من محرقة اليهود "الهولوكوست" وأحفادهم، وكذلك أحفاد النازحين جرّاء الحرب العالمية الثانية. واعتمد بعض الباحثين، منهم سيندي سانغلانغ وسيندي فانغ، في دراستهما "إنترجينيريشونال تروما إن ريفيوجي فاميليز" (الصدمة العابرة للأجيال في العائلات اللاجئة) الصادرة في 2017، على استبيان "هارفارد" للصدمات، الذي صدرت منه ستّ إصداراتٍ، صمّمت لاستبيان أعراض صدماتٍ جماعيةٍ يفترض أن تكون فريدة.
لكن لفتني اعتماد آخَرين على نظرية أستاذة الأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة كولومبيا ماريان هيرش، التي افترضت في كتابها "ذا جنريشن أوف بوست-ميمُري" (جيل ما بعد الذكرى) الصادر سنة 2008، أنّ ذكرى الأحداث المؤلمة تبقى حيّةً، وتترك بَصْمَتها على "جيل ما بعد الذكرى" الذي لم يشهدها، لكنها نقلت إليه وأثّرت في عواطفه عبر صورٍ وقصص.
وقد عملت هيرش طوال عقدين على ذاكرة الجيل الثاني للهولوكوست، وألّفت كتباً عن الروايات العائلية. وقد شجَّعَت "جيلَ ما بعد الذكرى" على التخيّل والإبداع لحفظ ذاكرته في "ذخائر الذاكرة"، التي تظهر في أشكالٍ ثقافيةٍ كثيرةٍ حول العالم، كالمتاحف والأرشيفات، محفزةً مشاعر الارتباط الحيّ للحفيد بجيل الناجين من عائلته.
لكن الباحثة الجنوب إفريقية شاناز حسين، عارضَت تلك الرؤية في دراستها "ذا ترانسميشن أوف إنترجنريشنال تروما إن ديسبليسد فاميليز" (انتقال الصدمة بين الأجيال في العائلات المهجَّرة)، الصادرة في نوفمبر 2013. تتناول الدراسة التهجيرَ والصدمات العصبية التي تنتقل عبر الأجيال في جنوب إفريقيا أثناء نظام الفصل العنصري. شاناز رفضت اعتماد منهج حالة الهولوكوست وتعميمه، مؤكدةً على اختلاف الإرث التاريخي لعائلات ضحايا الهولوكوست والناجين منه، عن إرث الصدمة الاستعمارية التي عاناها السكان الأصليون في جنوب إفريقيا.
وعرّفت الباحثة الصدمةَ العابرة للأجيال بصدمة الماضي التي لم تُحَلّ بعد، حينما لا يتصالح المرء مع الحدث الصادم أو يفهمه، ليعيش منفصلاً عن عائلته الكبيرة محمَّلاً بمشاعر العار والاضطهاد. ولفتت إلى أنّ المصالحة التي أعقبت حقبة الفصل العنصري في بلدها "حرمت الأجيال اللاحقة من دمج روايتها وحزنها في الخطاب المجتمعي السائد".
قد يتفق ذلك الرأي مع نتائج دراساتٍ بحثت في أثر الذكرى على الجيل الثالث لمن عاصروا الهولوكوست، ووجدت أن الصدمة لم تنتقل إليهم، عازيةً ذلك إلى تلقيهم دعماً مؤسسياً تمثَّل في تأسيس إسرائيل والاعتراف العلني بالهولوكوست.
كتبت هيرش مقالاً في يوليو 2024، بعنوان "ريثينكينغ هولوكوست ميموري أفتر أكتوبر سفن" (إعادة التفكير في ذاكرة الهولوكوست بعد السابع من أكتوبر)، في إشارةٍ إلى هجوم حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023. ووصفت هيرش في هذا المقال ذاكرة الهولوكوست بوصف "الذاكرة المركّبة"، أي الصدمة التي استُخدمت لاحقاً سلاحاً سياسياً مخلّفةً صدمةً جديدة. وشكّكت في عودة ذاكرة الهولوكوست للصدارة العلمية، قائلةً "بات ضرورياً إدراك مخاطر بناء ذاكرة الهولوكوست على المَظلَمة وحدها، فإذا كنّا نتذكّر الهولوكوست فقط من خلال صدمته الشديدة، فإنّنا نسمح له بتبوّؤ موقعٍ مميزٍ في دراسة الصدمات، معزولةٍ عن سياقها التاريخي".
وقد أجمعت نتائج دراساتٍ نفسيةٍ استبيانيةٍ ووراثيةٍ عدّةٍ للصدمات الجماعية العابرة للأجيال على بعض الأعراض، ومنها اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب واضطراب التعلق والقلق والاغتراب واضطراب الهوية وفشل الاندماج. وأظهرت دراسةٌ إحصائيةٌ بعنوان "فورسد ديسبليسمنت آند سبسكوينت جينيريشنز مايغريشن إنتينشنز" (التهجير القسري ونوايا الهجرة لدى الأجيال اللاحقة) نشرت في ديسمبر 2023، معارضةَ المَيل للهجرة، واحتماليةَ الشعور بالخزي والاضطهاد إذا اتخذ التاريخ موقفاً عدائياً من الذاكرة، ولم تتمكن العائلة من العودة إلى مكان إقامتها قبل النزوح.
مات كُثرٌ في عائلتي غرباء، وتفرّق أشقّاء أبي داخل مصر وخارجها، وداخل القاهرة وخارجها. كنت قد قابلت أربعةً منهم في صغري في حفلات زفاف. ظننت وقتها أنّ هؤلاء هم كلّ أقارب أبي، إلى أن علمتُ بوفاة آخرين. سمعتُ أسماء بعضٍ من إخوة أبي أول مرّةٍ يوم وفاتهم، حين كنت أراه منزوياً حزيناً، لتسحبَني أمّي بعيداً منبّهةً "مات لوالدكِ أخٌ اسمه كامل"، "مات لكِ عمٌ اسمه حمدي".
عايشتُ كبيرةً ثلاثةً من أعمامي في القاهرة، بينما كانوا جميعهم متقدمين في السنّ. وقد أَنِستُ بهم، وحظيت بالجلوس إلى جوار عمّي الأكبر بينهم، قبل أن يتوفّى. لذلك بات البحث في ذاكرة عمّي وعمّتي الأصغرين وسيلتي وقوّتي الروحية لأعلم بأيّ حالٍ قد أحلّ في الإسماعيلية.
لم يكن بيني وبين السفر سوى قراري، فاخترتُ يوماً عشوائياً، وواصلت بحثي إلى أن وجدتُ ضالّتي في أرشيف الجامعة اللبنانية الذي يزخر بالأبحاث العلمية، ومنها ما هو في مجال التهجير والهجرة القسرية. وتُعدّ تجربة لبنان في هذا المجال غنيّةً وتوفر مادّةً مهمةً للأبحاث.
شهد لبنان موجات هجرةٍ كثيرة منذ سنة 1840، نتيجة التنمية الاقتصادية غير المتوازنة والصراعات الوطنية والدولية التي كان بلد الأرز في القلب منها أو امتدّ إليه صداها. ونتيجة ذلك، فاق عددُ اللبنانيين المهاجرين حول العالم عددَ أولئك المقيمين داخله، بحسب دراسةٍ نشرت سنة 2011 بعنوان "الهجرة كتحدٍّ للاقتصاد اللبناني" للأستاذ في الجامعة اللبنانية بطرس لبكي.
انطلاقاً من ذلك، سألتُ الأستاذ المساعد في علم النفس العيادي بالجامعة اللبنانية، أنطوان شرتوني، ما إذا كان قد لاحظ انتقالاً لآثار الهجرة القسرية عبر الأجيال، فأجاب: "دائماً. ويظهر ذلك حتى إن لم يعايشوا التهجير أو الحرب. فحتى الجيل الرابع أو الخامس قد يحمل آثار ما عاشه الأجداد في السابق".
وتحدّث شرتوني للفراتس عن القلق العامّ والاكتئاب واضطرابات النوم والطعام، وهي أبرز أعراض صدمة التهجير التي تظهر لدى الأجيال اللاحقة. وعن تأثير تلك الأحداث البعيدة على شعور الفرد تجاه مجتمعه ووطنه، قال: "عندما نرى شخصاً غادر بلده وعاش في بلدٍ آخَر، فإنّ الحنين إلى الوطن يبقى حاضراً، حتى لو كانت العادات والتقاليد في البلد الجديد قريبةً من بلده الأصلي. مع العلم أن لا بلد يشبه الآخَر تماماً. فالوطن هو المكان الذي يولد فيه الإنسان ويموت فيه". وتابع: "لذلك، من الطبيعي أن نرى أشخاصاً يَصِلون إلى أعماق الاكتئاب أو يعانون اضطراباً في الهوية، ويتساءلون: 'لمن ننتمي؟' هذا الشعور شائعٌ خصوصاً لدى من انتقل من ثقافةٍ عربيةٍ إلى ثقافةٍ غربية".
يجد شرتوني أن "ذاكرة العائلة والمجتمع والوطن تبقى حاضرةً ولا تمحى، إذ تنتقل عبر الأجيال من خلال الكلام والقصص التي يردّدها أفراد العائلة. ثمّ يروي الحفيد تلك القصص فتبقى الذاكرة حيّةً فيه ويقوى بذلك شعوره بالانتماء". نرى ذلك جليّاً في قصص الأطفال القديمة، التي انتقلت شفهياً من جيلٍ إلى جيلٍ، حتى وصلَت إلينا، وما زلنا نرويها إلى اليوم.
وصل إلى عيادة شرتوني أشخاصٌ يحملون صدمةً لم يمرّوا بها هم ولا آباؤهم. واستخلَص من ذلك أن "في انتقال ذكرى الصدمة عبر الأجيال، تنتقل أفكارٌ ليست مكتملةً، وقصصٌ ومشاعر لا يستوعبها المتلقي. وكلّما كانت الذكرى أكثر قسوةً وانتقلت إلى المخيّلة أو تحوّلت إلى صورٍ في الخيال، ازدادت وطأتها". ولَفَتَ إلى أنه "من المؤكد أن الإنسان سيعيش في هذه الحالة نوعاً من القلق، ويحتاج إلى العلاج، لأن الذكرى موروثةٌ، ومعها صورٌ ذهنية. وبالتالي يبدأ الشخص برؤية الأمور ليس فقط من خلال خياله، بل أيضاً من خلال أدلّةٍ تاريخيةٍ، وصورٍ تُستحضر من الماضي وتعيد إحياء الصدمة". وأضاف: "حين نعرف واقع ما حدث، وتُفسَّر الصدمة، ونتخيّل الأجداد وهم مرتحلون في تلك الظروف، تنتقل مشاعرهم إلينا".
وبينما تكاد تندر الدراسات العربية في انتقال صدمة التهجير إلى الأجيال اللاحقة، يشير شرتوني إلى وجود دراساتٍ فرنسيةٍ عن انتقال الصدمة عبر الأجيال اللبنانية.
وفي السياق، لفت مقالٌ نشرته "الهيئة اللبنانية للتاريخ" إلى أنّ "ثمّة حالة من كتمان الذاكرة في لبنان، إذ لا تذكر المناهج الدراسية الأحداثَ اللاحقةَ لاستقلال الدولة عن فرنسا (1943)، بما في ذلك الحرب الأهلية بين عامَيْ 1975 و 1990".
لكن أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية حسين أبو رضا، نفى في حديثه للفراتس، إمكانية التكتّم على ذاكرة جماعيةٍ، خاصّةً إذا نتجت عن صراعاتٍ وحروب. وقال "قد تتغيّر الذاكرة تبعاً لمدّة الانتقال عبر الأجيال. لكن من خلال دراساتنا في الحقل الاجتماعي، تبيّن لنا احتفاظ الناس بثقافتهم وعاداتهم التي عاشوها في الوطن ونقلوها معهم إلى المكان أو البلد المضيف. وهذا مرتبطٌ بالمدة الزمنية للانتقال".
يضرب أبو رضا مثلاً بالحالة الفلسطينية في لبنان. فبعد النكبة، انتقلت أحياء فلسطينيةٌ كاملةٌ صوب الشمال. وأطلق النازحون على أحيائهم الجديدة أسماءَ قراهم ومناطقهم نفسها التي كانت تعرف بها في فلسطين، كما هو الحال في مخيم عين الحلوة، أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
درست أستاذة علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية، سحر حجازي، علمَ النفس بين الثقافات. وقد عرّفته في بحثها "لا سيكولوجي أونتركولتوريل" (علم نفس بين الثقافات) المنشور سنة 2012، أنه "النهج الجديد في علم النفس الاجتماعي، الدارس لأثر الإطار الثقافي للفرد على سلوكه، والظواهر الناتجة عن التعددية الثقافية بفعل الهجرة أو العولمة". وناقشت حجازي كذلك في كتابها "علم نفس البينيّة الثقافية وثقافة الاختلاف"، الصادر في 2016، "الضغوط الاجتماعية والحِيَل النفسية الدفاعية التي يلجأ إليها الفرد المضطر لتعديل سلوكه وتغيير هويّته في مجتمعٍ ذي ثقافةٍ مغايرة".
وعمّا إذا لاحظت حجازي آثاراً مجتمعيةً وثقافيةً للهجرة القسرية على الجيل الثالث اللبناني، قالت للفراتس إنه لا توجد دراسةٌ عن هذا الأثر على أحفاد اللبنانيين المهجَّرين. لكن – وفق مطالعاتها – رأت أنّ الآثار الاجتماعية للهجرة القسرية قد تتجسّد في تكوين هويّاتٍ هجينةٍ، تجمع عناصر من ثقافة الأهل والبلد الأمّ، وكذلك من ثقافة البلد المضيف. وتابعَت: "بالتالي لا يفقد المرء هويّته الأصلية بالكامل. وقد يكون ذلك إيجابياً بإثراء الحفيد بالتنوع اللغوي والثقافي. لكن تكمن السلبية في شعوره بعدم الانتماء الكامل لأيّ بلدٍ من البلدين، وقد يعاني من صراعٍ هويّاتيٍ في مرحلة المراهقة، يصعب معه تحديد هويّته وانتمائه الثقافي، وينخرط في مقارنةٍ مستمرةٍ بين البلدين".
وأشارت حجازي إلى "عبء التوقعات المجتمعية من البلدين. إذ يتوقّع منه اللبنانيون التمسكَ بعاداته واهتمامه بالقضايا اللبنانية. وفي الوقت نفسه، يتوقّع البلد المضيف اندماجَه الكامل وتخلّيَه عن ثقافته اللبنانية". وتابعَت: "كذلك الجيل الثالث بالكاد يعرف أبناء عمومته، وتعتمد شبكته الاجتماعية بشكلٍ أساسيٍ على علاقاته في البلد المضيف. وحين يزور لبنان – إذا سمحت الظروف الاقتصادية والأمنيّة – فهو يجهل عائلته الممتدة، إلّا أولاد عمومته، ومن يتعرف عليه من خلالهم، إذا انسجم معهم".
وقد يواجه الجيل الثالث أزمةً أخرى في علاقته ببلده الأمّ، تضرب حجازي المثلَ عليها بالجيل الثالث من المهاجرين اللبنانيين قائلةً: "يبني الجيل الثالث صورةً مثاليةً عن لبنان، بناءً على ما يسمعه من والده ووالدته. وحتى إن كان الحديث واقعياً، فإنّه يكون مُطعّماً ومزيّناً بالحنين. يضاف إلى ذلك الصورة الجميلة التي تنقلها وسائل الإعلام عن لبنان. من هنا، تتكوّن لديه علاقةٌ عاطفيةٌ وَهْمِيّةٌ تجاه البلد، وعندما يزوره يُصدَم، فلا يجد ماءً ولا كهرباء، فيشعر بأنّ أهله قد كذبوا عليه".
ويتداخل البُعدان النفسي والمجتمعي في الأعراض الناتجة عن الهجرة غير الطوعية، سواءً كانت بسبب حربٍ أو تهديدٍ أمنيّ. أو ربما "ارتكب أحدُهم جريمة احتيالٍ واضطرّ إلى مغادرة بلده" حسبما تقول حجازي، التي ترى أن مجرد الخروج غير الطوعي للشخص يُحدِث صدمةً نفسيةً تنتقل إلى الجيلين الثاني والثالث من عائلته. تظهر تلك الصدمة في شكل أعراضٍ نفسيةٍ كالشعور بالقلق أو الاكتئاب، أو الإحساس العامّ بالإرهاق من دون سببٍ واضح. وأضافت: "كما قد يعاني الفرد من صعوبةٍ في بناء العلاقات، ويلازمه خوفٌ دائمٌ من الفقدان أو الخسارة. وهذه الأعراض نسبيةٌ، تختلف بحسب مدى قسوة تجربة الهجرة، ومدى قدرة العائلة على التأقلم، وكذلك مدى تقبّل المجتمع المُضيف لاندماج الوافدين الجدد أو رفضه لهم".
التهجير الثاني كان لأهالي النوبة جنوب مصر، وقد وقع على مرحلتين. المرحلة الأولى مع بناء خزّان أسوان سنة 1898 ثم تعليته، والثانية مع بناء السدّ العالي في ستينيات القرن الماضي. وقد أدّى ذلك إلى غرق القرى النوبية وتهجير أهلها. التهجير الثالث طالَ سكّانَ نجوع منطقة القرنة غربي الأقصر في 2006 بهدف إخلاء مناطق آثارٍ محتملة. وفي السنوات الأخيرة، عانى سكّان مدن رفح والشيخ زويد في محافظة شمال سيناء من موجات تهجيرٍ عديدةٍ في سياق ما أطلق عليه الجيش المصري "الحرب على الإرهاب" بدءاً من 2013. هذا فضلاً عن إخلاءاتٍ قسريةٍ طالت مناطقَ وأحياء في محافظاتٍ عدّةٍ منها العاصمة القاهرة، لصالح مشاريع استثماريةٍ أو مشروعات طرق.
غير أنّه ندر العثور على تسلسلٍ دقيقٍ للأحداث وعدد المرات التي تعرّض فيها سكان مدن خطّ النار (الإسماعيلية، بورسعيد، السويس) للتهجير، باستثناء ورقةٍ بحثيةٍ لأسماء محمود، تحت عنوان "سكان مدن القناة… بين الاستقرار والتهجير (1967-1974)" منشورةٍ سنة 2019. جمعت الباحثة ابنة محافظة بورسعيد شهاداتٍ مثقلةً بالمرارة والظلم، لكنها مشبَعةٌ أيضاً بالصمود لمن عاشوا تجربة التهجير من المحافظة. وأشارت أسماء محمود في بحثها إلى ما وصفته "تعمّد الصحف في تلك الفترة عدم النشر عن أوضاع هؤلاء المهجَّرين، حفاظاً على وحدة الجبهة الداخلية وتماسكها".
ووفقاً لما ورد في الدراسة، تعرّض سكان مدن القناة في النصف الثاني من القرن العشرين لعمليتَيْ تهجير. وقعت العملية الأولى في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، حيث مُحِيَت شوارع وأحياءٌ كاملةٌ في بورسعيد من الوجود. وقد هُجِّر جرّاء ذلك اثنان وتسعون ألف بورسعيديٍ، عبر بحيرة المنزلة. غرق كثيرون منهم جرّاء غارات الطائرات التي كانت تستهدف المراكب الشراعية التي استقلّوها أثناء فرارهم. كذلك وصل إلى مراكز الإيواء ثلاثةٌ وأربعون ألفاً من سكان الإسماعيلية والسويس والعريش، من دون ذكر ظروف انتقالهم. وبعد استرداد مصر قناةَ السويس وبورسعيد في ديسمبر سنة 1956، عاد العديد من سكّان مدن القناة إلى مناطقهم.
أمّا عملية التهجير الثانية، وفق أسماء محمود، فكانت في بدايتها اختياريةً، وذلك منذ أوّل يومٍ أَعْقَبَ نكسةَ يونيو 1967. وقد وصل إلى المحافظات المضيفة مئةٌ وثلاثون ألف مهجَّر. ومع مرور الوقت، بدأت تنشأ الأزمات بين هؤلاء وبين الدولة، وكذلك مع سكان المحافظات المضيفة، ما دفع المهجّرين إلى الإلحاح على العودة إلى مدنهم. فعاد كثيرٌ منهم بعد ثلاثة أشهرٍ وانخرطوا بحمل السلاح. لكن بعد شهرين فقط، تعرّضت مدن القناة لضرباتٍ إسرائيليةٍ عنيفةٍ دفعت الرئيسَ المصري حينها جمال عبد الناصر إلى اتخاذ قرارٍ بتهجير الأهالي قسرياً، على أن يبقى فقط من ارتبط عمله بالظرف الجديد (أو المُستَبْقَون).
خرج من الإسماعيلية والسويس ثلاثمئةٍ وخمسون ألف مهجَّرٍ، وفق البيانات الرسمية التي نقلتها أسماء محمود. ولحق بهم بعد عامين مئتان وأربعون ألفاً من بورسعيد. وبعد انتهاء حرب 6 أكتوبر 1973 رسمياً في منتصف 1974، عاد الأهالي أخيراً وشرعوا بعملية إعادة الإعمار.
من جهته، تناول الكاتب والمترجم المصري محمود قاسم، في كتابه "الفيلم السياسي في السينما المصرية" الصادر سنة 2018، موضوع تهجير مدن القناة، موضحاً أنه تمّ على مرحلتين. وأشار إلى أنّ المرحلة الأولى انعكست سينمائياً في فيلم "ثرثرة فوق النيل"، الذي عرض سنة 1971، وهو مأخوذٌ عن روايةٍ للأديب المصري نجيب محفوظ. إذ زار البطل أنيس مدينةَ السويس، ليُصدم ويهذي ممّا خلّفه عدوان 1967 من دمارٍ في بيوت المدنيّين. تبع هذا الفيلمَ فيلمان آخَران تناولا المصير الفردي لبعض المهجَّرين بشكلٍ خجولٍ، وهما فيلم "الخوف" المعروض سنة 1972، وفيلم "حمام الملاطيلي" الذي عرض سنة 1973. وفسّر قاسم أسبابَ غياب أحداث التهجير في الدراما المصرية بالقول إنّ "الإنسان لا يحبّ رؤية هزائمه، فما بالنا بحال الوطن بأكمله؟".
وعن سبب استمرار إغفال هذه القضايا في السينما المصرية بعد ذلك، قدّمت الناقدة السينمائية المصرية علياء طلعت للفراتس تفسيرين. الأول هو أنّ الفترة التي أعقبت الهزيمة شهدت ظهور موجة أفلامٍ متواضعة فنّياً هدفها تغييب عقول المشاهدين بالتزامن مع حالة إحباطٍ شعبيٍ، غيّبت طرح تلك القضية وغيرها من القضايا الجادّة. أمّا التفسير الثاني فهو أنّ "مناقشة نكسة 1967 تعدّ محظورةً، وبقيت غالباً متبوعةً سردياً بنصر أكتوبر سنة 1973". وأوضحت "نحن نتحدث دائماً عن استعادتنا أرض سيناء، لكن لا نتحدث عن مصريين تركوا بيوتهم. وقد بقي الموضوع شائكاً لدرجةٍ أظنّ أنه أصبح منسيّاً".
وأثناء البحث عن الذاكرة الجمعية لمدينة الإسماعيلية، عثرتُ على كتاب "ما لم تقُلْه البحيرة" لأستاذ الإناسة بجامعة العريش حمدي سليمان، الصادر سنة 2022. وكذلك كتاب "الإسماعيلية أرض الفرسان" لمحمد الشافعي، الصادر سنة 2000. كذلك، سجّل الصحافي فتحي رزق يومياته حين كان مراسلاً ومسعفاً ومقاتلاً طوال سنوات الحرب السبع في مدن القناة، وجمعها في كتاب "جسر على قناة السويس" الذي كان من أوائل الكتب المنشورة عن أثر الحرب الثقيل سنة 1969.
أشار سليمان في كتابه إلى أنّ الحركات الفنّية والأدبية في الإسماعيلية تأثّرت بالنضال والمقاومة فور هزيمة سنة 1967، فارتبطت الأزجال التي كتبها حافظ صادق فنّياً بفرقة "الصامدين" التي نشطت إبان سنوات التهجير.
من جهته، رفض الكاتب المسرحي محمود دياب الاستسلامَ للإحباط جرّاء هزيمة 1967، ولم يَنْسَقْ خلف التيار المسرحي الذي ظهر حينئذٍ مستغلّاً الأسى لتكريس فكرة النجاة الفردية. فكتب دياب مسرحية "باب الفتوح" التي عرضت سنة 1971، وقدّم فيها الكفاحَ الشعبيَّ بديلاً سردياً للانتصارات العسكرية للقادة.
وفيما أشار إليه في كتابه "ما لم تقله البحيرة"، بشأن تزييف تاريخ الإسماعيلية وتشويه تراثها الثقافي بعد حرب أكتوبر، شرح سليمان للفراتس أنّ ذلك حدث "جرّاء قرار الإدارة المصرية بعد نصر أكتوبر، بتخفيف ما أطلقوا عليها النعرات الوطنية في مدن القناة". وأشار إلى أنّ ذلك كان بتنسيقٍ من وزير الإسكان والتعمير آنذاك، عثمان أحمد عثمان، مستعيناً بشبابٍ تدرّبوا في الاتحاد الاشتراكي، وهو الجهاز السياسي شبه الحزبي الذي اعتمدت عليه أجهزة الدولة منذ الخمسينيات.
يتذكر سليمان أنه بعد عودته وأسرته إلى الإسماعيلية بعد نهاية الحرب، اكتشفوا تفكّك فرق السمسمية التي ارتبطت أغنياتها بالصمود والنضال وكانت تغنّى في الأفراح. "هذه الفرقة اختفت تدريجياً، وحلّت محلّ أغنياتها أغانٍ مثل: [مناحيم] بيغن ويّا [أنور] السادات جابولنا معاهدة سلام"، وذلك بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
لم يرِد في الكتاب ما يشير إلى سلوك دولةٍ ممنهجٍ ضدّ تاريخ الإسماعيلية وتراثها. لذلك سألتُ سليمان عمّا حدث بالتفصيل، وفهمت منه أنّ "القيادات المحلية للمحافظة تولّت مسؤولية إحلال نماذج فكريةٍ سطحيةٍ محلّ الشباب ذي التوجّه الوطني". وأن تلك القيادات شاركت في التنكيل بمعارضي معاهدة السلام وسياسة الانفتاح الاقتصادي، "وكلّ من كان له موقفٌ مبدئيٌ في الاسماعيلية طوال سنوات الحرب". واستمرت الضغوط والملاحقات الأمنية إلى أن اضطرّ عددٌ كبيرٌ من الفنانين إلى الهجرة.
يواصل سليمان قائلاً إن جهود التغريب "ترسخت بعد انتفاضة الخبز سنة 1977" (الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت عقب زيادة أسعار السلع الأساسية). وقتها رغب أنور السادات في تأمين ملجأٍ له في حال وقوع اضطراباتٍ داخليةٍ شبيهة. فأشار عليه وزير الإسكان والتعمير آنذاك عثمان أحمد عثمان باستراحة الفرسان المطلّة على قناة السويس والقريبة من جبهة سيناء المؤمّنة. و"من هنا، كان مطلوب تغيير شكل الحياة في الإسماعيلية لتصبح مدينة لطيفة تستوعب التغيرات الجارية". وفي العام نفسه، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، مناحيم بيغن، الإسماعيليةَ التي خصّتها إسرائيل بعملياتها في سنوات حرب الاستنزاف. ويومها أُخرج طلاب المدارس في صفوفٍ لاستقبال السادات وبيغن في مشهدٍ يعكس تحوّل المرحلة. يؤكد سليمان أن ظلال تلك المرحلة لا تزال تخيّم على الحياة السياسية والثقافية في المحافظة.
واجَه المهجَّرون أزمة التكدّس في مراكز الإيواء، في حين ارتفعت إيجارات المنازل خارج تلك المراكز، ما اضطرّ أسراً كثيرةً إلى اقتسام شقّةٍ واحدة. كذلك برزت أزمةٌ صحّيةٌ نتيجة زيادة الضغط على المرافق الصحية، واستدعاء كثيرٍ من الكوادر الطبية للخدمة العسكرية. ومع امتداد سنوات التهجير وسوء إدارة ملفّ المهجَّرين، اضطرّ كثيرون للعودة إلى مدنهم التي لا تزال تحت القصف. وعانى الشباب من مشكلاتٍ في التعليم وضعف الإعانات والبطالة، وانهيار ثقتهم في قيادتهم. ومع ذلك اضطرّت غالبية المهجَّرين والأهالي إلى التأقلم مع الأزمات الاجتماعية والثقافية التي نشأت نتيجة طول سنوات التهجير التي قاربت العقدين.
بعد أن تبلورت لديّ صورةٌ عامةٌ عن وضع المهجَّرين حينئذٍ، جلست أقرأ كتاب "الذاكرة التاريخية والثقافة السياسية" لأستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة المثنّى في العراق لؤي خزعل، لأتوقّع ما قد ألقاه لاحقاً.
يضمّ الكتاب دراسةً نفسيةً عن "ديناميات العجز المتعلّم الجمعي" في المجتمع العراقي، وهو مصطلحٌ مستقرٌّ في نظريات علم النفس الاجتماعي، يصف حالةً من العجز وفقد الأمل التي تجتاح مجتمعاً بكامله.
يصوّر خزعل تلك الحالة في السياق العراقي ويحلّلها بعد أن يستعرض وينقد تطوّر النظريات المرتبطة بالذاكرة التاريخية. ثمّ يتتبّع كيف تسهم روايات الذاكرة التاريخية وأنماط الثقافة السياسية في تحفيز أطر الفعل الجمعي أو إحباطها، وكيف تسهِم إمّا في تشكيل توازنٍ مجتمعيٍ أو إدامة صراعٍ مدمّر. ويمثّل الكتاب نواةً فكريةً مهمةً في مجالٍ تَنْدر دراسته عربياً.
شكّل العراق، وفق خزعل، مثالاً مهمّاً لظاهرة توظيف الذاكرة التاريخية لصالح بناء نظامٍ وحفظِ استقراره. وحصل ذلك بآليّاتٍ جنّدها نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، إذ عمل على تزييف الذاكرة العراقية التاريخية وتسييسها فيما عُرف بمشروع "إعادة كتابة التاريخ" الذي أطلقه صدام في نهاية السبعينيات. وقد أنفق على هذا المشروع موارد الدولة، ليخلق ذاكرةً رسميةً قائمةً على الخوف والطاعة وحصَانة السلطة وسطوة حزب البعث.
فشلت هذه الجهود لاحقاً، خاصّةً بعد محطاتٍ كبرى هزّت بنية النظام. ولعلّ أهمّ هذه المحطات، بحسب ما يذكر خزعل، الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت من سبتمبر 1980 إلى أغسطس 1988، وحرب الخليج الثانية (احتلال الكويت) التي استمرت من أغسطس 1990 إلى فبراير 1991، والانتفاضة الشعبية التي اندلعت بدايةً من الجنوب العراقي في مارس 1991 واستمرّت شهراً قبل أن ينجح النظام في قمعها. بعد ذلك، وجد النظام العراقي في التعذيب وإحكام القبضة الأمنية وسيلةً لضبط المجتمع بعد تآكل الرواية الرسمية.
وحتى بعد سقوط النظام سنة 2003، لم يتوقف العمل على تشويه الذاكرة التاريخية العراقية. فوفق خزعل، اتبع الاحتلال الأمريكي نهجاً قائماً على "التطهير الثقافي". وتجلّى ذلك من شرعنة غياب القانون، وتعزيز الصراع بدلاً من الوحدة وإقصاء النخبة الثقافية وهدم كلّ ما يربط الإنسان بإرثه الحضاري ونهبه على أرضٍ عُرفت بمهد الحضارات.
علمتُ من الكتاب أنّك قد تكون شاهد عيانٍ على حدثٍ ما في ذاكرة جماعتك، وقد تتسلم ذاكرتك عن هذه الجماعة، وقد لا تتسلمها إطلاقاً. قد تكون ذاكرة جماعتك حقيقيةً أو متخيَّلة. وإن قَوِيَت الذاكرة المتخيَّلة، فقد تتحول إلى جذرٍ لحرب. قد يحمل ما تعرفه من تاريخٍ ذاكرةً جمعتموها واتفقتم على صحتها، وقد تكون ذاكرةً جُمّعت عنكم وفرضت عليكم. قد تتجلى ذاكرتك في كلمةٍ أو تمثالٍ أو ذكرياتٍ وحكاياتٍ تُروى بين الأزقة أو في أشكالٍ ثقافيةٍ عدّة. قد تكون ذاكرة جماعتك جزءاً من ذاكرة وطنك فتسهم في تعزيز وحدته، أو يتكتم وطنك عليها، أو تصبح ذاكرةً مضادّةً لذاكرة الوطن. وإذا اشتدّت هذه الذاكرة المضادة، فقد تشكّل نقطة انطلاقٍ لصراع هويّاتٍ داخليٍ، أو تُغذّي نزعاتٍ انفصالية. قد تبقى الذاكرة حيةً إلى الأبد، وقد تموت بموت الجسد أو تتغيّر بسبب النسيان أو تهدم شواهدها، وقد تعيقك عن التغيير إن لم تصفِّ حساباتك معها. لكن يظلّ الماضي مقاوماً أمام محاولات استبعاده، متغلغلاً في الحاضر عبر نشاطه السردي بين من يحملونه ويعيدون إنتاجه.
تتكرر في نظريات الذاكرة التاريخية أهمية شرط ثبات الصورة المكانية شرطاً من شروط تماسك الذاكرة ومحفِّزاً لاسترجاعها، وضامناً لبقاء الجماعة موحدةً رغم تشتّتها، وبقائها حالمةً بالعودة. "فالصورة المكانية وحدها – بسبب ثباتها – تمنح وهم الثبات عبر الزمن، وتتيح استرداد الماضي في الحاضر"، وفق ما يرد في كتاب خزعل. لكن ما العمل إذا دُمّرت صورة المكان؟ أرسلتُ لخزعل أسأله، وانتظرتُ إجابته طويلاً.
في سوريا، يأتي الجواب على هذا السؤال من واقعٍ مأساويٍ، إذ أحدث قصف النظام السوري السابق – وروسيا لاحقاً – دماراً واسعاً طال ستّ عشرة مدينةً رئيسةً، ومئةً وثلاثين ألف مبنىً، بين سنتَيْ 2012 و 2016. وجاء الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023 ليشكّل فرصةً لبشار الأسد لإعادة خلط الأوراق وطمس الحقائق. فنتيجة هذه الكارثة، اختلطت صور المباني المدمرة، بفعل الزلزال وتلك المدمرة بسبب القصف. ولم يتردد النظام السابق في استغلال هذا الالتباس وتحقيق مكاسب سياسيةٍ من وراء ذلك، كمطالبته برفع العقوبات لإدخال المساعدات.
وفي السياق، أوضح منقذ عثمان آغا في بحثه "ذا بوليتيكس أند إيكونوميكس أوف أوربسايد" (سياسات واقتصاديات إبادة المدن) المنشور في 2023، أنّ "تدمير المدن السورية لم يكن مجرّد ضرورةٍ عسكريةٍ، بل خدم أهدافاً أخرى". وأشار إلى أنّ من بين هذه الأهداف فصل الروابط الاجتماعية، ومعاقبة الأحياء المتمردة، "فضلاً عن أغراضٍ اقتصاديةٍ تعود بالنفع على النظام وأعوانه". عطّل هذا التدميرُ الصورةَ المكانية وعمّق من أزمة الذاكرة.
وفي هذا السياق المأزوم للهوية والذاكرة، تبرز رواية الكاتبة السورية سلوى النعيمي، "شبه الجزيرة العربية"، المنشورة سنة 2012. تروي النعيمي أحداث الرواية من سيرة أدباء سوريين موزَّعين بين الغربة والسجن ومكاتب المخابرات، ليتغيّر معنى الوطن مع كلّ خبرٍ يصل البطلةَ عنهم من سوريا. أمام هذا الواقع، تتمسّك البطلة طويلاً بحقّها في رفض الحنين والعودة، حتى يفلت منها هذا الموقف ما إن تسمع باندلاع ثورات "الربيع العربي".
قرأتُ الرواية فور صدورها، وعلق في ذهني حينها استنكار البطلة حديثَ ضابط مخابراتٍ عن الوطن قبراً لا مفرّ من العودة إليه. وقد كَتَمَت أمامه ما تعرفه عمَّن عاد جثةً ورفض النظام دفنه، متسائلةً عن طرق التخلّص من جثةٍ لا يقبلها وطنها أو قبرها. في قراءتي الثانية للرواية أثناء بحثي للإعداد لرحلتي، لم تغادرني مفارقة الحلم بالعودة بعد هجائه، وأخذت تلحّ عليّ، خاصةً بعد ما قالته النعيمي في حديثنا أخيراً خارج إطار العمل الروائي.
أخبرتني النعيمي بعد زيارتها سوريا أخيراً، أنه "لم يكن ممكناً أن أعيش في سوريا في ظلّ نظام الأسد. ليس لأن المخابرات ستستدعيني، أو لأن شيئاً ما قد يحدث لي، بل لأنّي كنت في وضعٍ سياسيٍ يحرمني من حياتي. ولم يكن ممكناً أن أعود إلّا إلى سوريا محرّرةٍ من هذا النظام". وأضافت "فلو طالبتُ بحق اللاعودة، فذلك انطلاقاً من روايةٍ تحكي عن وضعٍ فرديٍ وخاصٍ جداً، بدأ باختلاف ديانة الأم والأب، وولادتنا [هي وإخوتها] في الشام [دمشق]. فعندما يقولون [الشوام] لا يشيرون إلينا، وكأننا نعيش في مجتمعٍ لا ننتمي إليه. هذا الاقتلاع النفسي يتفاقم في ظلّ نظامٍ يحرمك من جميع حقوقك".
وكان أمام البطلة في رواية "شبه الجزيرة العربية" خياراتٌ ثلاثة، الانتحار أو الجنون أو الهجرة. وقد دلّلت النعيمي على هذا الشعور بقولها "عندما رجعتُ إلى سوريا وجدت أنّ جميع أصدقائي المقرّبين قد ماتوا صغاراً بسرطانٍ أو سكتاتٍ قلبية". وأضافت "تعرفين العوامل النفسية لهذه الأمراض. وهم ماتوا قبل الثورة، وكانوا كلّهم ضد النظام، لكنهم لم يجرؤوا على مواجهته فتأقلموا تأقلماً كاذباً، وماتوا بكلماتهم المحبوسة في حلوقهم. أمّا أنا فهربت".
وبينما لم تنفِ النعيمي صفة الهروب عن نفسها، قالت "يجب، ما دمتِ على قيد الحياة، أن تحملي ذنب نجاتكِ الفردية. أنتِ هربتِ وتركتِ غيرك يعيش أو يموت، نجوتِ وتركتِ آخرين أنتِ جزءٌ منهم. يصبح الإنسان أحدبَ من ثقل هذا الذنب، ويظلّ طوال حياته يعيش تحت وطأة هذا الإحساس". وتابعت "رأينا صور الدمار والسجون، لكن عندما ترين الدمار بعينيك، ترين نجاتكِ أنتِ من خلاله، ترينه من خلال حياة الناس الذين بقوا هناك ودمّرت حياتهم، محرومين من ضرورات الحياة التي توفرت للناس منذ قرون".
سألتُها عن شعورها الآن، فقالت: "لا يمكن لأيّ شيءٍ أن ينقص من فرحتي بسقوط الأبد الأسدي [تعبيرٌ شائعٌ في سوريا عن ما زرعته أجهزة النظام حول أبدية حكم آل الأسد] … وكانت معجزةً بالنسبة لي أن أستطيع الذهاب والبقاء قدر ما أشاء". وأوضحت أنه "لم يخِب أملي حول الأحداث اللاحقة، لأنني لم أذهب بتصوّرات مسبقة". وأضافت: "رغم كل ما رأيته، رأيت أيضاً السوريين – الذين تظلّين واحدةً منهم – يشغلون الفضاء العام، ويعيشون الشعور نفسه الذي تشعرين به. وهذا يجعلك تتآلفين مع شعورك. إنه شعورٌ ثابتٌ بالخِفّة، لأن الجميع يعيشه. تشعرين به في الهواء الذي نتنفسه، الناس تتنفس، وهذا ما يجعلك تتنفسين أيضاً".
في هذا السياق، يأتي كتاب "حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس"، الصادر سنة 2022. وفيه تنقل الكاتبة والباحثة روضة غنايم، ابنة مدينة حيفا، شهاداتٍ عن الذات والمجتمع الذي انتقل من واقعٍ فلسطينيٍ إلى آخَر إسرائيليٍ بعد نكبة 1948. وتحاول من هذه الذاكرة الشفهية استعادة ملامح المجتمع الفلسطيني العربي الذي كان قائماً في المدينة.
امتدّ النطاق الزمني للشهادات من نهاية الحكم العثماني سنة 1917 إلى وقت كتابة الكتاب. وأرفقت به غنايم صوراً من ألبوماتٍ عائليةٍ، وأخرى متخيَّلةً للمكان قديماً، إلى جانب صورٍ حديثةٍ نقلتها بكلماتها وسجّلتها عدسة كاميرتها أثناء تجوّلها في شوارع خمسة أحياءٍ عربيةٍ في حيفا. كذلك استعانت بصورٍ جويّةٍ من مراجع تاريخيةٍ، إلى جانب الخريطة المرسومة.
استعادت غنايم في مقدمة كتابها ما تمرّ به حوامل الذاكرة الفلسطينية من فقدٍ، فترى أنها تغرق في البحر، كما غرقت مخطوطات المؤرخ الفلسطيني مصطفى الدباغ، التي كانت كلَّ ما أنقذه قبل استقلاله آخِرَ مركبٍ غادر مدينة يافا سنة 1948. كذا تراها في روايات مؤرخينٍ إسرائيليين جددٍ استغلّوا ضياع الذاكرة الفلسطينية لاختلاق ذاكرةٍ أخرى عن تهجير العرب الفلسطينيين سنة 1948، مستمّدةٍ من الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية.
كذلك تحضر هذه الذاكرة، وفق غنايم، لدى نحو ستّين ألف فلسطينيٍ هُجِّروا من المدينة، بينما بقي ثلاثة آلافٍ وخمسمئة فلسطينيٍ يعيشون فيها لاجئين.
في قصة علي القاضي وعائلته، كما وردت في كتاب غنايم، امتدّ نطاق الذكريات نحو أربعين عاماً. بدأت منذ وصوله إلى حيفا رفقة شقيقه قادمَيْن من سوريا سنة 1946، ثم انفصالهما تحت وابل من الرصاص مع إعلان احتلال المدينة، وحتى لقائهما الأول مجدداً سنة 1984. وتنقلت الأحداث بين حيفا ولبنان وسوريا ومصر. وفي ضوء ذلك، أرسلتُ لغنايم أسألها عن منهج التأريخ الشفهي، ما إذا كان هدفه فقط منح التاريخ بُعداً إنسانياً؟ وما قيمته في بناء الذاكرة الفلسطينية؟
أجابت غنايم أنه "بعد استخراج المعلومات والسرديات من الرواة، والتحقق من مصداقية السردية، يأتي دور التأريخ الشفوي الذي يعمل على بناء أرشيفٍ شفوي". وأضافت "التأريخ في النهاية ليس مجرّد تدوينٍ لسرديةٍ، ولا جمعاً لشهاداتٍ شفويةٍ حول أحداثٍ، بل هو فرصةٌ لبناء ذاكرةٍ مسجّلةٍ ومتاحةٍ للبحث والتنقيب والتحليل أمام الأجيال القادمة، حين تصبح تلك السرديات في متناول الباحثين المؤرخين".
ورأت غنايم في حديثها للفراتس أنّ "ربط القصة الشخصية بقصة المدينة ضرورةٌ للفهم الكامل للحدث". وأوضحت "حين يسرد الشخص بنفسه ما حدث له في عام النكبة، فإنه يروي تفاصيل صغيرةً لا يذكرها التاريخ الكبير. إذ إنه يعبّر عن مشاعره، ويصف الخوف الذي لازمه عند صعوده الزورق من حيفا إلى لبنان، وغيرها من التفاصيل التي لا يذكرها التاريخ المكتوب". واعتبرت غنايم أنّه "لسرد تاريخ نكبة عام 1948، نحتاج إلى ذلك الربط بين التاريخ المكتوب والذاكرة، وبين الذاتيّ والموضوعيّ".
لاحظتُ قِدم الاهتمام الفلسطيني بالرواية الشفهية والتسجيلية للتاريخ العربي الفلسطيني منذ نكبة 1948. وأثناءَ الحديث مع غنايم، أشارت إلى أنّ تحوّلاً فلسطينياً في هذا الاهتمام جرى في تسعينيات القرن الماضي. وأوضحت: "نكبة 1948 تركت أثراً بالغاً في نفوس الناس، وخلّفت صدمةً وجرحاً مفتوحاً. وقد أثّر ذلك على تأخرهم في توثيق النكبة، سواءً عبر جمع الروايات الشفوية من شهود عيانٍ، أو من الكتابة البحثية الأكاديمية حول حرب 1947-1948".
بحسب غنايم، كان الناس في صدمةٍ مما حدث لهم من تهجيرٍ وتشتيتٍ ودمارٍ، و"استغرقوا وقتاً للَمْلَمة ذواتهم". كذلك اكتشفوا غياب السجلّات والوثائق التي توثّق الأحداث التاريخية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني من تهجيرٍ واقتلاعٍ، إذ دمّرت الممتلكات الخاصة والعامة، ونهبت المكتبات ومراكز الأرشيف. وتابعت "ثالثاً، شعر الناس بالخجل مما جرى لهم من اقتلاعٍ وإذلالٍ، ورافق ذلك صمتٌ استمرّ سنواتٍ طويلة. فلم يكن اقتلاع الفلسطينيين جسدياً فقط، بل كان أيضاً اقتلاعاً لإرثهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي".
في المقابل فقد سارع الجانب الإسرائيلي فور انتهاء الحرب لكتابة روايته منتصراً، معتمداً على الأرشيفات والسجلات العسكرية. ولفتت إلى أنه "لم تكن هناك في المقابل محاولاتٌ فلسطينيةٌ جادّةٌ ومنظّمةٌ لكتابة قصة وتاريخ الضحية حتى التسعينيات، حين بدأت بعض الإمكانيات تتوفر، سواءً من خلال البحث في الأرشيفات الإسرائيلية، أو من خلال بدء الناس بالكلام. إذ أصبح الحدث – من الناحية الزمنية – أبعد قليلاً، وأخفّ وطأةً للتحدث عنه".
وفي سياق هذا التحوّل المتأخر إلى التوثيق الشفهي، برزت أهمية المكان في الذاكرة الفلسطينية. وقد تردّد على ألسنة الرواة جملة "على أمل العودة بعد أيام"، لتفسير تركِهم متعلّقاتِهم النفيسة في بيوتهم. وتكرّرت في الشهادات الواردة في الكتاب قصص بكاء الأبناء على عتبات البيوت عند زيارتها بعد عقودٍ، وهم يسألون "من يسكن البيت الآن، عربٌ أم إسرائيليون؟".
من هنا سألتُ غنايم عن رأيها في ضرورة ثبات صورة المكان، ضمن شروط اكتمال الذاكرة وواقعيتها، لضمان استمرار التمسّك بحقّ العودة، خاصةً في ظلّ ما يتعرض له المكان في الذاكرة الفلسطينية من تدميرٍ وتبدُّل. فأجابت بأنّه "حين خرج الناس من فلسطين تحت التهديد، كان الحديث يدور عن مغادرةٍ مؤقتةٍ إلى مكانٍ آمنٍ، في انتظار نهاية الحرب، ليعودوا بعدها إلى بيوتهم. لكن للأسف كان ذلك تهجيراً خفيّاً مغلّفاً بوعود العودة القريبة". وأضافت: "اليوم، نرى ذلك مجدداً في قطاع غزة، حيث يأمرون الناس بإخلاء مناطقهم بحجّة حمايتهم، وبعد الإخلاء يقصفونهم".
ولفتت غنايم إلى أنه "اليوم، مضى سبعةٌ وسبعون عاماً على النكبة ولم يُسمح لأيّ لاجئٍ بالعودة". وأشارت إلى أنّ "حيفا التي نعيش فيها اليوم، ليست حيفا ما قبل النكبة. فقد هدمت البلدة القديمة كلّياً، فيما بقيت بعض الأماكن الأخرى التي لا تزال تحافظ على العمران العربي. غير أنّ روح المكان تغيّرت، إذ لا يقطن السكان الأصليون بيوتهم. وتغيّر طابع المدينة الاجتماعي والثقافي". واعتبرت غنايم أنه "في هذه الحالة، يتحوّل المكان إلى ذاكرةٍ وجدانيةٍ لدى المهجرين".
سألتها عمّا لحق بأحفاد المهجّرين من حيفا نتيجة تستّر التاريخ على ذاكرتهم، فقالت: "النكبة وجعٌ مُستمرٌّ ومتوارثٌ لم يلتئم بعد. والوجه الآخَر لاستمرارية النكبة هو هذا الوجع المحمول على أكتاف الأبناء والبنات وفي قلوبهم وذاكرتهم". وأضافت: "حينما تموت الأمهات، يتذكر الأبناء القرى التي هُجّرت منها أمّهاتهم ولم يزرْنَها حتى مماتهنّ، فيدفَن حلم العودة معهن". وتابعت: "وحين يتوفّى الآباء، ولا يستطيع الأبناء تنفيذ وصيّتهم بدفنهم في قراهم التي هجّروا منها خلال النكبة، يصبح الوجع أعمق". واعتبرت غنايم أنّ "هذا الألم لا دواء له، يُورَّث من جيلٍ إلى جيلٍ، إلى أن تشرق شمس العدالة على أرض فلسطين التاريخية".
وحول أثر بحثها عن ذاكرة النكبة عليها، تقول غنايم: "قالوا إن الأجيال الأولى للنكبة ستموت، وإن الأجيال القادمة ستنسى، لكن العكس هو ما حدث. فقد ورّثت الأجيال الأولى ذاكرتَها للأجيال التالية، التي بحثت وما تزال تبحث عن تاريخ وذاكرة أحداث النكبة". وأضافت "أما عن نفسي، فعند دراستي للأدبيات التاريخية والسياسية حول حرب 1947–1948، وخلال دراستي الجامعية لموضوع التاريخ، شعرتُ بوجود نقصٍ ملحوظٍ، وهو غياب صوت الناس الذين عاشوا تلك الأحداث. وكان هذا هو الدافع لمعرفة حقائق أخرى على ألسنتهم".
وحول كيفية تمكّن جماعةٍ هُجّرت قسريّاً من حماية ذاكرتها، قالت غنايم: "أحياناً يصل الإنسان إلى حالةٍ يفقد فيها بيته وأرضه ووطنه، ولا يبقى له سوى ذاكرته. يتفكّك المكان والزمان، لكن لا تتفكّك الذاكرة". وأوضحت "على سبيل المثال، استطاع قسمٌ من أهل قطاع غزة كتابة يومياتهم وذكرياتهم والحرب لا تزال جارية". وتابعت: "لقد أصبحت عملية التوثيق اليوم أسهل، إذ يوثّق السارد بنفسه، عبر مقطعٍ مصوّرٍ أو تسجيلٍ صوتيّ. فرغم قسوة الأحداث، يرغب جزءٌ كبيرٌ من الناس في الحديث عن ألمهم".
في هذا السياق، برز اسم الشاعر الفلسطيني محمود بسيوني، بين الكتّاب المنشغلين بتوثيق يوميات القصف الإسرائيلي الآنيّ على غزة، ورحلات النزوح الفلسطينية، وذلك بمبادرته الفنّية "أقلام في خاصرة النزوح". أرسلتُ إليه أسأله أولاً عن دوافعه وأطر كتابته وأهدافها، حين يكتب تحت تهديد القصف. فأجاب: "في الحرب، لا تفجّر القنابل الأجسادَ لتُمِيتَها وحسب، بل تنفجر داخل أرواحنا وأذهاننا، وتزعزع الثوابت الفكرية وتهمّش الأطر الأدبية، فنجد أنفسنا، نحن الكتّاب، ننزف حبراً على ورقٍ، لا نعرف الحرف وجنسه الأدبي".
يؤمن بسيوني بدور الكتابة في التصدي للاحتلال. وقال عن دافعه لتنظيم مبادرته الفنّية: "دمّر المحتل المكاتبَ والمسارح والمراكز الثقافية، واستهدف الصحفيين والكتّاب والفنانين والمخرجين". وأكّد "لذلك، هدفت مبادرة (أقلام في خاصرة النزوح) إلى خدمة مختلف الأعمار والفنون في محافظاتٍ عدّةٍ داخل الوطن، وفق الأوضاع الأمنية وحركة النزوح". وشدّد على أنه "هكذا فقط نستطيع إخبار الطائرات التي تقصفنا – وقد أقلعَتْ معتقدةً أننا شعبٌ لا يستحقّ الحياة – بأننا نستطيع رغم الموت والدمار، أن نصنع الحياة".
كتب بسيوني مؤخراً قصيدةً بعنوان "بين أحضان الضباب"، صوّر فيها واقع طوابير البحث عن الطعام، وبين الركام وتحته، والطائرات المتأرجحة في السماء بثقل القنابل، والطفولة الغائبة. وجمع في روايته "جذوة من نار" الأحداث التي تعانيها الأسر الفلسطينية، "لتكون توثيقاً تاريخياً يحفظ لذاكرتنا طويلاً ما جرى من قتلٍ ودمارٍ وضياعٍ للحقّ البشري، وما تفرزه الحرب من فسادٍ واسع. وليرَ العالم ما ومن يقطن خلف سحابات الانفجارات وتجاذبات السياسة والإعلام".
وفي امتدادٍ لهذا الإيمان بسلطة السرد في مواجهة الطمس، أطلقَت الكاتبة السودانية إشراقة مصطفى حامد، أستاذة العلوم السياسية، شعارَ "ليس سوانا يكتب سيرتنا". وتقيم حامد منذ سنة 2020 ورشاتِ كتابةٍ إبداعيةٍ، آخِرها في مصر، من منصّتها "فنون بنات مندي لثقافة السلام وإدارة التنوع" التي أسّستها في العاصمة النمساوية فيينا. وتهدف بهذه المبادرة إلى أن تكتب النساء سيرتهنّ وسيرة جدّاتهنّ، ويسجّلنها في كتبٍ بأقلامٍ عربيةٍ وإفريقيةٍ مشتّتةٍ حول العالم.
وحول مشروعها، قالت إشراقة حامد في حديثٍ للفراتس: "تمنح الورشة المشارِكاتِ فرصةً لتحويل الألم إلى أملٍ، واستعادة أصواتهنّ عبر نصوصٍ توثّق تجاربهنّ، وتبرز صمودهنّ، وروح المقاومة التي تسكنهنّ". وتابعَتْ: "إنهنّ قوياتٌ، قادراتٌ، وكثيراً ما أتساءل: 'كيف ينجحن في مواجهة أقسى الظروف بهذا الإصرار والصبر الفريد؟'".
أَسَرَتْني حكايات النساء عن سيرة جدّاتهنّ، فسألتُ إشراقة عن دور الجدّة في نقل الذاكرة الشفهية للأحفاد. فأجابت: "الجدّات ذاكرةٌ شفهيّة. هنّ السارداتُ الأُوَل للقصص والأساطير، وناثراتُ قِيَم الماضي. يساعِدْن الأجيالَ اللاحقة على فهم التاريخ، ويمددْنَها بجسرٍ يربط الماضيَ بالحاضر". وأشارت إلى أنه "حين نظّمتُ ورشَ الكتابة، وشاركَتْ فيها مبدعاتٌ من المهجر والداخل السوداني، ظهرت القواسم المشتركة بين الجدّات في السودان ومصر وسوريا والعراق ولبنان وإريتريا وغيرها. وكنّ جميعاً يحملن سرّ المقاومة. السرّ في الجدّات، وفي وعيهنّ العميق بكثيرٍ من القضايا، رغم أنهنّ لم يدرسن سوى في مدرسة الحياة، ويا لها من مدرسةٍ ثريّة".
مِن هنا تؤمن إشراقة بفعالية تدوين الذاكرة في حفظ تاريخ الشعوب وتجاربها، لا سيّما في أوقات الحروب والصراعات. لكنها – متّفقةً مع رأي غنايم – ترى أنّ نجاح هذا التوثيق مشروطٌ بتبنّي أساليب منهجيةٍ متعددة التخصصات، تجمع بين البحث العلمي والتوثيق الإنساني. فضلاً عن إشراك المجتمعات المحلّية، وضمان حماية رواة الذاكرة، وتوفير بيئةٍ آمنةٍ لتبادل القصص والتجارب. وتؤكّد أنّ توثيق تجارب النساء ليس مجرّد أرشيفٍ يُحفظ، بل هو فعل مقاومةٍ وإدانةٍ للحروب، وصوتٌ من أجل السلام العادل.
سألتُ إشراقة ما إن كان بإمكان الأدب أن يتحايل على ضياع الصورة القديمة للوطن في وجدان المُهجَّرين، فحكت لي عن ورشةٍ نظّمَتْها بعنوان "البيوت، نبض ذاكرة النساء"، كتبت المشاركاتُ فيها عن البيوت المفقودة وعن السلالم والجدران والأدراج والروائح. وتابعت: "كتبن ذاكرةً تومض بالأرواح الهائمة، والأجساد التي أنهكتها الحروب وأضناها النزوح". وأضافت: "في المنفى، يبقى الانتماء معلّقاً بين السماء والأرض، وتُفقد ذاكرة الوطن، لأنّ الهجرة القسرية ليست مجرّد انتقالٍ جغرافيٍ من مكانٍ إلى آخَر، بل هو تحوّلٌ داخليٌ عميقٌ، يُجترح فيه معنىً جديدٌ للذاكرة والذات والوطن. وهنا، تكون الكتابة مقاومةً، وأرشيفاً لمحاكمة تاريخ الحروب".
حضرَتْ ذكرى أوّل أيام النكسة في كلا اللقاءين. إذ كان الأطفال الثلاثة برفقة جدّتي في الإسماعيلية يوم 5 يونيو 1967، وهو اليوم الذي صادف حفل زفاف عمّتي الكبرى. ورَوَتْ عمّتي الصغرى ما حدث قائلةً: "وصلنا الإسماعيلية العصر، كنت في الخامسة، ومعي أمّي وأبوكِ [سبع سنوات] وعمّكِ [ستّ سنوات]. أكلنا، وذهبت أختي إلى مصفّف الشعر. وعند السابعة مساءً، وكان الظلام قد بدأ يحلّ، بدأت الحرب: غاراتٌ، صفاراتٌ، قنابل، فيما الناس تهرع إلى الخنادق". وأضافت: "أثناء ركضنا، وجدنا عريس أختي جالساً عند الحلاق، يقصّ شعره على ضوء شمعة. نادته أمّي، فقال مطَمْئناً: ما تقلقيش يا حاجّة، إحنا كلّ يوم على الحال ده، مفيش حاجة". وتابعت: "أسرعت بنا أمّي إلى بيت جدّي، وكان من الخشب، فاهتزّ تحت القصف، فركضنا نحو الشارع، وجدّي ينادينا من خلفنا. وصلنا بيت خالتي، وكان مزدحماً. ووسط الزحام، سقطت قذيفةٌ في ساحة البيت، من دون أن تنفجر، متسبّبةً بتحطّم الزجاج". وأكملت عمّتي: "عندها هرعت بنا أمّي إلى محطة القطار. وكنا نجري تحت ضوء القصف، وقد وصلنا مع أذان الفجر. احتمينا في غرفة مسؤول المحطة، ننتظر القطار. وعند الخامسة فجراً، خفّ القصف، فركبنا القطار. وقد بقيت أمّي شهراً لا تتكلم ولا تسمع".
روى عمّي عن رحلة القطار قائلاً: "سمعنا صوت طائرةٍ تحلّق فوق القطار، فارتعبنا، لأنّ الإسرائيليين لا أمان لهم، وظننّا أنّه سيتعرض للقصف، حتى وصلنا خبرٌ طمأننا بأنّ الطائرة مصريةٌ ولحمايتنا. لكن لا يمكن أن أنسى الأشلاء التي رأيتُها من نافذة القطار عندما هدأ سيره".
أخبرتُ عمّتي عن حادثةٍ أخرى، شهد فيها والدي احتراق قطارٍ استقلّه، وتعتقد أنّ ذلك قد يكون تفسيراً لتساؤلها القديم: لماذا استغرقت رحلتنا، التي لا تتجاوز ساعةً ونصف الساعة عادةً، سبعَ ساعات؟.
لم أعثر على تفاصيل دقيقةٍ لما جرى لسكك حديد الإسماعيلية في ذلك اليوم، لكنني وجدتُ في كتاب "جسر على قناة السويس" للكاتب فتحي رزق، توثيقاً لمجزرة محطة قطارات الإسماعيلية بتاريخ 16 يوليو 1967. إذ كتب: "ضرب العدو مبنى محطة السكة الحديد في موعد مغادرة قطارَي القاهرة والشرقية إلى الإسماعيلية … بلغت المأساة ذروتَها، إذ كان المواطنون الخارجون من بيوتهم يصطدمون بالعائدين إليها، بينما القذائف تتساقط على الجميع، والنيران مشتعلةٌ في عشرة أمكنةٍ، كأنها مشاعل الموت تضيء المدينة للعدو ليزيد من وحشيته".
وصلَت العائلة الكبيرة إلى بيت جدّي في القاهرة بعد أسبوعين من يوم القطار، وتوزّع بقيّتهم على محافظاتٍ عدّةٍ، باستثناء الصعيد، بحسب ما اتفقت عليه روايةُ عمّي وبحث "سكان مدن القناة" لأسماء محمود، التي أشارت إلى طبيعة أهل الإسماعيلية المتحررة مقابل طبيعة أهل الصعيد المحافظة. وقالت عمّتي: "جمعتنا أمّي، نحن العشرة في غرفةٍ واحدةٍ، بينما خُصّصت الغرفة الثانية لأسرة عمّتي. كان في الغرفة سريران وخزانة. وقالت لنا إنها ستبيع هذه الأغراض لتُفرّغ مساحةً لقريبنا، لكنها في الحقيقة باعتها لنأكل، بعد انضمام أبي وإخوته إلى المجهود الحربي".
في كتابه "حرب أكتوبر" الصادر سنة 2011، كتب الفريق سعد الدين الشاذلي أن "عملية بناء القوات المسلحة لم تتوقف منذ هزيمة يونيو 1967 حتى أكتوبر 1973". وكان لذلك أثرٌ مباشرٌ على حياة عائلتي، إذ أبقى الجيش حينئذٍ جدّي وعمّي الأكبر في الخدمة العسكرية. وروى عمّي الأصغر عن تلك الأيام قائلاً: "انقطع مصدر دخلنا الوحيد، كان دخلنا صفراً، وتحت الصفر … نأكل الضروريّ فقط. هل تتخيّلين أن تذهبي إلى المدرسة في الصباح من دون ساندويتش؟ هل تتصورين أنني كنت سأترك التعليم بسبب سبعةٍ وستّين قرشاً هي مصاريف المدرسة؟".
بعد أشهرٍ عاد جدّي من فترة الاستبقاء الحربي، في حين بقي عمّي الأكبر في الخدمة العسكرية طوال سبع سنواتٍ من حرب الاستنزاف حتى نصر أكتوبر. وأوضحَتْ عمّتي هنا: "في تلك الفترة، كان جميع إخوتي الأربعة الكبار في الجيش، وكان أكبر أعمامكِ في قاعدة صواريخ تحت الأرض في المنصورة [شمالي شرق القاهرة]". وتابعت: "كنتُ مع أمّي في الحافلة لزيارة أختي لحظة إذاعة خبرٍ عسكريٍ عبر الراديو، فرفع حامل الراديو الصوتَ وسمعنا نبأَ ضرب قاعدة المنصورة [في 14 أكتوبر 1973]. نزلنا ووقفنا في قهوةٍ، وما لبث النبأ أن تكرّر". وأكملَتْ: "أصرّت أمّي على الذهاب إلى المنصورة، فرافقتُها أنا وأختي. وهناك، كانت أختٌ لنا مهجَّرةٌ تقيم عند والد زوجها. بحثنا عن شقيقنا في المستشفيات، وقيل لنا تارةً إنه شُوهد في إحدى المستشفيات، وتارةً أخرى إنه ظهر وهو يساعد زملاءه المصابين. وبعد ثلاثة أيامٍ، قصد منزل والد زوج أختي ليطمئنَنا، موضحاً أنّ قائده أرسله في مهمةٍ قبل قصف القاعدة، ثمّ انشغل بعد عودته بإسعاف رفاقه".
استمرت معركة قاعدة المنصورة الجوية ثلاثًا وخمسين دقيقةً، وصنّفتها جامعة "نوريتش" العسكرية (مؤسسة تعليمية أمريكية متخصصة في الدراسات الإستراتيجية والحربية)، واحدةً من أطول عشر عملياتٍ جويةٍ في التاريخ. فقد هاجمت إسرائيل القاعدةَ بأكثر من مئةٍ وعشرين طائرةً، تصدّى لها الدفاع الجوّي المصري باثنتين وستّين طائرة. وأسفرت المواجهة عن إسقاط ما بين عشرٍ إلى ثماني عشرة طائرةً إسرائيليةً، مقابل خسارة ما بين ثلاثٍ إلى سبع طائراتٍ مصرية.
في رحلة العودة إلى الإسماعيلية بعد سنواتٍ من النكسة، زارت عمّتي وجدّتي، عمّتيَ الكبرى في المدينة بعد السماح بدخولها سنة 1974. فقالت: "كان بيت أختي واسعاً، ووجدنا سقف الغرفة التي اعتدنا أن ننام فيها مضروباً بقنبلة". لم تستطع عمّتي وجدّتي النوم في تلك الليلة، وجلستا على الشرفة لتُشاهدا ما حلّ. فوصفت المشهد: "كانت الفئران تمشي في كلّ مكانٍ، كأنها البشر في سوق الموسكي [سوق بوسط القاهرة معروف بزحمته]. الفئران دخلت البيوت تأكل وتشرب. المنطقة كانت مدمّرةً ومغلقةً لمدّة سبع سنوات".
عانت عائلتي مأساةً خاصةً مرتبطةً بحرب أكتوبر امتدت سنواتٍ طويلةً حتى تفككت الأسرة، ومات نصف أفرادها في مدّةٍ قصيرة. فقد عاد عمّي نبيل من غربته ليجد أنّ والده ووالدته وأشقاءه قد رحلوا، وجلس يرسم شجرةً تساقطت أوراقها، وورقةً واحدةً معلقةً في الهواء كتب عليها اسمه.
شارك أربعةٌ من أعمامي في حرب أكتوبر. واستمعتُ، على لسان عمّتي، إلى ما رواه عمّي نبيل عن لحظة عبوره خطّ بارليف (التحصين الإسرائيلي على الضفة الشرقية لقناة السويس). عندها، انفصلتُ عن الواقع، حضرتُ معه على الجبهة، وعبرتُ القناة في قاربٍ مطّاطيٍ، ورأيتُ الملائكة تقاتل معنا. قفزتُ في الهواء بالمظلّة مع عمّي حمدي، وأكلتُ معه من خشاش الأرض.
كذّبتُ نفسي أياماً، محاوِلةً تعويضَ خسارتي الثقة في حدسي، وإن كان صادقاً، بأمل العثور على أبناء عمّتي الكبرى في الإسماعيلية. ثمّ تأكدتُ أن شقيقتي الكبرى تحمل الذاكرة ذاتها التي أحملها، فنصحَتْني بسؤال أكبر حفيدةٍ من فرع العائلة في القاهرة، التي نشأت في كنف جدّي وجدّتي. وطلبَتْ منّي أن أسألها عن شعورها تجاه بيت جدّي المهجور – الذي نخافه – في القاهرة. سألتُها، فأجابتني بيقين: "جدّك من مهجَّري حرب 1948". ونفت أن يكون والدي وحده من يتكتم على ذلك، مؤكدةً أنّ "الكتمان سِمة العائلة كلّها"، ونصحتني بالبحث عن أقاربنا على "فيسبوك"، لأن "الدم يحنّ". لكن في كلّ المصادر التي بحثت فيها، لم أجد ما يشير إلى هجراتٍ من الإسماعيلية سنة 1948.
فتحتُ كتاب "الإسماعيلية أرض الفرسان" لمحمد الشافعي، أتلمّس سيرة الناس قبل النصف الثاني من القرن العشرين، فأدركت أنّ الإسماعيلية لم تعرف الأمان يوماً. ووفق الكتاب، فقد احتُلّت من قَبْل إنشائها في 1862، بناءً على عقد الامتياز الأول لقناة السويس في نوفمبر 1854. وقد حصل الدبلوماسي والمهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس (صاحب مشروع شقّ قناة السويس) على هذا العقد من والي مصر حينها محمد سعيد باشا، لتبقى بذلك قناة السويس والإسماعيلية الواقعة على ضفافها، تحت السيطرة الأجنبية عقوداً. وصارت المدينة بعد ذلك نموذجاً لعنصرية المحتل ضد عمّال السخرة المصريين.
ثم اتخذت قوات الاحتلال الإنجليزي من الإسماعيلية مقراً لها، وذلك منذ احتلال مصر سنة 1882، بحسب الكتاب نفسه. كذلك دارت على أرضها معارك أثناء الحرب العالمية الأولى في 1915. ثمّ تحوّلت إلى المركز الرئيس لقوات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي ليلة 31 يناير 1941، ألقت الطائرات الألمانية والإيطالية ألغاماً بالمظلات على منطقة القناة، وتكررت الهجمات على المدينة طوال شهر أغسطس من ذلك العام.
ومع اندلاع أحداث النكبة في فلسطين سنة 1948، تنبّه الفلسطينيون إلى خطورة الموقف أمام العصابات الصهيونية المسلحة. لذلك سعت "اللجنة العليا لإنقاذ فلسطين" (مجموعة شعبية وعسكرية) إلى مصادر للتسلّح بدعمٍ من الدول العربية. فاتجهت الأنظار إلى الإسماعيلية، حيث كان يوجد حينها أكبر مخازن السلاح البريطاني في الشرق الأوسط، فاستولى عليها أبناء المدينة وشحنوا السلاح إلى فلسطين، وفق ما يرد في كتاب الشافعي.
وذكر الكتاب حادثة تهجيرٍ واحدةً وقعت عندما نفّذ الاحتلال البريطاني مخطّطه بعزل منطقة القناة عن باقي مصر، وإخضاعها لحكمٍ عسكريٍ في عامي 1951 و 1952. وفي خضمّ هذا الحصار، صدر البلاغ الأول لما عُرف بكتائب التحرير في الإسماعيلية، إيذاناً ببدء حركة الكفاح المسلح الجماعي. وقد استبسل في هذه المعركة أبناء المدينة، من الأهالي والفدائيين، إلى جانب الضباط الأحرار، ما أجبر بريطانيا في النهاية على توقيع اتفاقية الجلاء في 1954، وفق الكتاب.
إلى ذلك، سألتُ أستاذ الإناسة الثقافية بجامعة العريش، حمدي سليمان، عن عدد هجرات أهالي الإسماعيلية، فأجاب بأنهم "تعرضوا لموجات تهجيرٍ عدّةٍ، ولكن بنسبٍ متفاوتة". وأوضح أنّ "أولى هذه الهجرات بدأت مع الاحتلال البريطاني سنة 1882، حين خشي الأهالي اندلاع مواجهةٍ بين قوات الزعيم المصري أحمد عرابي والجيش الإنجليزي، فغادر كثيرون منهم إلى المحافظات القريبة".
وأضاف سليمان "ثمّ جاءت الحرب العالمية الأولى، التي استهدفت خلالها القوات الألمانية معسكرات الجيش الإنجليزي في الإسماعيلية. لكن قذائف الطائرات سقطت خطأً على الأحياء السكنية، مما دفع السكان إلى النزوح مجدداً". وتابع: "أمّا الهجرة الأشدّ وقعاً، فكانت خلال الحرب العالمية الثانية"، وقد وثّقها الكاتب محمود دياب في روايته "طفل في الحيّ العربيّ" الصادرة سنة 1972. إلّا أن أكبر موجات التهجير كانت بعد نكسة 1967، وفق سليمان.
وقال سليمان: "تلك هي الهجرات الأربع الكبرى الموثّقة في تاريخ الإسماعيلية، إلى جانب تهجيراتٍ محدودة النطاق نفذها الاحتلال الإنجليزي. على سبيل المثال إخلاء الشوارع الموازية لترعة الإسماعيلية سنة 1952، بهدف القضاء على الفدائيين الذين نصبوا الكمائن على الطريق، وألقوا بجثث الجنود الإنجليز في الترعة". ولفت سليمان إلى أنّ "هذه الهجرات المتكررة غيّرت النسيج الاجتماعي للمحافظة، إذ استقرّ فيها لاحقاً أبناءٌ من وادي النيل، كانوا قد ارتبطوا بعلاقات نسبٍ ومصاهرةٍ مع المُهجّرين".
ودلّل خزعل على اعتقاده قائلاً: "أنا ولدتُ في بغداد، لكن الأسرة الكبيرة تنتمي إلى الجنوب، لكنّني لم أزر الجنوب العراقي إلّا قبل عامٍ واحدٍ فقط". وأضاف "عندما ذهبت إلى هناك، شعرت بأنّ هذا هو مكاني الحقيقي. وقد استدللت على بعض الأماكن بنفسي من دون أن يدلّني عليها أحدٌ، نتيجةً لشعوري وذاكرتي الشخصية".
وبحسب خزعل، "تترسّخ ذكرى أيّ حدثٍ تاريخيٍ في ذاكرة الإنسان خلال مرحلة المراهقة وبداية الشباب". أمّا في ذاكرة الأجيال اللاحقة، فاعتبر خزعل أنّ أبناء "الجيلين الثاني والثالث، الذين لم يمرّوا بالحدث في تلك المرحلة العمرية، تعتمد قوّة تذكرهم للحدث على طريقة انتقاله بين الأجيال، وعلى مدى ترابطه، وعمق الحدث، وأساليب الحفظ والتذكر". وأشار إلى أنّه "كلّما كان الحدث مشحوناً بأبعادٍ فعّالةٍ وعاطفيةٍ ومأساويةٍ وبطوليةٍ، زادت فرص انتقاله بشكلٍ قويٍّ عبر الأجيال".
ولَفَتَ خزعل إلى أنّ هناك اتجاهَيْن في دراسات الذاكرة. الاتجاه الأول يعدّها بنيةً واعيةً أو شعوريةً، إلّا أنّ الفرد قد يفشل في استدعائها أحياناً بسبب عدم التنظيم، فيستعيدها لاحقاً عبر الترابطات. وفسّر خزعل ذلك قائلاً: "مثلاً، قد ألتقي بكِ، ولا يحدث بيننا تعارفٌ عميقٌ، فتظنّين أنّني نسيتكِ، لكن هذا لا يعني – بحسب أبحاث الذاكرة – أنني نسيتكِ تماماً. فعند لقائنا مجدّداً، قد يصعب عليّ تذكّركِ، لكن إذا حاولتِ أن تذكّرينَني، سأستعيد الذاكرة نتيجة الترابطات". أما الاتجاه الثاني، فيرى أنّ للذاكرة بعداً لاشعورياً. فإذا كتمتَ ذكرى تخزيكَ أو تقلقكَ، فإنها تبتعد عن الشعور الواعي وتُخزَّن في منطقة اللاشعور، حيث تؤثر خفيةً بطرقٍ مقنّعة. ولفت إلى أن "الذاكرة لا تموت في الاتجاهين. وبمجرّد أن تتحرك الشبكات في الرأي الأول، أو بمجرد أن يغوص المرء في طبيعة المكبوتات، يجد الذاكرة موجودةً، لأن الإخفاء لا يعني الإلغاء".
كذلك على المستوى الجمعي، تجد الذاكرة الجمعية وسيلةً للبقاء، إذ يحرص المجتمع "أسرةً كبيرةً" – بحسب خزعل – على إخفاء بعض الأمور، وتقاوم النظم السياسية بعضَ الروايات، لكن هذا لا يعني موتها. وهنا تظهر جدلية الذاكرة التاريخية، إذ تكون الذاكرة غير الرسمية المراد نقلها ذات مساراتٍ خفيّةٍ تقاوم سلبيات الذاكرة الرسمية، وتتمتع بشبكةٍ كبيرةٍ ومعقدةٍ من العلاقات.
ودلّل خزعل على ذلك بحالة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، قائلاً: "عشنا في ظلّ نظامٍ لم يكن له مثيلٌ في شموليته، ووصل به الأمر إلى درجة حكم الناس داخل بيوتها. ومع ذلك، ظلّت الذكريات المضادّة حيّةً بشكلٍ كبير". وأوضح أنه "بمجرد سقوط النظام، انبعثت موجةٌ كبيرةٌ من هذه الذكريات المضادّة. صحيحٌ أنها كانت غير منظمةٍ، لكنها في النهاية دليلٌ على أن الذاكرة لا يمكن أن تموت مهما بلغت قوة السلطة". واستطرد خزعل: "ففي زمنٍ كان يُعدَم فيه أيّ شخصٍ يحمل كتاباً وإن كان غير معارضٍ، أو لا علاقة له بالسياسة أو الدولة، كنتِ تجدين الكتب الممنوعة تباع في شارع المتنبي في بغداد".
سألتُه عن حوامل الذاكرة التي أثبتت فعاليتها في الحالة العراقية، فأجاب: "حفظتها الذاكرة الشفاهية المباشرة، وكذلك الملتوية في رموزها الكبيرة. على سبيل المثال، قصيدة 'تْلولَحِي' [تأرجَحي] للشاعر عريان السيد خلف"، والتي ترمز إلى فترة ملاحقة الشيوعيين والحملة الدموية التي شنّت ضدّهم، وتعليقهم على المشانق بعد انقلاب 8 فبراير 1963، حين استولى حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم. وأضاف خزعل: "كما أنّ غزارة الإنتاج الثقافي للعراقيين الذين خرجوا من البلاد، وحفظوا الذاكرة من خلال الأدب أو الدراسات، شكّلت أيضاً عاملاً أساسياً في حفظها". واعتبر أنّ "هاتين الأداتين – الممارسة الشفاهية والتوثيق الكتابي – كانتا من أهمّ الوسائل التي حفظت الذاكرة". وتابع: "أعتقد أنه حين تمارِس سلطةٌ ما ضغطاً شديداً لصناعة ذاكرةٍ رسميةٍ، فإن هذا الضغط بحدّ ذاته يولّد ردّة فعلٍ عكسية بالقوة نفسها، ولكن في اتجاهٍ مختلفٍ، وهو ما يعمّق الذاكرة".
سألتُه عن رأيه في ما سمعته من اتهاماتٍ توجَّه إلى جيلنا بالعجز الجمعي أمام الأزمة الفلسطينية، وهل نحن فعلاً في حالة عجزٍ أم حالة ثبات. وما الذي تحتاجه الذاكرة العربية لتولِّد فعلاً جمعياً لنصرة قضاياها. فأجاب بأنّ "القضية الفلسطينية شهدت تحولاتٍ في المعنى عبر الزمن. إذ أضفت عليها الإحباطات السياسية التي ألمّت بالمجتمعات العربية معانيَ جديدةً، خاصةً مع سقوط الأنظمة التي بَنَتْ خطابَها السياسي على الحشد الأيديولوجي لهذه القضية". وأوضح: "كانت قضية فلسطين واحدةً من الخطابات الرئيسية لنظام صدّام. وخلّف هذا الارتباط ردَّ فعلٍ كبيراً معاكساً، لأنّ الشعب كَرِهَ هذا النظام التدميري. أمّا اليوم، فأعتقد أن القضية تُطرح من زاويةٍ إنسانيةٍ، ليس بوصفها قضيةً عربيةً أو إسلاميةً فقط". وأضاف "رغم أنّ كلا البعدين جزءٌ من هويّتي، لكن المعنى الإنساني أعمق من المراحل السابقة".
وتابع: "لكن أحياناً، الإدراك والتفاعل والتعاطف لا يتحوّل بالضرورة إلى فعلٍ جمعيٍ، لأنّ ما بين هذه السمات والفعل الجمعي جملةٌ من العوامل المعقدة، منها الهوية الاجتماعية، والثقافة السياسية، ومدى إدراكنا للتهديد الموضوعي". وأشار إلى أنّ "هذه العوامل قد تحوّل تلك السمات إلى فعلٍ فوريٍّ، أو مستقبليٍّ، أو لا تحوّلها إلى فعلٍ على الإطلاق". ورأى أنّ "المسار من الذاكرة إلى الفعل الجمعي ليس بسيطاً ومستقيماً، بل هو شبكةٌ معقّدةٌ من الظروف والهويّات".
كنت أظنّ أننا بحاجةٍ إلى هويةٍ عربيةٍ موحدةٍ، لكنّ خزعل عقّب قائلاً: "ما يشغلني ليس مضمون الهويات، بل كيفية حمل الهوية. لأننا، ما إن التفتنا إلى مضمون الهويات، بدأنا في تشكيل هوياتٍ انغلاقيةٍ ترى في ذاتها مركز الكون". وأضاف "أما الهوية الإنسانية، فهي أعمق من ذلك. الهوية الإنسانية لا بمعناها العالمي الذي يُلغي الهويات الصغيرة، بل بمعناها الذي يحتفي بهذه الهويات، ويطمح إلى عالمٍ تشكّله مجموعةٌ من الثقافات المتعايشة، فنحملها بصورةٍ تواصليةٍ لا تقاطعيةٍ، حتى نتمكن من اكتشاف المشترَكات فيما بيننا". وتابع "هذه الهوية موجودةٌ بالفعل بيننا، لأننا تعرّضنا جميعاً لكثيرٍ من القهر. والقهر يولّد النزعة الإنسانية بلا شكّ. لكننا بحاجةٍ إلى خطابٍ عامٍّ يكرّس هذه النزعة، ويمنحها أفقاً واضحاً".
سألتُه: "إلى متى قد تدوم قوّة ذاكرةٍ مختلَقة؟"، فأجاب: "يمكن أن تدوم لسنواتٍ، أو حتى قرونٍ، بحسب الشروط الموضوعية. فلكلّ ذاكرةٍ ظروفها وعوامل دعمها، بشكلٍ مقصودٍ أو غير مقصود". وأشار إلى أنّ "الذاكرة الإسرائيلية، على سبيل المثال، تُدار بحِرفيةٍ عالية. إذ تمتلك مؤسساتهم العلمية إمكانياتٍ هائلةً، وهم يعرفون عنّا أكثر مما نعرف عن أنفسنا". ولفت إلى "أننا مُنعنا من إجراء دراساتٍ جادّةٍ عنهم. ومجتمعاتنا في الغالب تجهل الكثير عنهم، وعن حقيقة أنّ ذاكرتهم مختلَقةٌ بالأساس". وأضاف "أمّا هم، فيدرسون كلّ ما يجري في العالم العربي، ويحظَوْن بدعمٍ واعٍ وغير واعٍ يكرّس هذه الذاكرة، سواءً من خلال مؤسساتٍ نزيهةٍ أو من خلال خطاباتنا المحبطة". ورأى خزعل أنّهم "يؤثّرون فينا بطرقٍ غير ملحوظة. ولهذا نحتاج إلى دراسة أدبهم وسياساتهم بتفصيلٍ عميق". واستدرك خزعل بالقول "لكن، الذاكرة وحدها ليست حلّاً سحرياً، إذ تحتاج إلى دعمٍ صناعيٍ واقتصاديٍ وسياسيٍ لتتمكن من التأثير الفعلي".
وفي السياق ذاته، حذّر خزعل من أنّ "الخطابات الجوهرانية قد تنتج مناخاً فكرياً محبطاً، برؤيتها في العرب عيوباً جوهريةً لا يمكن تجاوزها. ومثال ذلك الخطاب الطائفي في العراق، الذي يَحُول دون إقامة نظامٍ ديمقراطيّ". وأشار إلى أن "مثل هذه الخطابات قد تكون تدميريةً ومنشؤها خارجيٌ وقصديٌ، لكن مع ذلك يتأثر بها بعض الباحثين العرب، الذين يعيدون إنتاجها ويؤصّلون لها من دون قصد".
أمّا عن ملامح الخطاب الذي نحتاجه اليوم، فقال خزعل: "نحن بحاجةٍ إلى خطابٍ علميٍ بالمعنى الحديث، لأننا ما زلنا ندرس العلم وفق مفاهيمه القديمة التي تعود إلى القرون السابقة". وأضاف "نحتاج إلى خطابٍ أوسع نطاقاً، وأقلّ جموداً، وأكثر عدالة. خطابٍ قائمٍ على تحليلات الباحثين المعنيين بالإنسانية والقضايا الكبرى، لا على اجتهاداتٍ فردية. ولهذا، نحتاج إلى شبكات تواصلٍ بين هؤلاء الباحثين، حتى يتمكنوا من إنتاج خطابٍ عابرٍ للحدود، وبالتأكيد، خطابٍ يكون مؤثّراً".
وفي هذا السياق، وعند سؤاله عن سبب ندرة دراسات الذاكرة في العالم العربي، قال خزعل: "هذه واحدةٌ من المفارقات، إذ إن موجة الاهتمام بالذاكرة طاغيةٌ عالمياً في الوقت الراهن. وأنا أرجع ذلك إلى عوامل عدّةٍ، أهمّها ضعف مهارات البحث، وتخلف المؤسسات البحثية التي لا تملك الاستعداد للخوض في مثل هذه الموضوعات". وأضاف "هناك أيضاً عاملٌ أكثر تجريداً وفلسفيةً، وهو أننا مجتمعاتٌ غارقةٌ في الذاكرة، وعادةً عندما ينغمس الإنسان في شيءٍ ما، يقلّ إدراكه لأهمّيته وحاجته لدراسته. نحن غارقون في التاريخ، لأنه تاريخٌ حيٌّ، ونحن غير متصالحين معه، ما يجعلنا أحياناً ننفر منه بدلاً من تحليله".
وأشار إلى أنه "لدينا أيضاً فجواتٌ معرفيةٌ كبيرةٌ، وهناك موضوعاتٌ كثيرةٌ في واقعنا الاجتماعي لم تُدرَس بعد، وليس موضوع الذاكرة وحده. وبالتالي فإن الباحثين قد تشغلهم قضايا أخرى بينما يبحثون، هذا إذا سمحت لهم قوانين بلادهم بالبحث في الذاكرة من الأساس". وأوضح: "فعلى سبيل المثال، في العراق يمنع البحث في نظام صدام حسين بموجب قانونٍ يحظر ما يسمّيه تجميل النظام السابق".
كيف كانت عودتي. حسناً، في طريقي إلى الإسماعيلية جفّت دموعي أخيراً وحلّقت مخاوفي عالياً. استرجعتُ تاريخ كلّ مكانٍ مررت به ما إن ظهر اسمه على شاشة السيارة. وجدتُها أرضاً ثابتةً في داخلي، بشوارع تسكن ذاكرتي، وبوجوهٍ من المارّة يلقون السلام ما إن وطئت قدمي أرضها. لكنني لم أقف على شاطئ بحيرة التمساح باكيةً، كما تخيّلتُني طوال الأسابيع الماضية، ألوم نفسي على ما اقترفته في حقّ الإسماعيلية بسبب زيارتي لها غريبةً وفشلي في الوصول إلى أقاربي. بل كانت حدود مدينة التمساح، حدود بيت جدّي، في لحظاتٍ نادرةٍ من الشعور بالتصالح والانتماء.
كان لعودتي طعمٌ وصوتٌ ورائحة. صوت ضحكٍ من القلب، وقبلاتٌ على الوجنات والأكتاف، وفي الهواء. وطعم دموع الفقد حيناً، وفرحة لمّ الشمل أحياناً. أمّا رائحتها، فكانت رائحة اليود (رائحة الملح في بحيرة التمساح)، وعبق البيوت، وحنانٍ يسكن ثنايا الغائبين.
لم أعُد في هذه المرحلة عابئةً بعام تهجير جدّي، فقد تخيّلته في كلّ ليلةٍ تحت قصف عدوٍّ جديدٍ، وعرفتُ أن عائلتي مرّت بصدماتٍ كثيرةٍ عبر التاريخ. وإن كنت في الأصل أبحث عن شعور الانتماء الكامل، رافضةً أن يختزَل وجودنا في معاناةٍ فرديةٍ مستسلمةٍ للصبغة النفسية الغربية المفروضة على الأجيال اللاحقة للصدمة، فقد ساق لي القدر هذا الشعور بالانتماء على طبقٍ من ذهب. خرجتُ بروايةٍ تجمع بين المظلومية والبطولة، وبإخوةٍ جددٍ وبأمل. وربما عليّ أن أنصح من قرّر البحث في ذاكرته، أن يضمن أولاً سلامته النفسية، وألّا يسمح للقلق أن يطول، بل يعرقله بالاستمرار. فالذكرى ليست دائماً حزينة، قد تُميت من الضحك أحياناً. وأيّ نظرةٍ إلى الوراء قد تجرّ الشخص من ساقه، وأيّ جَزَعٍ قد يُبقيه واقفاً على بعد خطوةٍ واحدةٍ من حلمه.
