لم تَرَ النسويات المعاصرات المنخرطات في جدل نظرية المعرفة تَصوُّرَ بيكون إلّا نوعاً من التحيّز الذكوري الذي أطّر مسيرة العلم الحديث. تشكَّل على إثر هذا التصوّر البيكوني فضاءٌ ذكوريٌّ قائمٌ على قِيم العقلانية والتجريبية والقنص، والتي طالما نُظر إليها قِيماً ذكورية. وعليه تأسَّست بنيةٌ أبويةٌ جديدةٌ همّشت النساء بتهميش كل ما ارتبط تاريخياً ومخيالياً بالمرأة من أدواتٍ معرفيةٍ، مثل المخيّلة والعاطفة والخبرة المعاشة.
لم يكن هذا النقد النسوي مجرّد تشكيكٍ في مناهج المعرفة التي شكَّلت العقل الغربي الحديث منذ بيكون ومَن حذا حذوَه مِن بعده، مثل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، بل كان أيضاً تشكيكاً في صورة الطبيعة والكون المرسومة عبر هذا المنظور. تشكيكاً بصورة الكون التي رسمها اثنان من أهمّ فيزيائيّي العصر الحديث، غاليليو ونيوتن. أصبح التساؤل فيما إذا كانت هذه الصورة تعبيراً موضوعياً ومحايداً عن الكون، أم مجرد نتاجٍ لتحيّز الحقل ذكورياً. تقول يمنى الخولي في كتابها "النسوية وفلسفة العلم" الصادر سنة 2014 إن تأثير فلسفة العلم النسوية لم يقتصر على العلم الطبيعي فحسب. فقد تطور هذا التأثير ليشمل العلوم الإنسانية والحقول القريبة منها، ومنها حقل الدراسات القرآنية الغربي. وبهذا برزت تساؤلاتٌ فيما إذا كانت الأحكام المسبقة والشائعة في الكتابات الغربية عن القرآن والتفسير، وخصوصاً بشأن المرأة، نتاجاً لطبيعة الحقل نفسه أكثر منها حقيقةً قائمةً في الظاهرة المدروسة. أيْ فيما إذا كان الحقل منذ نشأته حقلاً ذكورياً.
وانطلقت كثيرٌ من الدراسات القرآنية الغربية المعاصرة من همٍّ نسويٍّ، ومن تأثّرٍ بالنسوية الدينية وبفلسفة العلم النسوية وبالعلاقة بينهما. يظهر هذا في توظيف دارساتٍ، مثل عالمة الإسلاميات الألمانية أنغيليكا نويفرت لمفهوم النوع في قراءة بعض سور القرآن، ومحاولة فهم الصورة الأنثوية والنسوية في نصوصها متحررةً من سياق علوم التفسير التقليدية التي صاغها بالغالب رجال. كذلك تعيد دارساتٌ، مثل البريطانية كارين باور والألمانية يوهانا بينك، قراءة تاريخ التفسير انطلاقاً من منظورٍ نسويّ. ولا تشكِّل هذه الرؤى محض اهتمامٍ نسويٍّ بالقرآن والتفسير يتوقف عند حدّ تقديم قراءةٍ لهما تُعلي الصوت الأنثوي أو تنطلق من موقعه، بل تدفع باتجاه مساءلة تحيّز حقل الدراسات القرآنية الغربي، سواءً مناهجه أو الصورة التي يرسمها عن القرآن والتفسير. وبذلك تعيد بناءَ هذا الحقل بفتح مساحةٍ نسويةٍ في نسيجه تُثري العملية الحثيثة لتناول القرآن والمرأة شرقاً وغرباً.
ووفق الباحثة الكندية كاثرين يونغ، كما تنقل عنها أستاذة الأدب المقارن بجامعة القاهرة أميمة أبو بكر في مقدمة كتاب "النسوية والدراسات الدينية" الصادر سنة 2021، قادت الموجة النسوية الثانية كثيراً من دارسات اللاهوت اليهودي والمسيحي الأكاديميات. وانطلقت هذه العملية من همّ استعادة صوت النساء المقموع والمخفيّ في هذا التراث الديني. الهدف أيضاً كان صياغة تصوّرٍ نسويٍّ لمتديناتٍ غير مستعداتٍ للمقايضة بإيمانهن وتجربتهن الروحية من أجل الحصول على أدوارٍ اجتماعيةٍ أوسع. بل يحاولن إعادة قراءة التراث الديني من أجل وضع ذواتهن وتجربتهن داخل نصوصه وتاريخه وحاضره، لا دحضه والانفصال عنه.
وترى أميمة أبو بكر أن ثمّة مساحتين أساسيتين شكّلتا موضع نشاط النسويات المتدينات ضمن هذا التخصص الناشئ، الناتج من تفاعل البحث النسوي مع الدراسات الدينية ودراسات اللاهوت. الأولى هي استعادة صوت المرأة المقموع في التراث الديني بكلّ تشكيلاته النصية، مثل الرموز الدينية وصورة الإله والنظرة للمرأة وعلاقتها بالغواية والشيطان والشرّ. مضافٌ للمساحة الأولى أيضاً موضع المرأة في الشعائر الدينية. أما المساحة الثانية، فهي أن تصبح المرأة هي الدارسة لا المدروسة، أي لا تصبح مجرد موضوعٍ يدرسه الرجال ويشرِّعون له.
تركت هذه المقاربات في التراثَين اليهودي والمسيحي كثيراً من الأثر التشريعي والتنظيمي على اليهودية والمسيحية المعاصرة. لكن الأثر الأهم هو ما تركته على طبيعة الدراسات الدينية عموماً. إذ اهتمت كثيرٌ من النسويات في سياق صياغة رؤاهنّ بالبعد العالمي لنقاشاتهن. وحتَّم هذا استحضار التراثات الدينية المختلفة، ومنها الإسلام والدراسات القرآنية المرتبطة به، ودراستها من الأسئلة النسوية الراهنة. لاسيما مع شيوع الآراء الغربية المسبقة عن موقف القرآن والإسلام من المرأة، وبالتالي التسليم بكونه من أوجه التراث المسؤولة عن تهميش المرأة.
تطوَّر الأمر في العقدين الأخيرين منذ 2005. فأصبحت الأسئلة عن المرأة وحضورها ودورها الديني والاجتماعي والعلمي جزءاً من الأسئلة الأساس المطروحة على حقل الدراسات القرآنية الغربي بكل مساحات القرآن التي يدرسها. وبات ربما من الطبيعي أن تحضر مقولة النوع مقولةً تحليليةً في حقل الدراسات القرآنية الغربي، سواءً في فهم القرآن أو في تحليل بنية الحقل وطرق اشتغاله كما ورثته الدارسات المعاصرات ممن سبق.
إلّا أنه في العقود الثلاثة الأخيرة منذ 2005 صيغت رؤىً جديدةٌ تنظر لعلاقة القرآن بالكتب السابقة نصّاً يعيد إنتاج النصوص السابقة في ضوء مشاغله الخاصة. ومن أهمّ الدارسات اللاتي انتهجن هذه النظرة كانت الألمانية أنغيليكا نويفرت. ومن قراءة قصة المسيح ونَسَب مريم في سورة آل عمران، قصّةً تعيد بناء مفاهيم النبوّة والنَسَب نسويّاً، قدّمت نويفرت مساءلةً لتحيّز حقل الدراسات القرآنية ذكورياً ولموقع الإسلام ضمن التقاليد الدينية التوحيدية.
ولمسألة النسب وعلاقتها بالنبوة أهميةٌ في سياق الديانات الإبراهيمية وسياق النبوة المحمدية ذاتها. وهذا ما يؤكده ديفيد باورز، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة كورنيل الأمريكية في كتابه "محمد إز نت ذا فاذر أوف إني أوف يور مِن" (ما كان محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم) الصادر سنة 2009. ويمثل النسب النبوي الإسرائيلي المؤطِّر للنبوة قبل الإسلام نسباً ذكوريًاً أبويّاً تنتقل فيه النبوة عبر الذكور، إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداوود. وظلّ هذا النسب الذكوري حاسماً في الجدل المسيحي اليهودي عن المسيح، أبطاله الآباء البطاركة الكتابيون. ومن المنطلق ذاته، ظلّت نسبة المسيح إلى داوود شرطاً لإثبات أن الناصري الذي صُلِب في عهد الحاكم الروماني بيلاطس البنطيّ هو فعلاً المسيح.
لكن في المقابل، تقول نويفرت في دراستها "مريم والمسيح، موازنة الآباء التوراتيين" المترجمة على موقع "تفسير" سنة 2020 إن القرآن في سورة آل عمران يعرض لمريم وللمسيح نسباً أمومياً. بطلتا قصة نسب المسيح في السورة هما مريم أم المسيح ومريم ابنة عمران، أي مريم أخت هارون وموسى. ولا يحصل التماهي بين "المَرْيَمَيْن" داخل السورة، وفق نويفرت، بسبب النسب أو الصلة الأبوية. بل هو تماهٍ مجازيٌّ، يجعل مريم ابنة عمران "رمزاً نماذجياً" أو إرهاصاً بظهور مريم أم المسيح. وحين يأخذ "بيت آل عمران" مكانه بين البيوت المكرّمة في التاريخ الروحي الكتابي كما يعرضه القرآن، فإن السبب الرئيس وفق نويفرت يكون هاتين المرأتين.
وعلى خلاف الوظائف الذكورية المعطاة للمسيح في السياقَين اليهودي والمسيحي، تشير نويفرت إلى أن المسيح يظهر أمومياً في آل عمران. تهتم السورة بسرد الوظائف المصنّفة اجتماعياً أدواراً محصورةً بالمرأة، مثل العلم بالأكل والادّخار، "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين".
وترى نويفرت أن السورة كلها، حتى خارج مقاطع مريم والمسيح، يسيطر عليها بعدٌ أنثويٌّ وجوٌّ أموميٌّ عامّ. إذ تعرض السورة مثلاً توازياً بين تنزيل الكتاب وبين الإنجاب وتصوير الأجنّة في الأرحام.
هذه السمات الأمومية التي تظهر في صورة مريم والمسيح في آل عمران تمثِّل، وفق نويفرت، منازعةً أو موازنةً لذكورية النسب النبوي في الإبراهيمية. وهذا ممّا يجعل ما يعرضه القرآن هنا يبدو وكأنه تفكيكٌ لهذه الذكورية أو إزاحةٌ لها، لفتح فضاءٍ لشكلٍ نسويٍّ للنبوة ينزع تحيّزها الذكوري. أي ينزع عن النبوة دوراً اجتماعياً دينياً ارتبط حصراً بالذكور.
تركز نويفرت في بعض الدراسات اللاحقة، كما في كتابها "كيف سحر القرآن العالم؟" المترجم للعربية سنة 2022، على ربط مريم ذاتها بالكهانة وبالكنيسة عن طريق استثمار ربطها بهارون، النبي ورئيس الكهنة في الكتاب المقدس. وهو ربطٌ قائمٌ قرآنياً منذ سورة مريم المكية "يَا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وماكانت أمك بغياً"، مما يجعل مريم بهذا مفتاح السلطة والشرعية.
رؤية نويفرت هنا معاكسةٌ لرؤية الدارسين الغربيين الأوائل للقرآن، الذين عَدّوه كتاباً متأثراً بالكتب السابقة. وتكشف رؤيتها أن هؤلاء الدارسين انطلقوا من تصوّرٍ ذكوريٍّ عن التقاليد الدينية الإبراهيمية. لم يرَ هؤلاء في حديث القرآن عن نَسَب مريم إلى عمران إلّا خطأً محمدياً في التنسيب. هكذا فعل مثلاً القسّ الإنجليزي سان كلير تيسدال في كتابه "المصادر الأصلية للقرآن" المترجم للعربية سنة 2019، وغايغر في "ماذا اقتبس محمد من اليهودية؟".
هذا الصنيع لا يمثِّل تفويتاً للالتفات لأصالة القرآن أو بنيته الخاصة فحسب، بل تجاهلاً لأهمية المَرْيَمَيْن في سياق متديّني الشرق الأدنى القديم المتأخر، وتجاهلاً لمحوريتهما الكبيرة في تاريخ الخلاص اليهودي المسيحي. إن مريم بنت عمران شخصيةٌ محوريةٌ في تاريخ اليهودية والمسيحية طالما مثّلت نموذجاً في تقاليد التعبّد اليهودي المسيحي، كما يخبرنا الكاردينال الفرنسي جان دانيالو في كتابه "الإنجيل والليتورجيا" المترجم للعربية سنة 1996، لكنها تغيب في رؤية هؤلاء الدارسين. فلا يتوقعون أن يهتمّ القرآن أو مخاطَبوه بها امرأةً ولا باستحضارها رمزاً، خصوصاً في سورةٍ تتحدث عن النبوة والكتاب المرتبطَيْن في ذهن هؤلاء بالنسب الذكوري حصراً.
إن تأويل نويفرت الجديد يكشف أن علاقات "التأثر والتأثير" والبحث الحثيث عن "أصل" أو "أب" القرآن، الذي ساد في المرحلة القديمة من الحقل، يخفي وراءه رؤيةً تحمل في طيّاتها كثيراً من الأبويّة. ففي رؤية هؤلاء الدارسين، لا يقف الآباء البطاركة الكتابيون (إبراهيم، إسحاق، يعقوب، داوود، موسى، هارون) مؤسسين حصريين للتقليد النبوي وللسلطة والشرعية فحسب، بل يحضرون كذلك مبرّرين وحيدين لنشأة أيّ تقليدٍ دينيٍّ جديد. وعلى هذا الأساس، افترض غايغر مثلاً أن استدعاء نبيّ العرب محمّدٍ للكتاب المقدس كان محاولةً لكسب شرعيةٍ وسلطةٍ في أرض العرب، وفي تاريخ إسرائيل الروحي. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فقطعاً لا يمكن لهذه المحاولة أن تتمّ باستحضار النساء.
اكتشاف هذه المساحة النسوية داخل القرآن من صلته بالكتب السابقة ليس مجرد تطورٍ منهجيٍّ في حقل دراسة القرآن، وإنما إثراءً إسلامياً للتراث اليهودي المسيحي نفسه أيضاً. وكما تؤكِّد الدارسة الأمريكية سوزان مارشاند في كتابها "الاستشراق الألماني في زمن الإمبراطورية" المترجم للعربية سنة 2021، فقد نشأ هذا الحقل داخل ما يسمّى "دراسات اليهودية". وهو ما يجعل تفكيك ذكوريته سبيلاً لتفكيك ذكورية التقاليد الدينية السابقة. وكأن نويفرت تسعى برؤيتها النسوية لسورة آل عمران أن تعيد القرآن لأوروبا جزءاً من تراثها الروحي الغائب عنها. تحاول تجاوز ما فعله التراث اليهودي المسيحي حين نفى هاجر زوجة النبيّ إبراهيم أَمَةً تقف ونسلها منبوذين خارج النسب الأبويّ (إبراهيم، إسحاق، يعقوب، داوود، موسى، هارون). وبهذا تجعل نويفرت نظرة هذه التقاليد للصلة بين النبوة والمرأة مجالاً للنقد والتفكيك.
ففي ورقتها "التفسير باعتباره خطاباً" المترجمة للعربية على موقع "تفسير" سنة 2022، ترى بينك أن الدارسين الغربيين القدامى حين درسوا التفسير الإسلامي لم يدرسوه بأعينٍ محايدة. تقبّل هؤلاء في دراستهم هذا التراث الطريقةَ التي عُرضت بها التفاسير التراثية وطُبعت وحُققت ونُشرت في مطلع القرن التاسع عشر، من غير تفكيك سياسات الطباعة والنشر التي خلقت هذا التراث، وبلا فحص ما يقف وراءها من أجندةٍ فكريةٍ واجتماعيةٍ للدول الطابعة.
هذا التقبّل غير النقدي أدّى، وفقاً لبينك، إلى تقبّل صورةٍ واحدةٍ عن التراث التفسيري الإسلامي وترسيخها. وهي الصورة "التراثية المحافظة" التي تُعلي من مكانة تفاسير ومناهج تفسير بعينها، كتفسيرَي الطبري وابن كثير، فيما تهمّش أخرى. كذلك تشير بينك إلى أن الدارس الغربي للتفسير قد تقبَّل النمط "التراثي السنّي"، المتمثل في تفاسير مثل "أنوار التنزيل" للفقيه الأصولي السني عبد الله بن عمر البيضاوي، ممثلاً حصرياً عن تراث التفسير التراثي. لم يحاول الدارسون تفكيك تَشكّل هذا التراث المحافظ، أي تحليل السياق الاجتماعي والسياسي الذي نشأ فيه هذا التراث التفسيري الطويل ومدى تأثير هذا السياق على منحاه وطبيعته.
هذا يعني أن تنوّع التراث التفسيري الإسلامي، وأبعاده المتعددة المرتبطة بهذا التنوع، ظلّ محجوباً أمام الدارسين طوال القرن الماضي. ومن هنا يصبح محتماً على أيّ دراسةٍ جادّةٍ للتفسير الإسلامي التراثي وموقفه تجاه أيٍّ من القضايا، ومنها موقع المرأة وأدوارها الاجتماعية والدينية، أن تتجاوز أولاً هذه الحُجب الموضوعة أمام هذا التراث (من الدارسين العرب المتأخرين والباحثين الغربيين القدامى). ويلحق بهذا أن تلتقط التنوع الكبير الذي يسكن مراحل تاريخ التفسير، حتى المراحل التي وصفت بالانحدار. ولهذا لجأت الدارسات لأساليب عدّةٍ لتجاوز هذه الحجب، وأهم المحاولات كانت السعي لتجاوز التحقيبات والتصنيفات الغربية الموروثة للتفسير.
طرحت كارين باور، الأستاذة المشاركة في وحدة الدراسات القرآنية بمعهد الدراسات الإسماعيلية في لندن، طرقاً جديدةً لتصنيف التراث التفسيري وتحقيبه. تتجاوز باور التصنيفات والتحقيبات الموروثة منذ إغناس غولدتسيهر ، صاحب كتاب "مذاهب التفسير الإسلامي" المترجم للعربية سنة 1954، ونورمان كالدر المتخصّص في الفقه الإسلامي الوسيط وصاحب الدراسات المرجعية حول التفسير. اهتم هؤلاء غالباً بأصول التراث التفسيري التاريخية ومراحله المبكرة، دون النظر لتنوع هذا التراث وطبيعته التراكمية ووظائفه الاجتماعية والخطابية كذلك.
أحد التداعيات الرئيسة لتجاوز هذه التحقيبات، لدى باور وبينك، كشف كيفية تَشكّل التراتبية بين الرجل والمرأة في التراث، وكيف أُضفيَ البعد الديني على الأدوار الاجتماعية للجنسين داخل التفاسير التراثية. ويُبرز هذا كيف بُنِيَ التفسير نفسه متحيّزاً بتحديده دور المرأة في عملية التفسير نفسه، أو في نقل مرويات التفسير، أو في موقعها موضوعاً للتفسير. يساعد هذا السياق في استكشاف الحضور النسوي في تفسير القرآن التراثي أو تفسير أسباب غيابه أو تهميشه داخل هذا التقليد خطاباً. ومن ثمّ فتح الباب لسماع صوت الهامش.
وفي الاتجاه نفسه، حاولت بينك وباور وكذلك الأمريكية جين دامن مكوليف، المتخصصة في التفسير والعلاقات المسيحية الإسلامية، تجاوزَ حصر الدراسات الغربية للتفسير في النوع النصِّي المخصص لهذا. أي التفسير المدوَّن في كتب التفسير الذي يتبع قوالب تفسيريةً بعينها، مثل التفسير التسلسلي، أيْ تفسير آيةٍ وراء آيةٍ بترتيب المصحف. أو التفسير بالمعنى العامّ، كأن يقدم الإمام الغزالي مثلاً قراءةً عامةً في سورة النور. وبتجاوز هذه القوالب يصبح ممكناً تناول القرآن تفسيرياً باتساع. وعلى حدّ قول بينك، يعني توفير مساحةٍ للخروج عن التفسير التقليدي الذي شكّله خطاباً ومنظومةً اجتماعيةً علماء دينٍ ذكور.
بهذا أصبحت الدراسات التي تتناول المرأة في التفسير، وتحاول استكشاف حضورها أو تفسير أسباب غيابه، أساسيةً داخل الكتب والموسوعات الغربية عن القرآن. فقلّما يصدر مرجعٌ أو موسوعةٌ إلّا وتحوي فصلاً أو أكثر مخصصاً عن المرأة، فضلاً عن الكتب التي صدرت في العقد الأخير، والتي تُفرد خصيصاً لدراسة التراتبية بين الذكر والأنثى في القرآن وفي التفسير في العصرين الإسلاميين الوسيط والمعاصر. نذكر منها "جندر هيراركي إن ذا كوران" (التراتبية الجندرية في القرآن) لكارين باور، الذي صدر سنة 2018. كذلك الجزء الثاني من الكتاب المرجعي "آن أنثولوجي أوف كورانيك كومنتريز" (مختارات من تفاسير القرآن) الصادر سنة 2018، وقد حرّرته كارين باور مع فراس حمزة، الأكاديمي والباحث في مؤسسة الدراسات الإسماعيلية. ولهما صدر سنة 2023 كتاب "وومن، هاوسهولدز، آند هيرأفتر إن ذا كوران"، (المرأة، الأسرة، والآخرة في القرآن).
نلاحظ كذلك أن هذه التعديلات في حقل الدراسات القرآنية الغربي توسّعت لتشمل الدراسات الجمالية والشعائرية الجسدية. وهي أنماط دراسةٍ جديدةٌ على الدراسات الغربية للقرآن تتجاوز حصر القرآن في دراسة تاريخه النصّي وتاريخ تدوينه أو الاهتمام بتفسيره ومعناه ضمن الأطر العقدية والتشريعية وحدها. وتتجاوز كذلك حصر دراسة تلقّيه في المدونات التفسيرية المتحيزة.
معظم الدارسين في سياق هذه المساحات الجديدة نساء. نذكر منهن مثلاً كريستينا نيلسون، المتخصصة في الدراسات العربية في جامعة كاليفورنيا. نشرت نيلسون كتاب "ذي آرت أوف ريسايتنغ ذا كوران" (فنّ تلاوة القرآن) سنة 1985. تناولت نيلسون في الكتاب تلاوة القرآن وتجويده وعَدّته مساحة تلقٍّ جماليٍّ مستمرّةٍ عبر التاريخ الإسلامي. وفي نمطٍ مشابهٍ، حرّرت الباحثة المشاركة في معهد الدراسات الإسماعيلية نهى الشعار كتاب "القرآن والأدب" سنة 2017، الذي يتناول مختلف أطر التفاعل الأدبي مع القرآن في السياقَين التراثي والمعاصر. وكذلك كتابات شيلا بلير، الأكاديمية الأمريكية المختصة بتاريخ الفن، عن النقوش والمصاحف وتَطوّر طريقة كتاباتها من منظورٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ وجماليّ. ولا نغفل عن الكتاب الذي حرّرته فحميدة سليمان عن القرآن والفنّ "وورد أوف غاد، آرت أوف مان" (كلمة الله، فنّ الإنسان) الصادر سنة 2007. ويتوسع الكتاب في الإشارة إلى الاستقبال الجمالي للقرآن في سياقاتٍ جغرافيةٍ مختلفة، نيجيريا واليمن وشرق آسيا. وسياقاتٍ تاريخيةٍ أيضاً مختلفة، العصر الفاطمي والدولة الصفوية والمغولية.
وفي كلّ هذه الحالات فالغالب هو التحرّر من القوالب التقليدية التي حدّدت اتجاهات مدارس التفسير القرآني، والانتقال لفضاءاتٍ أفسح تتيح للمرأة النظر للنصّ القرآني من منظورٍ أنثويٍّ، تجربةً أو حدساً أو جمالاً.
ووجود مساحةٍ نسويةٍ داخل حقل الدراسات القرآنية الغربي لا يتوقف تأثيره عند الدارسين وحدهم، بل يفتح سياقاً واسعاً لعمل النسوية الإسلامية خصوصاً في الغرب. وهذه المساحة النسوية في الدرس الغربي تتداخل مع عمل النسويات المسلمات الناشطات منذ عقودٍ، مثل آمنة ودود وعائشة كسنجر وسيلين إبراهيم وعفّت شكر. وإن كان لا يمكن القطع فيما إذا تأثّرن بها، أم هنّ من سرّعن ظهورَها.
حسم هذا الخلاف ليس مهماً، لكن المهم هو أن هذه المساحة الصغيرة الناشئة تمثل ملتقىً لمنظوراتٍ عديدةٍ عن القرآن. منظورات المسلمات ومنظورات الغربيات، ومنظورات التقاليد الدينية وتنوّعها، ومنظورات المنهجيات الحديثة. منظور الدراسة الأكاديمية الصارمة، ومنظور الواقع اليومي للمرأة المتدينة المسلمة. هذا كلّه يجعل هذه المساحة مركزاً لتطوّرٍ كبيرٍ منتظَرٍ، ومنبعاً لتغيّراتٍ ثقافيةٍ عديدةٍ قادمة.
