تحضر هذه الإشكاليات في سوريا ما بعد سقوط الأسد في ديسمبر 2024. وما فتئت تترسخ مع عودة المهجّرين إلى مدنهم. وقد كنتُ أحد هؤلاء العائدين، وشاهدتُ الدمار في مدينتي حمص. تلك المدينة التي رصد تقرير برنامج الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات)، المنشور في أبريل 2014، دمار نحو أربعة عشر ألفاً من مبانيها بنسبٍ متفاوتة، لاسيما في الأحياء الثائرة التي هُجّر الثوار منها في يونيو 2014. ومثل حمص التي صارت حجارتها ومعالمها أنقاضاً، تنتظر مدنٌ وقرىً محطمةٌ أخرى في أنحاء سوريا الانتقال من الدمار للإعمار. ولكن في الانتظار والتطلّع للأمام، ما برح السوريون يواجهون أسئلةً عن سياسات الإعمار وإعادة بناء الماضي، بالإضافة للتحديات الاقتصادية لإعادة الإعمار والبحث عن النموذج.
تتضارب اليوم في سوريا الرؤى حول إعادة الإعمار. وتتهافت شركات المعمار والحكومات في تشكيل كعكته وتقسيمها. إلّا أن سياسات إعادة الإعمار هذه تبدو في أحيانٍ كأنها تتشكل من الأعلى للأسفل. إذ توضع مقترحات المستقبل لبناء ما هُدم وإعادة تأهيله، ولكن بلا اهتمامٍ بالضحايا من أصحاب هذه البيوت والمباني المدمَّرة، وساكنيها. يمثل هذا دعوةً لإعادة النظر في إعادة الإعمار وتسليط الضوء على ما يمكن اعتباره مشاكل الإقصاء التي قد تؤدي لها هذه العملية. فالأَولى أن توظَّف سياسات إعادة الإعمار في تعافي المجتمعات السورية، وليس زيادة تهميشها وخسارتها. هناك ثلاثة أوجهٍ مهمةٍ لإعادة الإعمار في سوريا اليوم. إعادة كتابة الذاكرة، وتطوير المبادرات الشعبية والاحترافية العادلة، وحماية أصوات الناس.
تَقرّر يومها ترك ما بقيَ من مبنى الكاتدرائية قائماً دون إعادة إعمارٍ، ثم إقامة بناءٍ جديدٍ ملاصقٍ للدمار. وجد سبينس، كما يبدو، في الدمار جمالاً وإلهاماً. وعن هذا قال: "شعرتُ بالصلوات التي قامت خلال مئات السنين تشعّ من الجدران القديمة". وكأنه سعى للحفاظ على روح الماضي المنبعثة من بين أطلال ما بقيَ من الكاتدرائية، من غير أن يطمسها بهندسةٍ معماريةٍ حديثة. وضع ما كان وما وجب أن يكون جانب بعضهما بعضاً، في نسقٍ حافظ على كليهما.

بدا هذا النسق واضحاً لي عندما زرت الكاتدرائية أول مرةٍ سنة 2023. كانت تبدو مدمرةً دون سقفٍ، مع المحافظة على الجدران نفسها التي ظلّت واقفةً منذ التدمير ومتصلةً بالبناء الحديث من دون أن يلغي القديم أو الجديد بعضهما بعضاً. كان هدف سبينس تحويل مكان الألم والعنف والخسارة إلى مكانٍ للتذكر والعزاء والأمل. فأصبحت الكاتدرائية رمزاً للمدينة، وأصبح الدمار رمزاً للذاكرة الجمعية لأهلها.
وفي حين دشّن البريطانيون المكان والفضاء العامّ رموزاً للذاكرة ومظهراً للعزاء الجمعيّ، ومثلهم فعلت شعوبٌ كثيرةٌ، حُرم السوريون من الحق ذاته. عاش أهل سوريا عقوداً من الزمن ممنوعين من التظاهر والاحتفال، أو التجمّع في الفضاءات العامة. فبعد مجزرة حماة سنة 1982، مثلاً، لم يكن هناك أيّ عزاءٍ جماعيٍّ لتذكّر ضحايا المدينة، ولم يُسمح للأهالي بالبحث عن المفقودين. حتى التذكّر كان ممنوعاً، فمن يتذكر المفقودين قد يصبح واحداً منهم. غُطّيت المجزرة في الذاكرة الجمعية داخل سوريا، وأصبح التذكّر محصوراً في القلوب، وساد الصمت أماكن المجزرة.
كان عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر أوّل من تحدّث عن هذه الظاهرة في كتابه "لا دروا آ لا فيل" (الحقّ في المدينة) الصادر سنة 1968. نوّه إلى أن للسكان حقّاً إنسانياً جماعياً في إنتاج الفضاء الحضري وتشكيله. وعدّ لوفيفر الفضاء الحضري أداةً لدمج المساحات المدينية المادية بشبكات الروابط الاجتماعية الروحية، فيشارك السكان في مساحات عيشهم وتغييرها، بغضّ النظر عن خلفياتهم واختلافاتهم.
فبعدما كانت فضاءاتٍ عامةً محرّمةً على الذاكرة الجمعية خارج تصوّرات السلطة، تحوّلت ساحة المرجة وسط دمشق إلى معلمٍ يبحث فيه أهالي المغيّبين قسراً عن ذويهم، يضعون فيها صورهم سعياً للعدالة. وكذلك في صالة محطة الحجاز في دمشق، عُرضت لافتات كفرنبل الثورية. وفي ساحة الساعة في حمص وساحات المدن المركزية، اجتمع عشرات الآلاف للاحتفال ورفع شعارات الثورة.
يفتح هذا التغيير في مرحلة إعادة الإعمار في سوريا النقاشَ تجاه تصميم فضاءاتٍ تحترم الألم والصدمات والعنف الذي مرّت به البلاد وأهلها، ولا تقع في فخّ التهميش الذي أشارت له فيخو-روز في كتابها. فبعد أن أزيل حطام عشرات تماثيل الأسد بسرعةٍ، بات من الممكن تحويل الحطام نفسه إلى رمزٍ لتحطيم مملكة الخوف والاحتفال بانتصار الثورة السورية.
نجد مثالاً مشابهاً بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، إذ كان هناك سعيٌ سريعٌ في البدايات لإزالة الجدار الذي قسّم المدينة. ولكن بعد عشر سنين، ظهرت محاولاتٌ للحفاظ على كل قطعةٍ متبقيةٍ منه، لتكون جزءاً من هوية المدينة وقصّتها. ويُعدّ الجدار اليوم من أهم معالم برلين. وتباع أيضاً قطعٌ من السور القديم تذكاراً للسائحين في المدينة، ورمزيةً عن ماضي الغبن والانعتاق منه، مع انهيار السور وتوحيد برلين الشرقية مع الغربية. ينطبق هذا المثال أيضاً على أغلب أبنية الماضي العنيف والتراث المظلم، كمراكز السجون والاعتقال والمقابر الجماعية. فقد تحوّلت هذه المواقع إلى متاحف في دولٍ عدّة. مثل متحف ومركز الذاكرة في الأرجنتين الذي افتتح سنة 2015، وكان مركز الاعتقال والتعذيب الرئيس للبحرية الأرجنتينية في مرحلة الديكتاتورية العسكرية بين سنتَيْ 1967 و1983. يضمّ المتحف جداراً يعرض صور المختفين قسراً، وفي سنة 2023 أدرجته اليونسكو في قائمة التراث العالمي. وفي سوريا اليوم، عشرات المواقع الشبيهة ومئات آلاف الضحايا يستحقون إحياء الذكرى.
كذلك ظهرت مبادراتٌ شبيهةٌ في المنفى، ضمن مساحاتٍ أجرأ وأبعد عن القمع. انتقدت هذه الأبحاث تسليح العمارة التي استخدمها نظام الأسد عقوبةً جماعية. من بينها مقال سوسن أبو زين الدين "كيف انتزع منّا الأسد سوريّاه المتجانسة"، المنشور سنة 2019 في موقع "الجمهورية". في المقال، تتحدث أبو زين الدين عن "الأوربسايد"، أي الإبادة العمرانية، التي لجأ إليها نظام الأسد لتدمير التجمعات السكنية ومن ثمّ إعادة تشكيلها المادّي ضمن اعتباراتٍ طائفيةٍ وسياسية. ومن هذه المبادرات أيضاً مقال مازن عزي في الموقع نفسه "الحقّ في العشوائيات"، المنشور سنة 2023. وقد عرّج عزي في المقال على كيان العشوائيات المادّي في جيوب المدن السورية، تمثيلاً للتهميش والعزل المجتمعي. ودراسة نور منوّر "إعادة إعمار السرديات"، المنشورة سنة 2022 في "جورنال أوف سوشيال أركيولوجي". تناولت الدراسة العلاقة بين السلطة والتراث عبر تاريخ سوريا، وسبرت كيف أطّرت هذه العلاقة التراث والإعمار سياسياً لصالح رؤية السلطة وروايتها.
ظهرت أيضاً مجموعات عملٍ ومشاريع في المنفى تناولت مواضيع كان يستحيل دراستها بحرّيةٍ داخل سوريا، مثل العدالة المكانية وحقوق الممتلكات والأراضي. من أبرز هذه المشاريع مشروع الدراسات الحضرية في سوريا، ومشروع حلب واليوم التالي، وورشـة مكان و"سيربانيزم" ومجموعة إعادة بناء سوريا.
ومع الزخم السوري المتصاعد في نقاشات إعادة الإعمار وفعالياتها، شهدت العاصمة دمشق النسبة الكبرى منه. وهو ما يشكك في عدالة هذه النقاشات التي لا تبدو شاملةً للمناطق السورية الأخرى، على الأقلّ ليس بالقدر نفسه. ويبدو أن ما شهدته مدنٌ وقرىً سوريةٌ كثيرةٌ قبل الثورة السورية من تهميشٍ، ومع الدمار الكبير والمعاناة التي شهدتها بعد الثورة، فهي تتعرض اليوم للتهميش مرّةً ثانيةً في ملف إعادة الإعمار والنقاشات الدائرة حوله. ولسان حال السوريين أن تنويع الموارد والمبادرات على جميع المناطق قد يؤدي إلى محورية العدالة الاجتماعية في عملية إعادة الإعمار، وتخفيف الضغط المتزايد على دمشق. وأيضاً ضمان عودة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم المتوزعة على كل سوريا. وفيما عدا ذلك، فقد يخلق الفشل في توزيع الموارد على الجغرافيا السورية مجتمعاتٍ مقسمةً تشعر أنها منسيّة. ولذلك قد تؤدي إعادة الإعمار غير العادلة إلى حلقاتٍ من الغضب والعنف المستقبلي. وفي بال السوريين تجارب وأمثلةٌ من التاريخ، بل وحتى من الجغرافيا القريبة، أدّت عمليات الإعمار فيها لتعميق غربة الناس عن مدنهم بسبب القطع مع ذاكرة المكان.
وقد وجدتُ في زيارة مركز مدينة كوفنتري أنه دُمّر في مرحلة إعادة الإعمار أكثر ممّا دُمّر في زمن الحرب. وهو على عكس ما تعرّضت له كاتدرائية المدينة من إعادة ترميمٍ، بلا تضحيةٍ بصِلتها بالماضي ولا بطمس علاقتها بالمستقبل. كانت رغبة محافظ المدينة وبعض المعماريين بعد الحرب تصميم مدينةٍ حديثةٍ، فبدأت مراحل جديدة من التدمير في سبيل التحديث. وقد أرسل بعض السكان رسائل اعتراضٍ على مشروع الإعمار حينها، دون جدوى.
وبعد انطلاق الثورة السورية في 2011، حاول النظام السابق أيضاً وضع إطارٍ قانونيٍّ لتغيير التنظيم العمراني ونزع الملكيات في المناطق الثائرة، بغرض إعادة تشكيلها وفقاً لمنظوره وحاجاته السياسية. فقد أحدث القانون رقم 66 لسنة 2012 مناطق تنظيميةً جديدةً في دمشق، وقيّد التصرف بملكياتها. وانبنى عليه القانون رقم 10 لسنة 2018 الذي طالب أصحاب العقارات بتقديم وثائقهم في زمنٍ قصيرٍ، وإلّا نُقِلت إلى ملكية الوحدات الإدارية.
محا النظام السابق ذاكرة بعض الأماكن الثورية بعد تدميرها، تحت حجة إعادة الإعمار والتنظيم. فقد مسح حيّ القابون الدمشقي عن الأرض، وأطلق عصابات النهب في مناطق جنوب دمشق، وطرح مشاريع تنظيمٍ عمرانيٍّ جديدة. أبرز هذه المشاريع "ماروتا سيتي" و"باسيليا سيتي" وفق المرسوم رقم 66 جنوب شرق العاصمة، في أحياءٍ شهدت مظاهراتٍ وتجمَّع فيها الثوار حتى تهجيرهم منها. وبدأ العمل في المشروعَين بعد انتهاء الأعمال العسكرية، ما وفّر إمكانية الهدم والتجريف وضياع حقوق السكّان. عكَسَ المشروعان مفهوم "التجانس الاجتماعي" الذي تحدث عنه بشار الأسد في أغسطس 2017، وطبّقه بمحو ذاكرة المناطق الثائرة ضدّه. قال الأسد وقتها: "خسرنا خيرة شبابنا وبنيةً تحتية [. . .]. لكننا بالمقابل ربحنا مجتمعاً أكثر صحةً وأكثر تجانساً بالمعنى الحقيقي، وليس بالمعنى الإنشائي أو بالمجاملات". وهي معادلة التجانس التي شبّهها البعض، ومنهم الأكاديمي السوري نجيب جورج عوض، مع فكرة "النقاء العرقي" التي انتهجتها النازية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
ولكن حتى بعد سقوط النظام، لم ينتهِ تدمير الماضي بحجة التحديث. ففي حلب في بداية يوليو 2025، تحطم جزءٌ من تمثال "الشهداء" في ساحة سعد الله الجابري وسط المدينة. التمثال الذي صمّمه النحّات الحلبي عبد الرحمن المؤقت، وأزيح الستار عنه يوم عيد الجلاء الموافق 17 أبريل 1986. تحطم التمثال أثناء عملية نقله، ضمن مخططٍ جديدٍ للساحة، أعلنت المحافظة تنفيذه بلا مسابقةٍ أو مجلس مدينةٍ منتخَب. نشرت مديرية الآثار والمتاحف في حلب أن الهدف كان نقل النصب من الساحة لترميمه، وإفساح الرؤية للشاشة الكبيرة الجديدة التي وضعت في التصميم الجديد للساحة. ولكن كثيرين وجدوا التحطيم متعمّداً.
قبلها بشهرٍ، حصل مشهدٌ مشابهٌ في مدينة حمص. استيقظ سكان المدينة في عيد الأضحى، في بداية يونيو 2025، ليجدوا لوحاتٍ كبيرةً تعرض مشروعاً اسمه "بوليفارد النصر" تنفّذه شركةٌ عقاريةٌ خاصة. تحوّل المشروع إلى قضية رأي عام، ما بين مؤيدٍ ومتحمسٍ لبداية الإعمار وبناء ضاحيةٍ حديثةٍ في المدينة، وبين غاضبين لطمس هوية المدينة وتجاهل مشاركة المجتمع المحلّي في إعمارها. إضافةً إلى أن أراضي المشروع مسلوبةٌ من أصحابها منذ عهد الأسد.
كانت هذه الأراضي، الواقعة في بساتين غربي حمص، قسماً من مشروع "حلم حمص" بقيادة المحافظ إياد غزال، ودفع استملاكُها الأهاليَ لمحاولة اعتصامٍ في 28 نوفمبر 2007، لأنهم عَدّوه استملاكاً غير قانوني. توجّه حينها وفدٌ من السكان والعائلات المالكة إلى قريبٍ من القصر الرئاسي بدمشق، لتنظيم احتجاجٍ ضدّ الاستملاك غير القانوني، لصالح ما أسموه "كابوس حمص". تعرّض المحتجون للتفريق بالقوة، ولكن لجنةً منهم سلّمت للمسؤولين نداءً تحذيرياً من تشريد الأهالي بسبب المشروع.
اختتم النداء بجملةٍ تبيّن الفارق بين مفهوم الحقّ في المدينة والتحديث الرأسمالي المنفصل عن إرادة السكان. فقد قالوا: "الفرق بين الحلم والكابوس هو نفسه الفرق بين الاستثمار والتنمية، الرفاه والضرورة، الفردية والعمل الجماعي المدروس والمنظم، الربحية الريعية والحسابات المؤسساتية المسؤولة [. . .]. إن حلماً مثيراً كحلم سيادته [. . .] لا يُطرح مطلقاً بمنطق رجال الأعمال منفردين بحساباتهم التي لا تتعدى الأرباح والخسائر. من هنا كانت الكابوسية، كابوسية حلم سيادته لحمص".
لم ينفَّذ مشروع حلم حمص. وأقال الأسد محافظَ حمص في أبريل 2011 في محاولةٍ لاحتواء الثورة. وبعد أكثر من ثماني عشرة سنةً من هذا النداء، تعود الأحلام والكوابيس مرةً ثانيةً لحمص، وفي الأرض نفسها، وتثير الاعتراضات نفسها أيضاً. ومرةً أخرى يبدو أن إعادة تشكيل الفضاء العام، وإن سُوِّق رغبةً بإعادة الإعمار والإنطلاق لمستقبل ما بعد الصراع، مازال مساحةً هشةً لا تنظر كفايةً لعلاقة الناس بالمكان.
وتغيب هذه الرؤية عن مشاريع داخل البلد. إذ تفتقر للآليات التي تسمح للشعب السوري بالتصويت والمشاركة في اتخاذ القرارات العمرانية. كما حصل في بوليفارد النصر في حمص، أو تجميل جبل قاسيون في دمشق، الذي أعلن أيضاً في أبريل 2025 دون مسابقاتٍ ولا عقودٍ معلنةٍ ولا مجالس مدينةٍ منتخبة. أو في إزالة صور المختفين قسراً من ساحة المرجة بدمشق في يناير 2025 بحجة التجميل، أو تشويه جدران السجون، حين طلى فريقٌ شبابيٌّ في الشهر نفسه جدران فرع الأمن السياسي في مدينة اللاذقية بحجة تجميلها.
ولا يقتصر الخوف على شركاتٍ معماريةٍ تأتي من خارج المدن المدمرة، بل يحضر في مرحلة إعادة الإعمار كذلك حدود الدور الخارجي وتأثيره على العدالة العمرانية والحقّ في المدينة.
تتنافس على إعادة الإعمار في سوريا اليوم منظماتٌ عالميةٌ، مثل اليونسكو وشركاتٍ استثماريةٍ ودولٍ أجنبية. فمثلاً، في دراستها "ذا رول أوف يونيسكو ليد كونستركشنز إن بوست كونفليكت ريكونسيلييشن" (دور عمليات إعادة الإعمار التي تقودها اليونسكو في المصالحة بعد النزاعات) المنشورة سنة 2024، تشير كريستين باريت كاسي إلى عوائق التعويل على هذا الدور. إذ ثمّة عدم توازنٍ بين القيم التي تتبناها المنظمة في تقدير أهمية المواقع التي تركّز جهدها عليها، وبين اعتبارات المجتمع المحلّي لهذه المواقع وأولويات الإعمار. هذا إلى جانب صعوبة الموازنة بين أجندات الجهات الدولية والوطنية والمحلية في عملية إعادة الإعمار والمصالحة السياسية.
وكما في بال السوريين أمثلة إعادة إعمارٍ في المنطقة أخفقت أو كادت في رأب الصدع بين الحجر والبشر، فالأمثلة عن التأثير السلبي للدور الخارجي في إعادة الإعمار حاضرة أيضاً. تبرز أوكرانيا مثالاً في هذه الجدلية. فعندما انضمّ المعماري البريطاني نورمان فوستر لمشاريع إعمارٍ في أوكرانيا سنة 2022، بعد دعوته من محافظ مدينة خاركيف، انتقد معماريون محلّيون ذلك وأصرّوا على أهمية الدور المحلي في هذه المراحل. في حين وجد آخرون أن انضمامه يجلب معه النفوذ والدعم والمال، بسبب شهرته العالمية.
يمكن لإعادة الإعمار التجارية أو الإقصائية تعميق خسارة الضحايا والانقسامات، في مجتمعٍ خارجٍ من حربٍ مدمّرة. وفي المقابل، يمكن لإعادة إعمارٍ عادلةٍ، تراعي أصوات الناس وذاكرتهم ومبادراتهم المساهمة وعلاقتهم بالمكان، إرساء منطقٍ ديمقراطيٍّ للمجتمع والدولة. كذلك، تساهم في تكريس التذكر وليس النسيان، والربط الصحي مع الماضي لا قطع الصلة به. وفي العمل المشترك بين السوريين، نقف اليوم أمام الدمار الممتد في سوريا، ولكن ثمّة فرصةٌ لإعادة إعمارٍ عادلة.
