الصوم وكسر العادة.. العالم بين فرعي زينة

يجسّد صوم رمضان التدبير التوحيدي لنهاية الزمان والمكان، حيث يفتح أفق النهاية على الكلمة الإلهية التي لا تنتهي.

Share
الصوم وكسر العادة.. العالم بين فرعي زينة
تتناصّ قصة موسى ورحلته إلى مجمع البحرين داخلياً مع شجرة الخلد | تصميم خاص بالفرِاتْس

يأتي رمضان كلَّ عامٍ مسبوقاً باحتفالاتٍ كبيرةٍ وصغيرة. تتزين المساجد والشوارع والبيوت بزينة رمضان. يزيِّن بعض المسلمين مكاتبهم ومكتباتهم بأفرع نورٍ، أو بفانوسٍ صغيرٍ يكفي لرسم هذا الشهر مختلفاً عن كل الشهور. يحدث هذا في حين يُعاد التساؤل، أثناء النقاشات اليومية وفي البرامج الدينية والثقافية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، عن سبب الصوم أو "علّته".

"المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تُعلَّل. واشتهر عن الفقهاء التعليل". هذه العبارة وردت في كتاب "الإبهاج في شهر المنهاج" لتقيّ الدين السبكي، الفقيه والمحدِّث المتوفّى سنة 1355. يمكننا أن نعدّ عبارة السبكي ملخصاً لموقف التراث الإسلامي من عملية البحث في علل الشريعة أو أسباب فرض التشريعات وحِكَمها. فمع الاعتراض الكلامي –السُنِّي بالذات– على مسألة التعليل، والمرتبط بالأساس بمفهوم "العلَّة" وحمولاته الفلسفية والعقدية، وما قد يُستشَف منه من "فرض" صالحٍ على الله. إلّا أن الفقهاء لم يتوقفوا عملياً عن البحث في علل الشريعة، بل عدّوا البحث عن العلّة عملَ الصحابة وتابعيهم. هذا البحث عن العلل لم يتوقف عند البحث عن "العلّة أو المصلحة" الفقهية في الأحكام، وإنما تعدّاها للبحث عن "علل العبادات" وأسرارها ومعانيها.

أصبح تعليل العبادات تقليداً خاصّاً شديد التنوع والانتشار في التراث الإسلامي. وبرزت مصنفاته من الحكيم الترمذي المتوفى سنة 932 إلى ابن القيم المتوفى سنة 1350، فضلاً عن وجوده مبثوثاً في كتب الفقه وكتب المواسم. وفي سياقٍ أوسع، نجده في فضاءاتٍ غير فقهيةٍ مثل كتاب "ماهية الصلاة" لابن سينا، الفيلسوف المشائي المتوفى سنة 1037.

وعلى خفوت الحديث عن العلل في العصر الحديث، وتراجع هذا التقليد، إلّا أنه لم يختفِ تماماً، بل تراه يعاود الظهور في بعض المناسبات ومنها صيام رمضان. إذ يستعيد الشهر السؤال عن معنى الصوم وحكمته، في مسافةٍ واسعةٍ ما بين التسليم للحكمة والارتياب منها. ولا يُعاد السؤال فقط، بل كذلك تتكرر بعض الإجابات. ربما أشهر هذه الإجابات ارتباط الصوم في رمضان بالشعور بالفقراء وحاجاتهم. يمثل هذا الربط تفسيراً وتوجيهاً لسلوكيات الصائم طوال الشهر. فالتعليل أشبه بعملية تأطير "الانفعال الديني". عملية تبدأ من امتثال الرمز، وتمتد إلى الطريقة النموذجية للشعور به، ثم تصل إلى طريقة التعبير عنه في الفضاء الاجتماعي قولاً وفعلاً.

هذا الربط المعتاد والمعقول نظرياً بين الصوم والشعور بالفقراء يعتمد على التراث الإسلامي. فيندرج ضمن آراء أخرى في تقليد التعليل الطويل. فقد ذَكر هذا الرأي بعض علماء التراث، مثل الفقيه والمحدِّث ابن رجب المتوفى سنة 1393 في "لطائف المعارف فيما للمواسم من وظائف". إلّا أن تعليلاً آخر للصوم، أقلّ شهرةً، هو تعليل الحكيم الترمذي في كتابه "إثبات العلل". لم يربط الترمذي عِلّة الصوم بالفقر ولا بالجوع ولا بالعطش. وإنما قال "عِلَّةُ الصومِ الكفُّ عن العادة"، أي كسر اعتياد الإنسان على ما ألِف زماناً ومكاناً وفعلاً.

وحين يُقرأ الصوم في ضوء هذا التعليل الذي يقدِّمه الترمذي، بعد فتحه على الأفق المعاصر في دراسة الجسد الديني (أي الجسد المتشكّل عن طريق الشعائر) والشعائر الدينية التوحيدية مع مفكرين وفلاسفة، مثل إيريك فروم وبول تيليش. فإن الصوم يبدو لبنة أساسٍ في "العالم الديني التوحيدي". إذ يُجسِّدُ الصومُ بصلته بكلمة الله "نزول القرآن"  وبـ"الجسد"، القيمةَ المركزية لهذا العالم الديني، بإبرازه الدور التحريري للكلمة الإلهية مدبِّرةً النهايةَ التي تحدّ الوجود البشري من كل الجهات، زماناً ومكاناً وجسداً.


يمكن تَبيُّن العلاقة بين الصوم في الديانات الثلاثة التوحيدية من جهةٍ وبين الوحي والعالم من جهةٍ أخرى، نموذجياً، في صوم المسيح أربعين يوماً في الصحراء. لا يمثِّل صوم المسيح أساس الأصوام التي تمتد طوال السنة التعبدية المسيحية فحسب، بل يجسد جوهر التجربة البشرية في الصوم كما تراها ديانات التوحيد الثلاث. نفهم هذا من التركيز على أربعة حدودٍ رئيسةٍ قائمةٍ في صوم المسيح ثم في تجربته على الجبل، حين جاءه الشيطان ليختبره، وهي: الله، والكلمة (أي المسيح)، والجسد (أي العالم)، والشيطان. يتحرك الصوم داخل هذه الحدود الأربعة، مما يفتح الباب للسؤال عن الصلة بينها في عالم التوحيد، وكذلك عن كيف يمثل الصوم الكيفية التوحيدية لتدبير هذه الحدود.

تأتي أهمية البريّة أو الصحراء في اليهودية والمسيحية من أنها مكان الشيطان، ففيها "أقام إبليس مُلكَه"، كما يلخِّص الأنثروبولوجي الفرنسي ديفيد لوبوطرون في كتابه "الصمت لغة المعنى والوجود" المترجم للعربية سنة 2019. إنها مملكة الصمت المزلزل الذي تواجهه التوحيدية القائمة على شمول الكلمة والبيان. وبلغة النهايات، فالصحراء نهاية الكلام ونهاية العقل وربما نهاية الحقيقة. وهي كذلك ميدان السرابات ومنبع الجنون وموضع هوامات الشياطين. ولعل هذا التوصيف للصحراء، لا يجعلها مكاناً فارغاً أو خالياً، بقدر ما يجعلها التأسيس المكاني للخلوّ والصمت والفوضى الذي يحيل للهاوية في السياق الكتابي، حيث البُعد أو الإبعاد عن كلمة الله. وهذا بالتحديد ما يجعل الصحراء الفضاء الأمثل للعمل الذي يفتتح به المسيح عمله الخلاصي بعد عماده في نهر الأردن. إن المسيح يريد تأسيس كلمته في مملكة الشيطان ذاتها. أو بتعبيرٍ آخَر، يبتغي المسيح تحويل الصحراء من تأسيس الخلاء إلى تأسيس الامتلاء. من كونها هاوية، إلى كونها أفق على الكلمة الإلهية. وهذا بملء الصحراء بحضور المسيح فيها ودحر الشيطان عنها.

هذه الصلة بين الكلمة (أو المسيح) والمكان، تجعلنا نعيد التفكير في طبيعة صوم المسيح وعلاقته بالشهوات. فمع أنه صومٌ عن شهوات الجسد بالفعل، إلا أنه وبسبب ارتباطه بالبرية، فإن شهوات الجسد ليست محور الصراع. فالصحراء، تأسيساً للخلوّ، تبدو مِطواعةً لكل التجسدات والسرابات. ما يجعل تشكُّلَها محورَ الصراع هنا بين المسيح والشيطان. فبينما يسعى المسيح إلى تأسيس الصحراء كلمةً إلهيةً وأفقاً، يسعى الشيطان إلى تأسيسها عن طريق الشهوات التي يصوّرها للمسيح –"الطعام، الحياة، المجد، السلطة"– نهايةً ورحماً مغلقاً. فالصحراء بين المسيح والشيطان طيفُ مكانٍ، لا هو فراغٌ ولا هو جنّةٌ وارفةٌ مليئةٌ بالنعم. إنها محضُ إمكانٍ، فضاءٌ يتحضّر للوجود.

من هنا نفهم الطريقة التي يَعرض بها الشيطان الشهوات للمسيح، في طيف المكان هذا. إذ يبدو أن عرض الشهوات، أو تشكيل الصحراء بها، مجرد ظلٍ لصراعٍ آخر أعمق يتعلق بـشأن "تدبير النهاية". فحين يطلب الشيطان من المسيح تحويل الحجارة إلى خبزٍ، فليس الصراع هنا من أجل الجوع والطعام. بل الجوع ليس إلا معاينةً للنهاية "جاع أخيراً، فتقدَّم إليه المجرِّب" كما في إنجيل متَّى. ويظهر هذا في إجابة المسيح الباحثة عن الكلمة الإلهية وراءها، "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمةٍ تخرج من فم الله". فالآية إذن تدور حول عَرَضية الجوع والطعام في مقابل أبديّة الكلمة الإلهية تدبيراً للنهاية. وفي المسيحية تصبح الكلمة الإلهية أساس تحويل الخبز الفاني إلى طريقٍ للخلاص الأبدي. يظهر هنا تدبيران للنهاية. تدبير المسيح الذي يفتح العالم المنتهي على ما وراءه، وتدبير الشيطان المغلِق للعالم على نهايته. ومع مقاومة المسيح هذه المحاولة والثانية المرتبطة كذلك بالكلمة، تأتي المحاولة الثالثة –وفق إنجيل متَّى الذي اتبع الترتيب الزمني– فجَّةً ومباشرةً. إذ يَعرض ممالك العالم على المسيح في يأسٍ شديد لإغوائه. فرسم سرابات شهوات العالم هو ظِلّ محاولات الشيطان ونهايتها اليائسة، في حين يتركَّز الصراع في عمقه وأصله حول الكلمة مدبرةً للنهاية.


الصلة بين الوحي والعالم ونهايته، أساساً لصوم المسيح وتجربته، هي ما يربطها بالتجربة الأولى للبشر. تجربة آدم في جنّة عدن. آدم هو "الصائم الأول" كما يسمّيه باسيليوس الكبير، أسقف قيصرية وأحد الآباء الكبادوكيين المتوفى سنة 379، في عظته عن الصوم. الصلة بين آدم والمسيح هي صلةٌ راسخةٌ في المسيحية. فالمسيح هو آدم الثاني الذي يستعيد بهاء الطبيعة البشرية الأولى التي أفسدتها الخطيئة الجدَّية. إلا أن هذا لا يمنع من تعميق التفكير في هذه المساحة، في ضوء الصلة بين الصوم عن العالم المنتهي وبين تجلّي الكلمة المحيية.

وفق باسيليوس كان آدم "الصائم الأول"، لأنه أول من عاين محظورات الطعام، ولأنه أوَّل من عاين النهاية. فالأمر الإلهي لآدم بعدم الأكل من الشجرة هو إعلانٌ عن النهاية جزءاً من نسيجه. فهو محدودٌ بنهاياتٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ، ومحدودٌ بالصلة بين إرادته وقدرته. كذلك فهو إعلانٌ عن طبيعة الجنّة ذاتها، أنّ الجنة ليست رحماً مغلقاً، وأنها بكلّ ثمارها ليست سوى طيفٍ منتهٍ وزائل. فكل الأثمار المهداة لآدم تكاد تصير بوراً إذا خالف الكلمة الإلهية الآمرة. وحين فعل ذلك، زالت جنّة عدن بخروجه منها إلى الأرض. تظهر الجنة بأشجارها الوارفة ظلاً لأصلٍ هو الأمر الإلهي أو الكلمة، وهو النداء الذي ناداه الله لآدم من فرجةٍ أو كوّةٍ في جنّته، ليجاوز بها صوماً نهايتها المحتومة نحو ما لا ينتهي. إن سماع الأمر الإلهي (الأصل)، كما نفهم من القصة الكتابية عن آدم في عدن، هو سبب و"معنى" حضور الجنة "الظل". وصمّ الآذان عنها هو نهاية الجنة بالسقوط في هاوية أو صحراء "الخروج من الجنة". فالفردوس لم يكن في الشجرة الناقصة كما توهَّم آدم، بل في الأمر بتركها.

إن الصيام الذي أُمر به آدم هو تعليقٌ أو حجبٌ للجنّة، للإطلال من نافذتها وتأسيسها أفقاً على الأمر الإلهي المتجاوز لكل زمانٍ ومكان. وهذا ذاته هو معنى صيام المسيح فوق جبل طابور، حيث العالم بين قوسين، ينبني أو يتجلى في ضوء كلمة الله الخالقة والمحيية والمبينة.


يعدّ الصوم في الإسلام كفّاً عن العالم واستقبالاً للوحي، مكرَّساً من القرآن ذاته، حتى قبل فرض الصوم شعيرةً. وهو كذلك مكرّسٌ تاريخياً، كما يبرز في معظم الأخبار عن الصوم، وفي تعليل الحكيم الترمذي للصوم باعتباره كفّاً عن العادة وميلاً إلى الله.

تستعيد سورة الكهف جدل آدم "الصائم الأول" مع الوحي والعالم، وتكرّس المعنى التوحيدي للصوم. فسورة الكهف تستعرض رحلة عددٍ كبيرٍ من الشخصيات المختلفة (الفِتية والنبيّ المكلَّم والملِك المظفَّر) بين عدد من الأماكن والنهايات (صحراء، جنّة، كهف، مطلع الشمس ومغربها، مجمع البحرين) وكذلك الحدود (حدود المعرفة والقدرة) عارضةً تدبيرهم للنهاية. وتنتظم سورة الكهف من الناحية الشكلية ضمن بنية حلقية (أ) طرف السورة، و(ب) مركز السورة، ثمّ (أ) طرف السورة المقابل. وهي البنية التي يرى الكثير من الدارسين المعاصرين انطباقها على معظم السور المكية. يتناول القسم الأول والثالث في هذه البنية مساراً أو رؤيةً معاكسةً لما يعرضه القسم المركزي "ب". حين نقرأ سورة الكهف وفق هذه الرؤية نجدها تعرض تدبيرين متعارضين للنهاية. تدبيراً يتمثل في الاكتفاء بالعالم والانغماس في جنانه والإخلاد إليها، وهو ما يبرزه مركز السورة في قصة صاحب الجنتين المنغلق على جنته رحماً مغلقاً أولاً وأخيراً. وتدبيراً ثانياً يتمثل في الهجرة صوب الوحي الإلهي الباقي، يتمثل في قصص أطراف السورة، أهل الكهف وموسى وذي القرنين الذي يبحثون عن الكلمة الإلهية وراء كلّ نهايةٍ وحدّ.

ويمكن القول إن القصة الأخصّ هنا والتي تعرض الجدل بين الإخلاد للعالم المنتهي وتجاوزه صوب ما لا ينتهي، أي الوحي، هي قصة موسى ورحلته إلى مجمع البحرين. تستحضر هذه القصة قصص الشرق الأدنى القديم عن ما سُمِّيَ "عين الخلود". والأهم أنها تستدعي وتتناصّ داخلياً مع "شجرة الخلد"، التي ابتغى آدم الوصول إليها كما يروي القرآن "قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى". لكن التغيّر الذي تعرضه القصة القرآنية هنا هو أن ذهاب موسى وفتاه إلى مجمع البحرين كان للالتقاء بالعبد الصالح، وليس بهدف اقتناص الخلد. وهذا يمكن النظر له باعتباره عكساً لفعل آدم أو قلباً للقصة، تماماً مثل تجربة المسيح فوق جبل طابور. فبينما حاول آدم اقتناص الخلد بالأكل من الشجرة، أي بإغلاق الجنة والاكتفاء بها رحماً كما سيفعل صاحب الجنتين في سورة الكهف، فإن موسى عدّ البحر علامةً على لقاء العبد الصالح الآتي بالبيان الإلهي.

تعمِّق سورة الكهف قصة آدم مع النهاية. قصةً تدور بين حدّين يرتحل بينهما البشر، الخلود والإخلاد، مبرزةً أن تحقيق الخلود لا يكون إلا بتجاوز الإخلاد إلى الأرض والراهن والمباشر، وتحويل العالم بصحرائه وجنانه نافذةً على الكلمة. هذا يجعل السورة تكريساً لمفهوم الصوم التوحيدي قبل فرضه شعيرةً. وحين يفرض الصوم شعيرةً يفرض كذلك في صلة بالكلمة، إذ يفرض في رمضان، شهر إنزال القرآن.

تاريخياً صام المسلمون أول ما صاموا يوم عاشوراء، وهو يوم الغفران في اليهودية، المرتبط بنزول الوحي الإلهي كذلك، إذ يستعيد ذكرى نزول موسى من الجبل ومعه ألواح الشريعة. بل وكما يخبرنا الكتاب المقدس، فقد صام موسى قبل صعود الجبل لتلقِّي الشريعة، الكلمة.

يتلاقى هذا الوصف للصوم مع ما يخبرنا به الحكيم الترمذي، من أن علة الصوم الكفّ عن العادة والميل إلى الله. فالمسلم يأكل ويشرب في صومه كالأيام العادية، إلا أن ما يختلف به الصوم هو أن المسلم سيغيّر من مواقيت شربه وأكله. وسيغيّر الصوم طبيعة اليوم كما ألفها الشخص واعتادها. ووفق الترمذي سيغيّر الإنسان ما جُبِل عليه من لدن آدم، إذ جُبِل على طعام الغداء والعشاء.

هذا التغيير الذي يفرضه الصوم، والذي نعبّر عنه نحن اليوم بتغيير الساعة البيولوجية، يمثِّل بلغة علم الأديان كسراً لتجانس العالم وإنهاءً لقبول حدوده الزمنية. وكسر التجانس هو فعلٌ أساسٌ لتجلّي المقدّس كما يعلّمنا مؤرخ الأديان الروماني ميرسيا إلياد في كتابه "المقدس والعادي" المنشور بالفرنسية سنة 1965 والمترجم للعربية سنة 2009، وموضع أساس لتأسيس "العالم الديني" في قلب العالم العادي أو العالم المعتاد. إلا أن هذا الفعل يكتسب في التوحيد أهميةً زائدةً إذ إنه يبرز هشاشة العالم العادي أو المعتاد.

فالعادة اليومية تنكسر بالأمر المقدّس، بالصوم. يبرز هنا الإله مالكاً وحيداً للزمان والمكان والجسد ومؤسِّساً حصرياً لفضائهما، فتبرز هذه أطيافاً لا حقيقةً ونهاياتٍ تحتاج تدبيراً. فالنعم التي تملأ العالم ليست حقيقيةً إلّا في ضوء الأمر الإلهي، أو في ضوء الكلمة الذي يحدِّد حضورها حقيقةً أو زينةً. والعالم ذاته زماناً ومكاناً ليس موجوداً إلا في ضوء الكلمة التي تصله بأصل وجوده. من هنا يرتبط نزول القرآن برمضان، من حيث قدرته هذه على تعليق الزمان والمكان وفتح كِوىً فيه، ويرتبط استمرار الهدي الإلهي باستمرار الصوم. فالأرض المؤسَّسة عبر العادة منفىً عن الله، وجَنّةٌ أو جُنّةٌ عن كلمته، تعود بالصوم لتنكسر وتؤسَّس شطآن صمتٍ وكِوىً ننصت من خلالها للكلمة الإلهية المتجليّة المدبرة.

ونحن نستطيع أن نرى مجموعةً من الثنائيات التي تبرز في عملية التعليق والميل، التي يجسدها ويُدبِّرها الصوم، واضحةً في الأدعية والأحاديث الحافّة به. فالأحاديث تضع تفريقاً بين العبادات من جهةٍ وبين الصوم من جهةٍ أخرى. إذ يعبَّر عن الصوم بكونه "لِلّه" كما في الحديث القدسي الذي جاء في الصحيحين. وهذا من حيث أن الصوم، وكما يروي الحافظ النووي في شرحه الحديث عن بعض السلف، هو عبادةٌ توحيديةٌ خالصةٌ لم يُعبد به غير الله. ففي حين عبد البشر آلهتهم بالصلاة والنحر والصدقة قبل الإسلام، فإنهم لم يعبدوها بالصوم. يفسِّر الفقيه والمفسِّر القرطبي في "المفهم فيما أشكل من حديث مسلم" ارتباط الصوم بالله من حيث هو استحضارٌ لصمدية الله، أي اكتفائه وتعاليه عن العالم المنتهي. هذه النظرة للصوم تجسد الصلة الوثيقة بينه وبين التوحيد.

تتحدث الأدعية المأثورة عن الصوم، عن ثنائيةٍ ذات صلةٍ بين الذهاب والثبات. إذ كما جاءت صيغة الدعاء النبوي عند الإفطار في سنن أبي داود، فالأجر يثبت والظمأ يذهب. إن هذا الدعاء الذي يتلوه الصائم عند فطره يجعله في هذه اللحظة التي تتوِّج صومه يعاين بوضوحٍ الفرق بين الزائل المنتهي وبين الثابت الذي لا نهاية له، بين الحقيقي وغير الحقيقي. يُنفى الثبات عن عالمنا بجوعه وعطشه وشبعه وريّه، ويرتبط فقط بالإله المتعالي المفارق لكلّ نهاية.


ولأن العبادة تخلق "جسداً عبادياً" يتحول إلى "جسدٍ يوميّ" بتعبيرات الإناسي المغربي فريد الزاهي، فإن صوم رمضان مختبرٌ لتكريس قيمة التعليق و"الكفّ" تجاه العالم العادي وتجاه العادة، وما يرتبط بها من قيم.

تكتسب عملية كسر العادة اهتماماً كبيراً عند كثيرٍ من دارسي طقوس التوحيد مثل إيريك فروم وبول تيليش، بسبب نتائجها الاجتماعية والثقافية. في كتابه "أن تصيروا آلهة" المترجم للعربية سنة 2013، يقدّم عالم النفس الألماني إيريك فروم تعريفاً للتوحيد لا بأنه مقاومة التوثين أو الجهد البشري المستمر لتجاوز الرغبة البشرية في الاكتفاء بالمنتهي والمباشر والمغلق، وما صنعت اليد وما يتبع هذا من رغبات الادخار والاستحواذية، والتي تتمظهر في عصرنا في الشيوع الكبير للاستهلاكية والفرجة والاستعراض.

يستحث التوحيد وفق فروم الرغبة البشرية في الانفتاح والانتاج. بالانفتاح على أفقٍ يتجاوز دوماً الراهن والمكتمل والنهائي، أيْ أفقٍ يتجاوز باستمرارٍ العاديَّ ويكسر دوماً سلطة المعتاد. من هنا يثمِّن فروم طقوساً يهوديةً مثل راحة يوم السبت. إيقاف الصيد يوم السبت يمثل إيقافاً للانغماس في العالم، وتعليقاً لمحاولات قنصه والاكتفاء به والإخلاد إليه، واستعادةً للراحة مع العالم الذي يكون الله أفقه ومعناه. وهي مرحلة الانسجام التي أفسدها الأكل البشري من الشجرة المحرّمة في الجنة. كذلك فخبز المنّ، أي خبز عيد الفصح غير المختمر، يُعدّ تذكيراً برحلة بني إسرائيل وبالطابع العرضي والمنتهي للمكان. ولأنه لم يكن مسموحاً لليهودي أن يأخذ فوق حاجته من الخبز، فضلاً عن كون الخبز يُخبز على عجل، فهو تذكيرٌ بعدم الاهتمام بالعالم أكثر من الحاجة، وأن ما صنعت أيدينا مرتهنٌ لنا لا العكس. تمثِّل هذه الطقوس، التي تشبه الصوم كفاً عن العادة وميلاً إلى الله، جوهر تجربة اليهود في البريّة وفق فروم، وهجرةً مستمرةً من العرض والزائل، وانفتاحاً صوب المتعالي الذي لا يحدّه محلّ.

ونحن نجد أن الكتابات التراثية عن الصوم قد جسَّدت هذه الثنائية ذاتها بين الانفتاح والقنص. فقد اهتم كثيرٌ من علماء التراث لما ورد في سنن ابن ماجه من كون الصوم "زكاة البدن". يتحدث الحكيم الترمذي عن المعنى الانمائي في الزكاة، إذ الزكاة تعني النمو والبركة واحتشاء الخير، ويربط النمو بـ"ميل الروح عن العالم"، مما يستحضر هذه الثنائية ويعضِّد دور الصوم في تغليب الانفتاح طريقةً للتعامل مع العالم تصلنا دوماً بما وراءه.

كذلك حاول البروتستناتي الألماني بول تيليش في عديدٍ من كتاباته، خصوصاً كتابه "بواعث الإيمان" المترجم للعربية سنة 2007، إبراز أن السمة الرئيسة في التوحيد هي عملية "التهشيم الرمزي" الهادفة لتحرير العقل والوجدان البشريين. فعملية "تهشيم الرموز" هدفها فتح بابٍ على ما يتجاوز الرمز بما هو جسدٌ أو بما هو منتجٌ ثقافيٌ واجتماعيٌ وتاريخيٌ محدَّد. في ضوء هذا ينظر تيليش للهجرة باعتبارها عمق التوحيدية، حيث تفكّ ارتباط الإنسان بالزائل الذي يفضي للتوثين، وتفتح الباب باستمرارٍ لتجاوز الزمان والمكان الحاليين، والانفتاح على "الوجود الجديد" وجودياً ومعرفياً. وهو ما يمثِّل وفق تيليش جوهر الإيمان، بما هو عمل كامل الشخصية. ويرى تيليش أن هذه السمة التحريرية في التوحيد هي ما تجعل الرموز الدينية التوحيدية سواءً رموزاً سرديةً أو شعائريةً، أعمق الرموز الدينية وأقدرها على تفعيل الإيمان فعلاً كلياً وحياً ومتنامياً ومنتجاً، من حيث قدرتها على التهشيم (أو الشطب على العالم). أو بمعنىً آخر، من حيث قدرتها على التهشُّم لو استحضرنا تمثيل تيليش بالمسيح، وهو الرمز التاريخي المصلوب أو المهشَّم.

يتجسد هذا المعنى للهجرة والشطب في الصوم. فالصوم شطبٌ على العالم زماناً ومكاناً، أو بتعبير الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه "الصوم جُنَّة". ويمثل هذا الوصف للصوم بالجُنَّة أو السِتر تلخيصاً للصلة بين الصوم والعالم والوحي. فالعالم يُخايل بأن يصير جَنَّة (أو جُنَّة) مغلقةً عن الكلمة الإلهية منذ آدم مروراً بالمسيح وإلى القصص في مركز سورة الكهف "قصة صاحب الجنتين". في حين تمثَّل الكلمة الإلهية الجنَّة الحقيقية في العالم التوحيدي. فهي أفقٌ يحرّر الإنسان من ركونه لما تمّ وما وجد وما اعتاد، وتدفعه لخلقِ جديدٍ. ولا وصول لهذه الجنة اللا نهائية إلا بجُنَّة الصوم.


لا تمثل قراءة شعيرةٍ ما أو فعاليةٍ رمزيةٍ دينيةٍ ما تأملاً فكرياً أو وجداناً فردياً مستقلاً. فالرموز الدينية، وكما يعملّنا أولي ريس وليندا وودهد في كتابهما "سوسيولوجيا الانفعال الديني" المترجم للعربية سنة 2018، هي "نظام انفعالي" نفسي واجتماعي شامل ينشأ بالحركة بين تفاعلات الذات مع الرمز، والرمز مع المجتمع، والذات مع المجتمع. ويشمل الفعل الديني وموقعه، وكذلك التنظيم والتأطير الاجتماعي الديني للتعبير عنه. لذا فإن أيّ تعليلٍ لشعيرةٍ يفترض معنىً خاصاً لها هو طرحٌ أو تفاوضٌ مع أو استكشافٌ أو تأطيرٌ اجتماعيٌ ما لأحد الرموز الدينية.

من هنا يدفع التفكير في الصوم تجاوزاً للعادة وللراهن والمنتهي، أو كفّ عن العالم للنظر صوب ما وراءه، تغيير النظر لكثيرٍ من السلوكيات الاجتماعية المتبعة في هذا الشهر. لا يصبح الاستهلاك المستمر مثلاً في رمضان، وموضع الانتقاد الدائم من الممتثلين للشعيرة والمشككين في حكمتها على حدٍّ سواء، مخالفةً لحكمة الصوم شعوراً بالفقير. بل يصبح مخالفةً لأحد مرتكزات العالم الديني التوحيدي التي يكرِّسها الصوم، تدبير النهايات عبر الانفتاح على ما وراءها. يظهر الاستهلاك والقنص والاستثمار في المنتهي انكفاء داخل النهاية، وصماً للأذن عن ما ورائها، عكس ما يفترض الصوم.

رأى إيريك فروم في كتابه "الخوف من الحرية " المترجم للعربية سنة 1972 أن الاستهلاكية والخوف من الحرية وصعود الشموليات والتقبل الإنساني لها والأنانية والكنز، وكل هذه السمات المعاصرة، نتاج طبيعي لغياب الرموز الإنسانية والتوحيدية عن المجتمع المعاصر. بسبب تركها، أو لغياب البعد التحريري والانفتاحي فيها الذي يحفِّز على تجاوز الإخلاد للميت والزائل، بسبب حضورها الباهت، بـ"حكم العادة"، مفرغةً من كل معنى. يُمثِّل الصوم حين يلتحم بمعناه "عِلَّته" أحد هذه الفعاليات الرمزية التي تمثِّل مقاومةً دوريّةً للأساس الأعمق لهذه النزعات، بارتباطه بالانفتاح على ما وراء الراهن والمنتهي.

كذلك يساعدنا التفكير في الصوم بهذه الطريقة في تغيير النظر لأحد أهمّ السلوكيات الاجتماعية المرتبطة برمضان، زينة رمضان. دوماً ما يُنظر لزينة رمضان على أنها شيء زائد. بل إنها تُربط أحياناً بتلك الاستهلاكية، ويُنظر لها شيئاً حادثاً وغريباً يفسَّر بأسبابٍ تاريخيةٍ ووظيفيةٍ عارضة. إلّا أن بُعداً في الزينة، ربما يجعلها رمضانيةً أصالةً. فهذا الاحتفال بشهر رمضان يجسِّد نظراً للشهر انعطافةً في العام، تعليقاً للزمان، وتغييراً للمكان، وانتظاراً لتغييرٍ حقيقيٍ للذات. ممّا يجعله أقرب لـ"عتبة" ضمن "شعيرة عبور" أو انتقال يعِد قدومها ببدايةٍ جديدةٍ وميلادٍ جديدٍ وتحوّلٍ روحيٍّ في أفق الكلمة المتجليَّة. يتجسّد هذا الاحتفال ذي الصبغة الشعائرية في مظاهر التزيين والتواصل والانفتاح والخروج من الذات. إنه احتفالٌ بالقدرة على الكفّ، على أخذ مسافةٍ من كلّ شيءٍ ولو مرّةً واحدةً في العام، يتمظهر في وضع العالم بين قوسين من الزينة.

وهذا يجعل فعل التزيين في رمضان فعلاً يحمل دلالةً على تصوّرٍ خاصٍّ لعلّة الصوم ربما لا يُقال. ربما يخفي هذه العلة ضغط "العادة الاجتماعية" في التعبير عن الرمز، والمتمثِّل في إعادة إنتاج علة الصوم شعوراً بالفقراء فحسب دون التفكير في مناحٍ أخرى قادرةٍ على استشكافٍ أوسع للرمز ذاته. يُعلِن فعل التزيين تلك العلة التي وصفنا طوال هذه المقالة، حيث الصوم تعليقٌ للعالم وفتح أفقٍ على عالمٍ جديدٍ في ضوء الكلمة، ما يجعل التزيين فناً بما هو تمهيد الأرض لتأسيس العالم وانكشاف حقيقة الوجود.


يأتي رمضان كل عامٍ ومعه المعالم المركزية للسردية التوحيدية. فيستعيد قصة آدم في عدن، والخروج منها بعد صمّ الأذن عن كلمة الله، والهدى الإلهي المرسل لهداية البشر. ويحيا المسلم رمضان ليتمثل التدبير التوحيدي للنهاية أو للعالم نهايةً زمانيةً ومكانيةً. ومع كلّ يومٍ يمرّ يدرك أنّ كلّ النهايات ليست سوى نافذةٍ على عالمٍ أوسع لا نهاية له.

جاء في كتاب الاختصاص للشيخ المفيد محمد بن النعمان، الفقيه والمحدِّث الشيعي الاثنى عشري المتوفى سنة 1022، أن سبب الصوم ثلاثين يوماً هو أنّ آدم احتاج ثلاثين يوماً ليذهب من جوفه طعم الثمرة التي أكل. في صيامنا ثلاثين نتطهَّر من معصيتنا الآدمية، بإغلاق العين وكفّ اليد وعفّ الجوف عند النهاية، ورفع الرأس وإصغاء السمع للكملة الإلهية وراء كلّ حدّ.

اشترك في نشرتنا البريدية