عندما يتأمل المرء كلام محمد كَرّو، ويجول بفكرِه ونظرِه في البلادِ، يرى أطيافَ بورقيبة في كل مكانٍ. كل الأنظمة التي حكمتْ من بعده حاولتْ بوعيٍ منها أو بغيرِ وعي محاكاته، وجعلتْ منه معياراً ومقاساً. ولعل أبرزَ سِماتِ البورقيبية استمراراً في تونس هي طبيعة الدولة ذات السطوةِ الفائقةِ التي أسَّسَها بعد استقلال تونس عن فرنسا سنة 1956. لا تتجلى سطوةُ هذه الدولة فقط في أجهزتِها القمعيّةِ وتفضيلها حكمَ الفرد، بل حتى في الاستيلاء على المبادرةِ المجتمعية في تحصيل الحقوقِ والمطالبة بها. فهي دولةٌ استولتْ باكراً على الحركةِ النقابيةِ والحركة الطلابية واسْتَبَقَتْ أيَّ تشكّلٍ للنسوية المستقلة عنها. ومع أنّ العمَّال والطلاب قد نجحوا بعد مسارٍ طويلٍ ودامٍ من الانعتاق من ربقة هذه الدولة، إلا أنَّ النسوية بقيت تراوح مكانها، نهجاً أبوياً من أعلى إلى أسفل يهدف إلى السيطرة على أدوار المرأة وتحديدها ضمن ما حدَّدَتْه الدولة من معايير. وظلت الدولة في عهود الحكم كلِّها تستعملها أداةً فكريةً توفّرُ لها دعمَ قطاعٍ من المجتمع، وتبني لها ولتونس أسطورةً راسخةً أنها جنةُ النساء وسطَ جحيمٍ عربيٍّ وإسلاميّ.
نسويةُ بورقيبة التي قايضت المرأة حقوقَها السياسية بحقوقٍ اجتماعيةٍ صارت نهجاً ترثه الأنظمة التونسية حتى اليوم. كانت الدولة دائماً تستولي على النساء بتقديم نفسها الحامي لهنّ من المجتمع، وبالتالي تستحوذ على اليد العليا في اختيار ما تحتاجه النساء من الحقوق. فتمنحهنّ قدراً من الحقوق ومتسعاً من الحركة بما لا يضرّها، وبما لا يجعلهنّ يقتربنَ من حقوقهن السياسية في منازعة الدولة نفوذاً أو سلطةً. فالمرأة الصالحة في نسوية المؤسسةِ التونسية هي المرأة التي تتمتع بجميع الحقوق ما عدا حقها في معارضة الدولة.
ليست عبير موسي الناشطة السياسية الوحيدة التي تدفع ثمن معارضتها النظامَ. فقبلها مكثت الناشطةُ السياسيةُ شيماء عيسى في السجن بين فبراير ويوليو 2023 بتهمة التآمرِ على أمن الدولة. وفي يوليو 2024 حُكمَ على المحامية سُنْية الدَّهْماني بالسجن عاماً بتهمة نشر أخبار كاذبة، وذلك بعد شهرين من اعتقالها إثر تعليقاتٍ ساخرة على الوضع في البلاد. وفي مايو من العام نفسه قُبضَ على سَعْدِيّة مُصباح، الناشطة المناهضة العنصريةَ، بتهمة مساعدة المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، لأن الرئيس قيس سعيّد يعدّهم جزءاً من ''مؤامرة لتغيير التركيبة الديموغرافية [السكّانية] تتعرض لها تونس".
في الوقت نفسه لا يكفّ الرئيس سعيّد عن تصدير صورةِ النظامِ الحامي حقوقَ النساء والمدافعِ عنهن. فقد سارع في أعقاب إقالة الحكومة وتعليق عمل البرلمان في 25 يوليو 2021 إلى تعيين نجلاء بودن رئيسةً للحكومة، أولَ امرأةٍ في تونس والعالم العربي تصل هذا المنصب. ثم عزلها بعد أقلّ من عامين من غير أن يكونَ لها أي إسهامٍ واضحٍ في الحكم، بل كانت كما وصفها منتقدوها، ضعيفةً أمام سلطة الرئيس الشمولية ولم يسمع التونسيون صوتها إلا مراتٍ قليلة.
هذا التناقض الظاهر بين المجاهد والمحدّث والمحرر، يعبّرُ بوضوحٍ عن النسخة العلمانية البورقيبية المتفردة عن باقي نسخ العلمانية السائدة في عصره. فهو ليس مصطفى كمال أتاتورك، الذي كان بورقيبة معجباً به وناقداً له لأنه قطع أوصال الدين في المجتمع. ولم يولد الحبيب بورقيبة من عباءةِ العلمانية الفرنسية الصلبة، التي درسها بعمق وتأثّر بجوانب كثيرة منها.
تنطوي العلمانية البورقيبية على جدليةٍ تبدو متناقضةً ولكنها تصبّ في صالحِ النظام السلطوي الذي أسَّسه الحبيب بورقيبة. فهي من جهةٍ تحطم كل البنى الاجتماعية والقانونية التي كانت سائدةً قروناً من عمر الملكية (1705-1957)، وذلك بأربع خطوات أساسية. أولها تأميم التعليم وتوحيده تحت سلطة الدولة بإخضاع التعليم الزيتوني الشرعي لإشراف وزارة المعارف في 17 ديسمبر 1955، ثمَّ تأميم المدارس القرآنية في 22 فبراير 1956. وثانياً صدور مجلة الأحوال الشخصية في 13 أغسطس 1956، أي بعد ثلاثة أشهرٍ فقط من إعلان الاستقلال وبمرسومٍ وقّعَه بورقيبة بلا طلبِ تصويت البرلمان. وقد ألغت المجلة تعدُّد الزوجات واستبدلت الطلاق التقليدي الشفهي والغيابي أحياناً بالطلاق الحضوري أمام القضاء. وكذلك وسّعت ولايةَ المرأة وكسرتْ هيمنة الرجل الاجتماعية، فقد حصلت المرأة على حقِّ العمل والتنقل وفتح حسابات مصرفية وإنشاء مشروعات تجارية بلا إذن زوجها. وثالثاً ألغى الرئيس نظام الأوقاف في 18 يوليو 1957 وأمّمَ أصوله لفائدة الدولة. وأخيراً وَحَّدَ القضاء وألغى القضاء الشرعي في 9 سبتمبر 1957، وكذلك ألغى الولاية القضائية لمجلس الأحبارِ اليهود، وجعلَ التحاكم حصراً أمامَ المحاكم المدنية.
ومن جهة أخرى لا تحيّد هذه العلمانية البورقيبية الدينَ عن الشأن العام، أو حتى تمنعه بالقمع، بل بالسيطرة عليه وتوظيفه. لم تكن سياسية الحبيب بورقيبة في تفكيك المؤسسة الدينية التقليدية ونفوذها المجتمعي والاقتصادي والمعنوي شبيهةً مثلاً بما حدث في تركيا أتاتورك لصالح الفراغ، أي إلغائها تماماً، بل في إطار إعادة إنتاج سياسةٍ دينية جديدة تحت رعايةِ الدولة. فأممّ تعليم القرآن بإنشاء جمعيةٍ حكومية لها فروعٌ في كل البلاد تعلّم القرآن. وأعاد تسميةَ خطةِ الإفتاء سنة 1962 فألغى منصبَ "المفتي الأكبر" ومجلس الإفتاء المحيط به الذي كانَ مُستقلاً في الرأيِ عن الدولة، وبدّل به منصب "مفتي الجمهورية" ووضع في المنصب الشيخ الفاضل بن عاشور لكسب تأييد قطاعٍ واسع من المحافظين، لكنه في النهاية نزعَ عن المفتي استقلاليةَ الرأي والنفوذ الديني وجعله منصباً استشارياً لا يُلزم الدولة.
كان الحبيب بورقيبة يرمي باحتواء الدين إلى توظيفه في تأسيس شرعيته وليَّ أمرٍ مُحَدِّث. وقد أشار إلى ذلك بوضوح في خطابٍ ألقاه سنة 1975 قائلاً: "وللإمام في الإسلام منزلة عظيمة تجب طاعته فتقرن بطاعة اللّه ورسوله رفعاً لشأنه وتنويهاً بقدره. وقد قال جل من قائل وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". فقد ألغى التعليم الشرعي الحرّ، لكنَّه أعادَ إنتاج التعليم الديني في البرامج الرسمية للدولة. وألغى القضاء الشرعي، لكنّه ضَمّنَ كثيراً من أحكام الشريعة في المدونة القانونية. وألغى نظام الأوقاف في مقابل خلق هيكلٍ جديد هو وزارة الشؤون الدينية التي ورثت مهام الأوقاف كلّها، وسيطرتْ على النشاط الديني والبنية التحتية الدينية كالمساجد والمقاماتِ والزوايا والموارد البشرية كالأئمةِ والوُعّاظ. وكذلك الأمر لمجلة الأحوال الشخصية التي اعتمدَ فيها على أقوالٍ فقهية من المذهب الحَنَفيِّ لم تكن تحظى بشعبية، ذلك أن أغلبية التونسيين يتّبعون المذهبَ المالكي. ومع كل ما في المجلّة من تحوّلاتٍ جوهرية في مسائل الزواج والطلاق والولاية إلا أنها حافظت على التقليد الفقهي في أحكامِ المواريث. ومع ما كان شائعاً عن معتقد الرجل وعن علاقته بالدين إلا أن الحبيب بورقيبة كان في الوقت نفسه شديدَ الحرص على حضور المناسبات الدينية وبناء المساجد ووضع اسمهِ عليها، واستعمالِ البراهين من الآيات والأحاديث في خطبه الكثيرة والتلقائية، وقد ظلَّ دائماً يعدّ نفسَه مجدِّداً من داخل الإسلام لا من خارجه.
يمكن أن نفهم النسوية البورقيبية بهذا التناقض بين بورقيبة المحدّث العلماني وبورقيبة الذي يريد السيطرة على الدين، فقد أصبحت هذه النسوية النسخة السائدة في تونس. فالبورقيبية منهجاً للحكم لم تكن تريد شيئاً خارجَها، فكلّ فاعلية مجتمعية دينية أو اجتماعية أو سياسية يجب أن تنطلق من دخل هذا النهج. ولذلك كانت لنا في تونس نسخ بورقيبة من كل الأفكار والمناهج: الاشتراكية البورقيبية في نظام التعاضد في الستينيات، والإسلام البورقيبي والنسوية البورقيبية. فالرجلُ يتماهى تماماً مع الدولة ويتحولان معاً إلى كُلٍّ واحدٍ، ومعهما تتماهى الأفكار وحركة المجتمع في نوعٍ من الشمولية التي لا تبتعد كثيراً عن الشموليات التي سادت في القرنِ العشرين ووضعتْ المجتمعات في قوالب واحدة. لكن ذلك لم يمنع النظام التونسي من الاستفادة من دعمِ قطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمع وعلى رأسها النساء والنخب، فهو نظامٌ يدافع عن حقوق المرأة بوضعه في مقارناتٍ مع أوضاع النساء في المجتمعات المجاورة في المغربِ العربي والعالم الإسلامي على نحو أوسع. وكان ذلك صحيحاً وواقعياً إلى حدٍ ما.
استفادَ نظام بورقيبة من هذه السمعة النسوية في الفوز بدعمٍ غربي، إذ كان نظاماً تقدمياً لا يشبه الأنظمة العربية الأخرى. فقد كان بورقيبة يخاطبُ الغربَ بورقتيْن قويّتين لدعمِ شرعيته، أولاهما موقفه المختلف من إسرائيل بدعوتِه إلى تقسيم فلسطين إلى أرضٍ لليهود وأخرى للفلسطينيين. والثانية دعمه حقوقَ النساء الاجتماعية والفردية، مع أنّ نظامه لم يكن يختلف عن أي نظامٍ آخر في المنطقة في سجلٍ طويلٍ ودامٍ في ملاحقة معارضيه وحتى اغتيالهم.
لكن هذه النسوية البورقيبية ليست منفصلةً عن عصرها. إذ انتمت إلى ما يُعرف بنسوية الدولة التي تعزز فيها الحكومات المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة بالأطر المؤسسية والتشريعات وتنفيذ السياسات. ساد هذا الشكل بعد الحرب العالمية الثانية عندما بدأت عددٌ من الدول في مأسسة المساواة، لاسيما في أوروبا مع بروز النسوية الليبرالية، فأنشأت الحكومات لجاناً نسائيةً وسنّت قوانينَ تعزيز التكافؤ بين الجنسيْن. وقد كانت النسوية الاشتراكية جزءاً لا يتجزأ من أهداف الأنظمة الشيوعية الفكرية، فشاركت النساء في القوى العاملة وكان لهنّ دورٌ في بناء المجتمعات الاشتراكية. ولم تكن دول العالم الأخرى بعيدةً عن هذا، إذ تبنتْ الدول المستقلة حديثاً النسويةَ الحكومية جزءاً من أجندات التحديث وبناء الأمة، وعُرِفت بنسويةِ ما بعد الاستعمار.
في القاعة الفسيحة لقصر الحكومة وبحضور الوزراءِ والسفراء والزعماء الدينيين ظلَّ الحبيب بورقيبة مشدوهاً أمام هيئة هند شلبي، فقد كانت ترتدي الحجاب على الطريقة التونسية ملتحفةً البياض تماماً فلا تكاد تظهر سوى استدارة وجهها وكفّيها. ثم تحولت دهشة الرئيس إلى غضبٍ بدا على وجهه عندما شرعتْ هند شلبي في الكلام، فقد توجهت بسيْلٍ من الانتقادات لمجلةِ الأحوال الشخصية وسياسات الدولة النسوية مطالبةً بالعودة إلى القرآن والسُّنَة النبوية. وشددت على أن القرآن يعترف بالحقوق المدنية المتساوية للرجال والنساء، لذا لا ينبغي أن تثير بعضُ مطالب النساء اليومَ المعارضة. وقالت إن المرأة في الإسلام لا تدين بالطاعة إلا لله، وإنّ تمسكها بالقرآن يجعلها كائناً حراً له سيطرة على نفسه ومصالحه.
عادت هند شلبي بعد هذه الواقعة إلى حياتها العادية، كأن شيئا لم يكن. في مقابلةٍ لمايكل كامو وفينسنت قيِسير نُشرتْ سنة 2002 يقول الطاهر بلخوجة، وزير الداخلية التونسية الأسبق، الذي كان حاضراً: "كنا نعتقد أن خطاب هند شلبي للدفاع عن القيم العربية الإسلامية وانتقاد العلمانية البورقيبية، مجرّد مبادرة فردية بحتة. ولم تكن هناك أي حركة خلفها". لكن ما كانَ غائباً عنه أنّ هند شلبي كانت تمثل نموذجاً لوعي بصددِ التشكل في ذلك الوقت يشترك فيه نساء ورجال، مدفوعين بالصحوة الإسلامية. ومع أنّ هند ستعود إلى حياتِها الطبيعية ولن تضايقَها الدولة إلا أنّ حادثتها مثلت بالنسبة إلى بورقيبة منبهَ استفاقةٍ على واقعٍ جديد في البلاد، أصبح يفقد فيه الهيمنة الفكرية والرمزية على المجتمع.
بذور الرفض المجتمعي للنسوية البورقيبية المطيعة لم تبدأ مع الإسلاميين ولا مع حادثة هند شلبي. فمنذ نهاية الستينيات استقطبت الحركةُ الطلابية اليسارية عشراتِ المناضلات من الاتحاد العام لطلبة تونس، وفي الهياكل السريّة لتجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس "آفاق"، ثم توسعت لاحقاً في منظمة العامل التونسي. كان ذلك الزخم اليساري مدفوعاً بتوسع نطاق التعليم بعد الاستقلال، ولاسيما تعليم البنات. وارتبطَ بالسياق الدولي الصاخب بالثوراتِ الثقافيةِ والمسلحة.
لم يكن هاجس اليسار ثقافياً، كحال الإسلاميين، بل طبقياً. فالمنظمات اليسارية لم توجه نقداً لتشريعات الحبيب بورقيبة عن المرأة إلا في حدود تجاوزها نحو تشريعات أكثر تحرراً. لكن نقدها نسويةَ مؤسسةِ الدولة كان موجهاً لسياستها الطبقية. وأبرز قضايا تلك السياسة الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، لا سيما مبادرات تنظيم الأسرة. فغالباً ما كان خطاب الدولة يصور النساء الريفيات أنهنَّ مُسهمات في الاكتظاظ السكاني وأهدافاً للتدخلات التنموية، ومطلع الاستقلال نُفِّذَتْ البرامج التي تمولها المنظمات الدولية، مثل مؤسسة فورد التي تعمل في مجال الحد من الفقر. أرادت تلك البرامج تثقيفَ النساء في تنظيم الأسرة وسيلةً للتنمية الاقتصادية، وهي سياسات تتجاهل الحقائق الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الريفية وتفرض عليها قِيَماً تركِّز على المناطق الحضرية.
حالهن حال الرجال، تعرضت المناضلات اليساريات التونسيات إلى الملاحقة والاعتقال والتعذيب والطرد من العمل والمنع من السفر، وسائر أشكال القمع. مساء 13 نوفمبر 1973 كانت أستاذة الفلسفة آمال بن عبا بصدد تحضير الدروس التي ستلقيها لتلاميذها في المعهد الثانوي صباح اليوم التالي، فسمعت فجأةً طرقاً قوياً على الباب. دخل ثلاثة رجال إلى المنزل بصلفٍ وفتشوا زواياه وأركانه بحثاً عن أداة الجريمة وهي آلة كاتبة لن يعثروا عليها أبداً، ولم يجدوا غير جواز سفرٍ ستُحرم منه آمال سبع سنواتٍ. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى وجدت آمال نفسها عند جهاز أمن الدولة في وزارة الداخلية.
جمعت الكاتبةُ العراقية هيفاء زنكنة سبعَ شهادتٍ لنساءٍ في كتاب صدر سنةَ 2020 بعنوان "بنات السياسة"، كانت شهادة آمال إحداها. تقول آمال في شهادتِها تلك: "كنت في التاسعة والعشرين من عمري . . . [أخذني] الآدميان من الحجم الثقيل، عرفتُ فيما بعد أنهما جلادين . . . [أحدهما] كان يضع خاتماً كبيراً في إصبعه، وعندما صفعني بقوة بظهر يده حتى سال الدم في فمي، ثم دفعني بعنف داخـل غرفـة تطـلّ على الممرّ الداخلي وألقـى بغطـاء اسـتلقيت عليـه مـن شـدة التعب وغرقت في النوم . . . في الغد، أفقـت على صراخٍ قـادم مـن الجهـة الأخرى من الممرّ، واكتشفت أنني موجودة في غرفة التحقيق والتعذيب التي يسميها الجلادون بكل فخرٍ غرفة العمليات". أمضت آمال عاماً كاملاً في السجن بتهمةِ الانضمام إلى تنظيمٍ سرّي، وعندما خرجت من السجن طُردت من عملها في التعليم.
لم تكن آمال حالةً معزولةً عن سياقٍ قمعي دخلته البلاد منذ بداية السبعينيات. ففي محاكمات 1974 أمام محكمةِ أمنِ الدولة مثلَ أكثر من مئتي مناضل من منظمة العامل التونسي بينهم ستة وعشرونَ امرأة، حُكم عليهم بأحكامٍ قاسية بِتُهم التآمر على أمن الدولة والانتماء إلى تنظيمٍ سرّي والمسّ بكرامة رئيس الجمهورية. وفي محاكمات يوليو 1975 حُوكِم اثنان وأربعون امرأة بالتهم نفسها. وفي شهر أكتوبر من العام نفسه حوكِم أكثر من مئة مناضل بينهم أربعة عشر امرأة بتهمة التحريض على العصيان.
خلق هذا الزخم النضالي اليساري نقاشاً واسعاً عن نسوية الدولة البورقيبية وحدودها السياسة وتوظيفها في بناء صورةٍ ناصعةٍ عن النظام داخلياً وخارجياً. نكتشفُ طبيعة هذا التحول من المسار الذي ذهبت فيه آمال بن عبا بعد سجنها. إذ توجهت آمال إلى العمل في الصحافة الخاصة بعد انسداد أبواب الوظيفة الحكومية، وفي سنةِ 1979 شرعت في نشر سلسلة مقالاتٍ في صحيفة "لوتون" باللغة الفرنسية في نقد مؤتمر "المرأة المغاربية: الحرية والتحرر"، الذي انعقد في مدينة اطْبَرْقَة على الساحل الغربي. تقول آمال :"هناك تشكل لدي الوعي المزدوج بحقيقة النظام الأبوي القائم على هيمنة الذكر وتلازم هذه الهيمنة مع نكران حرية التعبير على العنصر النسائي، والوعي بالاختلاف الذي يميزني كامرأة، وهو اختلاف تم نفيه باسم المساواة بين الجنسين . . . هـذَان الوهمان هما اللذان راودا تحديداً كثيراً من المناضلات من جيلي . . . وفي سبتمبر 1979 في نادي الطاهر الحداد [أحد أبرز دعاة تحرير المرأة في تونس في بداية القرن العشرين] الذي كانت تديره امرأة شجاعة تدعى جليلة حفصية، ولدت الحركة النسوية في بلادنا".
بالقدر الذي كانت فيه مسارات التحرر النسوي المستقل عن الدولة تأخذ صدى ونفساً أكبر، كانت مسارات التحرر الرسمية في تراجعٍ مستمر، فقد كان الصراع بين النظام والمنظمات الثورية اليسارية يلقي بظلاله على المشهد. دفع النظام بقوة نحو تعزيز المحافظة في المجتمع، وتشير المؤرخة التونسية صوفي بسيس في ورقةٍ عنوانها "نسوية المؤسسة التونسية" إلى أنّ إرادة السلطة في كسر اليسار الاشتراكي دفعتها تقديم تنازلات إلى الأطراف الأكثر تحفظاً في الحزب الحاكم والمجتمع بتشجيع إنشاء جمعيات دينية. وفي نوفمبر 1973 صدر منشور يحظر الزيجات بين النساء المسلمات وغير المسلمين، وأُعلن أنّ الزواج المختلط يُعدُّ لاغياً وباطلاً في نظر السلطات، إذا لم يكن الزوجان قد اعتنقا الإسلام. وبما أنّ السلطة القضائية ظلت محافظة إلى حد ما، فإن المحاكم غالباً ما تفسر القانون بمعنى تقييدي، فعلى سبيل المثال رفضت المحاكم حقوق الميراث للزوجات غير المسلمات في الزيجات المختلطة. وبدا أن بورقيبة نفسه استسلم للمحافظين. فبعد أن استسلم سنة 1974، تحت ضغط حاشيته وأغلبية حكومته، لتعديل قانون الميراث في اتجاه رفض تحقيق المساواة بين الجنسين، أعلن أمام المؤتمر السادس للحزب سنة 1976 أنه "ليس من الضروري أن تقوم المرأة بأنشطة مدفوعة الأجر خارج المنزل".
في الوقت نفسه كانت حرب النظام والإسلاميين قد أودت بالمئات من النساء المقرباتِ من حركة النهضة أو المنتمياتِ لها إلى السجون، إذ عُذِّبنَ واغتُصِبنَ وأُجْبِرنَ على تطليقِ أزواجهنّ. فضلاً عن حملات منع الحجاب في الأماكن العامة، لا سيما منع بعض المحجبات من الدراسة والعمل. أما نسوية الدولة فقد أخذت طابعاً عائلياً تقوده زوجة الرئيس ليلى الطرابلسي، والتي بدأت منذ نهاية التسعينيات بالظهور في صورةِ "الرائدة للمرأة التونسية" بجمعياتٍ خيرية ونسائية. فترأست ليلى الطرابلسي الدورة الثامنة والأربعين للمؤتمر العالمي لسيدات الأعمال الذي عقد في تونس سنة 2004، ثم منظمة المرأة العربية. وقد استفاد بن علي من نسوية الدولة في مجابهة الإسلاميين وفي تعزيز صورته في الخارج حامياً حقوقَ المرأة التي يهدّدها الإسلاميون. وهنا لابد من الإشارة إلى أنّ خطاب الإسلاميين في ذلك الوقت كان مساعداً إلى حدٍّ كبير في إثبات صحة هذا الزعم، فقد كان الخطاب متأخراً جداً حتى عن نسوية الدولة من حيث تصوراتهم عن موقع النساء في المجتمع وأدوارهنّ الاجتماعية والسياسية.
واليوم، يستعيد قيس سعيّد هذه الذخيرة. يحاول أن يبني تصورات رمزية عن كونه نصيرَ حقوقِ النساء، وفي الوقت نفسه تودي سياسته بكثيرٍ منهن إلى السجن. لكن سعيّد يحاول بنهجه الشعبوي أن يرسم حدوداً بين فئة النساء اللاتي يجب أن يتمتعّن بالحقوق، والفئة التي يجب أن تُحرم منها. تقسِّم الشعبوية المجتمع بين شعبٍ يحوز جميع فضائل الصدق والأمانة والإخلاص، في مواجهة نخبةٍ تضم فئات متعددة ومتناقضة، تحوز جميع خصال الفساد والخيانة والعمالة. ولا واسطة بينهما سوى الصراع الوجودي حتى ينهي الشعب وزعيمهم الأوحد النخبة الفاسدة. لذلك فإن النساء اللائي يطالبن بالحقوق السياسية ويعارضن النظام وينتقدن الشعبوية، هن جزء من النخبة الفاسدة التي يجب القضاء عليها، بالسجن والإلغاء ونزع الشرعية والطرد من حظيرة الوطنية وغيرها من أساليب الإقصاء.
لكن مهما اختلفت خصائص نسوية الدولة بين الأنظمة الحاكمة والعهود السياسية في تونس إلا أنها تحافظ على قواسم مشتركةٍ، على رأسها الأبوية. فهي غالباً ما تتبنى نهجاً من أعلى إلى أسفل، إذ تُملي السلطة ما يشكل تمكين النساء من غير إشراكهنّ التام. وثانياً التمييز. فمع أنّ النسوية الرسمية ترفع من تمثيلِ النساء، إلا أنها تفشل في معالجة التفاوتات الهيكلية الأعمق، مما يؤدي إلى فجوة إما بين الريف والمدينة أو بين النساء المتدينات وغير المتدينات أو بين المناطق. وثالثاً وهو الأهم، التوظيف السياسي، إذ تُستخدم لإضفاء الشرعية على الاستبداد وتبرير القمع أو لإظهار صورة تقدمية لا سيما في الخارج بلا التزام حقيقي بحقوق النساء.
