كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تعريف الواقع؟

لا يقتصر الذكاء الاصطناعي على فرض تحديات فكرية وأخلاقية، بل يعيد تعريف كيفية إدراك الواقع، ذلك الإدراك الذي ربطه الفلاسفة قديماً بالتجربة الحسية.

Share
كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تعريف الواقع؟
هل يمكن أن يمحي الذكاء الاصطناعي حسّنا بالواقع؟ | خدمة غيتي للصور

وجدت الجَدّة حفيدها يبكي فعلِمت منه أن ما يبكيه تنمّرُ بعض أقرانه عليه، فقالت تريد أن تخفف عنه: "هوّن عليك، سيذهب أبوك معك ليوقفهم عند حدّهم". نظر إليها الحفيد نظرة استغراب وهو يقول: "لا أعرفهم، إنهم أصدقاء رقميون، نتعارف على الإنترنت فقط". عندها صاحت الجدة في وجه الحفيد: "الأمر بسيط إذن، لماذا لا تغلق هاتفك الذكي فتتخلص من تنمرهم؟".

تُجلي هذه القصة على بساطتها معاني تبعث على التأمل في سطوة التقنية وقدرتها على إعادة صياغة علاقتنا بالواقع. لا ترى الجدة الوجود إلا في الواقع المتعين في الفضاء الحسي وهي تستسهل الانسحاب من الفضاء الرقمي، فتطلب من حفيدها إغلاق هاتفه لقطع الصلة بالعوالم التي يأتيه منها التنمر. ويكاد الحفيد لا يعرف وجوداً آخر غير الوجود الافتراضي داخل شبكة رقمية يصعب عليه مفارقتها.

من هذا المنظور أصبحنا أمام واقعين اثنين، واقع العالم الطبيعي الأصيل الذي لا نحتاج تقنية حتى نكون فيه أو ننتسب إليه، وواقع عوالم افتراضية رقمية نتوسل إلى الأدوات التقنية كي نلج إليه ونثبت ذواتنا فيه. ونحن أيضاً أمام إمكانٍ ثالث، إمكان الوجود في العالمين معاً، وهو الوجود الذي نسميه "الهُجنة". ههنا تُطرح عدة أسئلة عمّا إذا كنّا حقيقةً في عصر الذكاء الاصطناعي، وكيف نفهم معنى انتسابنا إلى هذا العصر، وعن معنى الذكاء الاصطناعي وما هي تجليات الاشتغال به في الواقع. بواعث طرح هذه الأسئلة كثيرة، منها سؤال الأخلاق وسؤال العقل والمعرفة الخالصة وسؤال الواقع والواقع المتوقع. ويطرح المنظّر والسياسي الأمريكي هنري كيسنجر هذه الإشكاليات في كتابه "عصر الذكاء الاصطناعي". ومن الكتاب وما شابهه من جدليات نُحاجُّ بأن الذكاء الاصطناعي، وإن مثَّل ثورةً لا نظير لها في توظيف العقل من أجل إخضاع الواقع، فإنه يظل قاصراً عن الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى، على خطابه المبشر بفتوحات ما فتئ العالم الغربي يرى فيها جوهر فكره منذ أكثر من ألف سنة.


لقد ساهم التطور التقني في رسم ملامح واقع حضاري وثقافي جديد، واقع تتجاذبه قوتان متصارعتان. تستمد القوة الأولى شرعيتها من الانتساب إلى المكان أو الأرض، ويمكن أن نطلق على من يُمثل هذه القوة "سكان الأرض الأصليون". وأولئك الذين يصدرون عن تصور خاص للوجود يرون كما يرى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أن الوجود الأصيل هو الوجود المادي المُعْطى. أما القوة الثانية فتستمد شرعيتها من الانتساب إلى عوالم افتراضية لا وجود لها إلا بفضل الأدوات التقنية، ويُمثل هذه القوة أجيالٌ جديدة ممن يمكن أن يُنعَتوا "سكان العوالم الرقمية الأصليون". وهم يصدرون عن شعور راسخ بأن الوجود الحقيقي هو وجود يُتوسّل في إثباته بالأدوات التقنية وبالعقل الصناعي.

إن الوجود في العالمين معاً، في الواقع المعطى والواقع المصطنع، أدعى إلى تحصيل القوة وتثبيت مكانة الأفراد والمجتمعات مِنَ الوجود في أحد العالمين فقط. وبحسب ما يذهب إليه كيسنجر في كتابه "ذا إيج أوف إي آي" (عصر الذكاء الاصطناعي)، الصادر سنة 2021 والمشترك في كتابته مع إيريك شميت ودانييل هيتنلوكر، فالبشرية اليوم لم تعد تملك خيار البقاء خارج الذكاء الاصطناعي بعيداً عن سلطة التقنية وما تفرضه من واقع جديد. يصدر كيسنجر عن وعي تاريخي مفاده أن لكل عصر أدوات وأسلحة خاصة تَتَوّسل بها الأمم لإثبات ذاتها والدفاع عن مقومات وجودها. يسعى إلى إثبات أن الذكاءَ الاصطناعي أداة العصر وسلاحه اللذان لا مناص من امتلاكهما لتحقيق التفوق وضمان الريادة في المستقبل.

يُقَرّب كتاب كيسنجر للقارئ طبيعة الذكاء الاصطناعي أداةً وسلاحاً، ويسعى إلى إبراز الحاجة الملحة إلى مواكبة هذا الذكاء بغرض بلورة نظرية سياسية تستوعب طبيعة الأدوات وأسلحة العصر وتُعيّن سبل الاستفادة منها بغرض إثبات الذات في المستقبل.

يتحدث كيسنجر عن تناقضات الحرب الباردة قائلاً: "إن تكنولوجيا الأسلحة المهيمنة خلال هذه الحقبة لم تُستعمل قط. لم تكن هناك علاقة تناسب بين القدرة التدميرية للأسلحة التي توفرها هذه التكنولوجيا وبين الأهداف القابلة للتحقق غير الهدف المتعلق بالبقاء". ويضيف: "لقد ظلت الصلة منقطعة بين القدرات والأهداف خلال الحرب الباردة [. . .] أو إن شئت قلت أن هذه الصلة وإن وجدت فهي لم توجد على نحو كان بالإمكان أن يفضي بوضوح إلى بلورة استراتيجية من الاستراتيجيات".

يواصل هنري كيسنجر الشرح قائلاً إن القوة العسكرية المتطورة تقنياً لم تستعمل قوتها في صراعها ضد الدول الضعيفة أو الحركات المسلحة التي لم تملك إلا أسلحة متواضعة. ويحيل على بعض التجارب لتجلية المفارقة بين اكتساب القوة التقنية وعدم استغلالها في تحقيق الأهداف العسكرية فيقول: "لقد أسست القوى الكبرى جيوشاً متطورة تقنياً وأنظمة تحالفات جهوية وعالمية، غير أنها لم تستعملها ضد بعضها البعض ولا في الصراعات ضد الدول الصغيرة أو الحركات المسلحة ذات الترسانة البدائية. هذه هي الحقيقة المرة التي عاشتها فرنسا في الجزائر، والولايات المتحدة الأمريكية في كوريا، والولايات المتحدة الأمريكية وكذا الاتحاد السوفياتي في أفغانستان".

كان هذا أثناء الحرب الباردة. أما اليوم، وقد أصبحنا في عصر الحروب السيبرانية والذكاء الاصطناعي فقد تتعمق الفجوة بين خطط الدول وأهدافها وبين المبادئ والعقائد التي تقوم عليها. يخشى كيسنجر أن تتعاظم المخاطر في عصر الذكاء الاصطناعي، ونصبح أمام  تحديات عسكرية تفوق قدرتنا على الاستيعاب والفهم، وهو ما قد يساهم في إخضاعنا إلى سلطة العقل التقني. يقول كيسنجر إن "الذكاء الاصطناعي يعد بتعزيز القدرات التقليدية والنووية والسيبرانية بشكل يصعب معه التنبؤ بالعلاقات الأمنية بين الخصوم أو الحفاظ عليها، كما يصعب معه تطويق الصراعات".

نخلص في نهاية كتاب "عصر الذكاء الاصطناعي" إلى نتيجة مفادها أن التقنية قد وسعت مجالات اشتغال العقل البشري فخلقت بذلك واقعاً جديداً يتجاوز قدرة هذا العقل على الفهم والتفاعل. ولعل التطور التقني المذهل في صناعة الواقع والتحكم في مدخلاته ومخرجاته يورثنا حالة من الحيرة والتيه، فيصعب علينا اليوم تَمَثّل الدور الإنساني في هذا الواقع وكذا تمثل الأدوار التي كانت للدين والأخلاق والعدالة في حياة المجتمعات. يمكننا أن نختصر فنقول بأننا اليوم نقف أمام التقنية حيارى لا ندري أنحن مُخَيّرين أم مُسَيّرين أمام العقل الاصطناعي وداخل الواقع الذي صار يصنعه هذا العقل.

حين ننتهي من قراءة كتاب كيسنجر فإن أول انطباعاتنا أنه يساهم في تنوير القراء بمدى تأثير التطورات التقنية الجديدة في مجالات الذكاء الاصطناعي على الواقع. لكن هذا الانطباع يَخْلُف انطباعاً آخر بأن الكتاب لا يفتح أفقاً قيمياً جديداً، حتى وإن كان في الظاهر يحمل جملة تساؤلات جوهرية.

يقدم كتاب كيسنجر مثالاً حياً لعقل سياسي يسعى إلى التأقلم مع الواقع الجديد من منطلق الحرص على بلورة خطط وأهداف تضمن التفوق العسكري. وهو بذلك لا يعين سبل التفكير في موضوع الذكاء الاصطناعي من منطلق أخلاقي بحت، بعيداً عن الثنائيات التي تقسم العالم إلى "أنا" و"الآخر" والداخل والخارج. فمع أهمية الكتاب وما تضمّنه من استيعاب طبيعة التحولات التي تطرأ على مفهوم الواقع، يظل الكتاب مشدوداً إلى المنطق الذي لا يفكر في الأداة التقنية من منطلق المصلحة المُتَعَدِّية، التي يتجاوز نفعها الأنا والآخر، بل من منطلق المصلحة المنحصر نفعها على الذات فحسب.

بهذا الاعتبار يكون العقل التخطيطي عاجزاً عن طرح سؤال علاقة التقنية بالأخلاق، فيصرفه تركيزه على التفكير في الأداة بوصفها سلاحاً يضمن التفوق في الصراع المسلح عن التفكير في الأداة في حد ذاتها وفي المنطلقات الفكرية والفلسفية التي تتأسس عليها. ولعل منتهى ما يبلغه النقد الأخلاقي الصادر عن هذا العقل هو القول أن الأداة التقنية سلاحٌ ذو حدين فإما أن نحسن توظيفها فنضمن مستقبلا زاهراً، وإما أن نسيء توظيفها فنجني على أنفسنا الهلاك والدمار. فالتقنية ليست أداة محايدة كما يُتصور بقدر ما هي منظومة فلسفية وقيمية مستقلة بذاتها.


في تأملنا النقاش الدائر اليوم عن الذكاء الاصطناعي، نجد أنفسنا أمام خطاب يقوم على أساس التبشير بقدرة الأداة التقنية على تبليغ الإنسانية المدينة الفاضلة الموعودة. ويبدو وكأن هذا الخطاب ينطلق من شعور بضيق ساحة الوجود في الواقع المادي. نقرأ في نهاية كتاب كيسنجر أن "منجزات الذكاء الاصطناعي التقنية سواء في مجال الصحة أو الاقتصاد تعِد بأن تجعل عصر هذا الذكاء عصر وفرة".

من طبيعة هذا الخطاب المبشر بفتوحات التقنية المستقبلية أنه يكتفي بذكر الحلول التي تأتي بها الأداة التقنية ويغض الطرف عما تسببه هذه الأداة من مشاكل وأزمات. فلكل تطور تقني وُجوهٌ يَقْبَح بها مثلما قد يكون له وجوه يَحسن بها. ولعل أفضلَ مثال لتجلية هذا المعنى الثورةُ الصناعية التي طورت قدرة المجتمعات على الإنتاج بالجملة، وطورت قدرتها على الهدم بالجملة كذلك.

ينطبق هذا الخطاب المبشر أيضاً على فتوحات الذكاء الاصطناعي اليوم، إذ يَعِدُ بتطوير القدرة على حل معضلات الوجود في الواقع لكنه يسكت عما يحمله هذا الذكاء من مخاطر قد تنسف أسس هذا الوجود. لذا تبرز الحاجة إلى تفكيك هذا الخطاب الذي يقوم في أصله على مقولة "التقدم"، أي الاعتقاد في أن التطور يقع في التاريخ، وأن ما نستقبله أفضل مما نستدبره. فبهذا المعنى يصبح التاريخُ مجالَ تحقق التطور، ويصبح الواقف على رأس هذا التاريخ سابقاً وغيره مسبوق. هكذا يصبح لزاماً على البشرية اللحاق بمن يقف عند نقطة التطور الأكثر تقدماً في التاريخ.

بهذا المعنى فإن عقيدةَ التقدم والتطور في التاريخ تعبيرٌ عن منطق عقلي إلحاقي، منطق يسعى إلى إخراج العالمين من الواقع المعطى أو المادي بغرض الزج بهم في واقع من صنع عقل الإنسان، أي واقع مُتَوَقّع. ولعل خطاب الذكاء الاصطناعي اليوم يقوم في جوهره على التبشير بواقع مُتوَقّع، مثله مثل باقي خطابات التقدم والتطور.

تنبني فكرة الواقع المُتوَقّع على اعتقاد فكري فلسفي في إمكانية بسط العقل على الواقع أو على الوجود وبسط الصناعة على الطبيعة. حين اشتد الصراع بين فلاسفة اليونان الأوائل حول تحديد معنى الواقع أو حول حقيقة الإخبار عنه، ارتأى أرسطو أن يضع جملة قوانين يحتكم إليها العقلاء في جدلهم عن هذا الواقع. وهكذا كتب "الأورغانون" أو "علم الآلة"، وهو مجموعة كتب أرسطو في المنطق، وسُميت بهذا الاسم لأن المنطق عند أرسطو هو "آلة العلم"، الذي هو استخلاص المبادئ العقلية التي تعصم العقل الإنساني عن الوقوع في الخطأ.

لو قال أحدهم: "إن شيئاً ما موجود وليس موجوداً في نفس الآن"، يمكننا أن نعترض عليه قائلين: "هذا شيء محال لأن الشيء، وفق المبدأ العقلي المسمى مبدأ الثالث المرفوع، لا يمكن أن يكون ولا يكون في نفس الآن".  نلاحظ هنا كيف أصبح الإخبار عن الواقع يُعرَض مع أرسطو على مبادئ "العقل الأداة" كي نحكم على صوابه أو خطئه.

لقد شهدت المرحلة الممتدة من القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن الخامس أو السادس الميلادي نزوعاً واضحاً نحو تغليب "العقل الأداة" في صراع حقيقة الواقع. حتى الثقافة العربية الإسلامية التي تأسست على التفاعل مع الوحي مثلاً، ظلت تتوسل بعلوم الآلة الأرسطية لإقرار الحقائق الذهنية إخباراً عن الواقع. والقول بامتلاك حقيقة الواقع هو قول مُلْزم ليس من الناحية العقلية فحسب، بل من الناحية السياسية أو من ناحية القوة والسلطة كذلك. في تلك المرحلة اتسم الصراع الفكري والسياسي باللجوء إلى "العقل الأداة"، وقد أذكى روحَ هذا الصراع وَهْمُ الاعتقاد في القدرة على الإحاطة بحقيقة الواقع، أو الاعتقاد في القدرة على "بسط العقل على الوجود".

وأما في المرحلة الحديثة، مرحلة "الأورغانون الجديد" (الذي وضعه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون ويعتقد أنه متفوق على الطرق القديمة في القياس المنطقي)، فقد أصبح العقل يتوسل بالآلة لتغيير الواقع، غير مكتفٍ بالإخبار عن هذا الواقع وإقرار الحقائق الذهنية المتعلقة به فحسب. فَبَعْد وَهْم الاعتقاد في القدرة على بسط العقل على الوجود أو الإحاطة العقلية بالواقع، دخلنا عصر المرحلة الصناعية التي ساد فيها وَهم الاعتقاد في القدرة على "بسط الصناعة على الطبيعة". ويساوق هذا الاعتقاد خطاب حالمٌ يبشر بواقع مُتحكَّم فيه آلياً.

لكن وبعد مرور قرون على الثورة الصناعية التي انطلقت في القرن الثامن عشر، اتضح أن البشرية لم تبلغ مجتمع المدينة الفاضلة الموعودة. فقد أفضى التوسل بالآلة والصناعة لبسط النفوذ على الواقع الطبيعي إلى كوارث بيئية ومشاكل تستعصي على الحل. صحيح أن الحضارة المعاصرة أصبحت تُوفّر بفضل الصناعة وسائل جديدة تُسْعِف في تحريك رحى المعيشة. لكن لا يقل صحة أن وفرة هذه الوسائل وَرّثَت البشرية اليوم من القلق وضنك العيش أكثر مما وفرت لها وسائل التنعم والاستقرار في الطبيعة. يكفي التأمل في حركة المرور التي تشهدها الطرق السيارة ونقاط الدخول والخروج من المدن الكبرى الحديثة كي ندرك وجهاً من وجوه الأزمة التي تعاني منها المجتمعات في الحقبة الحديثة.

أمام استفحال الأزمات التي كانت نتيجة محاولة بسط الصناعة على الطبيعة، برزت إلى الوجود منظومات فكرية وفلسفات ينشد أصحابها سبل الخروج من مضايق المجتمعات الحديثة. تعج ساحة الإبداع الفكري والفلسفي بمقولات وأراء كثيرة تحاول استشراف واقع آخر يكون أنسب لحياة الإنسان مِن واقع المدينة الحديثة البائس. من يقرأ "الأرض اليباب" للشاعر الأمريكي توماس ستيرنز إليوت يشعر بأزمة الإنسان الحديث الفكرية والوجودية. هناك كتابات أخرى تذهب نفس الاتجاه، وتوضح كيف أضحت المدينة الفاضلة الموعودة فضاء رذيلة يبتعد فيه الإنسان عن البطولة الأخلاقية أو الفكرية.

إذا كان أصحاب هذه الكتابات ينطلقون من نقد مجتمع الحداثة الصناعي وهم ينشدون تجديد الصلة بالطبيعة مَخْرَجاً من الأزمة، فإن آخرين يصدرون عن اعتقاد راسخ في فكرة التقدم والتطور. فينشدون مزيداً من الصناعة لإخراج المجتمعات من المشاكل التي نتجت عن التصنيع، أي ينشدون حلولاً من الأداة التي أنتجت المشاكل. يمكننا في هذا الإطار الإحالة على رواد ما يعرف بالتفاؤل التقني من أمثال مؤسس شركة "أبل" الراحل ستيف جوبز ومؤسس شركة "تيسلا" إيلون ماسك وعالم الحاسوب مارك أندريسن، وعلى فلاسفة ومنظرين اقترن عندهم التفكير في المستقبل بالتحكم الآلي في الطبيعة ويأتي على رأسهم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت.

تعد مرحلة ما بعد الحداثة التي نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين، مرحلة مفصلية في تاريخ العالم الحديث الواقعِ تحت إمرة الغرب. لقد شهدت هذه المرحلة انهيار اليقينيات، بما في ذلك فكرة اليقين الرياضي الذي بشر بها أبو الفكر الحداثي ديكارت، وفي هذه الفكرة فإن البداهة والمنطق الفطري هي المنطلق في قياس الواقع. فأمام هذا الانهيار انقسم الغرب على ذاته بين من يتمسك بعقيدة التقدم والتطور وهو يجد ضالته في الذكاء الاصطناعي، وبين من يعلن إفلاس المشروع الحضاري الغربي وينشد الوقوف على أرضية مفاهيم جديدة.

يتحدث الكاتب والشاعر الأسكتلندي كينيث وايت عن طبيعة الأزمة وسبل تجاوزها قائلاً: "لقد أصبح الرهان اليوم على شيء يتجاوز الأورغانون الأرسطي، وأورغانون فرنسيس بيكون الجديد، وصرنا نستشرف أورغانون اليوم والغد، أورغانوناً ذا طبيعة كونية شاعرية".

يمثل وايت تياراً يرى في تجديد الحس اللغوي وتوثيق صلة الإنسان بالكلام وسيلة لإعادة ربط هذا الإنسان بالكون. الكائن البياني يستطيع وحده أن يدرك حدود الذات في هذا الكون الشاسع فيعمل بمقتضى هذا الإدراك، أي ينأى بنفسه عن محاولة بسط العقل على الوجود، أو بسط الصناعة على الطبيعة. الكائن البياني دائم الصلة بالكون الفسيح، ودوام هذه الصلة يصرف عقله ناحية الوصف الشعري للواقع الكوني المتقلب، ويصرفه نحو البحث عن سبل التأقلم والتعايش داخل هذا الواقع.

وعلى النقيض من هذا التيار نجد تياراً آخر ينطلق في طلبه الخروج من الأزمة من منطلق الاعتقاد في إمكانية بسط العقل على الوجود، وبسط الصناعة على الطبيعة. يندرج الاشتغال بالذكاء الاصطناعي والتبشير بقدراته الخارقة في هذا الإطار. بعد الأورغانون الأرسطي وأورغانون فرنسيس بيكون الجديد، نحن اليوم أمام أورغانون لا يهتم بالإخبار عن ماهية الواقع وحقيقته، ولا يهتم بفرض الصناعة على الطبيعة، بقدر ما يهتم بصناعة الواقع وبرمجته.


في عصر الذكاء الاصطناعي يبلغ الفكر الغربي المنتهى في فك الارتباط بالواقع المعطى، وربط العقل بالواقع المُتوَقّع. عند التمحيص يمكن القول بأن عصر الذكاء الاصطناعي هو عصر تنقطع فيه صلة الإنسان بالحس الطبيعي وتتوطد علاقة هذا الإنسان بأمكنة افتراضية يستحيل بلوغها دون توسط الأداة التقنية. يكفي أن نتأمل مشروع "ميتافيرس"، وهو بيئة افتراضية يولدها الحاسوب ويتفاعل فيها الناس مع بعضهم بعضاً، كي ندرك كيف صار المقصدُ وراء الاشتغال بالذكاء التقني تكثيفَ شعور الإنسان بالوجود في أماكن أخرى، عوض تكثيف شعوره بالوجود في المكان الطبيعي، موطن الكائن.

بهذا المعنى يمثل الذكاء الاصطناعي ذروة الفكر المثالي. حين نتأمل لفظة "المدينة الفاضلة"، أو "اليوتوبيا" في أصلها اليوناني، نجدها تعني حرفياً: اللامكان. فمعنى المدينة الفاضلة ينصرف للدلالة على فضاء مقطوع الصلة بالوجود كما ندركه ونتفاعل معه بحواسنا. عند التحقيق نجد أن الذكاء الاصطناعي يقطع صلاتنا الحسية بالواقع كي يلقي بنا في واقع لا نشعر به إلا عبر توسط الأداة التقنية.

لقد أدخل الذكاء الاصطناعي الإنسان مرحلة أصبح عندها عاجزاً عن معرفة مآلات الأشياء بناء على فهمه أو تمثله الواقع. لم تعد التجربة الحسية معبراً لإدراك العوالم العقلية، أو لم تعد "الحسيات معابر للعقليات" كما يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه "المقابسات". يجلي لنا مثال ألفا زيرو (برنامج الحاسوب المطور والمتقن لعبة الشطرنج) الحدود التي يتوقف عندها العقل الطبيعي في تمثله الواقع وتوقعه المآلات، في مقابل الذكاء الاصطناعي الذي أصبح يعلم ما لا يعلم الإنسان، كما يورد كيسنجر في كتابه "عصر الذكاء الاصطناعي"،. فبينما يرى كاسباروف بطل العالم في لعبة الشطرنج أن التضحية بالملكة في بداية المباراة خسارة مؤكدة، يرى العقل المدعوم بالذكاء الاصطناعي مآلات أخرى ممكنة، فيتحقق له النصر على هذا البطل رغم التضحية بالملكة.

ومن هنا يبدو كأن الإنسان أصبح في علاقته مع الذكاء الاصطناعي، كما هو في علاقته مع الله في الأديان السماوية، يُسلّم بأن الخير والشر هو ما يراه هذا الذكاء الاصطناعي لا ما يراه هو. إلا أن هناك خيطاً رفيعاً بين التسليم الذي ينبع من الإيمان بالغيب الديني والتسليم الذي ينبع من الإيمان بقدرة الآلة على التوقع. إن التسليم بقدرة الخالق على معرفة المآلات التي لا يراها المخلوق لا يُورِّث يقينا، بل يُورّث تواضعاً. فالعاقل المتدين يدرك، كما يأتي على لسان ابن حزم الأندلسي في رسائله، أن أكثر ما يقع لا يُتَوَقّع وأن الحزم هو التأهب لما يُظنّ أنه سيقع. تُدخِل هذه المقولة فعلَ التوقع في دائرة الظن. بينما التسليم بقدرة الذكاء الاصطناعي على معرفة المآلات هو تسليم يَدخل في حكم اليقين. فالإنسان يستعمل الآلة التقنية لبرمجة الواقع، واقع تُعْلمُ مدخلاته وتُتوَقّع مخرجاتُه. حتى صار يظن أن هذا الواقع لا يَقَع بل يُتَوقّع. فلا جدال في أن هِمَم المُبَرْمِجين أصبحت اليوم منصرفة لتوسيع مجال التوقع وأن هدفهم المضمر والمعلن هو بلوغ عالم تمّحي فيه الصدفة، أي مستقبل مبرمج يُتحكم في مآلاته.

عند التأمل، نجد أن الخطاب المبشر بفتوحات الذكاء الاصطناعي هو من جنس الخطاب المثالي الذي ظل على امتداد التاريخ الغربي يضع الفكر قبل الوجود ويؤمن بقدرة العقل على التحكم في هذا الوجود وقدرة الصناعة على محق الصدفة والتحكم في الطبيعة. وهذا الخطاب، إذ يُعدد مغانم الاشتغال بالذكاء الاصطناعي ويُحصي فوائده، يغفل ما يستصحبه هذا الذكاء من مغارم وأضرار.

على قدر إرادة التحكم في الواقع قد تأتي الرزايا والكوارث. لنا مثال في ما أحدثه الإنسان من اختلال في التوازن البيئي بفعل اجتهاداته العلمية. لقد أدى استعمال بعض الأدوية المبيدة الأعشاب الضارة إلى كوارث، مثل انقراض القنفذ في بعض الأماكن في محيط البحر الأبيض المتوسط. وفي انقراض هذا المخلوق الصغير ما يهدد بنسف التوازن القائم في محيط وجوده، ذلك أن في انقراضه سيزيد عدد الأفاعي، وفي زيادة عدد الأفاعي سينقص عدد الطيور، وفي نقصان عدد الطيور يزيد عدد الحشرات. مَحق الإنسان نبتة بالمبيدات الحشرية وهو يجهل أن في هذه النبتة يوجد الترياق الذي يقي القنفذ من الهلاك بعد أكله الأفاعي.


مع تأثيراته المذهلة في حياة الناس، يظل الذكاء الاصطناعي ضرباً من الصناعة التي تحتاج إلى ضوابط أخلاقية تملي مقاصد الاشتغال بها حتى لا تصير إلى جلب المضرة أقرب منها إلى جلب المصلحة. ولعل أخطر ما يهدد الأجيال الصاعدة ممن ترعرعوا في حضن الثقافة الرقمية هو آفة الاكتفاء بالعيش داخل عوالم التوقع ذات البعد الواحد، والاستغلاق عن التفاعل مع عوالم ملكوت السماوات والأرض الفسيحة، تأملا وتدبراً. ويظل الدين بمعناه العام، منظومة اعتقاد تربط الإنسان بالغيب أو بواقع غير متوقع، ضرورياً لتوليد الأخلاق التي تضبط ضروب الكسب والصناعة، ومنها الذكاء الاصطناعي، هذه الآلة العقلية الجديدة التي يتوسل بها الإنسان اليوم قصد البقاء على الحياة. ونرى أن الدين يورث الإنسان شعوراً قوياً بأن "أكثر ما يقع لا يتوقع"، وأن كل العلوم العقلية والصناعات تدخل في عداد ما يتوسل به الإنسان للتأهب لما يُظن أنه سيقع. ومن هذا المنطلق لا يجتهد الإنسان من أجل بلوغ مقصد التحكم في الواقع، بقدر ما يجتهد من أجل توظيف العقل والصناعة لبلوغ المتاع والاستقرار في الواقع الكوني المعطى.

وإن كان الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة غير مسبوقة في توظيف العقل من أجل إخضاع الواقع فإنه يظل قاصراً عن الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى. وأما الخطاب المبشر بفتوحات هذا العقل فهو نفسه الخطاب الذي ظل على امتداد التاريخ يضع الوجود المعطى محط تساؤل. محاولة لتأسيس وجود آخر يتحكم فيه الإنسان تحكم الله في الوجود الموهوب. إنه نفس الهروب إلى الأمام الذي ظل يمثل جوهر الفكر الغربي منذ أكثر من ألفي سنة.

اشترك في نشرتنا البريدية