أطلق سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024 مرحلةً انتقالية في سوريا، فبرزت أهمية التعامل مع الأرشيفات الأمنية لأنها أداةٌ حاسمةٌ لكشف مصير قرابة مئة وخمسة عشر ألف مختفٍ قسرياً، ولتحديد المسؤولين عن هذه الجرائم. ورغم الآمال المعقودة على هذه الوثائق لإنصاف الضحايا وتقديم الحقيقة لعائلاتهم، تبرز في المقابل تحديات قانونية وأخلاقية معقدة. قد يؤدي العبث في هذه الوثائق والاستخدام العشوائي لها إلى تأجيج مشاعر الضحايا وتهديد خصوصية الأفراد أو إشعال نزعات الانتقام في مجتمعٍ منهكٍ بفعل سنوات النزاع المسلح والانقسامات الطائفية. تزداد هذه المخاوف أهمية بعد التقارير الحقوقية التي تُحذر من فقدان أدلة مراكز الاحتجاز، وتشدد على ضرورة تنظيم الوصول إلى مواقع الجريمة بما يضمن حماية حقوق الضحايا وعدم ضياع الأدلة.
سبقتْ الحالةَ السوريةَ تجاربُ دولية مشابهة، مثل تجربة أرشيف "شتازي" في ألمانيا الشرقية ولجان الحقيقة والمصالحة في أمريكا اللاتينية، يمكنهما تقديم دروس قابلة للتطبيق في السياق السوري. ومع الفوضى التي رافقت عملية الكشف عن الوثائق ومواقع الجريمة في سوريا، تتأكد الحاجة العملية لتطوير إطارٍ مستدامٍ لإدارة الأرشيفات الأمنية السورية بهدف الحفاظ على الوثائق وحمايتها من الإتلاف، مع ضمان استخدامها في خدمة العدالة، وتجنب أي تصعيدٍ جديدٍ للاحتقان والعنف في المرحلة الانتقالية المقبلة.
كانت هذه الأرشيفات دعامةً رئيسةً لدولة القمع، إذ مكنت السلطاتِ من رصد خصومها السياسيين وتعزيز أدوات الضبط الاجتماعي وترسيخ حالة الخوف والترهيب لضمان السيطرة. أظهرت تجارب عدة، مثل تجربة جهاز "شتازي" في ألمانيا الشرقية أو شرطة الدولة السرية في أوروبا الشرقية، كيف تحوّلت هذه السجلات إلى أدوات تخويف وتجريم تجعل المواطن يعيش تحت رقابةٍ دائمة.
حقوقياً، تُعَدّ هذه الأرشيفات نماذجَ لانتهاكات منهجية لحقوق الإنسان في الأنظمة المستبدة، إذ إن حجم المراقبة وغياب أي رقابة قضائية مستقلة على أنشطة الاستخبارات أفسح المجال أمام انتهاكاتٍ جسيمة مثل التعذيب والإخفاء القسري. وكشفت التجربة التاريخية أن هذه السجلات لم تُستخدم فقط في بناء "القضايا" ضد المعارضين، بل استُغلّتْ أيضاً لترويع المجتمع بتسريب معلوماتٍ مختارة أو التهديد بكشف بياناتٍ شخصية. فأصبحت الأرشيفات الأمنية أداةً تجمع بين الوظيفة الاستخباراتية القمعية والدور السياسي الذي يستهدف تكريس سلطة النظام وإضعاف أي محاولةٍ للتغيير.
تتضاعف الآثار السلبية لهذه الأرشيفات بفعل التعتيم المُحكم الذي يحيط بها، فنادراً ما تخضع لرقابةٍ تشريعية أو قضائية جادة. وفي سياقات النزاعات الداخلية والحروب الأهلية، قد تتحوّل هذه الوثائق إلى أدواتٍ بِيد أطراف الصراع تُستغلّ لتصفية الحسابات أو تبرير الانتهاكات، ما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع وزيادة مدة النزاع. ومع التطور التدريجي للمعايير الدولية التي تشدد على أهمية الحفاظ على الوثائق واحترام الخصوصية، إلا أن تطبيق هذه المعايير يبقى تحدياً كبيراً، خاصةً في البيئات غير المستقرة أمنياً.
المبدأُ الأول والأهم في مسار العدالة الانتقالية هو المساءلة، لأنها تضع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تحت مجهر التحقيق والمحاسبة. يشمل ذلك تقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة عبر المحاكم أو لجان الحقيقة والمصالحة. وبالكشف عن وثائق أجهزة المخابرات وملفات التحقيق السرية، يمكن تتبُّع المسؤولين عن هذه الانتهاكات وضمان محاسبتهم أمام الهيئات المختصة. تؤكد تايتل أهمية تزويد هذه العملية بأدواتِ إثباتٍ فعّالة، بما في ذلك الوثائق الأمنية التي تحوي أدلةً واضحة على تورُّط أفراد بعينهم.
المبدأ الثاني هو معرفة الحقيقة، لترسيخ حقّ الضحايا والمجتمع بأسره في معرفة حقائق الانتهاكات التي وقعت في حقبة الحكم الاستبدادي أو النزاع المسلح. وتُعد أرشيفات المخابرات، في السياق السوري مثلاً، أداةً أساسيةً لكشف مصير المفقودين والمختفين قسرياً وتحديد أماكن احتجازهم أو أماكن دفنهم. يُسهم هذا الكشف في تهدئة غضب المجتمع وطمأنة ذوي الضحايا وتوفير أرضية صلبة لأي عملية مصالحة وطنية محتملة. ويساعد في وضع حدٍّ للشائعات والاتهامات غير الموثوقة، بتقديم رواية دقيقة مبنية على الأدلة.
المبدأ الثالث هو جبر الضرر، وهو المعنيّ بتعويض الضحايا وذويهم عمّا أصابهم من أضرارٍ مادية ونفسية جسيمة. وتتنوّع آليات جبر الضرر لتشمل التعويض المالي وتقديم الخدمات الطبية والنفسية والاعتذار الرسمي واستعادة الكرامة وإعادة التأهيل الاجتماعي للضحايا. تمكّن وثائق المخابرات من توثيق طبيعة الانتهاكات وحجمها، مثل أساليب التعذيب ومدة الاحتجاز، وهو ما يُساعد في تحديد ماهية التدابير التعويضية المناسبة.
المبدأ الرابع هو الإصلاح المؤسسي، ويشمل إجراء تغييرات كبيرة في المؤسسات المتورطة في الانتهاكات، لضمان عدم تكرارها في المستقبل. ويُعد إصلاح أجهزة المخابرات من أولويات العدالة الانتقالية في الأنظمة الاستبدادية. يتطلب ذلك إعادة هيكلة القوانين الناظمة لعمل هذه الأجهزة، وضمان خضوعها للمساءلة القضائية والرقابة البرلمانية. وتُسهم مراجعة الأرشيفات الأمنية في تحديد الأنماط المؤسساتية التي سمحت بانتشار الانتهاكات، ما يتيح فرصة معالجتها بفعالية.
تعالج العدالة الانتقالية وثائق أجهزة المخابرات بعدة مبادئ عملية. الأول إتاحة الأرشيفات قانونياً وبتنظيمٍ يُمَكّن لجان التحقيق والقضاء من فحصها دون التسبب في فوضى أو انتهاك الخصوصية. والثاني إشراك الضحايا وإطلاعهم على الأدلة والوثائق التي تؤكد الانتهاكات التي تعرضوا لها، ما يُعزز ثقتهم بالمؤسسات الناشئة. والثالث تحقيق التوازن بين الكشف والخصوصية بوضع تشريعات تنظم الوصول إلى المعلومات بما يضمن حفظ السلم الأهلي ومنع استغلال الوثائق بما يضر بالعدالة.
مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بدأت ملامح النظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية بالتفكك حتى بلغ ذلك ذروته بسقوط جدار برلين سنة 1989، وهو ما مثّل نقطة تحول في تاريخ الانقسام السياسي والجغرافي للبلاد. أدت هذه الأحداث إلى تسارع عملية التحول الديمقراطي وتوحيد ألمانيا سنة 1990. ومع اختفاء النظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية أُثيرت تساؤلاتٌ كبيرة عن مصير الأرشيف الضخم الذي خلّفه جهاز شتازي والذي احتوى على معلوماتٍ تخصّ ملايين الأفراد داخل البلاد وخارجها.
بعد إعادة توحيد ألمانيا، أصبحت معالجة إرث القمع أولوية. وسَعَتْ السلطات الألمانية إلى إدارة إرث شتازي بتنظيمٍ أسفر عن إقرار قانون سجلات شتازي سنة 1991. استهدف هذا القانون تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية، أهمها حفظ السجلات ومنع إتلافها لضمان بقاء أرشيف شتازي وثيقةً تاريخيةً ذات قيمة للضحايا والباحثين. وإتاحة الاطلاع المنظم عبر منح الأفراد الحق في الوصول إلى ملفاتهم الشخصية التي جمعها شتازي تأكيداً لمبدأ "الحق في المعرفة". وحماية البيانات الشخصية بتطبيق ضوابط صارمة تمنع الكشف العشوائي عن المعلومات الخاصة وتحظر استخدام الوثائق للابتزاز أو الثأر. وتحقيق إدارة مستقلة للأرشيف، إذ أنشئ مكتب المفوض الاتحادي لسجلات أمن الدولة السابق في ألمانيا الشرقية، وهو الجهة المسؤولة عن إدارة السجلات ومعالجة طلبات الاطلاع تحت رقابة قانونية وسياسية تضمن الشفافية.
أتاح القانون للضحايا فرصة الاطلاع على ملفاتهم الشخصية، ومعرفة الجُناة الذين شاركوا في مراقبتهم أو التجسس عليهم، سواء كانوا ضباطاً رسميين في شتازي أو مُخبرين سريّين. ومع ذلك، فرض القانون قيوداً صارمة على الاطلاع على بعض المعلومات التي قد تهدد سلامة الأفراد أو تؤدي إلى انتهاكات الخصوصية.
طرحت هذه التجربة أثر كشف الحقيقة على السلم الاجتماعي ودوره في تمكين العدالة الانتقالية. ومن الإيجابيات التي حققتها إثبات المساءلة والحق في الحقيقة، إذ أتاح القانون لآلاف الضحايا الاطلاع على الملفات التي توثق انتهاكات شتازي بحقهم. وقد مكّن ذلك الأفرادَ من توثيق المضايقات التي تعرضوا لها فشعروا بتحقق العدالة والمساءلة، وتعززت المصالحة الوطنية. فقد ساهم الكشف المنتظم عن الوثائق في تقليل التوترات الاجتماعية لأن المصالحة بين الضحايا والجناة اعتمدت على حقائق موثقة بدلاً من الشائعات أو الاتهامات المتبادلة. يضاف إلى ذلك الاستفادة الأكاديمية والتاريخية التي قدّمها أرشيف شتازي الذي بات مصدراً غنياً للباحثين في مجالات التاريخ والعلوم السياسية والاجتماعية، مما ساعد في تفكيك بنية الأنظمة الشمولية وفهم آلياتها الأمنية.
أما سلبيات هذه التجربة فمنها تغذية الاضطرابات النفسية والاجتماعية بعد اكتشاف بعض الأفراد ضلوع أصدقائهم أو أفراد عائلاتهم في التجسس عليهم. كذلك نشأ عن التجربة انقسامات اجتماعية وعائلية، وتوظيف المعلومات للنيل من الخصوم السياسيين في المراحل الأولى من توحيد ألمانيا. ومن السلبيات اقتصار المحاسبة الجنائية على عدد قليل من المسؤولين في نظام ألمانيا الشرقية، مع أن الملفات المكشوفة كبيرة وواسعة، لكن النهج الألماني ركّز على المصالحة والاعتراف الأخلاقي بالتجاوزات.
أثناء حقبة "الحرب القذرة" بين عامَي 1976 و1983، وهي فترة من الإرهاب الحكومي في ظلّ الدكتاتورية العسكرية المعروفة باسم "عملية إعادة التنظيم الوطني"، شهدت الأرجنتين انتهاكات واسعة النطاق شملت الإخفاء القسري والتعذيب لآلاف الضحايا. مع سقوط النظام العسكري وعودة الحكم المدني، أنشأت الحكومة سنة 1983 لجنة الحقيقة الوطنية. أصدرت اللجنة تقريرها الشهير بعنوان "لن يتكرر أبداً" الذي وثّق الانتهاكات وسلّط الضوء على حجم الجرائم. واعتمد عمل اللجنة على ثلاث ركائز. الركيزة الأولى هي جمع الأرشيفات، وقد استعانت اللجنة بالوثائق العسكرية والاستخباراتية التي أصبحت متاحة بعد سقوط النظام، إلى جانب إفادات الشهود وأسر الضحايا لتعزيز مصداقية تحقيقاتها. والركيزة الثانية كانت تحديد المسؤوليات، إذ وفّرت هذه الوثائق أدلة دامغة على تورط مسؤولين عسكريين وأمنيين في الإخفاء القسري والتعذيب، ما أدى إلى محاكمات تاريخية طالت قادة المجلس العسكري. أما الركيزة الثالثة فهي التوثيق والمصالحة، وقد ساعدت اللجنةُ في بناء رواية موثوقة عن الانتهاكات، ما أسهم في فتح حوارٍ مجتمعي عن قضايا جبر الضرر وإعادة بناء الثقة بين الأطراف.
شهدت تشيلي، تحت حكم الجنرال أوغستو بينوشيه بين سنتَي 1973 و1990، موجةً من الانتهاكات التي شملت الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري والقتل والتعذيب. في سنة 1990، نفذت تشيلي نهجاً تدريجياً للعدالة الانتقالية عبر لجنتين رئيستين للحقيقة: لجنة ريتيج المهتمة بالحقيقة والمصالحة، ولجنة فاليتش المهتمة بالسجن السياسي والتعذيب.
اتخذت اللجان مقاربة مرحلية للأرشيفات، فقد واجهت صعوبات في الوصول إلى الأرشيفات الأمنية بسبب الضمانات القانونية التي أقرّها النظام السابق، إضافةً إلى أهمية المعلومات الواردة فيها. إلا أنها اعتمدت على تقارير طبية وقضائية وشهادات الضحايا لتعويض هذا النقص. ثم بَنَت اللجان روايةً للحقائق، فقد أصدرت تقريراً وثّق جرائم القتل والإخفاء القسري، وأقرّ بمسؤولية الدولة عن الانتهاكات. ورغم عدم ذكر أسماء جميع الجناة، فقد استُخدمت نتائج التقرير قاعدةً لتقديم دعاوى قانونية لاحقاً.
ساهمت التقارير في الإصلاح المؤسساتي، فقد دفعت نتائج اللجان نحو إصلاحٍ محدود لأجهزة الأمن والشرطة، مع استمرار نفوذ بعض رموز النظام السابق داخل مؤسسات الدولة.
وفي تشيلي، رغم التردد الأولي في الكشف الكامل عن الأرشيفات بحجة "الأمن القومي"، مكّنت الوثائق المتاحة عائلات الضحايا من تقديم دعاوى قانونية محلية ودولية، ما أسفر عن إجراءات قضائية طالت بينوشيه نفسه في أواخر التسعينيات.
عزَّزت لجان الحقيقة في البلدين قيمة توظيف الوثائق الأمنية في كتابة "الرواية الرسمية" عن سنوات القمع، ما ساعد المجتمعات المحلية في التعامل مع الماضي على أسسٍ موثوقة. وشجَّع تسليم الوثائق إلى مؤسسات الأرشفة الوطنية والجامعات على استخدامها في الأبحاث الأكاديمية والتثقيف العام، ما رسَّخ الوعي بالانتهاكات ومنع تكرارها.
اضطرّت السلطات القضائية إلى تطوير آلياتٍ جديدةٍ للتعامل مع ملفات المخابرات التي لم تكن مصمَّمة للإفصاح العلني، وابتكار تكييفٍ قانوني للأدلة المستخرجة من هذه الوثائق. مكَّن ذلك من تطويق "فراغ المساءلة" الذي خلّفته قوانين العفو السياسي، فانبثقت بعض الاجتهادات القضائية التي اعتبرت جرائم الإخفاء القسري جرائم مستمرة لا تسقط بالتقادم، وهو ما نفع الضحايا.
انهار النظام البعثي بعد فوضى أمنية وسياسية، ما أتاح لجهاتٍ متباينة السيطرة على الأرشيفات الأمنية. فقد استحوذت بعض الأحزاب والفرق العسكرية على أجزاء من الوثائق، بينما نُقل جزءٌ كبير منها إلى الولايات المتحدة لتحليلها ضمن عمليات التحقيق الاستخباراتي. أَضعف هذا التشتت القدرة على تشكيل صورةٍ شاملة عن آليات القمع وتوثيق الانتهاكات، ما أعاق مساءلة المسؤولين عنها.
وفي ظلّ غياب مؤسسات قوية وسيادة قانون فعالة، استُخدمت بعض الوثائق المُسربة لتصفية حسابات سياسية وطائفية. وبحسب تقارير حقوقية، كُشف انتقائياً عن أجزاء محددة بهدف تشويه سمعة خصوم سياسيين أو تبرير قرارات إقصائية، كإجراءات "اجتثاث البعث". هذا الاستخدام الانتقائي للوثائق أضرّ بمصداقية العملية الانتقالية وعرقل جهود بناء الثقة المجتمعية.
مع إنشاء مؤسسات مثل هيئة اجتثاث البعث، التي أصبحت لاحقاً هيئة المساءلة والعدالة، كانت الدولة تفتقر إلى منهجيةٍ متكاملة للتعامل مع الأرشيفات الأمنية. ركزت السياسات على إقصاء البعثيين إدارياً، بلا استثمار كافٍ في توثيق الانتهاكات أو توفير أساس قانوني متين للملاحقات القضائية. ولم تُخصص الموارد اللازمة لتعويض الضحايا أو إنشاء لجان تحقيق مستقلة للتعامل مع هذه الوثائق بعدلٍ وشفافية.
أصبحت الحالة العراقية مثالاً على مخاطر تسييس الأرشيفات الأمنية بدل توظيفها أداةً قانونية وأخلاقية لتحقيق العدالة وكشف الحقيقة. فقد ظلت آلاف الوثائق أسيرة التشتت بين مؤسسات رسميةٍ وغير رسميةٍ، ما حال دون استخدامها في دعم مسار عدالةٍ انتقاليةٍ مبنيّ على أسسٍ شفافة ومُنصفة. بدلاً من ذلك، وُظفتْ هذه الوثائق في بعض الأحيان لمآرب انتقامية أو إقصائية، ما زاد من عمق الانقسامات الطائفية والسياسية.
يُعدّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إطاراً رئيساً يُلزم الدول بضمان حقوق الأفراد، بما في ذلك معالجة انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالأرشيفات الأمنية والمقابر الجماعية. تكلمت المادة الثانية عن وجوب توفيق سبل الانتصاف الفعالة، والتي تلزم الدول بضمان تظلم فعال لكل من تعرض لانتهاك حقوقه، مع حفظ الأدلة وإتاحتها أمام لجان التحقيق والمحاكم المختصة. يتطلب ذلك الحفاظ على الوثائق الأمنية وملفات التحقيق السرية، واستخدامها لتقديم تعويضات عادلة تعترف بكرامة الضحايا.
وتنص المادة السادسة على الحق في الحياة، وتُلزم الدول بالتحقيق في حالات الحرمان التعسفي من الحياة، وباتخاذ إجراءات لإنصاف الضحايا وجبر الضرر. ففي حال وجود أدلة في الأرشيفات أو المقابر الجماعية تشير إلى وقوع انتهاكات، يصبح الكشف عنها واجباً قانونياً وأخلاقياً لتحقيق حق الضحايا أو ذويهم في الوصول إلى الحقيقة والإنصاف.
وتنص المادة السابعة على حظر التعذيب والمعاملة القاسية أو الخالية من الإنسانية فيُحظر التعذيب بجميع أشكاله، حتى في حالات الطوارئ، وعلى الدول واجب التحقيق في هذه الجرائم. تساهم الأرشيفات الأمنية في الكشف عن أنماط التعذيب وأطرافه، ما يجعل الحفاظ عليها ضرورياً لدعم المساءلة القضائية.
في سياقات النزاعات المسلحة أو الأنظمة الاستبدادية يصبح الحفاظ على الأدلة، بما فيها الأرشيفات والمقابر الجماعية، واجباً دولياً وفقًا للمبادئ المحدثة الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. تتضمن هذه المبادئ مبدأ الحفاظ على الأدلة، الذي يؤكد أن إخفاء الوثائق أو تدميرها يُعدّ عائقاً أمام تحقيق العدالة ويُسهم في الإفلات من العقاب. لذا تتحمل الدول مسؤولية حماية الأرشيفات الأمنية ومواقع المقابر الجماعية من العبث أو التخريب. تتضمن المبادئ المحدثة أيضاً مبدأ استمرار التحقيق والمحاسبة، وهو يشدد على أن أي تغييرات سياسية أو تشريعية لا تُسقط واجب التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
الكشف المنظم عن الوثائق الأمنية والمقابر الجماعية يدعم الملاحقات الجنائية والعدالة الانتقالية، ولا غنى عنها أدلةً جنائية لتحديد هوية الضحايا وكشف ملابسات وفاتهم. تُلزم الدول والمنظمات الدولية والاتفاقات التي تضمن حماية المواقع والأدلة الأحيائية والوثائقية بإجراء تحقيقات شفافة وحيادية.
تؤكد "مبادئ الأمم المتحدة لمكافحة الإفلات من العقاب" ضرورة الحفاظ على الأرشيفات أدلةً تُسهم في تحقيق العدالة، وتتفق المبادئ الدولية، مثل "المبادئ التوجيهية الخاصة بحماية البيانات" الصادرة عن مجلس أوروبا، مع ضرورة منع نشر البيانات التي لا تخدم مقتضيات العدالة.
يُعدّ العبث بمسرح الجريمة جريمةً جنائيةً خطيرة في العديد من الأنظمة القانونية حول العالم، قد تصل عقوبتها إلى السجن عشرين سنة. تعتمد بعض الدول قوانين لحرية المعلومات مع استثناءاتٍ لحجب البيانات التي قد تهدد حياة الأفراد أو سلامتهم. في سياقات العدالة الانتقالية، تُتيح هذه التشريعات تنظيم تبادل الوثائق بين المؤسسات القضائية ولجان الحقيقة، مع ضمان حق الضحايا في الوصول إلى الوثائق المرتبطة بانتهاكات جسيمة.
يُفترض تبنّي اتفاقيات مؤسسية واضحة لحماية البيانات تتضمن تحديد فئات المستخدمين مثل القضاة ولجان التحقيق والضحايا أنفسهم، واستخدام آليات الترميز والتخزين الآمن لضمان عدم وصول غير المصرح به، وإتلاف المعلومات غير المرتبطة بالانتهاكات منعاً للضرر النفسي أو المعنوي للأفراد المذكورين.
إلى جانب التحديات القانونية، تبرز مخاوف أمنية واجتماعية مرتبطة بإمكانية استغلال الوثائق لكشف هوية الضباط أو المخبرين الذين شاركوا في القمع. قد يؤدي ذلك إلى موجات انتقامية تشمل العنف المجتمعي أو الاغتيالات، خاصة في بيئات تشهد توتراً سياسياً أو طائفياً.
تعترف دراسات العدالة الانتقالية أن الكشف غير المنضبط للأسماء والوثائق قد يُفسَّر على أنه استهداف مباشر، مما يهدد المصالحة ويُضعف بناء الثقة المجتمعية. وتوصي الدراسات باستخدام نهج تدريجي في الكشف، فتُفصح الأسماء فقط عندما تكون الحاجة القضائية أو التحقيقية مُلحة، مع توفير الحماية القانونية للأشخاص المعنيين.
يمكن لهيئات مستقلة إنشاء برامج لحماية الشهود أو المهددين، مثل تغيير الهويات أو تأمين انتقالهم إلى مواقع آمنة، وفي بعض الحالات قد توفر الدول حماية مؤقتة للأفراد المهددين حتى اكتمال المحاكمات.
الحق في الحقيقة من المبادئ المحورية في العدالة الانتقالية، وقد ركّزت عليه لجان الحقيقة والمصالحة في بلدان عدّة منها الأرجنتين وتشيلي. ويُسهِم الكشف المنتظم عن المعلومات في ردّ الاعتبار لذوي المفقودين ووضع حدٍّ للشائعات أو المعلومات المُضلِّلة. في المقابل قد يؤدي نشر الوثائق الواسع وغير المدروس إلى زعزعة الاستقرار في المجتمعات المنقسمة، مما يزيد من احتمالية الانتقام أو العنف الطائفي.
ثمة معايير محددة للإفصاح التدريجي للموازنة بين هذه التحديات، في مقدمتها الكشف المرحلي والمنظم. يُوصى بتحديد فئات مخصصة للوصول إلى المعلومات الحساسة (مثل القضاة أو لجان الحقيقة)، على أن يُفتح المجال لاحقاً للجمهور بما يراعي سلامة الأفراد.
والمعيار الثاني هو التأهيل النفسي والاجتماعي للضحايا، فقد تُعيد بيانات الاختفاء القسري أو التعذيب صدمة الضحايا إلى السطح. لذلك، من الضروري توفير دعم نفسي واجتماعي موازٍ لعمليات الكشف، وتبرز أهمية وجود مؤسسات مختصة تعمل بالتوازي مع لجان الحقيقة لتقديم الرعاية النفسية والتثقيف القانوني.
والمعيار الثالث هو دور لجان الحقيقة والمصالحة في الإفصاح المرحلي المدروس، فقد اعتمدت جنوب إفريقيا ودول في أمريكا اللاتينية جلسات مغلقة لبعض القضايا الحساسة قبل الإعلان العلني عنها، ما أتاح حماية الأفراد المعنيين وإدارة التأثيرات النفسية لعملية الكشف.
والمعيار الرابع هو تطوير معايير وطنية خاصة، فقد تحتاج الدول إلى تبني قوانين وطنية تُنظّم الإفصاح عن البيانات والمعلومات بما يتماشى مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل بلد، مع الحفاظ على الالتزام بالمعايير الدولية.
يمكن للتقنيات المتقدمة في مجالات الرقمنة وأمن المعلومات أن تقدم حلولاً فعالة لحماية الأرشيفات من الضياع أو العبث. يُسهم الأرشيف الرقمي في تسهيل الوصول إلى المعلومات المهمة للجهات القضائية ولجان الحقيقة، مع مراعاة حماية البيانات الشخصية ومنع القرصنة أو التسريبات غير المشروعة. ويساعد في تحديد الوثائق ذات الأهمية الخاصة، ويقلل من الأخطار المرتبطة بالتعامل اليدوي.
يؤدي الدخول غير المنضبط إلى المواقع الأمنية ومراكز الاحتجاز إلى فقدان أدلة مهمة أو العبث بها، مما يُعرقل التحقيقات الجنائية أو أي إجراءات قانونية لاحقة. فقد يُعمد إلى تدمير الملفات أو إخفائها كلياً لأغراض طمس الحقائق، مع فقدان الأدلة يُصبح إثبات سلسلة الأوامر العسكرية أو تحديد المسؤوليات القيادية أمراً معقداً في حال ضياع الوثائق، ومع غياب وثائق تثبت مكان احتجاز المعتقلين أو الملابسات المحيطة بوفاتهم تُحرم عائلاتهم من معرفة الحقيقة أو المطالبة بحقوقهم.
من جهةٍ أخرى، يمكن أن يؤدي الاستيلاء العشوائي على الوثائق إلى استخدامها في تصفية حساباتٍ طائفية أو سياسية، مما يفاقم الانقسامات الداخلية ويضرّ بالنسيج المجتمعي.
وظهرت في سوريا بعد سقوط النظام أزمة الكشف غير المنضبط عن الوثائق، ما يزيد مخاطر إشعال فتيل العنف الداخلي وتقويض بيئة المصالحة. فقد يؤدي الكشف العشوائي عن أسماء مُخبرين أو ضباط مُشتبه بهم إلى موجاتٍ من الانتقام تشمل القتل أو الاختطاف. كذلك فإن غياب الضوابط المؤسسية لاستخدام الوثائق يؤدي إلى زعزعة الثقة في أي جهودٍ مستقبلية لتحقيق العدالة الانتقالية، إذ يُنظر إلى الكشف العشوائي على أنه تصفية حساباتٍ شخصية أو جماعية لا مساراً منظماً لاستجلاء الحقيقة.
دراسة التجارب السابقة والأدبيات القانونية تؤكد أهمية إنشاء هيئة مستقلة لإدارة الأرشيفات في سوريا تضم خبراء في القانون والأرشفة وحقوق الإنسان. وتُمنح صلاحيات وصول إلى المواقع التي تحتوي على الوثائق الأمنية مع توفير حماية أمنية لهذه المواقع، وإنشاء تشريعٍ وطني واضحٍ يحدد صلاحيات الهيئة واستقلاليتها المالية والإدارية ويمنع التدخلات السياسية. وعلى هذه الهيئة الإعلان الدوري عن خطط العمل والميزانيات وآليات التصنيف لبناء ثقة المجتمع، ووضع اتفاقات صارمة تمنع تسريب المعلومات الشخصية أو استخدامها للانتقام مع تحديد الجهات المصرح لها بالوصول.
تتأكد في حالةِ بلدٍ غير مستقر ومليء بالنزاعات الداخلية، مثل سوريا، أهمية النشر المقيّد للوثائق. فيلزم اعتماد درجات مختلفة من السرية مع إمكانية نشر الوثائق التي لا تُهدد الأمن العام أو الخصوصية، وإتاحة الوصول المنظم عبر تمكين الضحايا والجمهور من الاطلاع على الوثائق بما يعزز مبدأ الشفافية، دون تعريض الأفراد المذكورين للخطر.
وينبغي إنشاء جهة قضائية مستقلة للتعامل مع قضايا العبث بمواقع الجريمة وانتهاك الخصوصية والتلاعب بالأدلة أو سوء استخدام الوثائق، وإصدار أوامر قضائية عاجلة لمنع نشر الوثائق أو توزيعها خاصة تلك التي تهدد الأفراد أو الأمن المجتمعي.
أما مواقع الجرائم والمقابر الجماعية، مثل مقرات أجهزة الأمن السورية وسجن صيدنايا العسكري ومقبرة نجها، فإن الإجراءات الدولية، مثل اتفاقية بورنموث، تضمن التعامل الدقيق مع المقابر الجماعية من غير العبث بالأدلة وإدخال خبراء متخصصين لتوثيق الأدلة بدقة وتحديد هوية الضحايا وملابسات وفاتهم.
أهمية التعاون الدولي تكمن في تدريب فرق التحقيق الوطنية على التعامل مع الأدلة الجنائية بمساعدة منظمات دولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وفي تشكيل فرق وطنية ودولية لإدارة التحقيقات الكبرى بشفافية تعزز الثقة الدولية والمحلية.
يمكن لهذا التعامل المنظم تعزيز مسار العدالة الانتقالية، بتوظيف الوثائق الأمنية لتعزيز شهادات الضحايا وإعداد رواياتٍ شاملة عن الانتهاكات، وعقد جلساتِ استماعٍ علنية تُظهر اعتراف الدولة والمجتمع بالجرائم المرتكبة، مما يمهد الطريق للمصالحة الوطنية.
ويتلو هذه الإجراءات إنشاء دوائر قضائية متخصصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مع استخدام الوثائق أدلةً مركزية، وتأمين حقوق المتهمين والضحايا على حد سواء، وضمان التوازن بين الكشف عن الأدلة وحماية الخصوصية.
لا تمرّ هذه الإجراءات بلا مراعاة الشروخ النفسية الكبيرة للضحايا، ما يستلزم إنشاء مراكز تقدّم خدمات الرعاية النفسية والاجتماعية لضحايا الانتهاكات وأسرهم، خصوصاً في الحالات التي تكشف تفاصيل مؤلمة. ويجب تنظيم حملاتٍ تثقيفية لمساعدة المجتمع في التعامل مع الصدمات ومنع دوامات الانتقام.
يخلق هذا الكشف حالةً عامة من التوتر والغضب المجتمعي ما يهدد بتشجيع العنف، لذلك فإن تعزيز المصالحة المحلية إجراء أساسي في مسار العدالة، عبر مبادرات حوار محلي تُشرف عليها لجان مستقلة لتخفيف التوترات واحتواء الغضب. ويمكن إعادة بناء العلاقات بتنفيذ برامج تعزز الثقة بين المجتمعات المتضررة والأفراد المرتبطين بالنظام السابق، وتحويل الإفصاح عن الوثائق إلى خطوة تدعم الإصلاح والمساءلة بدلاً من الانتقام.
يحتاج السياق السوري إلى تطوير خططٍ لحفظ الأرشيفات وبناء ذاكرةٍ مجتمعية مشتركة. يمكن للباحثين المساهمة في ربط الأبعاد القانونية والسياسية والاجتماعية لتحقيق تكامل في التعامل مع الأرشيفات، حتى تتحول إلى أدوات للإصلاح المؤسسي والتعافي الوطني. يجب استكشاف سبل تعزيز التماسك الاجتماعي عبر توظيف الأرشيفات في عمليات المحاسبة والمصالحة الوطنية، حتى تساهم هذه الوثائق في بناء فهمٍ أعمق للانتهاكات التي شهدها المجتمع، وتُمهّد الطريق للتصالح والاعتراف المتبادل بين الأطراف المختلفة.
إن خطورة التحديات التي تواجه سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وخاصةً في التعامل مع الأرشيفات الأمنية، تتطلب معالجة دقيقة ومتأنية لضمان عدم تحوّل هذه الوثائق إلى أدوات جديدة للانقسام والنزاع. إن الحفاظ على هذه الأرشيفات وإدارتها بمسؤولية يمثل تحدياً قانونياً وأخلاقياً لا يمكن تأجيله، بل يجب التعامل معه فرصةً لبناء مسار عدالة انتقالية حقيقي يُسهم في إعادة بناء المجتمع السوري.
ولكي يتحقق هذا الهدف، فإن الإرادة السياسية للحكومة والدعم الدولي حاسمان في ترجمة التوصيات إلى خطوات عملية. تتطلب هذه الجهود توحيد الرؤى بين الأطراف المختلفة، وتوفير بيئة آمنة للضحايا والشهود، وضمان أن يُسهم الأرشيف في تأسيس ذاكرة وطنية تعترف بالمعاناة وتدعم الإصلاح المؤسسي وتضمن ألا يتكرّر هذا الألم أبداً.
