حرب السودان: كيف وصلت تناقضات العلاقة بين الدولة المركزية وأطرافها إلى أوجها؟

قراءةٌ جديدة للحرب في السودان، بين الخرطوم والأرياف السودانية، وبين الجيش وقوى انفصالية عدّة. بين مركز السودان وهوامشه.

Share
حرب السودان: كيف وصلت تناقضات العلاقة بين الدولة المركزية وأطرافها إلى أوجها؟
طفلٌ من مُهجّري إقليم دارفور في السودان. الصورة من سنة 2019. (تصوير أشرف شاذلي / خدمة صور غيتي)

استيقظ السودانيون صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023 على دوي الرصاص والأدخنة تغطي سماء العاصمة الخرطوم، وما هي إلا ساعات حتى تأكد خبر اندلاع حربٍ لاحت مؤشراتها في الأفق منذ زمن بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وسرعان ما انتقلت إلى عدد من مدن السودان وقراه وأقاليمه المختلفة.

بحسب آخر الإحصاءات والبيانات، فإن الحرب التي دخلت شهرها السابع عشر الآن تسببت بمقتل ما يزيد عن خمسة عشر ألف سوداني، وترفع بعض التقديرات الأمريكية الرقمَ إلى مئة وخمسين ألفاً، وهجّرت حوالي عشرة ملايين من منازلهم حسب تقديرات منظمة الهجرة الدولية في يونيو الماضي، لتضاف حربٌ جديدة إلى الحروب المستمرة في السودان منذ سنة 1955 حتى اليوم، أي قبل عام واحد فقط من استقلال البلاد من الاستعمار البريطاني. ستّ حروب ما أن تخمد في إقليم حتى تنفجر في آخر وبعضها استمرّ عقوداً، وجميعها نشبت بين المكونات الاجتماعية المُشكِّلة لأرياف السودان وبين الحكومة المركزية، وارتبط الجزء الأكبر من أسبابها بالتنمية والتهميش الاقتصادي والثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية.

يعتبر الجيش السوداني الحرب الدائرة الآن بينه وبين قوات الدعم السريع حربَ كرامة لحماية الدولة السودانية وسيادتها، أما الدعم السريع فيعتبرها حرباً لتفكيك "دولة 56"، ويقصد بها منظومة الإدارة والحكم التي نشأت في السودان بعد الاستعمار. ولكني أنظر للحرب وعواملها الداخلية – بعيداً عن دور الأطراف الدولية والإقليمية الطارئ على المعادلة – من زاوية مختلفة: أنها نتيجة عقودٍ من التناقضات بين المركز والهامش، بين الحكومات السودانية وبين الأرياف.

الحرب الجارية هي التجلي الأكبر للتوترات والتناقضات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها وتعيشها أرياف السودان في علاقتها المضطربة مع الدولة وأجهزتها، وأقصد هنا الدولة السودانية التي تشكَّلت من النخب السياسية والعسكرية بعد استقلال السودان من الاستعمار البريطاني، والتي أنظر إليها امتداداً للاستعمار في العمل السياسي. ولفهم الحرب الحالية، التي يرجع أحد طرفيها إلى ميليشيا منحدرة من الريف اخترقت جهاز الدولة، لا بدّ أن نمر على محطات في التاريخ الاجتماعي والسياسي السوداني، تكشف عن تحولات ظهرت في حروب الأرياف أو الهوامش. مثل حربي جنوب السودان الأولى (1955 - 1972) والثانية (1985 – 2005)، ثمَّ حرب إقليم جنوب كردفان والنيل الأزرق (1985 – 2005)، ومن ثم 2011 وحتى الآن، وشرق السودان (1997 – 2004)، وإقليم دارفور منذ العام 2003.


اشتعال الحرب في دارفور سنة 2003 لم يكن حدثاً وليد الصدفة، بل ساهمت عوامل تاريخية في جعل الإقليم حالة خاصة، أبرزها أن دارفور كانت سلطنة مستقلة حتى سنة 1917 ثم أخضعها الاستعمارُ البريطاني وضُمَّت إلى السودان الحديث. لم تُعِر الإدارةُ الاستعماريةُ الإقليمَ الاهتمامَ إلا بالقدر الضئيل الذي يتماشى مع أهدافها، وهي السياسة التي تواصلت في ظل الحكومات المختلفة للدولة الوطنية بعد الاستقلال، كما يظهر في كتاب "السودان حروب الموارد والهوية" المنشور سنة 2006 لمحمد سليمان محمد، وكتاب "زراعة الجوع في السودان" لتيسير محمد أحمد المنشور سنة 1994. 

وشهدَ إقليم دارفور ظروفاً مناخية صعبة على مدار قرنٍ كامل من موجات الجفاف والتصحُّر، شهدَ فيه الإقليم تسع عشرة موجة جفاف في الفترة ما بين 1885 - 2001 بحسب دراسةٍ عنوانها "دارفور: حصاد الأزمة بعد عقدٍ من الزمان" نُشرت سنة 2013. هذه الظروف جعلت دارفور مسرحاً للتوترات الاجتماعية ولعدد كبير من النزاعات الأهلية مع قلّة الموارد والتنازع عليها خاصة وأن ثمانين بالمئة من سكان الإقليم يعتمدون على الأرض ومواردها فلاحةً ورعياً في تدبير معاشهم، وهذا زاد التوتر بين المزارعين والرعاة، والتنافس على السيطرة على الموارد.

يركز التحليل السياسي الرائج لدارفور وصراعاتها على العامل القبلي وعلى التنافس بين العرب وغير العرب من سكان الإقليم. ولكن واقع دارفور أعقد من ذلك، ولحروبها ونزاعاتها أسباب منها التنافس على الأرض والموارد الاقتصادية والتغيرات البيئية، مع إرث سياسة بريطانيا باستخراج الموارد من الأرياف ونزحها للمركز والتي تابعت تنفيذها حكومات الخرطوم. هذه العوامل لا تنفي أهمية القبلية وعلاقات القرابة والدم، ولكن لا بد من وضعها في سياق أوسع يضمّ القبيلة وعوامل اجتماعية وتاريخية أخرى.


في ثمانينيات القرن الماضي صار الصراع بين مكوّنات إقليم دارفور مسلحاً وشرساً ومستمراً بسبب انفتاح حدود السودان وسهولة دخول الأسلحة ووجود امتدادات لبعض قبائل دارفور والسودان في إفريقيا الوسطى. ولكن العامل الأشد تأثيراً كان دورَ الحكومة المركزية وتدخلها لتسليح مجموعات رعوية، لأن قطاع الرعي في دارفور ينتج قرابة خمسة وعشرين بالمئة من إجمالي صادرات مواشي السودان. حرصت الحكومة على هذه الثروة لاحتياجها عائداتِها لتمويل الحرب في جنوب البلاد حينها، أمّا المجموعات الأخرى من سكان دارفور ممن يفلحون الأرض فيفلحونها في الأغلب للاكتفاء الذاتي لا للاستثمار أو التصدير، حسبما وثّق كتاب "السودان حروب الموارد والهوية".

ونلاحظ قبل مرحلة التسليح أن الحروب في دارفور لم تكن ذات طابعٍ قبلي وحسب، بل اختلطت فيها المصالح الاقتصادية والسعي للكسب اليومي، فالنزاعات والحروب لم تكن بين قبائل عربية وأخرى إفريقية، بل صراعٌ على موارد شحيحة. ونشبت بعض هذه النزاعات بين مجموعات من نفس الإثنية  أو القبيلة، مثل الصراع بين قبائل الرزيقات  والمعاليا العربية الممتد لنصف قرن، والنزاع الآخر بين الرزيقات وبني حسين على الذهب في شرق دارفور. مع هذا التنافس على الموارد جاء تدخل الدولة والحكومة بقبضة شرسة على الريف، فهمّشته سياسياً وتنموياً وفي نفس الوقت سعت للاستفادة من كل موارده.

دفعت حكومات السودان المتعاقبة نحو النزاعات القبلية، فبين 1983 و 1987 ظهر أول استخدام للمجموعات العرقية المسلحة. فقد سُلحت مجموعات المسيرية وبني هلبة سنة 1985، وهي قبائل عربية في دارفور وجنوب كردفان، لتواجه الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان ومؤسسها جون قرنق. وإضافة للتصدي لقوات قرنق، أرادت الحكومة معاقبة أبناء هذه المناطق ممن تعاونوا معه ومع حركته.

يُشيرُ الكاتب السوداني أبكر آدم إسماعيل في كتابه "جدلية المركز والهامش، قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان" المنشور سنة 2015، إلى أهمية العامل الثقافي في صراعات السودان ويركّز عليه أكثر من غيره. ربما يُوَسعُ تحليل الكتاب ليشمل الجوانب الاجتماعية والسياسية أيضاً. يقول أبكر آدم إن الحكومة المركزية تسنُّ سياسات سلطوية ضدّ الهامش، أي الريف السوداني، فيتحرك الريف ليرد على هذه الضغوط ويبدأ بالتمرد على الوضع القائم، أحياناً بمقاومة سلبية منها التهرب من السلطات والهجرة أو حتى الإساءة للسلطة بتوظيف الموروث الشعبي ضدها. 

وأمام هذه المقاومة تحاول الحكومة المركزية أن تُحكم قبضتها على الريف وتحصره في المساحة التي تريد، فإذا تابع الريف محاولاتِه لتغيير الواقع المفروض تستقطب الحكومة أطرافاً وتحيد أُخرى، ثم تظهر التناقضات وتصل ذروتَها فتلجأ الحكومة للقمع بكل وسيلة ممكنة وينفجر الوضع وصولاً لحرب يشنها الريف على المركز للخروج من عباءته. وهذا مختصر قصة الخرطوم في العقود الماضية مع الحرب في دارفور، والحروب الأخرى في أرياف السودان، إذ تستخدم الدولة جيشها أو الجماعات المسلحة الموالية لها لتقمع الحركات في الريف.


شكَّلت سيطرة الحركة الإسلامية على الحكم في السودان عسكرياً سنة 1989 لحظةً عاصفة في مسار الدولة السودانية، وأثَّرت في تعاطيها مع الأرياف. فقد تعاملت مع حرب الجنوب على أنها حرب دينية ووصفتها بأنها "جهاد"، وشكلت جماعات مسلحة سمتها قوات الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية للقتال تحت إمرتها، ولكن تلك القوات تشكلت بناءاً على التوجهات الفكرية والسياسية، ولم تكن من مجموعة قبلية أو عرقية واحدة، أو من مناطق جغرافية محددة.

ومع تصاعد الخلاف بين المجموعات المختلفة داخل دارفور ووقوف الخرطوم مع البدو الرُّحل، برزت حركات مسلحة تعارض الحكومة، وهي تشكيلات عسكرية من طبقات اجتماعية تعرّضت للعنف سابقاً من الحكومة وحلفائها من الجماعات المسلحة. ثمّ انفجرت حرب دارفور سنة 2003 وقررت الحكومة الرد بالحسم العسكري على هذه الحركات ومطالبها، فهددت العربَ بالطرد على يد الحركات المسلحة المُتشكلة من مجموعات غير عربية. ولكنَّ اللافت أن جزءاً من العرب رفضوا المشاركة في حملات الحكومة لقتال من وصفتهم الحكومة "متمردين" بسبب العلاقات التاريخية التي تجمعهم مع المجموعات الأخرى مثل الزغاوة، وللضغط عليهم خفّضت الحكومة مرتبات أبنائهم المنتمين للقوى النظامية. 

مع بداية الحرب في دارفور كان الجيش السوداني مستنزفاً بسبب الحرب في جنوب البلاد وحاجته لقوات كبيرة هناك، فجندتْ الحكومة المجموعات العربية الرعوية الفقيرة أو من يعرفون باسم "الأبالة"، للقتال مع وعود بدعم مادي وبحصص من غنائم الحرب. وفي هذا السياق تشكلت الجماعة المسلحة المعروفة باسم "جنجويد"، وهو توصيف أطلقه أهل القرى التي كانت تقتحمها الجنجويد وتنهبها، ومعناه "الجن الذي يركب جواداً". وكان الجنجويد يستخدمون الخيل في بدايتهم، قبل أن ينتقلوا إلى السيارات رباعية الدفع، ووصفوا بأنهم جن بسبب الانتهاكات الواسعة التي ارتكبوها ضد السكان، والتي دفعت نحو مليونين ونصف المليون من سكان دارفور إلى النزوح من قراهم، بعد أن قتل الجنجويد أكثر من أربعمئة ألف من أبناء القبائل الإفريقية في الإقليم في أربع سنوات (2003-2007). 

اتساعُ نطاق الانتهاكات وبشاعتها زاد ضغطَ الجهات الدولية على حكومة السودان، فاتُهِمتْ بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وبعجزها عن السيطرة على قواتها. حاولت الحكومة تقنين الجنجويد وإضفاء صفة رسمية عليهم فسمّتهم "حرس الحدود"، وقد أرادت الحكومة أن تحسم قضايا الريف في مكانه عند "الحدود" بعيداً عن المركز. وأرادت إنجاز المهمة باستخدام القوى الموجودة في الريف لا بالجيش، فالصراع في نظرها مجرد تمرد جماعات ضد الدولة، والجنجويد أعرفُ بتلك الجماعات وبجغرافيا الإقليم، واستخدام الجنجويد يعفي الدولة وأجهزتها من العنف الذي ترتكبه.


شهدت سنة 2007 تحولاً مفصلياً في وضع قوات الجنجويد التي صارت تعرف بقوات الدعم السريع. فقد تمرَّد فصيل منها بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" واشتبكَ مع الجيش النظامي نفسه بسبب تأخر رواتب قواته لشهور، واستشعرَ حميدتي حينها خطراً على عمله وقواته مع اقتراب الحكومة من التوصل لاتفاق سلام مع الحركات المسلحة. ومع تمرد حميدتي اتجهت الدولة ورأسها عمر البشير إلى المساومة، فصرفت رواتب جنوده بأثر رجعي ومنحته وقواته رتباً عسكرية. فأصبح حميدتي ضابطاً برتبة عميد في نقلة تشير لاختراق جهاز الدولة التي حاولت أن تتعامل مع الجنجويد أداةً لها. ولكن قوات الجنجويد استطاعت أن توظف الحكومة أيضاً لمصلحتها، ويتضح هذا في تجاوز التراتبية الأمنية والنظامية للترقي في الرتب العسكرية، والذي يتطلب الدراسة بالكلية الحربية العسكرية.

فرضت قوات الدعم السريع وجودها مع فشل اتفاق السلام بين الحركات المسلحة والحكومة بعد 2007، وتابعت قتالها الحركاتِ المسلحة وحققت انتصارات كبيرة عليها للدرجة التي جعلت البشير يقول في حفل تخريج قوات الدعم السريع سنة 2017 إنّ "تكوين الدعم السريع، وهي الذراع القوية للقوات المسلحة" كان "أحب القرارات وأفضلها" له. ولكن انتصارات الدعم السريع قوّت شوكتهم ومع توسع العتاد والجنود أصبحت نداً للجيش السوداني وقوةً موازيةً له. وبعد وصول الدعم السريع للذهب وسيطرتهم عليه في دارفور بين 2012 و 2017 وما بعدها، في جبل عامر في ولاية جنوب دارفور أنجزوا قفزةً بتصدير الذهب خارجياً، وفقاً لتحقيق خاص لوكالة رويترز للأنباء نُشر سنة 2019 بعنوان "زعيم ميليشيا سودانية يغتني ببيع الذهب"، ونجحت القوات ببناء تحالفات دولية وإقليمية جديدة مع كلٍ من الإمارات وروسيا.

ومع انتشار قوات الدعم السريع على حدود السودان مع تشاد وليبيا كوّنت علاقاتٍ مع الاتحاد الأوروبي للعمل على ملف ضبط المهاجرين، وذكر تقرير لصحيفة داغنس نيهتر السويدية منشور في التاسع من يونيو 2019 أنّ حميدتي وقواته يحصلون على حصص من تمويل أوروبي لملف الهجرة. نفهم من هذه العلاقات كيف تطوّرت قوات الدعم السريع مستقلةً عن الدولة، ويتجلّى هذا الخروج بوضوحٍ في مشاركتهم بحرب اليمن.


أطاحت الثورة السودانية سنة 2019 بالرئيس عمر البشير، حاكم البلاد ثلاثةَ عقود وصاحب الكلمة الأخيرة في تشكيل قوات الدعم السريع. دعم البشير الجنجويد  لحمايته من أي انقلابٍ محتمل "بمخزون استراتيجيّ من الرجال"، ولكن الدنيا دارت وانقلب حميدتي على البشير، وحملَ حميدتي حينها رتبة فريق ونالها في اثنتي عشرة سنة فقط. حميدتي ذو طموح سياسي كبير، فبعد الإطاحة بالبشير حقق الكثير من مطالبه، فتضاعفت قواته في أربع سنوات وزاد عتاده العسكري ونمت علاقاته الخارجية ووسع مصادر أمواله بسيطرته على مناجم الذهب. أصبحت قوات الدعم السريع دولةً موازيةً داخل الدولة كما يشرح البدوي عبد القادر البدوي في بحثه "قوات الدعم السريع السودانية: من مليشيات إلى قوة نظامية (2018 -2003)" المنشور سنة 2022.

وبعد تحالف قصير في مواجهة الحكومة المدنية، اختلف الشريكان العسكريان حميدتي والبرهان قائد الجيش النظامي، وبدأت الحرب الحالية التي تجسد فكرة اختراق القوى "التقليدية" والهامشية لجهاز الدولة، الذي طالما وظّفها أدواتٍ لتنفيذ أجندته المختلفة. يظهر ذلك في تعاطي الدولة مع الدعم السريع، أولا بتكوينها جماعة مسلحة ثمّ تقنينها لتصبح قوة حرس حدود. ولكن هذا المسار فشل، والتفَّت هذه الجماعة المسلحة على الدولة مستغلة مرورها بتحولات سياسية ومعاناتها أزمةً اقتصادية مزمنة. تجاوزت قواتُ الدعم السريع تصوراتِ الدولة عن الأرياف، فقد كانت الخرطوم تراها قوةً اجتماعية تقليدية لا تحركها إلا مصالح قبلية ضيقة وتسهل السيطرة عليها وتوظيفها. لكن تبين خطأ هذا الافتراض في حالة "اختراق مضاد" للدعم السريع، إذ تخلل أجهزةَ الدولة وسيطرَ على مواقع قيادية فيها، وبنى علاقات مستقلّة مع دول أخرى. 

اشتعال الحرب في 15 أبريل هو التجسيد الواضح لوصول  تناقضات مركز السودان مع هوامشه إلى ذروتها. وإن كانت قوات الدعم السريع لا تمثل مجمل هوامش السودان، إلا أنها تجسد التناقض الكامن في بنية الدولة السودانية وحكوماتها التي صنعت القوات وحاولت أن توظفها أداةً لها، متناسية الطموح السياسي لجماعة مسلحة كانت تكبر يوماً إثر يوم، وتثبّت وجودها بمقدار ما تمارس من عنف. 

اختزلتْ الدولةُ أسباب الحرب مع دارفور والأرياف الأخرى وافترضت أنها فقط محاولة للخروج عن السلطة المركزية، فتعاملت معها عسكرياً وكوّنت لأجلها الجماعات المسلحة التي سلبت وأحرقت قرىً بأكملها، وكانت هذه لحظة شقاق فاصلة ولّدت مظالم وقهراً اجتماعياً تعمقت به جراح الحروب الأهلية في الأرياف. فبدلاً من النظر إلى الظروف التي أوجدت الحراكات ومطالبها في الريف، اتجهت الدولة لتكوين جماعات مسلحة لتقضي على الحراكات نفسها. والآن بعد أن انقلبت الجماعة المسلحة على الدولة، ظل الجيش والدولة يعتمدان على التحشيد المناطقي والقبلي لتحقيق هدفهما في القضاء على جماعة الدعم السريع المسلحة. 

رغم توقيع ما يزيد عن أربع وثلاثين اتفاقية سلام طوال تاريخ السودان بعد الاستقلال وحتى اتفاق جوبا للسلام في 2020، إلا أن هذه الاتفاقيات لم تنجح بوضع حدٍ للحروب المستمرة والمستعرة في البلاد. وفي معظم الأحيان اندلعت الحروب مرةً أخرى أكثر عنفاً، وتوقفت في حالة واحدة، في شرق السودان، وقسمت البلاد إلى دولتين كما حدث في انفصال جنوب السودان سنة 2011، وهو ما يعكس الأزمة الكبيرة أمام الدولة السودانية.

الحرب الحالية المشتعلة في قلب العاصمة زُرعت بذورها في تربة أرياف السودان ونَمَت على سنوات. وهذه الحرب دليلٌ على وصول تناقضات العلاقة بين الدولة المركزية في السودان والأرياف إلى لحظة فارقة، أوصلتنا لها العوامل الاجتماعية والسياق التاريخي لنشأة الدولة الحديثة في السودان بعد الاستعمار. فجاءت حكوماتٌ ورثت سياسات الاستعمار وتناقضاته ولم تحسن التعامل مع  تركتها وواصلت في نفس المسار، وهو ما يشي بأن الحرب الحالية قد لا تكون الأخيرة إن لم تتغير العلاقة بين الدولة المركز وبين الأرياف.

اشترك في نشرتنا البريدية