من الماسادا إلى بن غفير وسموتيرتش: رحلة إسرائيل من الأسطورة للتطرف الديني 

يعيد اليمين الإسرائيلي اليوم نشر أساطيرا توراتية تغذي التطرف في إسرائيل وتدفع لمآلات وصفت بالانتحارية.

Share
من الماسادا إلى بن غفير وسموتيرتش: رحلة إسرائيل من الأسطورة للتطرف الديني 
قلعة الماسادا على سفوح البحر الميت، خدمة غيتي للصور

قبل حربِ السادسِ من أكتوبر 1973 بتسعةِ أشهرٍ تقريباً، حضرَت رئيسةُ وزراءِ إسرائيلَ غولدا مائير حفلَ غداءٍ جَمَعَها بصحافةِ واشنطُن في العاصمةِ الأمريكية. وبينما كان الجميعُ يتجاذبون أطرافَ الحديث، استدارت مائير إلى ستيوارت ألسوب، الصحفي في مجلة نيوزويك الذي انتقد سياساتها الخارجية سابقاً، قائلةً له: "أما بالنسبة لك سيد ألسوب، أنت تقول إننا نعاني من عقدة الماسادا … هذا صحيح. نحن نعاني من عقدة الماسادا فعلاً. نحن أيضاً نعاني من عقدة المذابح وعقدة هتلر". حاول ألسوب أن يعترض لأن ما سمعه تسطيحٌ لوجهة نظره، قبل أن تنهض مائير مباغتةً ألسوب والحضور بخطبةٍ قصيرةٍ عن "روح إسرائيل التي تفضّل الموت على الاستسلام لمخاوف الماضي اليهودي المظلمة".

قبل عامين من لقائه بمائير، كان ألسوب قد نقل عن مسؤولٍ رفيعٍ في وزارة الخارجية الأمريكية انتقادَه لرئيسة الوزراء الإسرائيلية، قائلاً إنها تعاني من "عقدة الماسادا"، وهو الأمر الذي أجهض جهود التسوية مع العرب. تحكي أسطورة الماسادا قصة تسعمئة وستين يهودياً متطرفاً سُمّوا "سيكاري"، أي حملة الخناجر، تحصنوا عام ثلاثة وسبعين للميلاد في قلعة الماسادا المطلة على البحر الميت، في خضم تمردهم على الرومان. وعندما أدركوا أن سعيهم قد فشل، وأن حوائط القلعة قد اختُرقت، قسموا أنفسهم لمجموعاتٍ تذبح بعضها بعضاً بالخناجر، مؤثرين الانتحار على الاستسلام.

شغلت ألسوب مسألتان؛ الأولى ما عدّه عجزاً إسرائيلياً عن الفصل بين الماضي والتاريخ. فالماضي، كما يقول المؤرخ البريطاني جون هارولد بلامب، هو فكرة مُخلّقة للتحكم في الشعوب والأفراد وتحفيز المجتمعات وإلهامها. في حين أن التاريخ هو محاولة موضوعية لدراسة الماضي. وأما المسألة الثانية فكانت النظر للتاريخ على أنه ماضٍ قد يُعاد إنتاجه. فرأى مثلاً أن التعسف مع العروض المصرية للتفاوض حول سيناء في مطلع 1973، كان طريقة مائير لصناعة ماسادا جديدة، تنعزل فيها إسرائيل خلف جدران عالية، وكأن الأسطورة تتكرر بالمعادلة الصفرية ذاتها أي التي لا يربح فيها أحد.

في معرض ردها، طلبت مائير من مايكل إليستور المسؤول حينئذٍ بمكتب العلاقات الخارجية الإسرائيلي إرسال توضيح لمجلة نيوزويك، نافيةً رواية ألسوب عن استعداد المصريين للتنازل، موضحةً أن الماسادا تُعدّ عند إسرائيل "رمزاً لا مثالاً". جاء الرد في الأسبوع ذاته من أستاذ الأدب العبري روبيرت ألتر في "كومينتيري ماغازين"، منوهاً بأنه و"على غرام الأدباء والدبلوماسيين بصناعة مثل هذه التمايزات اللغوية (أي الفارق بين الرمز والمثال) … فإن الفوارق بينها تذوب عندما يُستخدم الماضي مبرراً لأي فكرة".

نصف قرن مضى منذ الحادثة، تحولت فيه إسرائيل إلى واحدة من أقوى دول المنطقة عسكرياً. لم تعد مجرد مئات من المتدينين المتعصبين يقودون ثورة يائسة بالخناجر ضد فيالق الرومان من قلعة الماسادا المعزولة فوق سفوح البحر الميت. ومع ذلك، فلا يبدو أن "عقلية الحصار"، أي النزعة للنظر للآخر نظرة عداء وتوجس يتبعها شعور مستدام بالخطر الوجودي وميل للعسكرة، قد فارقتها كليةً. فرمزية الماسادا وما لها من تفسيرات ومتشابهات في التاريخ اليهودي القديم والحديث قد ترسخت في العقل الجمعي الإسرائيلي.

فنرى الجنرال الأمريكي ستيفن بلم، قائد مكتب الحرس الوطني الأمريكي، أثناء زيارة للماسادا في إطار تعزيز التعاون مع الجيش الإسرائيلي، يقول: "الماسادا جزء من الوعي الإسرائيلي اليهودي"، والدولة اليهودية "لا تزال في الحرب ذاتها من أجل البقاء حتى اليوم". وهو ما يطرح تساؤلاً إذا كان ما تمر به إسرائيل الآن تحقق لرؤية اليمين المتطرف منذ عقود، أو مجرد مواكبة لعالم بات يجنح لليمين الديني منذ عقدين من الزمن. في الوقت ذاته، ينمو اعتقاد في إسرائيل وخارجها بأن الدولة اليهودية تعيش اليوم أكثر لحظاتها تطرفاً، إذ باتت فيها روايات التاريخ اليهودي وأساطيره أكثر بروزاً ومعنى، ومعها يبدو قادة إسرائيل مدفوعين نحو إجراءاتٍ أكثر شططاً ومغالاةً قد توصف بأنها انتحارية. الأمر الذي وصفه الحاخام الأمريكي جيفري سالكن، في دعوة لبنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته من غلاة المتطرفين، بأنه درب تجاه ماسادا جديدة، والفرق أن حملة الخناجر قبل ألفي عام باتوا الآن يملكون رؤوساً نووية.


يحج اليوم كثير من اليهود من إسرائيل ودول أخرى إلى تلة الماسادا، أو ما يعرف عربياً بجبل مسعدة. يصعدون الثنايا الجبلية المؤدية إليها مشياً على الأقدام، اقتداءً بقادة التمرد الذين تحصنوا بها منذ ألفي عام. كذلك يفعل الجنود الإسرائيليون الجدد، فيذهبون للماسادا ويتعلمون عن تاريخها ويقيمون معسكراتهم هناك جزءاً من مراسم الانضمام للجيش، والتي تنتهي بالهتاف "ماسادا لن تسقط مجدداً".

الرواية الوحيدة المتماسكة عن الماسادا أتت من كتاب "الحرب اليهودية الرومانية العظمى" للمؤرخ اليهودي فلافيوس جوزيفوس. لا يوجد مصدر آخر لها في كتابات الحاخامات في تلك الفترة، مع أن الكتابات ذاتها وثقت سقوط مملكة إسرائيل وهدم المعبد الثاني بعدها بثلاث سنوات. لا يرى هؤلاء الحاخامات رمزاً ولا مثالاً في ثوار الماسادا، السيكاري، والذين قيل إنهم كانوا مجموعة من القتلة وقطاع الطرق مارسوا الإجرام ضد اليهود والرومان على حدٍّ سواء، وإن عجزهم عن التنازل لأجل المصلحة الجمعية كاد يجلب الهلاك لشعب إسرائيل. في حين نجح بعض الحاخامات في التفاوض مع الرومان، وهو ما أبقى التعاليم اليهودية حية أكثر من ألفي عام. كما أنه لا يوجد في الكتابات الحاخامية والتعاليم اليهودية تخريج واحد يبرر الانتحار هرباً من القمع أو العبودية. تضيف لترود وايس روزمارين، الكاتبة اليهودية الأمريكية الألمانية، أن جوزيفوس نفسه كان قبل الماسادا بثلاث سنوات قائداً لتمرد مشابه في قلعة جوتابوتا في شمال فلسطين قرب الناصرة، أقنع خلاله تسعة وثلاثين رجلاً من رفاقه بالانتحار الجماعي أيضاً، ثم هرب وانضم لصفوف الرومان، وهناك كتب روايته عن الماسادا. تقترح روزمارين أن دافع جوزيفوس كان تبرئة ساحته و"تصحيح التاريخ" بعد خيانته رفاقه في جوتابوتا، وهو ما نعتته "اختلاقاً متعمداً لواقعة الماسادا".

لتلك الأسباب، لم تنل أسطورة الماسادا حفاوة شعبية في المخيال القومي اليهودي قبل عام 1927، حينما كتب الشاعر اليهودي إسحاق لامدان قصيدته الملحمية بعنوان "ماسادا"، يمجد فيها تضحية هؤلاء الذين عدّتهم مائير "روح إسرائيل". هذا منطقي على أساس أن تلك السنوات، أي 1927 وما بعدها، شهدت مخاض ميلاد الدولة اليهودية في وسط بيئة سياسية معادية، تشابه حالة الحصار اليائس المتخيلة في الأسطورة. تعززت رواية الماسادا بعد حرب 1973 التي خاضتها إسرائيل ضد مصر وسوريا. وهنا تعلق الأكاديمية الإسرائيلية يائيل زيروبافل في كتابها "ريكفرد روتس" (جذور مُستعادة)، بأن ما كاد أن يكون هزيمة مؤلمة لإسرائيل في الحرب أعاد للمخيال الشعبي الماسادا لا كونها أحد الرموز الصهيونية بإعادة بعث اليهودي الجديد والمقاتل، وإنما تذكيراً باستمرارية معاناة الشعب اليهودي. ومن هنا بدأ التاريخ يعيد نفسه في صورة ماضٍ يستقطب الشعب اليهودي الصهيوني ويستنفره لإحياء أمجاد حملة الخناجر الأوائل.

من هذه الزاوية، كانت الماسادا مجرد إعلان وفاة للمتطرفين، لا للتطرف، طبقاً لما استنتجه جايمي ليفاين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تورونتو، وزميل البحث في معهد "هاري س. ترومان" لأبحاث السلام بالجامعة اليهودية بالقدس. الصراع بين الحاخامات وحملة الخناجر لم يتوقف يوماً، بل اتخذ أشكالاً وأنماطاً مغايرة، بل وتبدلت أطرافه ذاتها، ولكن بقي الثابت الوحيد كونه صراعاً بين الانتحاريين الأصوليين من جهة، وأولئك الذين قد يقبلون بالحلول "الوسطية"، مثل الفصل العنصري والتطهير العرقي البطيء، من جهة أخرى. كما يضيف في الصدد ذاته، وإن كان من زاوية أخرى، الباحثان الأكاديميان ثيودور ساسون وشاؤول كيلنر، بأنه في العقدين الأخيرين انحرف تعريف الماسادا من تصور رمزي للسيادة والأنفة اليهودية ليعكس الصراع الداخلي في إسرائيل بين عقائد سياسية متناحرة وتهدد وجود الدولة، وفي القلب من هذا الصراع أحزاب اليمين الديني المتطرف.

لعل الفارق الأهم في اللحظة الحالية أن هؤلاء المتطرفين ليسوا قلة معزولة أو صوتاً خافتاً في خلفية السياسات الإسرائيلية، بل أصبحوا قادةً وأعضاءً فاعلين في الحكومة اليمينية المتطرفة تفوقوا على معارضيهم في السنوات الأخيرة حتى حصلوا على أغلبية أصوات الناخبين في انتخابات سنة 2022، مكونين التحالف الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل. وكما أسلافهم في قلعة الماسادا، أخرجوا الخناجر بلا مواربة أو مهادنة في وجه أعدائهم في المحيط الإقليمي وداخل فئات يهودية مغايرة في إسرائيل، في خطوة يراها البعض انتحارية.

ديفيد شين، الصحفي والباحث الإسرائيلي الكندي، وصاحب كتاب "الكاهانية والسياسة الأمريكية"، يشرح كيف تحول الفكر الصهيوني خلال قرن من الزمن من حراك علماني على يد أمثال الأب الروحي للصهيونية ثيودور هرتزل، الذي سعى لتغيير الصورة النمطية عن "اليهودي الضعيف ابن الغيتو" ودمج اليهود في المجتمع الغربي، إلى دولة دينية متطرفة يقودها أمثال إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموترتش، لا تخجل من المجاهرة بعنصريتها ودمويتها. دولة يطالب منظّروها المعاصرون علناً  ومنهم المؤرخ بيني موريس باستخدام الأسلحة النووية، أي "خيار شمشون" ضد أعداء إسرائيل.

تبدأ القصة مع آبراهام إسحاق كوك، الحاخام الأورثوذوكسي المتطرف الذي وُلد في روسيا نهاية القرن التاسع عشر. كان كوك أول حاخام عينته بريطانيا لعموم فلسطين الانتدابية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. ولكن قبل تلك اللحظة المهمة في مسيرته، كان كوك من أبرز المعارضين لقيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين التاريخية، ليس لأنه يؤمن أن قيامها يخالف مشيئة الرب كما تؤمن أقلية من اليهود الأورثوذوكس خارج إسرائيل وداخلها مثلاً، بل لأن قادة الحركة الصهيونية آنذاك كانوا علمانيين أو ملحدين، لا يؤمنون بالتوراة أو التلمود، ويحاولون التقرب للقوى العظمى باقتباس مفردات حضارتها، وفرضها ثقافةً موحدة على يهود العالم رغم اختلافاتهم.

ما جمع المعسكرين هو إيمانهما بضرورة استيطان فلسطين، وبضرورة العنف والعسكرة كذلك، ولكن الاختلاف كان على الوسيلة. يقول شين إن معسكر الصهيونية العلمانية كان يرى إخضاع الفلسطينيين وفصلهم، بينما معسكر الصهيونية الدينية كان يرى في التطهير العرقي الشامل الحل الأمثل.

انتهى الصراع، أو هكذا بدا في وقته، بين العلمانيين والمتدينين عندما قرر كوك وأتباعه التنازل. وفي سبيل ذلك، استدعى كوك صورة من الأدب التوراتي تعرف باسم "شوفار أوف ميسياه" (حمار المسيح)، تصف عودة المسيح إلى الأرض المقدسة على ظهر حمار أبيض، يتقدمه ملاك ينفخ بوق السلام. بعيون كوك، كان الصهاينة العلمانيون هم الحمار الذي سيأتي على ظهره المسيح آخر الزمان؛ فهم من سيهاجرون للأرض المقدسة، ويحاربون سكانها، ويَقتلون ويُقتلون، ثم ينشئون الدولة، ليهيئوا الظروف لعودة أبناء إسرائيل "الحقيقيين". هؤلاء الذين سيستقبلون المسيح ويحكمون معه العالم. وبهذه التخريجة الدينية العلمانية، تمكن كوك من توحيد قوى الصهيونية نحو هدف واحد مشترك، مؤجلًا الصراع الفكري بين العلمانيين والمتدينين إلى ما بعد تحقيق هذا الهدف. وكأن انتحاريي ذاك العصر، الذين لم يكونوا مستعدين لقبول أية حلول سوى "التطهير الشامل"، تنازلوا في تلك اللحظة لاعتقادهم أن ذاك التنازل سيكون الأخير في الطريق نحو مستقبل بلا تنازلات.


شاؤول ماغيد، الباحث في الدراسات اليهودية بجامعة دارتموث، يعتقد أن نبوءة الحاخام كوك تحققت فعلياً، وإن برزت جليّةً في العقدين الماضيين، وبفجاجةٍ بعد وصول اليمين المتطرف للسلطة واشتعال حرب غزة بعد ذلك بعامٍ وأكثر.

يقول ماغيد إن الصهيونية "الكوكية"، نسبة إلى كوك، عاشت أزهى عصورها بعد حرب 1967، وفي هذه الحرب الخاطفة احتلت إسرائيل باقي فلسطين التاريخية وهضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية، مضاعفة مساحتها الجغرافية ثلاث مرات. هذا "التطور" الذي عدّه الكوكيون "معجزة التحرير" التي وُلدت من رحمها "إسرائيل الكبرى". على إثر هذا، أسس نجل كوك، زفاي، منظمة المستوطنات التي عمدت إلى الضفة الغربية تنهش أراضيها. زامن ذلك صعود مئير كاهانا وحزبه "كاخ" على الساحة السياسية الإسرائيلية، وهو الرجل الذي عدّته إسرائيل لاحقاً إرهابياً وعنصرياً. ولكن كل ما جمعته الكاهانية والكوكية من تأييد في الخمسينيات والستينيات، ضَعُفَ وتفتّت عندما أتت رياح العقود الثلاثة التالية بما لا تشتهيه سفنهم. تراجعت أفكارهم وسطوتها داخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي مع حرب 1973، وما تبعها من اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وصولاً إلى نهاية الثمانينيات التي شُطب فيها حزب كاهانا من الكنيست، ثم تعزز هذا التحجيم بعد مفاوضات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية واتفاقية وادي عربة مع الأردن في منتصف التسعينيات، وانتهى الأمر في الوقت نفسه بتصنيف الولايات المتحدة حزب مئير كاهانا منظمة إرهابية.

لكن للمفارقة، فإن هذه التغيرات حتى منتصف التسعينيات، والتي بدت كأنها قطعت الطريق على المتطرفين، هي ذاتها التي بدأت تضخ فيهم دماء جديدة لما مثلته من تهديد جسيم لرؤاهم ودفعتهم لامتشاق الخناجر. تجسد ذلك بدايةً بالمجزرة التي نفذها المستوطن باروخ غولدشتاين في الخليل عام 1994 وقتل فيها تسعةً وعشرين فلسطينياً أثناء صلاة الفجر في الحرم الإبراهيمي. تبع ذلك قيام المتطرف الديني إيغال عمير، اقتداءً بمثله الأعلى غولدشتاين، باغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين احتجاجاً على اتفاق أوسلو. تعزّزت هذه الصدامات في فترة فكّ إسرائيل الارتباط مع قطاع غزة في 2005، وما نتج عنه من معارضة عنيفة من المستوطنين لرئيس الوزراء حينها أرئيل شارون، الذي عُدَّ حيناً من الزمن أحدَ أنبياء الحركة الاستيطانية، وفيما عَدُّوه خيانة الدولة العلمانية لتعاليم التوراة بإرغامها اليهود على مغادرة "أرض إسرائيل التاريخية". مر عقدان تقريباً منذ مغادرة المستوطنين قطاع غزة، تعززت خلالهما السطوة الاستيطانية في الضفة الغربية، وامتد ليصل نفوذها لمفاصل صنع القرار في إسرائيل عموماً. أي تحول الكاهانيون إلى متصدري المشهد بعد أن كانوا على هامش السياسة، ولا أدل على ذلك من حقيقة أن إيتامار بن غفير، أحد أتباع مئير كاهانا المخلصين، ووزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموترتش، وزير المالية في حكومة بنيامين نتنياهو، أصبحوا وجه الصهيونية الجديدة (الكوكية) التي ترعاها وتمولها الدولة اليوم بلا مواربة.

ولفهم شيء من الدوافع العقائدية لهؤلاء المتطرفين ما عليك إلا أن توجه نظرك اليوم لمستوطنة "إيلاي" بالضفة الغربية، حيث تقع أكاديمية "بني ديفيد" العسكرية الدينية التي أسسها الحاخامان الكاهانيان إيلي سادان وييغال لفنستين. وفي المكان ذاته ما يشي بكيفيةِ تسنّمِ بات سموترتش وبن غفير قيادةَ هذا التيار المتطرف حالياً في إسرائيل. أحد مدرسي الأكاديمية هو الحاخام أليعازر قشطييل، الذي يعتقد أن أحد مشاكل العالم الآن هي إلغاء العبودية، وأنها ستعود مجدداً بمساعدة الرب، ليصبح غير اليهود عبيداً لليهود، وحينها ستبدأ ما عدّها حياتهم الحقيقية. زميل قشطييل، غيورا رِدلر، قال في محاضرة أخرى إن منطق النازي، بتعريف فئة من البشر مصدراً لشرور العالم ثم إبادتهم، هو "أصلح منطق أخلاقي في التاريخ"، وأن الخطأ الوحيد كان تطبيق هذا المنطق على الفئة المختارة، أي اليهود. اللافت أن كل التصريحات المشابهة ليست سرية وليس ثمة جهد لإخفائها، بل يمكن العثور على مصادرها بيُسر في مواقع مثل "تايمز أوف إسرائيل".

لَم يعاقَب أي من هؤلاء الحاخامات على تصريحاتهم. فمثلاً حصل إيلي سادان على تكريم بأرفع جائزة رسمية تمنحها إسرائيل في حفل حضره بنيامين نتنياهو ورئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت. في الحفل ذاته، رفض سادان أن يمنح الكلمة لأي من نتنياهو أو بينيت، ولم يمنحها إلا لصديق عمره، الحاخام رافي بيريتز، وزير التعليم السابق. وقد كُرِّم الحاخام إسحاق غنزبرغ، الرجل الذي ألّف كتاب "ذا كينغز توراه" (توراة الملك)، والذي يبيح فيه للجنود الإسرائيليين "قتل أطفال غير اليهود إن بدا أنهم سيؤذون إسرائيل لو عاشوا". تقول نوريت بيليد الحنان، أستاذة اللغة والتعليم بالجامعة العبرية بالقدس، إن كتاب غنزبرغ بات يُوزع على الجنود الإسرائيليين الذاهبين إلى غزة منذ بداية الحرب. هذا يتسق مع حقيقة ارتفاع إسهامات أكاديمية بني ديفيد في الجيش الإسرائيلي من 2 بالمئة من الضباط بنهاية الثمانينيات، إلى حوالي 30 بالمئة منهم في الأعوام الأخيرة.


هناك عدة محاولات لفهم الآليات التي أبقت تلك العقيدة المتطرفة حية "تحت جلود الإسرائيليين" كما يصفها جدعون ليفي، في "هآرتس"، ما سهّل جعل الأساطير اليهودية برمزيتها مثالاً يُطبق على الأرض ويتجسد في سياسات ورؤى على المستوى الرسمي للدولة. هذه المحاولات خلصت إلى ظاهرتين مهمتين، حولت إسرائيل إلى دولة وصل فيها التطرف حد خروج مظاهرات تدافع عن جنود متهمين باغتصاب الأسرى الفلسطينيين وتقتحم السجون والمحاكم لتحريرهم.

الظاهرة الأولى سجلتها نوريت بيليد إلحنان في كتابها "فلسطين في الكتب المدرسية الإسرائيلية"، وفيه شرحت كيف استخدم الكاهانيون والكوكيون سياسة "الآخَرية" أي تحويل الفلسطينيين إلى "آخَر" مُجهَّل بلا معالم ومنزوع الإنسانية والأحلام والطموحات في مناهج إسرائيل التعليمية. إذ يصوَّر الفلسطينيون في المناهج شعباً بلا وجوه وبلا تاريخ وبلا ثقافة. كذلك يَظهرون في تلك الكتب جماعاتٍ، مرسومين على أنماط وليدة خيال الراسم، ولا يُشار لهم إلا بكونهم "جحافل من اللاجئين" أو "مزارعين بدائيين" أو "مشكلة" أو "سؤال" على غرار أوصاف النازيين لليهود، بلا سياق حضاري أو إنساني أو تاريخي، فهم لاجئون لا نعلم من طردهم من بيوتهم، ومشكلةٌ لا نعلم كيف وُجدت، وسؤالٌ لا نعلم من طرحه. الأهم أنهم بلا مدن ولا قرى ولا مناطق ولا أسماء كذلك. حسب نوريت، فهذا متعمد، لأنه يرسخ لدى الطلبة شعوراً ضمنياً أن تلك الجحافل "تعيش فوقنا" أو "تعيش علينا"، وتنتهك خصوصيتنا واستقلاليتنا طوال الوقت بمجرد وجودها.

كانت هناك محاولات من يوسي سريد، وزير التعليم اليساري في حكومة إيهود باراك في نهاية التسعينيات، لحقن بعض الكتب الدراسية برواية صهيونية نقدية أقل تهميشاً للرواية الفلسطينية، لا سيما فيما يتعلق بالنكبة. هذه الجهود عصفت بها الرياح بعد صعود حزب الليكود للسلطة وتولي آرييل شارون رئاسة الحكومة في 2001 بعد فشل اتفاقية كامب ديفيد ومحادثات الحل النهائي بين ياسر عرفات وإيهود باراك ومن ثم اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية. أعاد وزير التعليم اليميني ليمور ليفناك في وقته مراجعة بعض الكتب التي شرعها سريد وخلص إلى أنها كانت متسامحة مع الرواية الفلسطينية، فمنعها من التداول في المدارس. استمر الحال على ما هو عليه حتى صعود الليكود مرة أخرى للسلطة برئاسة بنيامين نتنياهو في 2009، فاتخذ وزير التعليم حينئذ جدعون ساعر إجراءات تهميشية للوجود الفلسطيني في الكتب الدراسية في خطوة اعتبرت أكثر تواؤماً مع الرؤية الإقصائية المتطرفة لليمين واليمين الديني. مُنعت ثلاثة كتب دراسية إضافية، ومعها فُرض حظر على استخدام كلمة "نكبة" في المناهج الدراسية.

الظاهرة الثانية تتلخص في المراجعات التاريخية التي تعرض لها المجتمع الإسرائيلي منذ الثمانينيات وحتى اللحظة، والتي تزعمها المؤرخون الجدد أمثال إيلان بابيه وآفي شلايم، ثم مُنحت نَفَساً جديداً مع الإفراج عن باقي الوثائق الرسمية بنهاية التسعينيات، فأنتجت أجيالاً جديدة من المؤرخين وعلماء الاجتماع والصحفيين اليهود الذين ينتقدون الرواية الإسرائيلية الرسمية عن نشأة الدولة وتاريخ الصراع مع العرب والفلسطينيين.

عمليات "التصفية والتكرير" للروايات التأسيسية لم تعترف بها الدولة، لأنها لم تنتج إلا ثلاثة مسارات كلها تزيد الانقسام والاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي: إما الكُفر بالمشروع الصهيوني والهجرة العكسية لبلدان الشتات اليهودي، أو البقاء والمعارضة من الداخل أملاً في مستقبل أفضل، أو الخيار الذي يعنينا في هذا السياق؛ اللجوء إلى المغالاة في الإقصاء والتشدق بالروايات التاريخية للصهيونية الدينية بكونها حقاً إلهياً متجاوزاً أية استحقاقات إنسانية، ومن ثم، البقاء والتطبيع مع الواقع الكاهاني المتطرف. ويبدو الخيار الأخير الأقرب للواقع الإسرائيلي حالياً؛ الواقع الذي تؤمن فيه قطاعات من الإسرائيليين أن دولتهم إما "تستخدم قوة مناسبة" أو "غير كافية" في غزة، طبقاً لاستطلاعات الرأي، ويتجمهر فيه آخرون لاعتراض شاحنات المساعدة لغزة وتخريب محتوياتها تحت حماية الجيش والشرطة، ويعيث فيه المستوطنون فساداً في الضفة الغربية بإيعاز وتشجيع ومشاركة من وزراء أحزاب الصهيونية الدينية داخل الحكومة وبمساندة نتنياهو نفسه. وكأنه في النهاية باتت المقاومة للحقيقة أقوى من الحقيقة ذاتها، والماضي أقوى من التاريخ.

على النسق ذاته، ينقد أليك إبستين، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة العبرية بالقدس، المراجعات التاريخية في ورقة بحثية بعنوان "انحدار علم الاجتماع الإسرائيلي"، بعد الإفراج عن الدفعة الأخيرة من الوثائق بست سنوات، قائلاً: "قديماً، لم يشعر مؤسسو علم الاجتماع الإسرائيلي بأي خجل من إعلان انتقاداتهم لأداء الحكومة، نظراً لأنهم لم يشعروا بأنهم مدينون لها، على عكس علماء الاجتماع النقدي المعاصرين في إسرائيل، الذين يرفض بعضهم فكرة الدولة اليهودية ابتداءً، ويعادون إسرائيل ذاتها". يَنعَى إبستين الزمن الذي كان فيه أمثال بابيه وشلايم "يقفون على هامش الطيف العلمي في جامعات إسرائيل". لا يناقش إبستين صحة مزاعم "علماء الاجتماع والمؤرخين الجدد" هؤلاء من عدمها، بل يرفضها جملةً وتفصيلاً لأنها تتعارض مع الحقيقة المركزية الوحيدة التي يجب أن ينطلق منها الجميع في رأيه، وهي الصهيونية.

هذا "الدفع الأكاديمي المضاد" الذي مثّله إبستين للرواية التكريرية ما عاد بمعزل عن الإطار الرسمي للسياسة في إسرائيل. بل يبدو أن المنحى الرسمي اليوم هو إطباق الخناق بشدة أكبر على أي روايات تعارض الرواية السائدة بما فيها من إقصائية وآخَرية، ويشمل ذلك حرية الوصول للمعلومة والحرية الأكاديمية. فمثلاً تذكر صحيفة هآرتس في تقرير مطول عام 2019 أنه في بداية الألفية دأبت وزارة الدفاع الإسرائيلية على إزالة وثائق أرشيفية أفرجت عنها في مراحل سابقة وإعادة تصنيف أخرى في خانة السرية لسنوات إضافية. هذا الجهد اتخذ طابع السرية، واستُهدِفَ به جزئياً قطعُ الطريق على الرواية المعاكسة. فأي وثائق رسمية استخدمها المؤرخون الجدد لدحض الرواية التأسيسية للدولة اليهودية لم تعد متاحة، وبالتالي لا يمكن تثبيت أطروحاتهم بمرجعية موثوقة.

أما في جانب الحرية الأكاديمية، فقد عرض وزير التعليم يوآف كيش في يوليو 2024 مسودة قرار للكنيست، ودعمه فيها اتحاد الطلاب الوطني في إسرائيل، لاقتراح تشكيل لجنة حكومية لها الصلاحية لفصل أو إبعاد أكاديميين "يدعمون الإرهاب". وعلى حد قول المنتقدين للقرار، الهدف هو فرض قيود على حرية التعبير في الدوائر الأكاديمية، ويعني قمع الأصوات غير المتوائمة مع رواية الحكومة، لا سيما اليمينية المتطرفة منها، والتي تنظر تقليدياً بعين الريبة والعداء للنخبة الفكرية وتصفها باليسارية ومعادية للدولة وأحكام التوراة.

يجمع هذا المنحى بين أسوأ ما في معسكرَي الصهيونية القديمَيْن. فهو من جهة، لا يؤمن بتقديم أي تنازلات أو تعايشات، ويحتقر تاريخ معاناته، ويؤمن أن يهود الماضي المقهورين لقوا مصائرهم لأنهم لم يكونوا بالقوة والشجاعة الكافية. وهذا يفسر تدوينة المتحدث الرسمي السابق باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي على منصة إكس، عقب اغتيال رئيس مكتب حماس السياسي إسماعيل هنية بساعات، حيث قال: "نحن يهود ليسوا كأجدادهم". ومن جهة أخرى، يؤمن بقدسية الإحالات التاريخية والدينية، ويحولها لواقع عسكري مادي على الأرض، لدرجة أن مسؤوليه يعلنون بعد عشرة أشهرٍ من الحرب أنهم فعّلوا "إجراء حنّبعل" أثناء هجمات السابع من أكتوبر، والذي يقضي باستخدام القوة المفرطة لتحول دون أَسر المدنيين والجنود، حتى وإن كانت تهدد حياتهم؛ كأن الخيار إما الأَسر والتنازل وإما الموت كما فعل المتحصنون في قلعة ماسادا قبل ألفي عام.


أعادت الحركة الصهيونية صياغة أسطورة الماسادا من رواية تاريخية إلى رمز ملهم لليهودي المقاتل والمنعتق من غياهب الشتات وضعفه، ولتحفيز هذا "اليهودي الجديد" على الهجرة لفلسطين واستيطانها. ومع صعود اليمين الديني المتطرف بدءاً مع الحاخام كوك، تطورت هذه الرمزية لتصبح مثالاً يفسر ويقود تصرفات وتوجهات اليمين الديني المتطرف، والذي بات اليوم مسيطراً على مفاصل صنع القرار في الدولة العبرية، وتحت تأثيره خاضت وتخوض هذه الدولة أعنف موجات عنفها وعنصريتها منذ نشأتها. وكأننا أصبحنا أمام مجموعة من حملة الخناجر تحركهم عقيدة "كلّ شيءٍ أو لا شيء"، صنعوا ماسادا جديدةً قد تكون أعنفَ وأحدَّ من تلك التي توقّعها ألسوب منذ نصف قرن. ماسادا لا تكتفي بتجاهل عروض التفاوض، بل تسعى إلى التصعيد على كل الجبهات العسكرية والسياسية. ماسادا لا تختبئ خلف جدران حديدية وسواتر ترابية، بل تتجاهل علناً قرارات محكمة العدل والجنائية الدولية، وتسرع الوتيرة تجاه حرب إقليمية شاملة. والأخطر أن هذه المجموعة استبدلت خناجرها رؤوساً نوويةً لربما لا تتورع عن استخدامها إذا بات الخيار صفرياً.

اشترك في نشرتنا البريدية