زاد الاعتمادُ على التصنيفاتِ العالميَّةِ للجامعاتِ في العقدين الأخيرين، إذ عُدَّت التصنيفاتُ أدواتٍ لتقييم مؤسساتِ التعليم العالي في مختلف دول العالم، ومساعدةِ الطلابِ والباحثين باختيارِ جامعةٍ لاستكمال دراستهم. لا يقتصرُ ذلك على تصنيف "كيو إس" بل يشملُ تصنيفَ "تي إتش إي" الصادر عن "تايمز هاير إديوكيشن" وتصنيف شنغهاي و"يو إس نيوز أند وورد". سُوّق لهذه التصنيفات على أنها تعتمد مقاييسَ جيدة تمكنها مِن تقييمِ أداءِ الجامعات وتوفيرِ المعلومات والبيانات اللازمة لصانعي القرار وإدارات الجامعات وللطلبة وأولياء الأمور. لكن ظلَّت الأسئلةُ بلا إجابات عن صدقِ هذه التصنيفاتِ وقدرتها على قياس أداءِ الجامعات بدقة من غير تحيز.
جذبَ موضوعُ التصنيف اهتمامي مجدداً عندما قرأتُ تقريراً عن انسحابِ جامعة زيورخ السويسرية من التصنيفِ الجامعي الذي أصدرته مؤسسة "تي إتش إي". أعلنت الجامعةُ أنَّ "التصنيف يخلق حوافز زائفة، وغالباً ما تركز التصنيفات على النتائج القابلة للقياس، ما يخلق حافزاً لزيادة عدد الأبحاث بدلاً من إعطاء الأولوية لجودة محتواها". عندها تذكرتُ ما قاله عالم الفيزياء الراحل بيتر هيجز، الفائز بجائزة نوبل سنة 2013، لصحيفة "ذي غارديان" البريطانية معلِّقاً على إنتاجه العلميِّ المتميِّز والقليل: "لن أكون منتجاً بما يكفي في نظر النظام الأكاديمي الحالي".
أعادَ موقفُ جامعة زيورخ، وهي مِن المؤسسات التعليمية المرموقة في سويسرا، طرْحَ كثيرٌ من التساؤلات عن صدق التصنيفات الجامعية وقدرتها على قياس أداء الجامعات، لا سيما أن زيورخ ليست الجامعة الوحيدة التي اتخذت هذا الموقفَ من تصنيف تايمز فقد سبقتها خمس عشرة جامعة شهيرة أخرى في الأعوام الخمسة الماضية. قادتني تلك الأسئلةُ إلى البحثِ والتعمق في التقارير والأبحاث الأكاديمية التي درستْ معاييرَ هذه التصنيفات لأصل إلى قناعة بأنَّ أغلبَ التصنيفات الجامعية غيرُ موضوعية وتعتمد معاييرَ خادعة ومشكوك في نزاهتها في أحيانٍ كثيرة، إذ يصبحُ ضررُ الاعتماد عليها أكثر من فائدته خصوصاً في الدول النامية.
زادت معايير "كيو إس" سنة 2023 فأصبحت تسعة معايير. وصارت تشمل أداء الجامعة، وله نسبة 30 بالمئة، وجودة الخريجين ونسبتها 15 بالمئة، وجودة التعليم بنسبة 10 بالمئة، ثم جودة الأبحاث المنتَجة ونسبتها 20 بالمئة، ثم نسبة أعضاء هيئة التدريس الدوليين ونسبة الطلاب الدوليين ولكلٍ منهما 5 بالمئة. والمعايير الثلاثة الأخيرة عن التوظيف ومشاركة الجامعة وخريجيها في قضايا البيئة والمشاريع الدولية في الجامعة ولكلِّ واحد منها 5 بالمئة.
تفاجأتُ عندما سألتُ بعض الزملاء الجامعيين الذين درسوا الفيزياء في الولايات المتحدة عن تصنيف الجامعات التي حصلوا منها على الدكتوراه. المفاجأة أننا جميعاً حصلنا على شهادات الدكتوراه من جامعات أمريكية مصنفة في مراكز متأخرة عن مراكز جامعاتنا المصرية التي تخرجنا منها بدرجة البكالوريوس. فمنا مَن تخرَّج مِن جامعة القاهرة وترتيبها في التصنيف 371 ثم حصل على الدكتوراه من جامعة كنتاكي وترتيبها 681. وآخر تخرج من جامعة عين شمس التي تأتي بالترتيب رقم 721 ثم حصل على الدكتوراه من جامعة وين ستيت وترتيبها 751. وثالث تخرج من الجامعة الأمريكية بالقاهرة وترتيبها 415 ثم حصل على منحة لدراسة الدكتوراه من جامعة كنيتيكيت ذات الترتيب رقم 444.
أثارت هذه المفاجأةُ التساؤل، لأننا نعلم من تجربتنا في هذه الجامعات أن المستوى العلمي لجامعاتنا في الخارج أعلى من مثيلاتها في جامعاتنا الأم بمصر. فبحثنا عن الخطأ في ترتيب الجامعات بهذه التصنيفات التي لا تعكس تجاربنا، فوجدنا أن تصنيف أقسام الفيزياء للجامعات الأمريكية مقارنة بالمصرية في تصنيف "كيو إس" لا يختلف كثيراً عن تصنيف الجامعات. بينما وضع تصنيف "تي إتش إي" لأقسام الفيزياء جامعة القاهرة بالترتيب (501-600) وجامعة كنتاكي (401-500) وجامعة عين شمس (801-1000) وجامعة وين ستيت (401-500) والجامعة الأمريكية في القاهرة (601-800) وجامعة كنيتيكيت (301-400). ولذلك فقد يكون تصنيف "كيو إس" خادعاً للطلاب غير المدركين مشاكل التصنيف والطامحين بدراسة الماجستير أو الدكتوراه في علوم الفيزياء في جامعة أمريكية، فيعطيهم انطباعاً خاطئاً عن تصنيف جامعاتهم وتصنيف عدد من الجامعات الأمريكية الجيدة التي قد يحجمون عن الدراسة فيها لتدني تصنيفها.
يشكل تصنيف الجامعات المصرية بـ "كيو إس"، الذي يضعها في مراكز متقدمة تسبق جامعات أمريكية معروفة بجودة أبحاث الفيزياء، مثالاً واضحاً لخداع التصنيف. فهذه التصنيفات المقيمة للجامعات غير دقيقة، وربما كان تصنيف الأقسام العلمية أدق لأن معاييره تقيس جودة الأبحاث الصادرة عن الأقسام، ويكون تقييمها بمحركات البحث الأكاديمية وغيرها من طرق البحث على شبكة الإنترنت.
للجامعة مهام أخرى لا تقل أهمية عن المهام البحثية والتدريسية لكن التصنيفات لا تقيم لها وزناً، مثل تطوير المجتمع ببرامج تعليم الطلاب غير التقليديين وتدريبهم. ويُقصد بالطلاب غير التقليديين أولئك الذين تخرجوا من جامعات أخرى أو الذين اكتفوا بالتعليم الثانوي، ويسعون للحصول على دبلومات أو شهادات مهنية في تخصصات معينة. مثال آخر على المهام المجتمعية للجامعة الأنشطة الثقافية والأدبية والعلمية، فكثير من أفراد المجتمع المحيط بالجامعة من غير الطلاب والأساتذة تنحصر علاقتهم بالجامعة بحضور هذه الأنشطة والمشاركة فيها.
تتجاهلُ التصنيفاتُ هذه الأنشطةَ الجامعية، وهو ما أشار إليه ستة عشر خبيراً دولياً مستقلاً بالمعهد الدولي للصحة العالمية بجامعة الأمم المتحدة في بيان صدر في سبتمبر 2023 منددين بأضرار هذه التصنيفات ومشجعين على تبني بدائل لها. نقدَ الخبراءُ التصنيفاتِ الجامعية معترضين على معايير التصنيف واختزال أداء الجامعة في رقم واحد، واختلاف النسب المئوية للمعايير نفسِها في التصنيفات المختلفة، وغياب مساءلة مؤسسات التصنيفات العالمية، وتضارب المصالح وظهور سلوكيات ضارة من الجامعات نتيجة لهذه التصنيفات، وميل هذه التصنيفات الواضح لوضع الجامعات الغربية المتحدثة بالإنجليزية في مراكز متقدمة لهذه التصنيفات.
وصف الخبراء المستقلّون معاييرَ التصنيفات الجامعية العالمية مثل "كيو إس" و"تي إتش إي" بأنَّها متحيزة. فمعاييرُ هذا التصنيف ظلَّت منذ 2004 متحيزةً للجامعات العريقة ذات السمعة الجيدة أو من فاز منسوبوها بجوائز وأوسمة دولية مثل نوبل وفيلدز. يظهر قصور معايير تصنيف "كيو إس" باعتمادها السمعة وتاريخ الجامعة إذا قورنت بجامعة حديثة مثل جامعة واترلو الكندية التي أسست سنة 1957 وأصبحت معروفة بأنها واحدةٌ من أفضل الجامعات في التدريس والأبحاث وأشتهرت أيضاً بخدمة مجتمعها المحلي في كندا. لكن ترتيب جامعة واترلو في مؤشر "كيو إس" هو 112 بينما تسبقها بعشرات المراكز جامعة أخرى عريقة لكن متعثرة بحثياً وتدريسياً مثل جامعة كينجز كوليدج المؤسَّسة سنة 1873 في لندن، وترتيبها أربعون في المؤشر ذاته. فالجامعة الجديدة لن تستطيع حصد عدد من جوائز نوبل نفسها وغيرها أو الحصول على سمعة تقارب سمعة الجامعة العريقة، بل على النقيض تُظهر المعاييرُ الجامعةَ العريقة في صدارة جامعات العالم.
أما المشكلةُ الأخرى في هذه المعايير فهو مؤشِّرُ جودة التعليم الجامعي. يحكم هذا المؤشر على جودة التعليم بقياس نسبة الطلبة إلى الأساتذة، فإن قلّ هذا الرقم زادت جودة التعليم وإن زاد الرقم قلّت الجودة. بينما هناك طرق تقييم أفضل للعملية التعليمية في الجامعة أهمها استطلاعات رأي الطلاب عن جودة المناهج وجودة المحاضرين، وقياس نجاح برامج الجامعة في حصول طلابها على عمل بعد التخرج.
ومن مشاكل هذه التصنيفات قَصْرُ تقييم الأداء البحثي للجامعة على عدد الأبحاث المنشورة في مجلتي "ساينس" و"نيتشر" أو بعدد الاستشهادات. وهذا التقييم ضيق لأن هناك مجلات مرموقة أخرى في المجالات العلمية جميعها، ولأن من الأفضل أن تقاس جودة الأبحاث بمساهمتها في تطوير مجالات المعرفة المختلفة وليس بعددها فقط. وهذه المعايير متحيزة لتخصصات العلوم والتقنية على حساب تخصصات الآداب والإنسانيات وغيرها، ولذلك فهو معيار غير عادل لعددٍ من الجامعات. ويمكن قياس جودة الأداء البحثي باستطلاع رأي الباحثين في المجالات المختلفة عن جودة المنتج البحثي.
تنشأ الجامعات في مجتمعاتها المحلية لأسباب متنوعة، فبعض الجامعات الجديدة قد تكون مهامها محصورة في التدريس وخدمة المجتمع. أنشئت في الولايات المتحدة ودول أخرى عددٌ من الجامعات المعنية بالدراسات الأدبية والإنسانية. وكان لبعضها سجلٌ تعليمي رائع مثل "وليام كوليج" و"أمهرست كوليج"، الأولى والثانية في الولايات المتحدة في التعليم، إذ يُقبِل كثيرٌ من خريجيهما في أعرق الجامعات الأمريكية في برامج الدراسات العليا. ليس لهاتين الجامعتين سجل بحثي كبير إلا أنهما ناجحتان جداً في مهامهما التعليمية. لكن معايير تصنيف "كيو إس" تضعهما في المراكز (250-300) لسنة 2023. لذلك فإن دمجَ المعايير المختلفة لجودة التدريس والبحث ومجموعة أخرى من مهام الجامعة للحصول على رقم واحد يعبر عن أداء الجامعة كاملةً مقياسٌ غير دقيق؛ لأنه لا يعني نجاح الجامعة أو فشلها في تحقيق أهدافها، بل يصعب أن نجد له معنى واضحاً. فأداء الجامعات في ثقافات مختلفة وأماكن متنوعة من العالم أو حتى في البلد نفسه يصعب اختزاله في مجموعة من المعايير تضاف أرقامها بنسب غير مبرَّرَة للوصول إلى رقم واحد. لأنَّ تطبيقَ هذه المعايير بتلك النسب بالطريقة نفسها على جامعات مختلفة في العالم خداعٌ وإهمالٌ للمهام المتنوعة والسياقات المختلفة التي تُبنى من أجلها الجامعات.
ذكر بيان جامعة الأمم المتحدة أن مؤسسات تصنيفات "كيو إس" أو "تي إتش إي أي" لا تفسر أسباب اختيار النِّسب ولا تشرحها. وكان تغييرُ هذه التصنيفات معاييرَها باستمرار وتغيير نسب هذه المعايير سبباً في انسحاب اثنتين وخمسين جامعة في كوريا الجنوبية من تصنيف "كيو إس" العالمي. فقد شهدت الجامعات الكورية انخفاضاً في تصنيفها سنةَ 2023 بسبب إضافة معيار شبكة الأبحاث الدولية الذي تقول عنه إدارات هذه الجامعات إنه معيار غير موضوعي للبلدان غير الناطقة باللغة الإنجليزية. كذلك عانت عدد من الجامعات المعروفة مثل معهد طوكيو للتكنولوجيا في اليابان وجامعات في هونغ كونغ وتايوان من خفض تصنيفها بسبب تغيير معايير التصنيف.
تتضارب مصالح مؤسسات التصنيف العالمية مع بعض المؤسسات الأكاديمية بسبب الاستشارات والتحليلات والخدمات الأخرى مدفوعة الأجر، وعادة يرتفع تصنيف الجامعات التي تتلقى هذه الخدمات. ففي سنة 2022 قدم الباحث من مركز دراسات التعليم العالي في جامعة كاليفورنيا بيركلي، إيجور تشيريكوف بحثاً عنوانه "هل يؤدي تضارب المصالح إلى تشويه التصنيف العالمي للجامعات؟" محللاً تغير مراكز تصنيف "كيو إس" لست وعشرين جامعة روسية في خمس سنوات لأن هذه الجامعات تعاقدت مع المؤسسة. أظهرت البيانات المسجلة بالإحصاءات الوطنية تقدم هذه الجامعات مئة وأربعين مركزاً في هذه السنوات. فَسَّرَ الباحثُ هذه التغيرات بتحيز القائمين على "كيو إس" للجامعات المتعاقدة معهم وقبول بعض البيانات المبالغ في أرقامها مثل نسبة الطلاب لأعضاء هيئة التدريس التي قد لا تتغير كثيراً من عام لآخر.
تراكمتْ في السنوات الأخيرة بعض السلوكيات الضارة في عددٍ من الجامعات نتيجةَ محاولاتها التقدم في سباق الجامعات المحموم. تحت وطأة هذه الضغوط دفعت بعض الجامعات في الدول النامية مكافآت لعلمائها الذين ينشرون أبحاثهم في المجلات العلمية الدولية فسارع الباحثون بنشر أبحاث غير مكتملة أو دقيقة استجابة لضغوط الجامعات. وساعد على ذلك ظهورُ عدد كبير من الدوريات التي تتربح من هذه العملية بنشر أبحاث دون المستوى مقابل مبالغ مالية.
سعت هذه الجامعات كذلك إلى تعيين أعضاء هيئة تدريس ممن نشر عدداً من الأبحاث أو استُشهد بأبحاثه كثيراً متغاضين عن جودة الأبحاث، بل قد تدفع هذه الجامعات أموالاً لعدد من العلماء المميزين في دول أخرى لينتسبوا إليها أكاديمياً. فبدلاً من الاهتمام بالمهام الأساسية للجامعة تظهر هذه الأفعال غير الصحية التي تقوم بها بعض الجامعات لتركيزها على قضية التصنيف. وكشف الباحث بجامعة "آر إم إي تي" بأستراليا إنجل كالديرون عن الأسوأ في بحثه عن نتائج التصنيف الجديدة، وكيف يتلاعب بعضهم ببيانات الجامعة وغيرها من أشكال الغش.